المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الوسيط المسمى كلام الشبكة



Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
03/11/2006, 08:43 PM
فيما يلي ترجمتي للفصل الثاني من كتاب ديفيد كريستال، اللغة والإنترنت، مطبعة جامعة كيمبردج، الطبعة الثالثة، 2002.

2 الوسيط المسمى كلام الشبكة

الإنترنت وسيط إلكتروني، عالمي، وتفاعلي، ويترتب على كل من هذه الخصائص نتائج فيما يتعلق بنوع اللغة المستخدمة هناك. وينبع التأثير الأكثر أساسية من السمة الإلكترونية للوسيط. وأوضح هذه السمات هي أن طبيعة الأجزاء الصلبة للحاسب الآلي الذي نحتاجه لكي يمكننا الاتصال بالإنترنت تحد من الاختيارات الاتصالية للمستخدم. وعلى هذا، فإن مجموعة من الحروف على لوحة المفاتيح تحدد القدرة اللغوية الإنتاجية (أي نوع المعلومات التي يمكن إرسالها)؛ كما يحدد حجم الشاشة وتكوينها القدرة اللغوية الاستقبالية (أي نوع المعلومات التي يمكن رؤيتها). كما أن خصائص برامجيات* الإنترنت والأجهزة** التي تربط بين المرسل والمستقبِل تحد كليهما لغويا. وتبعا لذلك، فإنه يمكن لهذا الوسيط أن يسهل أنشطة لغوية تقليدية تسهيلا كبيرا، غير أن هناك أنشطة أخرى لا يمكنه التعامل معها على الإطلاق. كما أن هناك أنشطة لغوية معينة يتيحها وسيط إلكتروني ولا يمكن لأي وسيط آخر إتاحتها. ولكن كيف يستجيب المستخدمون لهذه الضغوط الجديدة، ويعوضون قصورها لغويا؟

ومن المهم معرفة ماهية نواحي القصور والإمكانات العديدة في هذا الوسيط. وهناك حقيقة مقررة تتعلق بالتواصل مؤداها أن المستخدمين ينبغي أن يعرفوا نواحي القوة وأيضا نواحي القصور في وسيطهم المختار، فيما يختص بالاستخدامات التي يخضعونه لها والأغراض التي في أذهانهم. ويتوقع الناس الكثير من الإنترنت، ومن الواضح أن المستخدمين الأكفاء لديهم مشاعر قوية حول كيفية استخدامه لتحقيق الأغراض المرجوة منه. ومع ذلك، فإن هذه العلاقة ليست علاقة واضحة المعالم. ويوضح تطور كلام الشبكة توترا حقيقيا موجودا بين طبيعة الوسيط وأهداف مستخدميه وتوقعاتهم. ويبدو أن لب الموضوع هو علاقته باللغة المنطوقة والمكتوبة. وقد أطلق العديد من الكتَّاب على لغة الإنترنت "الكلام المكتوب"؛ وينصحنا كُتّيِّب وايرد ستايل: "اكتب كما يتحدث الناس." ويقول مؤلفو دراسة مفصلة لمجموعة دردشة غير متزامنة، وهما ديفيز, وبروار إن "الخطاب الإلكتروني كتابة كثيرا جدا ما نقرأها كما لو كانت منطوقة – بمعنى كما لو كان المرسل يكتب وهو يتحدث." ولكن إلى أي مدى من الممكن أن "نكتب الكلام"، وكل ما لدينا لوحة مفاتيح تقتصر على حروف الألفبائية، والأرقام، ومجموعة متناثرة من الرموز الأخرى، ووسيط – كما سنرى – لا يسمح ببعض السمات الأساسية لكلام المحادثة؟ وبالإضافة إلى ذلك، وبالنظر إلى أن العالم مكوَّن من أنواع مختلفة جدا من البشر الذين يتحدثون بطرق متباينة، أيَّ نوع من الكلام، بالضبط، تريد منا كتب الأسلوب الإرشادية أن نكتبه؟ ولقد أصبح للغة مدمني الحاسب الآلي (ص 14) تأثير قوي في كلام الشبكة حتى الآن، وأصبحت مصطلحاته الخاصة تروق لجمهور صغير السن نسبيا وملم بالحاسب الآلي. ولكن ماذا سوف يحدث لكلام الشبكة عندما تتوسع قاعدة المستخدمين، ويتصل أناس ذوو مدى أوسع من التفضيلات اللغوية بالإنترنت؟ ولعبارة "اكتب كما يتحدث الناس" وقع معقول بما فيه الكفاية، إلى أن نضطر للإجابة عن السؤال: أي ناس؟

وقبل أن نجيب عن هذه الأسئلة، فإننا بحاجة إلى أن نلم إلماما واضحا بطبيعة اللغة المنطوقة والمكتوبة، وبالعوامل التي تميز بينهما – وهي عوامل حظيت بقدر هائل من الاهتمام في علم اللغة. ويقدم الجدول 2-1 ملخصا للاختلافات الرئيسية، مستقى من مصدر عام واحد، وهو دائرة معارف كيمبردج للغة الإنجليزية. ومما يميز الكلام أنه مرتبط بالزمن



الجدول 2-1 الاختلافات بين الكلام والكتابة

(نقلا عن كريستال 1995)

الكلام
الكتابة

1- الكلام مرتبط بالزمن، ويتسم بالحركية، والزوال. وهو جزء من تفاعل يوجد فيه كلا المشاركيْن عادة، ويكون لدى المتحدث مخاطَب محدد (أو عدة مخاطَبين) في ذهنه.



2- ليس هناك فاصل زمني بين إنتاج الكلام واستقباله، إلا إذا كان هناك فاصل بفعل المتلقي (وبذا يكون متاحا لرد فعل فيما بعد من جانب المتكلم). وتجعل التلقائية والسرعة التي تميز معظم التبادلات الكلامية من الصعب الانخراط في تخطيط مفصل مسبقا. ويدعو الضغط للتفكير أثناء التحدث إلى بنية أقل إحكاما، وإلى التكرار، وإعادة صياغة التعبيرات، وإلى عبارات التعليق ( مثل، you know [كما تعرف]، و you see [كما ترى]، mind you [خذ بالك]. ويقسِّم التنغيم والوقف الجمل المنطوقة الطويلة إلى قطع يمكن التعامل معها، غير أن الحدود الفاصلة بين الجمل غالبا ما تكون غير واضحة.



3- نظرا لأن المشاركين يتفاعلون أساسا وجها لوجه، فإنه يمكنهم الاعتماد على مفاتيح فوق–لغوية مثل تعبيرات الوجه والإيماءات للمساعدة في وصول المعنى (التغذية الراجعة). والسمة الغالبة لمفردات الكلام هي أنها غائمة، مستخدمة كلمات تشير إشارة مباشرة إلى الموقف (عبارات إشارية، مثل ذلك الشخص / الشيء، وهنا، والآن حالا).



4- كثير من الكلمات والتركيبات تختص بالكلام (وبخاصة غير الرسمي)، مثل الصيغ المختصرة (isn't،he’s ). والجمل المعطوفة الطويلة أمر معتاد، وكثيرا ما تتميز بدرجة كبيرة من التعقيد. وهناك مفردات لا معنى لها (مثل thingamajig)، وغموض، وكلمات عامية لا يظهر بعضها في الكتابة، أو يظهر فقط مثل تورية كتابية 0على سبيل المثال f***).



5- الكلام يناسب إلى حد بعيد الوظائف الاجتماعية أو "التآلفية"، مثل قضاء الوقت، أو أي موقف يكون فيه الخطاب العَرَضي وغير المخطط مرغوبا فيه. وهو أيضا يصلح للتعبير عن العلاقات الاجتماعية، والآراء والمواقف الخاصة، بالنظر إلى المدى الواسع من الإيحاءات التي يمكن أن تعبر عنها الملامح فوق القطعية والسمات غير اللفظية المصاحبة.



6- هناك فرصة لإعادة التفكير في العبارة المنطوقة خلال استماع الشخص الآخر (البدء من جديد، إضافة تعديل). إلا أن الأخطاء، بمجرد النطق بها، لا يمكن سحبها؛ ولابد للمتكلم من التعايش مع النتائج المترتبة. والمقاطعة والكلام المتقاطع أمران عاديان ومن السهل سماعهما.



7- تضم الملامح المختصة بالكلام فقط معظم الملامح فوق القطعية. ولا يمكن كتابة الإيحاءات الكثيرة للتنغيم، أو تباينات ارتفاع

الصوت، وسرعة الكلام، والإيقاع، ونغمات الصوت الأخرى، كتابةً تتسم بالكثير من الكفاءة.
الكتابة مرتبطة بالمساحة، وتتسم بالسكون، والدوام. وهي نتيجة لموقف يوجد فيه الكاتب عادة بعيدا عن القارئ، وغالبا ما لا يعرف من سيكون القارئ (باستثناء تلك المعرفة الغائمة جدا، كما هي الحال في الشِّعْر)



هناك دائما فاصل زمني بين الإنتاج والاستقبال. ولابد للكاتبين من أن يستشرفوا تأثير كتابتهم، جنبا إلى جنب مع المشكلات التي تثيرها قراءة ما يكتبون، وتفسيرها من قِبَل متلقين كثيرين في سياقات متنوعة. وتسمح الكتابة بالقراءة المتكررة وبالتحليل عن قرب، وتدعو إلى تطوير تنظيم معتنى به، وتعبير موجز، مع بنية معقدة للجملة غالبا. وعادة ما تكون وحدات الخطاب (الجمل، والفقرات) من السهل التعرف عليها من خلال علامات الترقيم والنسق الطباعي.













يعني عدم وجود الاتصال البصري أن المشاركين لا يمكنهم الاعتماد على السياق لتوضيح المعنى الذي يقصدون إليه؛ كما أنه ليس هناك أي تغذية راجعة فورية. ولذا فإن معظم الكتابة تتجنب استخدام العبارات الإشارية، إذ إنها من المحتمل أن تتسم باللبس.







بعض الكلمات والتركيبات تختص بالكتابة، مثل الحالات المتعددة من التبعية* في الجملة نفسها، والأنماط النحوية المتوازنة بدقة، والجمل الطويلة (التي كثيرا ما تستغرق عدة صفحات) التي نجدها في بعض الوثائق القانونية. وهناك مفردات معينة نادرا ما تُستخدم في الكلام, مثل الأسماء الكاملة للمركبات الكيميائية.







الكتابة تناسب إلى حدب بعيد تسجيل الحقائق وتوصيل الأفكار، والمهام المتعلقة بالذاكرة والتعلم. ومن الأسهل حفظ السجلات المكتوبة ومراجعتها، وتوضح الجداول العلاقات بين الأشياء، وتتيح المذكرات والقوائم التذكر ويمكن قراءة النص بسرعات تناسب قدرة الشخص على التعلم.







