المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : انعكاس الصراع العربي الإسرائيلي في أدب الكاتب الباكستاني انتظار حسين



إبراهيم محمد إبراهيم
10/07/2007, 12:38 PM
انعكاس الصراع العربي الإسرائيلي
في أدب انتظار حسين
يعد انتظار حسين من كبار كتاب القصة الأردية القصيرة في الأدب الأردي ، هذا بالإضافة إلى مكانته كروائي ومترجم وناقد وكاتب مسرحي وصحفي وكاتب مقال .
ولد انتظار حسين في الحادي والعشرين من شهر ديسمبر عام 1923م بمنطقة دبائي مركز بلند شهر بإقليم يو بي : أتر برديش : الهند حالياً ، ووالده يدعى منظر علي .
حصل انتظار حسين تعليمه الأولي في البيت ، وهو التعليم الديني الذي كان رائجاً في عصره ، ثم حصل على الثانوية من المدرسة العليا بمدينة هابر ، ثم حصل على شهادة الليسانس عام 1942م / 1943م من كلية ميرتهـ ، ثم حصل على الماجستير في اللغة الأردية عام 1946م من نفس الكلية ، وتزوج عام 1944م من السيدة عاليه بيكم ، ولم يرزقهما الله أولاداً .
عمل انتظار حسين لعدة شهور في مدينة ميرتهـ قبل أن يهاجر من الهند إلى باكستان في أكتوبر من عام 1947م ، وذلك بعد أن تأسست باكستان في الرابع عشر من أغسطس عام 1947م ، واستقر انتظار حسين بعد هجرتة في مدينة لاهور . وفي لاهور دخل انتظار حسين مجال الصحافة ، وعمل بالمجلة الأسبوعية نظام ، وفي عام 1949م انضم إلى أسرة جريدة امروز : اليوم ، وفي عام 1952م التحق بجريدة آفاق وبدأ ينشر مقالاته فيها ، وفي عام 1953م ترك جريدة آفـاق وأصـدر مجلة أدبية باسم خيال من لاهور ، والتي سرعان ما أغلقت (1) .
وفي عام 1962م / 1963م عمل انتظار حسين سكرتيراً عاماً لرابطة أرباب الذوق : حلقهء أرباب ذوق ، وعمل رئيساً لتحرير مجلة أدب لطيف لعدة أيام . كما عمل انتظار حسين كذلك في جريدة نوائـ وقت : صوت العصر لفترة ، ثم عمل بجريدة مشرق لفترة أخرى ، وكان يكتب فيها باباً بعنوان لاهور نامه : رسالة لاهور ، وكان رئيساً للقسم الأدبي بها ، واستمر على هذا الحال حتى عام 1988م . وكانت أول قصة كتبها انتظار حسين بعنوان قيوما كى دكان : دكان قيوم ، وكان ذلك في شهر أبريل من عام 1948م ، ثم توالت قصصه حتى ظهرت في شكل مجموعات . ومن أهم مجموعات انتظار حسين القصصية :
1 – كلي كوجـ : الشوارع والحواري ، وطبعت للمرة الأولى عام 1952م ، وتضم اثنتي عشرة قصة قصيرة هي :
1 - قيوما كى دكان – 2 – خريدو حلوا بيسن كا – 3 – جوكـ - 4 – فجا كى آب بيتى – 5 – اجودهيا – 6 – ره كيا شوق منزل مقصود – 7 – بهر آئـ كى – 8 – عقيله خاله – 9 – روب نكر كى سواريان – 10 – ايكـ بن لكهى رزميه – 11 – سانجهـ بهئى جوديس – 12 – استاد .
2 - كنكري : الحصى ، وطبعت للمرة الأولى عام 1955م ، وتضم خمس عشرة قصة قصيرة هي :
1 – آنجهارى كى كهريا – 2 – مجمع – 3 – شصلاح – 4 – محل والـ - 5 – يان آكـ درد تها – 6 – آخرى موم بتى – 7 – دبوار – 8 – كيلا – 9 – ساتوان در – 10 – بت بيجنا – 11 – بسماندكان – 12 – تهندى آكـ - 13 – جنكل – 14 – مايا – 15 – كنكرى .