الأخطاء وغيرها من نواحي القصور في كتابتنا يمكن إزالتها في المسودات التالية دون أن يعرف القارئ بوجودها سابقا. أما المقاطعة، إن كانت قد حدثت أثناء الكتابة، فإنها لا يمكن رؤيتها أيضا في المنتَج النهائي.









تضم الملامح المختصة بالكتابة فقط الصفحات، والسطور، واستخدام الحروف

الكبيرة، والتنظيم عبر المساحة، وجوانب

عديدة لعلاقات الترقيم. كما أن هناك عددا صغيرا جدا من التقاليد الكتابية المتعلقة بالملامح فوق القطعية، مثل علامات الاستفهام واستخدام الحروف المائلة (للتأكيد). ولا يمكن القراءة الجهرية بكفاءة لأنواع مكتوبة عديدة (مثل الجداول، والأشكال، والمعادلات المعقدة، ولكن لابد من استيعابها بصريا.




وتلقائي، ووجها لوجه، وتفاعلي اجتماعيا، وذو بنية غير محكمة، وقابل للتعديل الفوري، وثري في ملامحه فوق القطعية. أما الكتابة فهي مرتبطة بالمساحة، وتقوم على تفكير مسبق، وغير مرتبطة بالسياق بصريا، وتواصلية فيما يتعلق بالحقائق، وذات بنية محكمة، وقابلة للتعديل المتكرر، وثرية من ناحية الرسم / النقش. ولكن ما وضع كلام الشبكة، فيما يتعلق بهذه الخصائص؟





كلام أو كتابة؟



ما يجعل كلام الشبكة مشوقا كثيرا، بوصفه شكلاً من أشكال التواصل، هو كيفية اعتماده على الخصائص التي تنتمي إلى كلا الجانبين من الحد الفاصل بين الكلام والكتابة. وفي واحد من أقصى الطرفين، نجد الشبكة العنكبوتية، والتي لا تختلف في كثير من وظائفها (مثل إنشاء قواعد المعلومات، ونشر المراجع، والحفظ، والإعلان) عن المواقف التقليدية التي تستخدم الكتابة؛ وبالفعل فإن معظم تنويعات اللغة المكتوبة يمكن الآن أن نجدها على الشبكة العنكبوتية مع تغير أسلوبي بسيط لا يتجاوز التكيف مع وسيط إلكتروني (انظر الفصل 7). وسوف نجد نصوصا قانونية، ودينية، وأدبية، وعلمية، وصحفية، وغيرها، تماما كما يمكن أن نجدها في شكلها غير الإلكتروني. وسوف تحتاج أية محاولة للتعرف على التميز الأسلوبي لصفحات الشبكة العنكبوتية مع النوع نفسه من الأمور المرئية والطباعية، مثلها في ذلك مثل أية تنويعة من التعبير المكتوب. ولذا فإننا نجد هنا استخداما للغة يعكس الخصائص العامة للكتابة كما وُصفت في الجدول 2-1: وعلى سبيل المثال، فإن كتَّاب صفحات الشبكة العنكبوتية ليست لديهم فكرة عمن سيكون قراؤهم، وهم في تخمينهم، واستهدافهم، وطلبهم تغذية راجعة، إنما يعكسون السلوك نفسه الذي يسلكه أي مؤلف مرتبط بالورق أو أية مؤسسة مرتبطة به. وفي الوقت ذاته، فإن بعض وظائف الشبكة العنكبوتية (مثل المبيعات الإلكترونية) تجعلها أكثر اقترابا بكثير من نوع التفاعل الذي يميز الكلام، مع ما يترتب على هذا من تأثير في نوع اللغة المستخدم، ويضم كثير من المواقع الآن إمكانيات تفاعلية ملحقه بها، على شكل بريد إلكتروني وجماعات دردشة.

وعلى النقيض من الشبكة العنكبوتية، فإنه بالرغم من التعبير عن حالات البريد الإلكتروني ومجموعات الدردشة والعوالم المتخيلة من خلال وسيط الكتابة، فإنها تعكس العديد من الخصائص الأساسية للكلام. إذ إنها محكومة بفعل الزمن، من خلال توقع استجابة فورية أو طلبها، وهي عابرة، بمعنى أن الرسائل يمكن حذفها مباشرة (كما في البريد الإلكتروني) أو لا يلحظها أحد نظرا لأنها تتحرك على الشاشة (كما في جماعات الدردشة)؛ وتعكس جملها كثيرا من الصفة العاجلة والقوة المحملة بالطاقة التي تميز المحادثة وجها لوجه. وليست كل الحالات "منطوقة" بالقدر نفسه. ولكن مجموعات الدردشة هي "للدردشة"، ومن المؤكد أن الناس "يتحدثون" إلى بعضهم هناك – كما يفعل المشاركون في العوالم المتخيَّلة. إذ "يقول" اللاعب س شيئا للاعب ص، كما في هذا التتابع من إحدى الدراسات:



يرفع الصحن يده ويصيح …

وتتنهد الشوكة بصوت عالٍ …

فيقول الصحن: "لا"



فهناك "أحداث كلامية" بالمعنى الحرفي. والاتجاه الإجمالي لما وراء اللغة في هذه المواقف يتسم بأنها منطوقة.

ولكن هناك فروقا رئيسية عديدة بين كلام الشبكة والمحادثة وجها لوجه، حتى في تلك المواقف الإلكترونية التي تتسم بأنها أكثر شبها بالكلام. وأول هذه الفروق من نتاج التكنولوجيا – وهو نقص التغذية الراجعة الفورية. فالرسائل المرسلة عبر حاسب آلي كاملة وأحادية الاتجاه. وعندما نقوم بإرسال رسالة إلى شخص ما، فإننا نقوم بكتابتها بالضرب على مفتاح في كل مرة، ولكنها لا تصل إلى شاشة ذلك الفرد بالكيفية نفسها – بطريقة الطابعات عن بعد القديمة (وهناك وصف لحالة استثنائية في صفحة 181). ولكن الرسالة لا تترك حاسبنا الآلي إلى أن "نرسلها"، وهذا يعني أن رسالة بكاملها تُرسَل مرة واحدة، وتصل إلى شاشة المتلقي في الحال. وليست هناك وسيلة يتمكن بها متلقٍ من كتابة رد فعل على رسالتنا أثناء كتابتها، لسبب واضح هو أن المتلقين لا يعرفون أنهم يتلقون أية رسالة على الإطلاق إلى أن يصل النص على شاشاتهم. وبالمثل، فإنه ليست هناك وسيلة لكي يحصل أحد المشاركين على مؤشر على مدى نجاح رسالة ما، أثناء كتابتها – سواء أفُهمت، أم تكون في حاجة إلى تعديل. وليست هناك وسيلة فنية (حاليا: انظر الفصل 8) للسماح للمتلقي بإرسال معادل إلكتروني لإيماءة فورية، أو أه – أه أو أي من ردود الأفعال السمعية – البصرية الأخرى التي تؤدي دورا حاسما في التفاعل وجها لوجه. ولا يمكن للرسائل أن تتداخل. ونتيجة لذلك، فإن المتلقين مضطرون للمرور بفترة انتظار بعد ظهور النص – أو لا يظهر شيء على شاشتهم، ثم يظهر شيء، أي نظام "قفل –فتح" يناسب تماما عالم الحاسب الآلي، غير أنه يبتعد كثيرا عن الحقائق المعقدة للمحادثة اليومية. وتنطبق الظروف نفسها حتى على الأنظمة الثنائية الاتجاه، مثل النظم التي تقسم الشاشة لكي تسمح للرسائل من مُتَلَقَّيْن أن تُرى جنبا إلى جنب؛ وقد يبدو الأمر في هذا النَّسق كما لو كانت مثل هذه الحوارات تتيح تغذية راجعة فورية، ولكن لا وجود حقيقيا لها، بسبب الفرق الزمني.

أما الاختلاف الكبير الثاني بين كلام الشبكة والمحادثة وجها لوجه فينشأ أيضا من التكنولوجيا: إذ إن إيقاع التفاعل على الإنترنت أبطأ بكثير من الإيقاع الموجود في موقف كلامي، ولا يسمح ببعض الخصائص الأكثر أساسية للمحادثة. وفي حالة البريد الإلكتروني ومجموعات الدردشة غير المتزامنة، فإن رد الفعل لمثير قد يستغرق أي وقت بدءا من ثانية إلى شهور، حيث يتوقف إيقاع التناوب إلى حد كبير جدا على عوامل مثل الحاسب الآلي للمتلقي (مثلا، ما إذا كان يعلن فورا عن وصول رسالة)، وعلى شخصية المستخدم وعاداته (مثل ما إذا كان يُرد على الرسائل في أوقات منتظمة أو عشوائيا)، وظروف المتخاطبين (مثل توفر الحاسب الآلي لديهم). ويمثل الفارق الزمني (الذي يشار إليه عادة بكلمة الفترة الفاصلة) عاملا مركزيا في مواقف كثيرة: إذ إن هناك شكا كامنا في معرفة طول الفجوة بين لحظة بث رسالة ولحظة تلقي رد عليها. وبسبب هذه الفجوة، فإن إيقاع تفاعل ما – حتى في أسرع حالات الاتصال على الشبكة، في مجموعات النقاش المتزامنة والعوالم المتخيلة – ينقصها الإيقاع والتنبؤ اللذين نجدهما في المحادثة التليفونية أو وجها لوجه (انظر فصلي 5 و 6). وحتى لو كتب مشارك ردا مباشرة، فإنه قد يكون هناك فارق زمني قبل أن تصل تلك الرسالة إلى شاشات الأعضاء الآخرين، بسبب عوامل عديدة، مثل مشكلات معالجة عرض النطاق الترددي، وكثافة حركة مرور الرسائل على الحاسب الآلي المضيف، أو مشكلة ما في معدات المرسِل أو المستقبِل.