3 - آخرى آدمى : الرجل الأخير ، وطبعت للمرة الأولى عام 1967م ، وتضم إحدى عشرة قصة قصيرة هي :
1 – آخرى آدمى – 2 – زرد كتا – 3 – برجهائين – 4 – هديون كا دهانجه – 5 – هم سفر – 6 – كايا كلب – 7 – تانكين – 8 – سيكند راوند – 9 – سوئيان – 10 – شهادت – 11 – سوت كـ تار .
4 - شهر افسوس : مدينة الأسف ، وطبعت للمرة الأولى عام 1972م ، ثم طبعت للمرة الثانية عام 1977م ، وتضم سبع عشرة قصة قصيرة هي :
1 – وه جو كهوئـ كئـ - 2 – كتا هوا دبه – 3 – دهليز – 4 – سيرهيان – 5 – مرده راكهـ - 6 – مشكوكـ لوكـ - 7 – شرم الحرم – 8 – كانا دجال – 9 – بكرى كهرى – 10 – دوسرا كناه – 11 – دوسرا رسته – 12 – ابنى آكـ كى طرف – 13 – لمبا قصه – 14 – وه اور مين – 15 – وه جو ديوار كو نه جات سكـ - 16 – اندهى كلى – 17 – شهر افسوس .
5 – كجهويـ : السلاحف ، وطبعت للمرة الأولى عام 1981م ، وبها سبع عشرة قصة قصيرة هي :
1 - قدامت بسند لركى – 2 – 31 مارج – 3 – فراموش – 4 – بادل – 5 – اسير – 6 – هندوستان سـ ايكـ خط – 7 – نيند – 8 – كجهويـ - 9 – بتـ - 10 – وابس – 11 – رات – 12 – ديوار – 13 – خواب اور تقدير – 14 – شور – 15 – صبح كـ خوش نصيب – 16 – بـ سبب – 17 – كشتى .
6 – خيمـ سـ دور : بعيد عن الخيمة ، وطبعت للمرة الأولى عام 1986م ، وتضم سبع عشرة قصة قصيرة هي :
1 – خيمـ سـ دور – 2 – سفر منزل شب – 3 – حصار – 4 – نرنارى – 5 – بورا كيان – 6 – دهوب – 7 – بره كى كهانى – 8 – اجنبى برنديـ - 9 – برهمن – 10 – وقت – 11 – انتظار – 12 – بليت فارم – 13 – جيلين – 14 – برانى كهانى – 15 – دسوان قدم – 16 – خالى كهر – 17 – خواب اور دهوب (2) .
7 – جنم كهانيان :قصص ولادة ، وهي الجزء الأول من كلياته ، وطبعت عام 1987م .
8 – قصه كهانيان : قصص وحكايات ، وهي الجزء الثاني من كلياته .
كما يعد انتظار حسين روائياً متميزاً كذلك ، ومن أهم رواياته :
1 - تذكرة : للذكرى ، وطبعت عام 1987م .
2 - آكـ سمندر هـ : البحر في الأمام ، وطبعت عام 1995م .
3 - بستى : قرية ، وطبعت عام 1980م ، ثم طبعت ثانية عام 1983م .
4 – جاند كهن ، وطبعت عام 1952م ، ثم طبعت ثانية عام 1992م .
5 – دن اور داستان ، وطبعت عام 1962م ، ثم طبعت ثانية عام 1987م .
هذا وقد نال انتظار حسين جوائز متعددة ، وتمّ تكريمه من هيئات متعددة أيضاً ، فقد نال جائزة اتحاد الكتاب ، وجائزة آدم جي ، على روايته بستي : العمار ، القرية ، وهما من أكبر الجوائز التي تمنح على الأعمال الإبداعية في باكستان ، لكنه رفض تسلمها (3) . كما منحته الدولة وسام حسن الأداء،ومنحه مجلس نشر الأدب الأردي بالدوحة بقطر جائزته الأدبية عام 1998م .