وتتسبب جميع الفترات الفاصلة في إحداث مشكلات، ولكن بعضها أسوأ بكثير من بعضها الآخر. ويتراوح طول الفترة الفاصلة القصيرة بين ثانيتين وثلاث ثوانٍ، وهي فترة انتظار يتحملها معظم المشاركين – وإن كان بعض الناس يجدون أنها أطول من قدرتهم على التحمل، إذ إن الفترة ما بين ثانيتين وثلاث هي أطول بكثير من تلك التي نجدها في معظم المحادثات. وأية فترة أطوال من خمس ثوان سوف تولِّد الإحباط بالتأكيد، وكثيرا ما تدفع الناس إلى الإدلاء بملاحظات حول الفترة الفاصلة نفسها – إذ قد يشيرون إلى "تنين الفترة الفاصلة" أو إلى "حروب الفترات الفاصلة". ويحدث الإحباط على جانبي سلسلة الاتصال. فالمرسل ربما يرى أن اللحظة المناسبة للتكلم قد تفوته، نظرا لأن النقطة التي يتناولها الإسهام الذي كان يعتزمه ربما تكون قد تحركت إلى أعلى الشاشة واختفت وبذا تنحسر سريعا من الذاكرة الإجمالية للجماعة. كما أن المتلقي قد يرى أن عدم تلقيه رد فعل متوقعا أمر ملبس، وذلك لعدم وجود وسيلة لمعرفة سبب التأخر، أهو مشكلات في الإرسال أم بسبب "موقف" ما من قِبَل المرسِل. ويحمل الصمت غير المتوقع في محادثة تليفونية لبسا مشابها، ولكن في هذه الحالة يكون لدينا على الأقل وسيلة راسخة لأخذ الأدوار من شأنها أن توضح الأمر مباشرة ("ألو؟"، "هل مازلت تسمعني؟"). وتتسم الاستراتيجيات اللغوية التي تميز محادثاتنا بأنها أقل صدقا في مجموعات الدردشة. إذ إن (كولين) ربما لا يتلقى مطلقا رد فعل على رده على (جين) لأن جين ربما لم تتلق رده على الإطلاق (لأسباب فنية)، وربما لم تلحظه (لأن هناك ملاحظات أخرى كثيرة تتوارد في الوقت ذاته)، وربما تكون قد صرفت انتباهها محادثة أخرى (حقيقية أو على الشبكة)، وربما لا تكون موجودة أمام جهازها حتى يمكنها رؤية الرسالة. وبالقدر نفسه، فإنها ربما تكون قد ردت، وكانت رسالتها هي التي تأخرت أو فُقدت. وعندما تنقطع الردود بسبب التأخر، فإن هناك القليل مما يستطيع أي فرد عمله لكي يتبين مثل هذه الأمور.

وكلما زاد عدد المشاركين في التفاعل، زاد الموقف سوءا. إذ إن التأخر في محادثة بين شخصين يبعث على الضجر واللبس، ولكن يمكن عادة السيطرة على مستوى الضرر، لأن كل شخص يهتم بشريك واحد في المحادثة. فإذا تأثرت حالة بسيطة من حالات البريد الإلكتروني من جراء التأخر، فإن رد الفعل عن طريق الهاتف أو الفاكس من السهل تقديمه. ولكن عندما يضم تفاعل إلكتروني العديد من الناس، كما هي الحال في مجموعات الدردشة، والعوالم المتخيلة، والبريد الإلكتروني الذي يتكرر نسخه، فإن الفترة الفاصلة ينتج عنها موقف صعب للغاية، لأنه يتدخل في ملمح أساسي آخر من ملامح التفاعل وجها لوجه، ألا وهو أخذ الدور في المحادثة. ويمثل أخذ الأدوار أمرا أساسيا كثيرا في المحادثة لدرجة أن معظم الناس لا يدركون أهميته كوسيلة لإنجاح التفاعلات. ولكن من حقائق الحياة المتعلقة بالمحادثة أن الناس يتبعون وتيرة في أخذ الأدوار، عندما يتكلمون، ويتجنبون الحديث في الوقت نفسه أو مقاطعة كل منهم الآخر مقاطعة عشوائية أو بكثرة. وبالإضافة إلى ذلك، فإنهم يتوقعون حدوث " ثنائيات متتابعة": مثل أسئلة تتبعها إجابات، وليس العكس؛ وبالمثل، فإن معلومة معينة يتبعها تقديم العرفان لمصدرها، أو شكوى يتبعها عذر أو اعتذار. وتتيح هذه الاستراتيجيات الأولية، التي يجري تعلمها في سن مبكرة جدا، محادثة عادية ذات هيكل معتاد.

وعندما تحدث فترات فاصلة طويلة، فإن حالة المحادثة تصبح غير معتادة بحيث يمكن أن تضيع قدرتها على مجاراة موضوع ما. وسبب هذا أن أخذ الأدوار، كما يمكن رؤيته على الشاشة، إنما تمليه البرامجيات وليس المشاركون: ففي مجموعة دردشة، على سبيل المثال، حتى لو بدأ شخص في إرسال رد فعل على رسالة شخص آخر قبل أن تصل إلى نهايتها، فإن رد الفعل سوف يأخذ دوره على شكل سلسلة من الجمل غير المتداخلة على الشاشة، تعتمد فقط على اللحظة التي جرى فيها تلقي إشارة الإرسال في مزود الخدمة المضيف. وتُعلن الرسائل على شاشة المتلقي واحدة تلو الأخرى، بالترتيب الذي يتلقاها النظام به. وفي بيئة ذات مستخدمين عديدين، فإن الرسائل تَرِدُ من مصادر متعددة طوال الوقت، وبفترات فاصلة متباينة. ونظرا للطريقة التي تُرسل بها حِزَم المعلومات إلكترونيا من خلال الطرق العالمية المختلفة، بين المرسِل والمتلقي، فإنه من الممكن حدوث ترتيب عكسي في أخذ الأدوار، وحدوث جميع أنواع التداخلات غير المتوقعة. إذ إن الأطر الزمنية للمشاركين لا تتطابق. على سبيل المثال, تطرح (لوسي) سؤالا؛ وتتلقاه (سُو) وترسل ردا عليه؛ ولكن على شاشة (بِنْ) يحدث تلقي الإجابة قبل السؤال. أو ترسل (لوسي) سؤالا، فترد (سو)، فترسل (لوسي) سؤالا آخر؛ ولكن على شاشة (بِنْ) يصل السؤال الثاني قبل رد (سو) على الأول. أو قد تعيد لوسي، التي لم تتلق رد (سو) بعد، صياغة سؤالها وترسله من جديد؛ وترد (سو) على كليهما؛ وحينئذ يتلقى (بن) التتابع بالترتيب الآتي: س1، ج2، س2، ج1. وقد يتعقد الموقف أكثر من ذلك، إذا قررت (سو) - أو أي شخص آخر- أن تجيب عن سؤالين من مشاركَيْن مختلفين، مرسلة الإجابة في وقت واحد. وهنا تتعاظم احتمالات الاضطراب، بسبب كسر قاعدة أخذ الأدوار، وتقاطع الثنائيات المتتابعة. ويتزايد عدد ردود الأفعال المتداخلة التي يمكن لشاشة ما عرضها في أي وقت محدد، ويتوقف هذا على عدد المشاركين والطبيعة العشوائية للفترات الفاصلة. وفي سيناريو نموذجي، فإن الموقف على أحسن الفروض يتسم بالتشوش فيما يتعلق بشخص غير مشارك، كما توضح الاقتباسات في فصل 5 (ص 141)، نظرا لأنه من الصعوبة بمكان اقتفاء أثر موضوع (أو خيط) ما. وما يدعو إلى الدهشة هو أنه يبدو أن المشاركين من ذوي الخبرة يتسامحون مع (بل وبالفعل يجدون متعة في) الفوضى الناتجة. (وهناك نقاش لأسباب ذلك في نهاية الفصل5.)

وتعد قضايا التغذية الراجعة وأخذ الأدوار من الأمور التي يختلف بها كلام الشبكة عن كلام المحادثة. غير أن كلام الشبكة لا يشبه الكلام أيضا فيما يتعلق بالخصائص الشكلية للوسيط – وهي الخصائص الأساسية إلى الحد الذي يصبح فيه من العسير على الناس أن يتَّبعوا التوصية القائلة بأنهم ينبغي أن "يكتبوا كما يتحدثون". ومن بين الخصائص الأساسية مجالا السمات فوق القطعية وما وراء اللغة – وهما مصطلحان صوتيان وظيفيان يعبران عن فكرة أنه "ليس المهم ما تقول ولكن الكيفية التي تقوله بها" – كما يُعبَّر عنها من خلال التنويعات الصوتية في حدة الصوت (التنغيم) ، وارتفاعه (النبر)، والسرعة، والإيقاع، والوقفات، ونغمة الصوت. أما فيما يتعلق بالكتابة التقليدية، فقد جرت جهود مضنية إلى حد ما لاستبدالها على شكل الاستخدام المبالغ فيه للهجاء وعلامات الترقيم. وتتضمن الأمثلة الحروف المكررة aaaaahhhhh،ooops ،hiiiiii ، soooo) ]آآآآآه ه ه ه ه ، أهلاااااا، أخ خ خ، جداااا[ ،وعلامات الترقيم المتكررة (!no more!!!!، whole????، hey!!!!!!!!!، see what you started??????????????????) ]لامزيد!!!!!، كامل؟؟؟؟، هيه!!!!!!!!!، هل رأيت ماذا فعلت؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟[ والمدى التالي من وسائل التأكيد:



جميع الحروف كبيرة للدلالة على "الصياح" I SAID NO [قلت لا]

المباعدة بين الحروف للدلالة على "بصوت عالٍ وواضح" w h y n o t و WHY NOT [ولِمَ لا]

وضع علامة النجمة للتأكيد على كلمة أوتعبيرة the * real * answer [الإجابة *الحقيقة*]



(كما أن الشُّرط التحتية تستخدم أحيانا للتأكيد، كما في “the_ real_ answer” ["الإجابة_ الحقيقية"]، غير أنها أقل شيوعا، بالنظر إلى أن لها وظائف أخرى، مثل استخدامها لملء الفراغات في العناوين للتأكد من أن اسما مركبَّا يمثل خيطا إلكترونيا واحدا (ديفيد _ كريستال). وبالفعل فإن هذه الملامح قادرة على نقل طاقة تعبيرية معينة, إلا أن مدى المعاني التي تشير إليها صغير، ويقتصر على أفكار عامة مثل مزيد من التأكيد، والدهشة، والحيرة. أما الإيحاءات الأقل مبالغة فإنه لا يمكن تناولها بهذه الكيفية، وليس هناك نظام خاص باستخدام العلامات – بل يبدو من المحتمل أن عدد علامات الاستفهام أو علامات التعجب يعكس طول الوقت الذي يُضغَط فيه على المفتاح المعين. وهناك مؤشرات على أن حروفا أخرى أو مجموعات من الحروف المتلازمة تستخدم للتعبير عن ظلال المعاني (مثل / sure، so \) [أكيد /، جدا\]، ولكن إزاء غياب تقاليد متفق عليها فإنه من الصعب أن نعرف كيف نقرأ مثل هذه الرموز، أو ماذا يعني المستخدم بها. ونتيجة لذلك، فإنه ليس من الغريب أن نجد مشاركين في مجموعات دردشة يلجأون إلى تعبيرات أدبية في محاولة للسيطرة على مدى من التأثيرات والانفعالات المعنية، باستخدام وسيلة كتابية لتمييز النص عن بقية المحادثة، كما في هذه الأمثلة:



<Hoppy giggles quietly to himself>

<Jake squeals insistently>

<Henry eyes Jane warily>

[<هوبي يضحك بهدوء>

<جيك يصرخ بإصرار>

<هنري يرمق جين متنمرا>]



وفي العوالم المتخيلة, هناك أوامر تسمح للناس بالتعبير نصيا عن المشاعر التي يحسونها، غالبا بإضافة أصوات اصطناعية ومؤثرات بصرية. وبالرغم من هذه الابتكارات، فإن المستخدمين يدركون اللبس الموجود دائما عندما لا توجد العلامات الفوقية للكلام، كما يمكن أن نرى في النصائح المعتادة في الكتب الإرشادية للمستخدمين بأن يكونوا على حذر، وبخاصة عندما ينخرطون في الدعابة أو التهكم.