هذا وتتميز إبداعات انتظار حسين بصفة عامة بميله إلى الرمز ، واستلهام التراث وتوظيفه ، بمعنى أنه يجمع بين الموروث التاريخي والديني والأساطيري ، وبين الواقع المعاصر في معظم أعماله ، وهو ما جعل المنابع التي يستقي منها إبداعاته متنوعة وممتدة ، وانعكس ذلك في شكل ثراء فكري بالغ في كل ما كتب ، وتعد مجموعة آخرى آدمى : الرجل الأخير ومجموعة شهر افسوس : مدينة الأسف من أهم مجموعاته التي تعكس اتجاهه سابق الذكر ، ولذا فقد احتل ذكر اليهود والصراع العربي الإسرائيلي جزءاً لا بأس به في هاتين المجموعتين ، وسوف نركز دراستنا على ثلاث قصص هي :
1 – قصة آخرى آدمى : الرجل الأخير .
2 – قصة شرم الحرم : عار الحرم .
3 – قصة كانا دجال : الدجال الأعور .
أما قصة الرجل الأخير فقد تناول فيها عصيان اليهود لله تعالى ، وإصرارهم على مخالفة أوامره ، والذي تجلى في ممارستهم صيد الأسماك يوم السبت ، بالرغم من أن الله نهاهم عن ذلك ، ثم ما عاقبهم الله به من مسخهم إلى قردة .
والقصة تحكي عن إلياسف اليهودي الذي كان يعيش في قرية يهودية اختفت منها القردة ذات مرة ، وفرح أهل القرية لذلك نظراً لما كانت تقوم به القردة من إتلاف لزراعاتهم ، ولأن إلياسف كان يلمح العصيان في سلوك أهل قريته ، لذا فقد اعتبر أن اختفاء القرود من القرية ليس بالأمر الذي يستحق أن يفرحوا له ، لأنه إذا كانت القردة قد اختفت من القرية، فإنها موجودة بداخل أهلها، طالما أصروا على مخالفة أوامر الله ، لكن أهل القرية لم يستمعوا إلى إلياسف ، وظنوه يسخر بهم .
وفي أحد الأيام يحدث أمر يصيب أهل القرية بدهشة كبرى ، إذ تحول إليعاذر إلى قرد كبير ، وكان إليعاذر هذا أكثر من اصطاد السمك يوم السبت السابق على واقعة تحوله إلى قرد . وانتشر الخبر في القرية كلها ، ومع ذلك لم يرتدع أهلها ، رغم أنهم رأوا بأعينهم ما حدث من مسخ لإليعاذر ، وظلوا في غيهم يعمهون ، وتكرر المسخ لأهل القرية ، الواحد تلو الآخر مع تكرار معاصيهم ، ورحيل المحبة من بينهم ، وحلول الكراهية محلها .
أما إلياسف فكان يؤمن بأنه ولد في صورة الآدمي ، وسوف يعمل على أن يبقى على هذه الصورة إلى أن يموت عليها ، وكان يرى أنه لا بد أن يكون وراء هذا المسخ سبب ما ، ولذا فقد نصح أهل قريته أن يتوجهوا إلى ذلك الرجل الذي يمنعهم من صيد الأسماك يوم السبت ، لكن الرجل كان قد رحل ، فعم أهل القرية خوف شديد ، وتغيرت مع هذا الخوف ملامحهم ، وتبدلت وجوههم حتى استحالوا جميعاً إلى قردة . القرية التي كانت تقع على شاطئ البحر ، وأسواقها عامرة ، وبها من القصور الفخمة والبيوت الرائعة الكثير، فجأة صمت كل شيء فيها، إلاّ من قردة فوق الأسطح تتقافز هنا وهناك. شعر إلياسف بخوف شديد في بداية الأمر ، لكنه تذكر على الفور أن الخوف يشوه الملامح ، ويحيل الخائف إلى قرد ، مثلما رأى بعينيه ما حدث مع إلياب ، فتخلى إلياسف عن الخوف ، وأقسم أن يبقى آدمياً كما خلقه الله ، وألاّ يموت إلاّ في صورة الآدمي كذلك . لكنه داخله شعور بالغرور إذ نجا من المسخ ، وشعر بأنه ليس من جنس هؤلاء الذين مسخوا ، فنظر إلى أجسادهم التي يغطيها الشعر نظرة احتقار وكراهية ، وبدأت ملامح وجهه تتغير ، عندئذ تذكر أن الكراهية أيضاً تمسخ الوجوه ، فتخلى إلياسف عن الكراهية والغرور . ويتذكر إلياسف بنت الأخضر ، تلك الفتاة التي كان يحبها ، والتي كانت كمهرة عربة الفرعون رشاقة ، ثم مسخت هي الأخرى ، فبكى ، ولكن إلياسف تذكر على الفور كيف مسخت زوجة إليعاذر عندما بكت على زوجها إليعاذر ، فتخلى إلياسف عن البكاء وعن الحب كذلك .
ونظر إلياسف إلى بني جنسه الممسوخين قردة ، فتعالت ضحكاته ، لكنه تذكر ذلك الشخص الذي استحال قرداً عندما كان يضحك ، وتخلى إلياسف عن الضحك .... ويجتاح إلياسف أسف شديد لفقدانه كل صلة بينه وبين بني جنسه ، حتى صلة اللفظ ، وتخلى إلياسف عن الكلام ، ولاذ بالصمت ، وتقوقع بداخله ، بعيداً عن كل ما يربطه ببني جنسه ، كجزيرة صغيرة بعيدة عن اليابسة ، وسط المياه العميقة الممتدة ، لكن الجزيرة ظلت على إصرارها في أن تبقى ممثلة للأرض .
أما قصة " شرم الحرم : عار الحرم " فتتنـاول الصراع العربي الإسرائيلي من خلال " مصطفى فائق " الشاب الفلسطيني الذي كان يعمل في إحدى الصحف الباكستانية إبان حرب 1967م عندما احتلت القدس كلهـا ، وما نشـأ عن ذلك من صـراع نفسي رهيب بداخـل " مصطفى فائق " جعله يحاول أحياناً أن ينفي عن نفسه أدنى مسئولية فيما يحدث لبلده ، باعتبار أنه لم يكن هناك على أرض المعارك ، وإن كان بيته في فلسطين من بين آلاف البيوت التي هدمها الإسرائيليون . أما زملاؤه في الصحيفة فيصيبهم الأسى الشديد على العرب الذين أساءوا لأنفسهم حتى وصل بهم الحال إلى ما وصلوا إليه ، ومع ذلك فإن هؤلاء الزملاء يعتقدون أن الإساءة لم تكن للعرب وحدهم ، وإنما كانت للجميع ، ويظلون يبحثون بين إذاعات العالم ، وما يتلقون من أخبار على جهاز استقبال الأخبار في الجريدة ، لعلهم يعرفون شيئاً عما يحدث على الأرض العربية ، إلى أن جاء الخبر بأن القدس سقطت ، لقد كان سقوط القدس هو الضربة القاصمة ، ليس للعرب وحدهم ، وإنما للمسلمين جميعاً .
ويتقوقع " مصطفى فائق " بداخله ، وتتوالى الأخبار ... سقط " حائط المبكى " .. ويعود " مصطفى " إلى الماضي ، ويرى أعرابياً ذا لحية بيضاء يستنطقه آخرون كي يقص عليهم ما حدث ، فيأبى ، إلاّ أن يشهدوا بأنه حيّ ، فيشهدوا ، فيقول :
· يا أبناء العرب ، لو كانت شهادتكم حقاً وصدقاً ، ولو أني حيّ فعلاً ، وأنتم كذلك أحياء فاسمعوا وعوا ، إن الذين قتلوا أفضل من الذين لا يزالون على قيد الحياة ، وصاروا أذلاّء " .
ويعم الجميع حزن شديد ... ما أشبه سقوط القدس ، وما صاحبه من أحداث ، بيوم القيامة ، يوم القارعة ، إذ صار الرجال كالفراش المبثوث ، ملقون كأعواد الذرة اليابسة ، وتحطم الأطفال كطينة هشة ، وحرائر " بيت المقدس " ناشرات شعورهن ، ورؤوسهن تلامس الأرض انحناءً .