ويتصل بهذا افتقاد كلام الشبكة لتعبيرات الوجه، والإيماءات، والمتعارف عليه من وضع الجسم والمسافة الفاصلة بين المتحدثين (لغة الإشارات الجسدية، مسافات التخاطب) التي لها دور حاسم في التعبير عن الآراء والمواقف وفي تلطيف العلاقات الاجتماعية. وقد لوحظت نواحي القصور هذه مبكرا في مراحل تطور كلام الشبكة، وأدت إلى إدخال الأشكال الباسمة أو الأيكونات العاطفية emoticons (وهو اسم مشتق من كلمة Emote، المستخدمة في الزنزانات المتعددة المستخدمين للتعبير عن الأفعال: ص 162) وهذه تجميعات من الحروف الموجودة على لوحة المفاتيح مقصود منها إظهار تعبير وجه معين: وتُطبع تتابعيا على سطر واحد، وتوضع بعد علامة الترقيم النهائية في الجملة. وتُقرأ كلها تقريبا من الجنب. ويعبر النوعان الأساسيان عن مواقف إيجابية وأخرى سلبية على الترتيب (ويبدو أن حذف العنصر الذي يمثل "الأنف" نابع فقط من الحرص على سرعة الطباعة أو الذوق الشخصي):



(-: أو (: )-: أو ):



ويوضح جدول 2-2 أكثر الأشكال استخداما، جنبا إلى جنب مع عدد صغير من مئات الأشكال والتتابعات الواضحة التي اُبتكرت وجًمِّعَت في معاجم الأشكال الباسمة. ومن الواضح أنها وسيلة من الممكن أن تكون معاونة – وإن كانت بسيطة إلى أقصى درجة – لنقل بعض الملامح الأساسية لتعبير الوجه، غير أن دورها الدلالي محدود. وقد تؤدي إلى سوء فهم خطير لمقصد المستخدم، ولكن الشكل الباسم الفردي مازال يسمح بعدد هائل من التفسيرات (السعادة، والنكتة، والتعاطف، والحالة المزاجية الرائقة، والبهجة، واللهو، إلخ.) والتي يمكن إزالة اللبس المتعلق بها فقط من خلال الرجوع إلى السياق اللفظي. بل إن بعض المعلقين قد وصفوها بأنها "لا فائدة منها". وبالإضافة إلى ذلك ، فإنه دون الحذر الواجب، يمكن أن تؤدي إلى سوء فهم خاص بها: إذ إن إضافة شكل باسم إلى جملة من الواضح أنها



جدول 2-2 أمثلة للأشكال الباسمة (نقلا عن ساندرسون 1993)

__________________________________________________ _________

(-: البهجة، الدعابة، إلخ

)-: الحزن، عدم الرضا، إلخ

(-; الغمز (بأي من معانيه)

)-; )-~: البكاء

)-% (-% مشوش

o-: o-8 مصدوم، مندهش

[-: [-: ساخر



أشكال باسمة للنكات

(-:] المستخدم يضع ووكمان

(-8 المستخدم يضع نظارة

(-:B المستخدم يضع نظارة على رأسه

({-: المستخدم لديه شارب

(*: المستخدم ثمل

]-: المستخدم مبتز / مصاص دماء

E-: المستخدم مصاص دماء ذو سنة ناتئة

F-: المستخدم مصاص دماء ذو سنة ناتئة فاقد لإحدى أسنانه

~-: المستخدم مصاب بالبرد

@-: المستخدم يصيح

(-:- المستخدمة عاهرة

)-:- العاهرات الحقيقيات لا يبتسمن

(-:- + المستخدم يشغل منصبا دينيا مسيحيا

(-:0 المستخدم له قلب ملاك



أشكال باسمة قصصية

(-: (-8 ({- 8

8

شكل باسم ليتنكر بلبس نظارة وشارب مستعار

(-:C [ ]> (-8 C

شكل باسم ذكي وقد تُرك ليشاهد التليفزيون لساعات طويلة

__________________________________________________ _________

غاضبة يمكن أن تزيد من قوة "الغضب" وليس العكس. ومن الخبرات الشائعة أن ابتسامة يمكن أن يكون لها وقع سيء. "وأنت تستطيع أن تزيل تلك الابتسامة من على وجهك، أيضا !" وأولئك الذين ينخرطون بحكم العادة في استخدام أشكال باسمة يمكن أيضا أن يجدوا أنفسهم في موقف تُفسر فيه جملهم غير المصحوبة بأشكال عرضة لسوء التفسير لا لشيء إلا لأنها لا تحمل شكلا باسما ملحقا بها. وتحذر الكتب الإرشادية الخاصة بالاستخدام من الإفراط في استخدامها. ومع ذلك، فإنها ليست متكررة الاستخدام تكرارا خاصا؛ وفي إحدى الدراسات وُجد أن 4,13% من بين 3000 موقع كانت تحتوي عليها – كما أن بعض الناس لم يستخدمها على الإطلاق. وبالإضافة إلى ذلك، فإن معظم المشاركين لم يستخدموا معظم الإمكانات الشكلية، قاصرين أنفسهم على نوع واحد أو نوعين من الأنواع الأساسية، وبخاصة التنويعات على الوجه الباسم "الإيجابي"، كما في:



(((((: that’s a pain hi :)) don’t be silly : )

هذا شيء مؤلم أهلا لا تكن سخيفا



كما ينبغي أن نلاحظ أن الأشكال الباسمة تؤدي أدوارا أخرى غير إزالة اللبس. وأحيانا يبدو أنها لا تفعل أكثر من التعبير عن المودَّة. وكثيرا ما يبدو أن لوجودها سببا عمليا بحتا – إذ تؤدي وظيفة التحذير للمشارك أو المشاركين من أن المرسل قلق بشأن التأثير الذي قد ينجم عن جملة ما. ويثير ديفيد ساندرسون هذه النقطة في معجمه، عندما يعطينا هذه التوصية:



قد تضيف شكلا باسما كوسيلة تذكير بالسياق الجاري للمحادثة، للإشارة إلى أن كلماتك

لا تقف بمعزل عن غيرها. ويمكن لشكل باسم أن يشير للمشاركين الآخرين في المحادثة

أنهم بحاجة إلى أن يفهموك أنت وشخصيتك لكي يفهموا ما قلته.



وما هو مشوق للغوي، بطبيعة الحال، هو لماذا ظهرت هذه الابتكارات الآن. فقد اتسمت اللغة المكتوبة دائما باللبس، نظرا لحذفها تعبيرات الوجه، ولعدم قدرتها على التعبير عن جميع ملامح النبر وغيرها من الملامح فوق القطعية للكلام. فلماذا لم يُقدم أحد مطلقا على إدخال شكل باسم إليها؟ والإجابة لابد من أن تكون شيئا له علاقة بسرعة التفاعل على الشبكة، وبشبهها بالكلام. ففي الكتابة التقليدية هناك وقت لتطوير الصياغة مما يجعل من المواقف الشخصية أمرا واضحا؛ وذلك يفسر لماذا تطورت التقاليد الشكلية لكتابة الخطابات. وعندما تختفي هذه التقاليد، فإن هناك حاجة إلى شيء يحل محلها. إذ إن الرسالة التي تكُتب على الشبكة بسرعة، وتنقصها عبارات المجاملة المعتادة، يمكن بسهولة أن تبدو جافة أو فظَّة. ويخفف الشكل الباسم من الموقف. (وبالمناسبة، فإن المشكلات نفسها يمكن أن تنشأ مع الفاكسات, وبخاصة التي كُتبت بسرعة، وذلك بالرغم من أن التقاليد المتعلقة باستخدام الأشكال الباسمة لم تترك أثرا لها في هذا المجال.

ومهما تكن وظيفة الأشكال الباسمة، وبالرغم من استخدامها المحدود، فإنها تعد واحدة من أهم الملامح المميزة للغة البريد الإلكتروني ومجموعات الدردشة. ولكنها ليست الآلية الوحيدة المصممة للتغلب على غياب الملامح الإشارية ومسافات التخاطب. كما تُستخدم أيضا التعليقات اللفظية، غالبا داخل أقواس سهمية: كما في حالة أمثلة الملامح فوق القطعية المذكورة آنفا.



< يبتسم النسر لجنر ابتسامة متعاطفة>

< وتومئ الملعقة على سبيل التحية>



وهذا التقليد واسع الاستخدام في العوالم المتخيلة لجميع أنواع المؤثرات الإشارية، مثل <smirk> [بسمة متكلفة] و <laugh> [<ضحكة>]. كما توجد كلمات مختصرة في بعض المجموعات، وأبرزها <g> التي تعني “grin” ["ضحكة"] التي تستخدم على سبيل رد الفعل على رسالة يُعتقد أنها طريفة، أو للتعبير عن الإغاظة. ولقد طوَّر التقليد نظاما صغيرا خاصا به: فالابتسامات الكبيرة يرمز لها بـ <gg>، و <ggg>، إلخ ، وابتُكر مدى من اختصارات الأحرف الأولى التي تقوم على الحرف <g>، مثل <vbg> "ابتسامة عريضة جدا"، <gd&r> "يبتسم ابتسامة عريضة ويروغ ويجري"، (كما قد يفعل ممثل مسرحي بعد إلقاء نكتة سخيفة).

ولقد تطورت ملامح كلام الشبكة بوصفها وسيلة لتجنب اللبس وسوء الفهم اللذين ينشآن عندما نحمِّل اللغة المكتوبة عبء التعبير عن الكلام. وهي محاولات شجاعة، ولكن كلام الشبكة إجمالا تنقصه القدرة الحقيقية على الإشارة إلى المعنى من خلال ملامح الإشارة ومسافات التخاطب، وهذا, إلى جانب عدم توافر الملامح فوق القطعية يضعها على مسافة كبيرة من لغة الكلام. كما تغيب أيضا ملامح لغوية أخرى مميِّزة للكلام، مما يجعل استخدام اللغة على الإنترنت بطريقة المحادثة الحقيقية أمرا أصعب. وتنشأ نواحي القصور هذه من الاعتماد الحالي للوسيط على سرعة الطباعة والقدرة عليها (انظر الفصل 8 للاحتمالات المستقبلية). وحقيقة الأمر هي أنه حتى أسرع الطابعين لا يقترب أبدا من تلقائية الكلام وسرعته، والذي يحدث بشكل اعتيادي في المحادثة بمقدار 5 أو 6 مقاطع في الثانية. وحتى رسائل الإنترنت التي تبدو تلقائية يمكن أن تشتمل على عناصر التخطيط المسبق، والتوقف للتفكير أثناء الكتابة، والمراجعة الذهنية قبل الإرسال، وهي خيارات ليست متاحة في معظم المحادثات اليومية. وكثيرا ما توجد بعض ملامح اللغة المنطوقة في الكتابة على الإنترنت، كما سنرى لاحقا، مثل التراكيب القصيرة، وتكرار التعبيرات، والبنية الأقل إحكاما للجملة. ولكن الدراسات التي أجريت على التفاعلات عن طريق البريد الإلكتروني وجماعات الدردشة قد أوضحت أنها تعوزها بصفة عامة الملامح نفسها المميِّزة للغة المنطوقة التي تدل على معظم التلقائية – وأبرزها استخدام الإشارات الدالة على رد الفعل (m, mhm, uh-huh, yeah…) والعبارات التعليقية (you know, you see, mind you…) [هل تعرف، كما تعلم، خذ بالك …). ولقد حدد بعض الكتَّاب بالفعل غياب هذه الملامح بوصفه أحد الأسباب الكامنة وراء تعرُّض تفاعلات كثيرة جدا على الإنترنت لسوء الفهم بوصفها فظة، أو باردة، أو متباعدة، أو عدائية. ففي المحادثة وجها لوجه، يُعبر عن الود، والدفء، والاتفاق تعبيرا منتظما عن طريق الإشارات الدالة على ردود الأفعال التي توضع عند النقاط الأساسية من قِبَل المرسِل؛ ويضيف المتحدث النعومة، والتعاطف، والصداقة، والتضامن من خلال إدخال عبارات مثل you know [كما تعرف] – إذ إن هناك بونا شاسعا بين I think you're wrong ،و Y’know I think you're wrong) [أعتقد أنك مخطئ ، وهل تعرف، أعتقد أنك مخطئ.] ولكن بالنظر إلى أنه لا يمكن استخدام الإشارات الدالة على رد الفعل (انظر عاليه، ص 29)، ولا تشكل تعبيرات التعليق جزءا طبيعيا من الطباعة (ولا يدرك معظم الناس أنهم يستخدمونها، أو كم يتكرر استخدامهم لها، في كلامهم اليومي)، فإن هذه الإشارات لا وجود لها في كلام الشبكة. ومن الممكن أن نفعل شيئا بخصوص تعبيرات التعليق، وتعد باتريشيا والاس (انظر الحاشية ص23) واحدة ممن يوصون بزيادة استخدامها، بوصفها من وسائل تحسين المودة الإلكترونية. كما إن الأسلوب غير الرسمي، ومن ثم الدفء، يمكن تحسينه من خلال استخدام النحو والمفردات العاميين (وبخاصة الاختصارات "الطريفة"، انظر ص 75) والاستعداد لاستخدام التلاعب بالألفاظ. ولكن ليس هناك شيء يمكن للمرء أن يفعله بخصوص الإشارات الدالة على ردود الأفعال. إذ إن مخاطبة شخص ما على الإنترنت يشبه إلى حد ما إجراء محادثة تليفونية لا يعطيك فيها المستمع أي رد فعل على الإطلاق: وهو موقف غير مريح وغير طبيعي، وفي ظل غياب مثل هذه التغذية الراجعة تصبح لغة المرء أقل لباقة مما كان يمكن أن تكون عليه في ظروف أخرى.

وبالرغم من أن كلام الشبكة يحاول أن يتشبه بالكلام، في بريده الإلكتروني، ومجموعات الدردشة، وتفاعلات العوالم المتخيلة، فإنه يبقى بعيدا بعض الشيء عنه، فيما يتعلق بالعديد من الخصائص الأكثر أساسية للغة المنطوقة. وقد أطلق عليه أحد المعلقين اسم "الحد الأدنى فوق الاتصالي"، والذي يصفه كما يلي:



يصفِّي فضاء المعلومات النص من جميع سمات الذات الشخصية فيما عدا العناصر

غير المباشرة بدرجة عالية، والواعية بالذات وعيا حادا والتي تظهر في اللغة

المكتوبة. إذ تتناقص إلى حد هائل المفاتيح التي تدل على المودة والمفاتيح فوق

الاتصالية في هذا الوسيط، وهي الإشارات شبه اللغوية التي تحافظ على صلاحية

العلاقة الاجتماعية بين مرسل الرسالة ومستقبلها.



ويلخص الجدول 2-3 الخصائص السبعة للكلام التي ذكرنا خطوطها العريضة في الجدول 2-1، وذلك بالتطبيق على حالات الإنترنت التي وضعتها في الفصل الافتتاحي. وبقطع النظر عن الكيفية التي يتحدث بها مواطنو الشبكة تقليديا عن مجالهم مستخدمين مصطلحات من المحادثة اليومية, فإن القدر الفعلي المشترك - في تقديري - بين كلام الشبكة والكلام الفعلي محدود جدا. أما الشبكة فهي أبعد ما تكون عنه؛ وتعد مجموعات الدردشة والعوامل المتخيلة أقرب إليه إلى حد ما؛ ومن المؤكد أن البريد الإلكتروني يحتل مكانة وسطى بينهما. ومن المؤكد أن الفئات الثلاث الأخيرة أكثر شبها بالكلام من أية تنويعة أخرى من الكتابة التقليدية؛ ولكن أوجه التشابه متعادلة مع الاختلافات، إن لم تكن تزيد عليها. وعلى هذا، فإذا لم يعكس كلام الشبكة الخصائص التي يمكن أن نتوقعها من الكلام، فهل يعكس بدلا من ذلك الخصائص التي نتوقعها من الكتابة؟

وهنا أيضا ، نجد أن الموقف غير مستقيم، كما يمكن رؤيته من ملخص أوجه التشابه في الجدول 2-4. ولنتناول أولا السمة المرتبطة بالحيز والخاصة بالكتابة التقليدية – وهي أن





الجدول 2-3 معايير اللغة المنطوقة (انظر الجدول 2-1) مطبقة على كلام الشبكة




الشبكة
البريد الإلكتروني
مجموعات الدردشة
العوالم المتخيلة

1- مرتبط بالزمن

2- تلقائي

3- وجها لوجه

4- غير محكم البنية

5- متفاعل اجتماعيا

6- قابل للتعديل مباشرة

7- غني بالسمات فوق القطعية
لا

لا

لا

متنوع

لا، مع خيارات متزايدة

لا

لا
نعم، ولكن بطرق مختلفة

متنوع

لا

متنوع

متنوع

لا

لا
نعم، ولكن بطرق مختلفة

نعم، ولكن بقيود

لا

نعم

نعم، ولكن بقيود

لا

لا
نعم، ولكن بطرق مختلفة

نعم، ولكن بقيود

لا

نعم

نعم، ولكن بقيود

لا

لا




الجدول 2-4 معايير اللغة المكتوبة (انظر الجدول 2-1) مطبقة على كلام الشبكة


الشبكة
البريد الإلكتروني
مجموعات الدردشة
العوالم المتخيلة

1- مرتبط بالحيز

2- مخطط له

3- غير مرتبط بالسياق بصريا

4- ذو بنية محكمة

5- موصل للحقائق

6- ممكن تعديله مرارا

7- ثرى طباعيا
نعم، مع خيارات إضافية

نعم

نعم، ولكن بتكيف كبير

نعم

نعم

نعم

نعم، ولكن بطرق مختلفة
نعم، ولكن يحذف تقليديا

متنوع

نعم

متنوع

نعم

متنوع

لا
نعم، ولكن بقيود

لا، ولكن مع بعض التكيف

نعم

لا

متنوع

لا

لا
نعم، ولكن بقيود

لا، ولكن مع بعض التكيف

نعم، ولكن مع بعض التكيف

لا

نعم، ولكن مع بعض التكيف

لا

نعم، ولكن بطرق مختلفة




قطعة من نص ما ساكنة ودائمة على الورق. فإذا ما كُتب شيء ما، فإن الإشارة المتكررة إليه سوف تكون لقاء مع نص غير متغير. ولا شك أننا كنا سندهش في حالة ما إذا عدنا إلى صفحة معينة ووجدنا أن صفتها الطباعية قد تغيرت بشكل من الأشكال. فإذا ما قلنا هذا، فإننا سرعان ما يمكن أن نرى أن كلام الشبكة لا يشبه بأية حال من الأحوال الكتابة التقليدية. إذ إن "صفحة" على الشبكة كثيرا ما تختلف من مرة إلى أخرى (وجميعها لديها خيار الاختلاف، حتى لو اختار أصحاب الصفحات ألا يتبنوه) وذلك لأسباب ممكنة عديدة: إذ إن محتواها المتعلق بالحقائق ربما يكون قد جرى تحديثه، وربما تغير المشرف على الإعلان فيها، أو ربما أضاف مصمم طباعتها ملامح جديدة إليها. كما أن الكتابة التي تراها ليست بالضرورة ساكنة، إزاء الخيارات الفنية المتوفرة والتي تتيح للنص أن يغير مكانه على الشاشة، أو يظهر أو يختفي، أو يغير ألوانه، وهكذا. ومن وجهة نظر المستخدم، فإن هناك فرصا "للتدخل" في النص بجميع الطرق غير الممكنة في حالة الكتابة التقليدية. وبمجرد تحميل صفحة إلى شاشة المستخدم، فإنه يمكن حذف جزء من نصها، أو الإضافة إليه، أو تعديله أو التعليق عليه، أو حتى إعادة بنائه بالكامل، بطرق تحتفظ – بالرغم من ذلك – بسمة الأصل. وتتسبب الاحتمالات في قدر غير قليل من القلق فيما بين أولئك المهتمين بقضايا الملكية، وحقوق الطباعة، والتزوير (انظر الفصل 7).