ثم يستعرض " انتظار حسين " على لسان شخصيات القصة المدن الإسلامية الزاهرة التي سقطت من قبل واحدة تلو الأخرى مثل " طشقند " و " سمرقند " وغيرهما بلهجة تملؤها المرارة .
ويتقوقع " مصطفى فائق " بداخله .... وتتوالى الأخبار ..... زار " موشى ديان " " حائط المبكى " هو وجيشه ، وبكوا هناك ... ويعود " مصطفى " إلى الماضي ، ويرى شخصاً يركب ناقة قادماً من " دمشق " ، وآخر قادماً من الصحراء ، وانحنت رؤوس الجميع حتى لامست جباههم التراب ، وتشتد الأزمة النفسية حتى كادوا يعتقدون أن " موشى ديان " ذا العين الواحدة هو " الدجال الأعور " ، ويتذاكـرون بينهم أن " الدجال " سيخرج من الكعبة ، ويظهر عند أبواب " أورشليم " ، وله عين عوراء عليها غطاء من قماش أخضر ، وأنه سوف ينتهك حرمة بيت المقدس ، وسيكون ممتطياً حماراً عالياً ، وسيصل حتى أبواب الحرم ، ثم يظهر رجل شجاع من أهل الشام يتعقبه حتى أرض " اللّد " ، ويتعلق الجميع بهذا الرجل الشجاع الذي سيخرج من أرض الشام أملاً في الخلاص ، لكن شخصاً يخرج ثائراً من بين الزحام يقول :
· هل سيأمرنا " عبد الناصر " أن نضع السيوف في أغمادها .
وينتحب الأعرابي قائلاً :
· ثكلتنا أمنا جميعاً ، فلقد فقدت سيوفنا حدتها ، وأعدناها نحن إلى أغمدتها .
ثم يضع " انتظار حسين " تصوره للحل الذي لا حل غيره ... إنه السيف ولا شيء غيره ، ويجري " انتظار حسين " الحل على لسان إحدى شخصيات القصة الذي يصعد التل كدوامة الهواء ، ويهتف بأعلى صوته وهو يمسك بمقيض سيفه :
· أقسم بالعاديات ، وبسنابكها التي تضرب الصخور فيتطاير منها الشرر ، وأقسم بذلك اليوم الذي تفقد فيه الحوامل من النوق كل قيمة لها ، وحين تصير الجبال كالعهن المنفوش ، وحين تشتعل النار في البحار والأنهار ... لقد خرج سيفي من غمده ، ولن يعود إليه أبداً . ثم يشعل الرجل ناراً فوق التل ، ويشطر الغمد شطرين ، ويلقه في النار . عندئذ يخرج الجميع سيوفهم من أغمادها ، ويحطمونها ملقين بها في النيران .
ويتقوقع " مصطفى فائق " بداخله أكثر وأكثر ، ويكتشف أنه جزء من المأساة التي يمر بها بيت المقدس الذي تركه الجميع وحيداً يواجه الاعتداء الغاشم ، والأطفال محطمون كأكواز هشة من الصلصال ، والحرائر يرتعشن كأرشية دلاء حين يلقى بها في البئر ، ملابسهن ممزقة ، وشعورهن شعثة ... أولئك اللواتي لم تر الشمس شعورهن من قبل ، رؤوسهن حاسرات ، منحنيات على الأرض كأنهن سينفذن إلى باطنها .... لقد انتهكت حرمـة بيت المقدس ... إنه عار العرب والعجم .
أما القصة الثالثة التي نتناولها من إبداع " انتظار حسين " فقد جاءت بعنوان " كانا دجال : الدجال الأعـور " ، وهي التي خص بها الحال السيئة التي آل إليها المسلمون جميعاً في عصرنا الحاضر ، حتى وصل بهم الحال إلى أن يستجدوا أمريكا ، ويتقبلون بفرح وسرور ما ترمي به إليهم من كسرات خبز فاسد هو بمثابة قذارة الأذن – على حد تعبير " انتظار حسين " في القصة على لسان أبطالها – بينما كان الحال في السابق غير الحال ، وصار ما يحدث لنا في أرض المقدس هو نقطة الانحدار والتقهقر والنزول على أسفل ، بينما كان نفس المكان نقطة انطلاق وعروج لرسول الله صلى الله عليه وسلم . أما الجيل الجديد فيعيش في حالة صراع شديدة بين الحق والباطل ، الحق الضعيف المستضعف ، والباطل الكاسح المتجبر ، ولا يدري إلى أين هو ذاهب .