كما تعكس حالات الإنترنت الأخرى الاختلافات عن الكتابة التقليدية، فيما يتعلق بوجودها المرتبط بالحيز. فالبريد الإلكتروني ساكن ودائم من ناحية المبدأ، ولكن الحذف الروتيني من النص يعد إجراء متوقعا (وهو خيار دائم في نظام الإدارة)، ومن الممكن تغيير الرسائل إلكترونيا بسهولة ومن غير ترك أثر وهو ما لا يمكن حدوثه عندما يحاول الناس أن يغيروا نصا مكتوبا بطريقة تقليدية. وتميل الرسائل في مجموعات الدردشة غير المتزامنة إلى أن تكون ذات طبيعة طويلة المدى؛ ولكن تلك الموجودة في العوالم المتخيلة ليست كذلك. وفي الأدبيات المتعلقة بالتواصل بواسطة الحاسب الآلي، فإنه غالبا ما يُشار إلى إلحاح رسالة المحادثة – أي كونها تظل على الشاشة لفترة من الزمن (قبل أن تصل رسائل أخرى تحل محلها أو أن تجعلها تتحرك إلى أعلى وتختفي عن الأنظار). ويُدخل هذا بالتأكيد خصائص معينة إلى المحادثة ليست متاحة في الكلام. ويعني هذا، على سبيل المثال، أن شخصا ما يدخل إلى محادثة بعد أخذ دورين في أعقاب ذكر جملة ما, يظل في إمكانه أن يرى الجملة، ويفكر فيها، ويكوِّن رد فعل عليها؛ غير أن البقاء زمنه قصير نسبيا، مقارنة بذلك الذي نصادفه في الكتابة التقليدية. ويعني هذا أيضا، فيما يتعلق بتلك النظم التي تتيح سجلا أرشيفيا لكل الرسائل، بالترتيب الذي جرى تلقيها به على المزوِّد، أنه من الممكن من ناحية المبدأ الرجوع إلى محادثة سابقة، أو البحث عن موضوع معين، بطرق لا تسمح بها المحادثة التلقائية (غير المسجلة)؛ وبالرغم من ذلك, فإنه في الممارسة العملية لا يتيح أي نظام من النظم الموجودة حاليا حدوث هذا بسهولة، إذ تجعل الفترات الزمنية الفاصلة والعوامل الأخرى التي وصفناها آنفا من الصعوبة القصوى تتبع خيط خاص بموضوع ما في بيان مسجل (انظر الفصل5). وهناك وسائل راسخة لكي يتحسس المرء طريقه خلال نص مكتوب تقليدي: وتسمى هذه بالفهارس، وتجمَّع بعناية على يد المفهرسين، الذين يختارون وينظمون المعلومات المرتبطة بهذا الشأن. والفهارس من هذا النوع لا يُحتمل وجودها في كلام الشبكة التفاعلي، لأن هناك الكثير جدا منه ولا يبرر الموضوع وجوده عادة. ولقد أجريت أبحاث قليلة جدا حول هل من الممكن تعديل الفهرسة التلقائية بحيث تؤدي إلى منتج نهائي مفيد أم لا (انظر الفصل 7).

كما تبين الخصائص الأخرى للغة المكتوبة التقليدية صلة غير أكيدة بكلام الشبكة. هل كلام الشبكة مخطط له، وذو بنية محكمة، وممكن تعديله مرارا (البنود 2، 4، 6 في الجدول 2-4)؟ وفيما يتعلق بالشبكة فإن الإجابة ينبغي أن تكون بالإيجاب، مما يسمح بالمدى نفسه من التعقيد البنائي الذي يمكن رؤيته في مواضع أخرى. أما فيما يخص مجموعات الدردشة والعوالم المتخيلة، حيث يكون الضغط قويا للتواصل بسرعة، فإن الإجابة ينبغي أن تكون بالنفي، بالرغم من أن ابتكار الأشكال الباسمة والتقاليد الطباعية الأخرى يوضح درجة معينة من التخطيط. أما رسائل البريد الإلكتروني فتتباين تباينا هائلا: فبعض الناس يسعدهم أن يبعثوا برسائل دون تعديل على الإطلاق، ولا يبالون بما قد تحتويه رسائلهم من أخطاء طباعية، وأخطاء إملائية، وغيرها من أشكال الخروج على القياس؛ في حين يعاني آخرون الكثير في سبيل تعديل رسائلهم, تماما مثلما قد يفعلون في حالات غير الإنترنت – بل وربما أكثر، إذا ما كانت هناك بعض الحساسية بخصوص إثارة الغضب (ص55). وهل كلام الشبكة غير مرتبط بالسياق بصريا (البند 3 في الجدول 2-4)؟ وبما أن التغذية الراجعة البصرية الآنية غائبة دائما، كما ناقشنا هذا الأمر آنفا، فإن كلام الشبكة في هذا المجال يشبه الكتابة التقليدية. ولكن صفحات الشبكة غالبا ما تتيح معينات بصرية لتدعيم النص، في شكل صور، وخرائط، ورسوم توضيحية، ورسوم متحركة، وما أشبه؛ ويحتوي كثير من سياقات العوالم المتخيلة على مكوِّن بصري في صلب بنائها، مع علامات للتكيف حتى في الحالات التي تقتصر على نص فقط (مثل تعليمات بأن "يتجه شمالا" أو "يغادر من خلال الباب الشرقي" على شاشة أحد الألعاب؛ انظر ص 160). ولكن هل كلام الشبكة موصل للحقائق (البند5 في الجدول 2-4)؟ فيما يتعلق بالشبكة ورسائل البريد الإلكتروني، فإن الإجابة هي بالإيجاب بشدة. أما الحالتان الأخريان فهما أقل وضوحا. وفي إطار متغيرات الواقع التي ينشئها عالم متخيل، فإن المعلومات المتعلقة بالحقائق تُنقل نقلاً اعتياديا بالتأكيد، ولكن هناك عنصرا اجتماعيا قويا موجودا دائما يؤثر تأثيرا عظيما في نوع اللغة المستخدمة. وتختلف جماعات الدردشة اختلافا هائلا: فكلما اتسمت بقدر أكبر من الأكاديمية والحرفية، ازداد احتمال أن يكون هدفها نقل الحقائق (بالرغم من أنها لا تتحقق دائما، إذا ما صدقنا التقارير حول كمية إثارة الغضب)؛ ومن ناحية أخرى، فإن مجموعات الدردشة تضم تتابعات أكثر اجتماعية وأكثر مناسبة تتسم بمحتوى حقائق من الصغر بحيث يمكن تجاهله.

وأخيرا، هل كلام الشبكة ثري طباعيا؟ ومرة أخرى, فيما يتعلق بالشبكة العنكبوتية, فإن الإجابة هي بالإيجاب، وقد ازداد ثراؤها جنبا إلى جنب مع التقدم التكنولوجي، متيحا للمستخدم العادي مدى من التنوع في الطباعة وفي الألوان يتجاوز بكثير القلم، والآلة الكاتبة، ومعالج الكلمات المبكر، ويسمح بمزيد من الخيارات غير المتاحة أمام النشر التقليدي، مثل نص مزود برسوم متحركة، وروابط نصية فائقة، ودعم متعدد الوسائط (الصوت، والفيديو، والفيلم). ومن ناحية أخرى، وكما أشار الطابعون ومصممو الطباعة مرارا، فإن وجود لغة مرئية جديدة متاحة للجميع لا يعني أن كل فرد يمكنه استخدامها. وبالرغم من تقديم مدى واسع من الكتب الإرشادية لتصميم الإنترنت والنشر عن طريق سطح المكتب، فإن أمثلة إمكانية الفهم، والتشوش البصري, والزخرفة المبالغ فيها، وغيرها من نواحي القصور توجد بكثرة. ويضاعف منها نواحي القصور في الوسيط، والتي لا تتسبب في أية مشكلات إذا ما اُحترمت، ولكن كثيرا ما يجري تجاهلها، كما في حالة مصادفتنا لشاشات مليئة بنصوص غير مكتملة، وفقرات تتحرك إلى أسفل دون توقف، أو نص يتحرك بشكل مزعج ليختفي من الجانب الأيمن من الشاشة. أما مشكلات إمكانية الترجمة التصويرية فقد بُدئ في فهمها – بمعنى أنه ليس من الممكن أن نأخذ نصا أساسه الورق ونضعه على الشاشة دون إعادة التفكير في كيفية تقديمه طباعيا، بل وربما أحيانا إعادة النظر في محتوى الرسالة نفسه. أضف إلى كل هذا نواحي القصور في التكنولوجيا. إذ إن الوقت الذي يستغرقه تحميل صفحات تحتوي على "مواد تصويرية متقدمة" وعناصر من الوسائط المتعددة سبب تقليدي من أسباب الإحباط، وفي المواقف التفاعلية يمكن لهذا الوقت أن يعرقل عملية التواصل(ص 28).

فإذا ما قصرنا الطرف عن الفروق بين حالات الإنترنت، في الجدولين 2-3 و 2-4, ونظرنا فقط إلى خانات الجدولين التي تحتوي على "نعم" و "متنوع"، و "لا"، فإنه يتضح لنا أن كلام الشبكة يتسم بخصائص تصله بالكتابة تفوق عددا – بكثير- تلك التي تصله بالكلام. إذ إنه من بين الخانات في ملخص الكلام في الجدول 2-3، هناك 9 فقط تقول "نعم"، و 4 تقول "متنوع"، و15 تقول "لا". فإذا ما أخذنا حالات الإنترنت المختلفة في الحسبان، فإننا يمكن أن نرى أن الشبكة العنكبوتية هي الأقرب بكثير إلى اللغة المكتوبة، مع وجود مجموعات الدردشة على أقصى بُعد منها، في حين تقع الحالتان الأخريان* بينهما. وهذه الفروق تجذب النظر، وهو الأمر الذي ستلقي الفصول التالية المزيد من الضوء عليه. ولكن إجمالا، فإنه من الأفضل النظر إلى كلام الشبكة بوصفه لغة مكتوبة جرى الابتعاد بها بعض الشيء في اتجاه الكلام، أكثر من النظر إليها بوصفها لغة منطوقة كُتبت. إلا أن التعبير عن المسألة في إطار الثنائية التقليدية أمر مضلل. فكلام الشبكة ليس كلاما ولا كتابة، ولكنه يعكس خصائص من كليهما بشكل اختياري وتكيُّفي. ويراه ديفيز، وبروار كذلك بوصفه مصدرا انتقائيا: "عندما يكتب الناس مستخدمين الوسيط الإلكتروني، فإنهم يتبنون تقاليد متعارفا عليها من الخطاب الشفهي والكتابي، لكي يفوا بحاجاتهم التواصلية الفردية.