تدور أحداث القصة أثناء حرب 1948م داخل بيت باكستاني بسيط مكون من أب وأم على أبواب الكهولة رأوا بأعينهم وهم في ينوعة شبابهم الأحداث الدامية التي مرّ بها المسلمون في شبه القارة الهندو باكستانية قبل قيام باكستان ، وابن شاب في مقتبل العمر ، يجلسون جميعاً حول الراديو والتليفون ، يحاولون من خلالهما التقاط أي أخبار عما يدور في القدس ، وقلوبهم تكاد تسقط خوفاً من أن تقع القدس في أيدي اليهـود . وفي ثنايا حديث الأب مع ابنـه " محسن " يقول له :
· كان بيت المقدس هو المحطة الأخيرة في سفر الأرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج ، لهذا سافر النبي عليه الصلاة والسلام عابراً أنهاراً وجبالاً وصحارى ، إلى أن وصل إلى المسجد الأقصى ودخله ، فقال جبريل عليه السلام : هيا بنا يا سيدي ، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم : إلى أين ، فقال : يا سيدي ، انتهت رحلة الأرض ، وهنا محطتها الأخيرة ، والآن أمامنا رحلة إلى العالم العلوي . عندئذ ارتفع النبي صلى الله عليه وسلم ، وظل يرتفع ، ويرتقي ... السماء الأولى ، السماء الثانية ، الثالثة ، الرابعة ، وهناك صافح سيدنا عيسى عليه السلام ، ثم ظل يرتفع ويرتقي حتى وصل في نهاية المطاف قرب العرش الإلهي ، ولم يبق بينهما سوى قاب قوسين أو أدنى .
ثم يتذكر الأب هجوم إيطاليا على ليبيا عام 1911م فيما سمي بحرب طرابلس ، وكيف هب مسلمو شبه القارة الهندو باكستانية لمساعدة إخوانهم المسلمين في ليبيا ، وأخذ الزعماء المسلمون في شبه القارة يجمعون كل ما تجود به نفوس المسلمين في البلاد ، حتى تبرعت النساء بحليهن . تقول الأم لولدها " محسن " :
· كان هذا يا بني قبل أن تولد أنت ، كنت في الشهر الثالث ، وكانت جدتك قد اشترت لي أسورة ذهبية كبيرة،وجاء إلينا كبار المشايخ قائلين:أيتها الأمهات،أيتها الأخوات،لقد حل بالمسلمين وقت عصيب،تبرعن بحليكن.فخلعت أسورتي والدموع تنساب من عيني ، وناولتها لهم .
وصمتت الأم قليلاً ، ثم واصلت حديثها :
· ما أعظم البركة في اسم الله ورسوله يا بني ، في العام التالي مباشرة ، وقبل أن تحل شهور الصيف ، التحق أبوك بوظيفة، واشترى لي أسورة أكبر من الأولى ، هذه التي في يدي .
ثم يتذكر الأب رحلته إلى الحج ، وأسراب الحمام التي ترابط على القبة الشريفة في المكان الوحيـد الآمن على الأرض ، ثم يستفسر من ولده " محسن " عن الدجال وعلاماته . وعندما يخبره " محسن " أنه سيكون بعين واحدة ، ويضع غطاءً أخضر على عينه العوراء ، يتذكر مع زوجته " أم محسن " ما كانت تفعله أمه عندما كانت زفة عروس هندوسية تمرّ من أمام بيتهم ... كانت تمنع " محسن " من الخروج وراء الزفة ومشاهدة ما بها من رقص وموسيقى ومزامير وصاجات ، لأن الدجال الأعور سيأتي بنفس الطريقة في يوم من الأيام ، وستكون معه المزامير والصاجات ، وسيكون راكباً حماراً ، وسينجذب الناس إلى صوت مزاميره ، فيتبعونه بلا إرادة ، وعندما كانوا يعجبون من قولها أن الناس سيتبعونه بلا إرادة ، كانت تقول :
· سيكون معه الكثير من أسباب الطمع ، وسيحل بالناس قحط في تلك السنة ، قحط يجعل الناس يستغيثون ، وسيكون معه خبز كثير محمل على ظهر حماره ، وسيأتي بالرغيف ، ويضع عليه بعضاً من قذارة أذنه، ويظن الناس ذلك حلوى ، وهكذا يتبعونه طمعاً في الخبز والحلوى .
وعندما يضحك " محسن " على ما كانت تقوله جدته ، كان أبوه يقول له :
· يا بني ، يبدو هذا الكلام لكم أنتم المتعلمين مضحكاً ، ولكن إن دققت النظر ستجد فيه عبرة كبيرة . إن رسولنا صلى الله عليه وسلم والأئمة كانوا يعلمون ماذا سيحدث في المستقبل ، وما زلت أشعر بحيرة كبيرة عندما أرى كم ضاق الرزق هذه الأيام ، بينما كان حتى وقت قريب وفيراً .... إن الروبيتين ونصف التي كنا نشتري بها جوال قمح لا تشتري اليوم أكثر من ملء الكف منه ، وصرنا لا نستطيع تلبية احتياجاتنا حتى يأتينا القمح من أمريكا ، وما تعطيه لنا أمريكا ما هو إلاّ قذارة أذنها .
ثم يواصل الأب حديثه عن الدجال قائلاً :
· عندما يخرج الدجال الأعور سيقتل المسلمين فرداً فرداً ، وسيبقى في النهاية ثلاثمائة وثلاثة عشر مسلماً .... نعم ، ثلاثمائة وثلاثة عشر ، سيقتل الكثيرون ، والكثيرون سيتبعون الدجال على حماره ، وسيبقى ثلاثمائة وثلاثة عشر فقط .
ثم يأتي الخبر المريع في وقت متأخر من الليل . لقد استسلم المسلمون ، وسقطت القدس في أيدي اليهود ، وهنا يطلق الأب زفرة حارة قائلاً :
· في المكان الذي ارتفع فيه نبينا صلى الله عليه وسلم وارتقى ، انحدرنا نحن وسقطنا .
ويدخل كل إلى غرفة نومه ، ويدخل الابن الشاب " محسن " في صراع مرير بداخله ، وكلمات أبيه لا يزال صداها في أذنه : " حيث ارتفع نبينا وارتقى انحدرنا نحن وسقطنا " .
وتداخل الزمن في عقل " محسن " ، وبصعوبة استطاع أن يفصل بين الماضي والحاضر ، فأكد لنفسه قائلاً : إن المعركة هي معركة الزمن الحاضر ، وأنا لا أعيش بين الأنبياء ، إنما بين الناس في هذه الأيام ، أنا في الحاضر ، وأبي وأمي في الماضي ، الدجال الأعور هو المستقبل الحقيقي لذلك الماضي الذي يعيش فيه أبي وأمي ، ومستقبل زماني .
ويتقلب " محسن " في سريره ، هل هو في الماضي أم في المستقبل ، لقد اختلطت علي كل الأمور ... الماضي ، الحال ، المستقبل ، اليقظة ، الحلم ، كل شيء ... كان كأنه مستيقظ ، وكأنه نائم كذلك ... كان متناثراً بين مناطق الماضي والحال والمستقبل :
· ثلاثمائة وثلاثة عشر ، أهذا هو ماضينا أم مستقبلنا ؟!. أتكون النهاية هي نفس ما كانت عليه البداية : أن ننحدر ونتخلف ونسقط حيث ارتفعنا وارتقينا من قبل ؟!.

هوامش
1 - انظر كتاب اردو افسانه اور افسانه نكار - د / فرمان فتح بوري – صـ 299
2 - د / اورنكزيب عالمكير – اردو كـ 25 افسانـ - لاهور – باكستان – الطبعة الأولى – بدون .
3 - باكستان كـ شاهكار اردو افسانيـ - صـ 615