وكلام الشبكة أكثر من ناتج جمع الملامح المنطوقة والمكتوبة. وكما سنرى في الفصول اللاحقة، فإنه يقوم بأشياء لا يقوم بها أي من الوسائط الأخرى، ولابد تبعا لذلك من أن يُنظر إليه بوصفه نوعا جديدا من التواصل. وفي استعارة تتناول موضوع الأنواع, يطلق عليه بارون "كائن* لغوي يولد – كلام في بعضه، وكتابة في بعضه". ولابد لي من أن استخدم استعارة تجمع بين الأغراب للتعبير عن رؤيتي لكلام الشبكة بوصفه مختلفا اختلافا حقيقيا في نوعه – "كلام + كتابة + خصائص نشأت إلكترونيا". وهو أكثر من مجرد هجين يجمع بين الكلام والكتابة، أو نتيجة للاتصال بين وسيطين لهما وجود طويل. فالنصوص الإلكترونية، مهما يكن نوعها، ليست مجرد الشيء نفسه الذي تمثله الأنواع الأخرى من النصوص. ووفقا لما تقول مارلين ديجان، فإنها تتسم بالسيولة، والتلقائية (لوجودها على عدد غير محدد من الأجهزة)، وعدم تعرضها للتآكل في النسخ؛ وهي تتجاوز نواحي القصور التقليدية فيما يتعلق بنشر النصوص على نطاق واسع؛ ولها حدود يمكن النفاذ منها (نظرا للطريقة التي يمكن بها لنص أن يتكامل مع نصوص أخرى أو يرتبط بنصوص أخرى). ويترتب على العديد من هذه الخصائص نتائج فيما يتعلق باللغة، وترتبط مع تلك المتعلقة بالكلام والكتابة لكي تجعل من كلام الشبكة "وسيطا ثالثا" حقيقة.



المبادئ الأساسية لكلام الشبكة


كيف ينبغي أن نصف كلام الشبكة وصفا أدق مما سبق، عندما ننظر إليه بوصفه وسيطا جديدا يجمع بين الخصائص المنطوقة، والمكتوبة، والإلكترونية؟ إحدى الطرق أن نمضي قدما مع المدخل المقارن الذي استخدمناه آنفا. وقد بحث العديد من اللغويين وفلاسفة اللغة ما يعد نوعا "عاديا" من المحادثة. وأحد هؤلاء الفلاسفة هو هـ. ب. جرايس ، الذائع الصيت في البحث البراجماتي نتيجة لمبادئه الأساسية الأربعة الخاصة بالمحادثة والتي تكمن خلف الاستخدام التعاوني الكفء للغة. ويمكن التعبير عنها كما يلي:



مبدأ الكيف
حاول أن تجعل إسهامك إسهاما صادقا، وبخاصة:

لا تقل ما تعتقد أنه كاذب.

لا تقل ذلك الذي تفتقد إلى دليل كاف عليه.

مبدأ الصلة
اجعل إسهاماتك ذات صلة بالموضوع.

مبدأ الكم
اجعل إسهامك يعطي معلومات بالقدر المطلوب للأغراض الحالية لتبادل الحوار.

لا تجعل إسهامك يعطي معلومات أكثر مما هو مطلوب.

مبدأ الكيفية
كن واضحا، وبخاصة:

تجنب الغموض.

تجنب اللبس.

كن مختصرا.

كن منظما.



والنقطة التي ينطلق منها تحليل من هذا النوع ليست هي أننا دائما ما نتصرف بالضبط وفقا لهذه المبادئ؛ إذ إن الخبرة المشتركة ترينا أننا لا نفعل ذلك. ولكن يبدو أننا ننظر ضمنيا إلى دورها بوصفه وجهة نظر أو توجه يمكن من خلاله الحكم على ما ينُطق به فعلا. وعلى سبيل المثال، فإن الناس الذين يكذبون أو يدعون إدعاءات كاذبة يمكن أن نتحداهم؛ وإذا تحدثوا أكثر من اللازم يمكن أن يُطلب منهم (بكلمات كثيرة جدا) أن يلتزموا الصمت؛ وإذا قالوا شيئا لا علاقة له بالموضوع، يمكن أن يُطلب منهم الالتزام به، وإذا فشلوا في توضيح مقصدهم، فإنه يمكن أن يُطلب منهم أن يعيدوا ما قالوه. وتشير حقيقة أننا نفعل كل هذه الأشياء إلى أننا نأخذ هذه المبادئ في الحسبان. وبالإضافة إلى ذلك، إذا أدلى شخص بملاحظة يبدو أنها تخرق هذه المبادئ، فإننا بحكم الغريزة نبحث عن طرق تجعل ما قيل معقولا. فإذا سأل (جو) "أين العم كِفِن؟" وأجابته جيل "أتوقع أن هناك دراجة زرقاء خربة أمام متجر (البجعة)"، فإننا لا ننتقدها بوصفها قد كسرت المبادئ الأربعة جميعها مرة واحدة. بل نسلم بأنها تتعاون في المحادثة وأنها (أ) لديها أسس جيدة من سابق خبرتها لمعرفة أن دراجة سوف تكون خارج متجر (البجعة) في ذلك الوقت، (ب) أنها تعرف أن ذكر دراجة له صلة بالموضوع، لأن العم كِفِن يركب واحدة؛ (ج) أنها تعرف أن صفاتها تتضمن كونها خربة وزرقاء، وتشعر أن ذكر كليهما يقدم جملة أكثر حيوية أو مزحا من واحدة تستخدم صفة واحدة فقط أو لا تستخدم صفة مطلقا؛ و (د) أنها تعرف أن (جو) يعرف كل هذا، ومن ثم فإن إجابتها سوف تصبح واضحة تماما. وبمثل هذه الطرق، ومن خلال هذه الفرضيات، يمكننا أن نجعل من كل أنواع الإسهامات الغريبة على السطح أمرا معقولا.

وليس من السهل بمكان تبين ماذا يجري في عالم الإنترنت. وينبع جزء من الصعوبة من عدم تحديد الهوية الكامن في الوسيط الإلكتروني. وبطبيعة الحال، فإن هذا ليس أول وسيط يتيح التفاعل المنطوق بين الأفراد الذين يرغبون في أن يظلوا مجهولي الهوية، وذلك نعرفه من تاريخ الهاتف وإذاعة الهواة؛ ولكن من المؤكد أنه غير مسبوق فيما يتعلق بالمواقف - من حيث عددها ومداها - التي يُخفي فيها الناس هويتهم ، وبخاصة في جماعات الدردشة والعوالم المتخيلة. وتضم هذه الحالات أفرادا يتحدث بعضهم إلى بعض بأسماء مستعارة، قد تكون اسما متخذا، أو وصفا يتسم بالخيال الجامح (الأكثر أناقة , نجم الجنس)، أو شخصية خرافية أو دورا (رجل الصخور، ذابح العفاريت) (انظر للمزيد، الفصل 5). أما في رسائل البريد الإلكتروني، فإن عنصر الهوية الشخصية (جزء العنوان الذي نجده قبل علامة @) يمكن أن يكون أي واحد من هذه، أو مجرد عدد أو شفرة، وحينئذ يقرر المرسل نوعية التوقيع الذي سوف يضمه نص رسالة البريد الإلكتروني. وتعد بنية المفردات للأسماء نفسها وسمتها ملمحا مهما من كلام الشبكة بطبيعة الحال؛ غير أن هناك نتائج أخرى لنوع اللغة المستخدمة. إذ إن العمل باسم غير حقيقي يبدو أنه يجعل الناس أقل خشية: إذ قد يشعرون بأنهم تواتيهم الشجاعة لكي يتكلموا أكثر وبطرق مختلفة عن مخزونهم اللغوي في حياتهم الحقيقية. كما لابد لهم من أن يتوقعوا تلقِّي رسائل من آخرين هم أيضا أقل خشية، وأن يكونوا على استعداد للنتائج السلبية المترتبة. إذ من الواضح أن هناك مخاطر كامنة في التحدث مع شخص لا نعرفه، وتنتشر حالات من المعاكسة، أو الإهانة، أو اللغة العدوانية، أو التحايل. كما أن قضايا الهوية – والتي من شأنها أن تكون لا لزوم لها في حالات المحادثة وجها لوجه – تشكل ملمحا من التفاعلات الأولية لجماعات الدردشة. وهناك أنواع معينة من المعلومات تُطلب وتُعطى، وأبرزها يتعلق بمكان الشخص، وسنِّه، ونوعه (وليس عادة عن السلالة أو الوضع الاقتصادي – الاجتماعي). ومسألة النوع تتسم بحساسية شديدة بحيث نتج عنها المصطلح Morph)) (="male or female")["ذكر أم أنثى؟"]، وهو استفهام على الخط لشخص يستخدم اسما ملتبسا من ناحية النوع (مثل كريس، وهيلاري، وجان)، والمصطلح Sorg (""straight or gay) ["سويٌّ أم شاذ"]. ويبدو أن الناس يساورهم القلق بصفة خاصة إذا لم يعرفوا نوع الشخص الذي يتكلمون معه وميوله الجنسية.

ولذا تتعايش مفاهيم متعددة وكثيرا ما تكون متعارضة حول الحقيقة في مواقف الإنترنت، وهي تتراوح بين الكذب الصراح، مرورا بالادعاء المتبادل الذي يدركه الطرفان، وبين الخداع العابث. وعلى حد قول باتريشيا والاس، في معرض إشارتها إلى غياب الإشارات فوق القطعية والحركية في كلام الشبكة: "إن حقيقة أنه من السهل بمكان أن تكذب ولا تتعرض لعواقب وخيمة – طالما أمكننا أن نتعايش مع خداعاتنا والضرر الذي يمكن أن تسببه هذه الخداعات للآخرين – تعد من الملامح المهمة للإنترنت". ومن الممكن بطبيعة الحال أن تتعايش مع كذبة أو خيال بطريقة منطقية ومتسقة، وهذا هو الضبط المبدأ الذي تعمل بمقتضاه الألعاب في العوالم المتخيلة، والذي يتفاعل به الناس ذوو الأسماء المستعارة في مجموعات الدردشة. ولكنه ليس من السهل مطلقا أن تحافظ على وجود متسق في عالم تحدث فيه تفاعلات عديدة تحت ضغوط، وحيث كثيرا ما يغير المشاركون أسماءهم وهوياتهم، وحيث يمكن لمبدأ التعاون أن يُنبذ بلا سبب. وبمعنى آخر، فإنك عندما ترى عبارة على الإنترنت، فإنك كثيرا ما لا تعرف كيف تفسرها، لأنك لا تعرف أية مجموعة من مبادئ المحادثة تلتزم بها هذه العبارة. وإليك حالتين من مثل هذه الحالات، وكلاهما يقوِّض مبدأ النوعية.

أولاهما الخدعة وهي أية رسالة مشكوك في مصدرها؛ وإرسال مثل هذه الرسالة منتشر في بعض حالات الإنترنت. وعلي سبيل المثال، فإن عبارات لا يُعرف مصدرها يمكن إقحامها في محادثة تُجرى عن طريق العوالم المتخيلة. وعادة، فإن كل دور من أدوار المحادثة يسبقه اسم المرسل، على غرار يقول مول : "أنا جائع". غير أنه من الممكن لمرسِل آخر أن يقحم عبارة بدون اسم يسبقها، مثل: أسد غاضب يظهر في مدخل الباب. كما يمكن لعبارات الخدعة أن تُدخلها البرامجيات، وليس أي من المشاركين. وعندما تُلاحظ خدعة، فإن المشاركين قد يدينونها، أو يضعونها موضع الاستجواب، أو يلهون بها. ويمكن أن ينتج عنها عنصر جديد من المرح يُدخل في لعبة أصبحت مملة، مع علم كل شخص بما يحدث ومشاركته بترحيب فيه. وبالقدر نفسه، نظرا لأن الخداع يمكن أن يسبب البلبلة عند لاعبين آخرين، ويعرقل بشدة لعبة تمضي على ما يرام، فإن الكتب الإرشادية الخاصة بالأخلاقيات المتعلقة بالعوالم المتخيلة تميل إلى انتقاده وعدم التشجيع عليه. وتصر بعض المجموعات على عرض هوية المخادع، مثل إجبار المرسل على إضافة اسمه / اسمها فيما بعد: 1000 لغوي احتشدوا عند البرلمان – دوك. ونظرا لأنه ليست هناك وسيلة لمعرفة ما إذا كان محتوى خدعة ما سيثبت صحته (بالإشارة إلى بقية المحادثة) أو عدم صحته، فإن مثل هذه العبارات تُدخل عنصرا من الفوضى إلى الروح التعاونية الخاصة بالمحادثة.

وتنشأ مشكلة مشابهة من جراء الاصطياد، أي إرسال رسالة (أو طُعْم) مقصود منها التسبب في إزعاج الآخرين، مثل أعضاء مجموعة دردشة. وهي سؤال أو جملة تقريرية بريئة المظهر، وتطرح دون أية ملامح مميزة، وعادة ما تكون قصيرة، وإن كانت بعض رسائل الاصطياد تتسم بالإطناب في عموميتها الواضحة. وعلى سبيل المثال، فإن شخصا يريد أن يزعج مجموعة تهتم بعلم اللغة قد يرسل رسالة تقول سمعت أن لغة الإسكيمو تحتوي على 1000 كلمة خاصة بالجليد – ثم يجلس مسترخيا ليستمتع بالانفجارات الناتجة. والمصطلح مشتق من صيد السمك ( trolling سنارة ذات طُعْم لنرى ماذا تعضها)، بالرغم من أنها توحي أيضا بأصداء الأساطير الإسكندنافية – حراس الجسور اللذين يسمحون للناس بالعبور فقط إذا أجابوا عن سؤال إجابة صحيحة. وعلى الإنترنت، فإن الطُّعم هو المعلومات الخاطئة، التي تُقحم عمدا في محادثة لرؤية من يقع فيها. ويُثبت الناس الذين يردون، ويصححون المعلومة الخاطئة، أنهم لا ينتمون إلى المجموعة، أو أنهم جدد في الالتحاق بها (المستجدون)؛ أما المخضرمون فإنهم سوف يتجاهلونها فحسب، أو – إذا ما كلفوا أنفسهم عناء الرد – يبعثون بتعليق يقول "طُعم لطيف" إلى من أرسلها، أو YHBT (="You have been trolled") ["لقد تعرضت للاصطياد"] لمن رد عليها؛ ويُدخل بعض الناس إشارات تدل على وجود طعم داخل رسالة ما لا يتبينها سوى الراسخون؛ وبعض الناس يعارضون إلى حد بعيد جدا العملية بأسرها، لإدراكهم الاضطراب الذي يمكن أن يصيب التواصل.

وكثيرا ما يُنسف مبدأ الكم في مواقف الإنترنت. ففي أحد طرفي النقيض هناك الكُمُون – أو رفض التواصل. والكامنون هم أناس يدخلون إلى مجموعة دردشة ويقرأون رسائلها ولكنهم لا يسهمون في النقاش. وتتضمن الدوافع عدم استعداد المستجدين للتورط، وحب الاستطلاع الأكاديمي (بحث جانب ما من ثقافة الإنترنت), أو التجوال. وتشير بعض الكتيبات الإرشادية إلى الكمون بوصفه "تجسساً". أما إرسال الرسائل المزعجة فيشير عادة إلى الرسائل غير المرغوب فيها ذات الحجم الهائل. ويرجع أصل المصطلح إلى فقرة هزلية في برنامج مونتي بايثون في عام 1970 تصف فيها نادلة في مقهى الأطباق المتاحة لزبونين، وتُقدَّم التنوعات المتعلقة بفن الطبخ بوصفها اعتمادا متزايدا على اللانشون – "حسنا" هناك بيض ولحم خنزير؛ سجق البيض ولحم خنزير؛ بيض ولانشون؛ لحم خنزير البيض ولانشون؛ سجق لحم خنزير البيض ولانشون؛ وسجق لحم خنزير اللانشون ولانشون؛ لانشون البيض لانشون لانشون لحم الخنزير ولانشون؛ سجق لانشون لانشون لحم خنزير لانشون طماطم ولانشون …" – ويصاحب الحوار كله، كما قد يتوقع المرء، إنشاد الكلمة نفسها من قِبَل مجموعة تتحرك من الفايكنج. وفي أحد هذه الانتقالات الدلالية التي تجعل من أصول الكلمات أمرا مشوقا، طُبِّق المصطلح للمرة الأولى على الحالات التي تُرسَل فيها الرسالة نفسها إلى كثير من المستقبلين، كما في حالة قيام شركة بإرسال إعلان إلى كل فرد على قائمة من تراسلهم، فينتج عن ذلك "بريد قمامة". وقد أصبحت تستخدم فيما بعد على الموقف الذي يكمل هذا الوضع – ألا وهو إرسال رسائل كثيرة إلى المستخدم نفسه، كما يحدث عندما تحتشد مجموعة من الناس إلكترونيا لمساندة مرشح أو للهجوم على سياسة شركة ما. وفي أي من الحالتين، يجد الناس أنفسهم مضطرين للتعامل مع كميات من النصوص غير المرغوب فيها.

وليست كل الرسائل المزعجة شيئا واحدا، سواء أكانت في المقصد أم في التأثير. ويحدد تشارلز ستيفيل ثلاثة أنواع سائدة في العوالم المتخيلة: العابثة، والضارة والملتبسة. فالرسائل المزعجة العابثة تحدث عندما تُبرمَج مؤثرات بصرية أو سمعية (مثل بطة تصيح لكي تظهر في النص، دون ما داع، على فترات خلال استمرار اللعبة. كما يمكن أن توجد أيضا عندما تفعل إحدى الشخصيات شيئا عابثا بشكل عدواني لشخصية أخرى (مثل كلمة a bonk أي "لكمة على الرأس –وليس بمعناها في المملكة المتحدة*، نرجو الملاحظة)، ومن ثم يستدعي استجابة صاخبة. وفي بعض حالات الألعاب ( وبخاصة في MOO’s) قد يستجيب عدة مشاركين في الوقت نفسه لمثير عابث، منتجين سلسلة من الرسائل النصية على الشاشة تِردُ بسرعة كبيرة بحيث لا تكاد يمكن قراءتها. أما الرسائل المزعجة الضارة فإنها تشير إلى المرادف على الإنترنت للتحرش في الحياة الحقيقية، وهي غالبا ما تحتوي على لغة صريحة جنسيا ووصفا للعمليات، وعادة ما تحفز إلى استخدام إجراءات تحكُّم من نوع ما من قِبَل مديري المجموعات. وكثيرا ما يضم هذا النوع عبارات عدوانية مطولة (إثارة الغضب، انظر ما يلي). أما الرسائل المزعجة الملتبسة فهي تقع بين طرفي النقيض. إذ قد يرسل مشارك رسالة مرارا تثير قلق اللاعبين الآخرين، أو تتسبب في أن يفعل مشارك آخر شيئا لا يسعى إليه أحد (مثل ستنج يُلقي موج من الطائرة) أو قد يُرسل إلى "غرفة" أخرى في اللعبة (مثل "السجن"). ويكمن اللبس في أن الغرض من وراء الرسالة المزعجة قد لا يكون غير واضح، وأن الأثر لا يمكن التنبؤ به بأشكال متنوعة. وما يعد رسائل مزعجة كثيرا ما يكون مسألة ذوق؛ وكما يقول مارفن: "إن ما يعد رسالة مزعجة لشخص ما قد يكون مصدر تسلية لآخر". ولكن في جميع الحالات، فإن بعث الرسائل المزعجة يعد إضافة لا مبرر لها للحوار التواصلي، ومن ثم يكسر مبدأ الكم.

وتختلف إثارة الغضب عن بعث الرسالة المزعجة في أن الرسائل (مثيرات الغضب) تكون دائما عدوانية، وتتصل بموضوع محدد، وموجهة إلى مستقبِل فرد (أما الرسائل المزعجة، على النقيض من ذلك، فإنها كثيرا ما تكون طريفة أو محايدة عاطفيا، وغير محددة المحتوى، وتستهدف أي شخص "على مدى السمع") وهي تشبه ببعض الطرق المبارزة اللفظية الطقسية التي تحدث بين العصابات المتنافسة وجنرالات الجيوش المتحاربة. إلا أن هناك قدرا كبيرا من الاختلاف حول ما يُعَد شعلة، ولماذا يُقدم الناس على فعلها. إذ تختلف حساسيات الناس وأذواقهم، وأفضلياتهم الاتصالية، وأساليبهم – كما يفعلون في المحادثة اليومية تماما، حيث ليس هناك اتفاق دائما بين جماعتين عما إذا كانتا "تتجادلان" أم "تجريان مناقشة"، أو لماذا تفجر جدال ما. ومما يدعو إلى الدهشة، أن مجموعتي الدردشة المشتركتين في موقف مشتعل كثيرا ما لا يريان تحاورهما بوصفه غضبا مشتعلا، وذلك بالرغم من أن مشاركين آخرين في المجموعة يرون ذلك. وكثيرا ما تندهش الأطراف التي يُجذَب نظرها إلى الغضب المشتعل بينها من المستوى الذي وصلت إليه عدوانيتهم اللغوية – وهي نتيجة، على ما يبدو، لأن المتغاضيين قد وجدوا أنفسهم على بعد إلكتروني آمن وغالبا مجهول الهوية من بعضهم. وتتدخل الفروق الثقافية، وبخاصة عندما يحدث تبادل الرسائل دوليا، بحيث إن ملاحظة قد تبدو بريئة تماما لمرسل في البلد (أ) قد تبدو فظة بدون مبرر لمستقبل في البلد (ب). كما أنه كثيرا ما تستغرق سلسلة من التبادلات بعض الوقت لكي تتحول من خلاف بسيط إلى حوار عدائي، ويمكن أن يصعب تحديد النقطة التي يحدث هذا عندها. ومن الواضح أن حوارا توقف فيه المشاركون عن موضوعهم وأخذوا فقط يتبادلون الإيذاء اللفظي، هو موقف مشتعل واضح؛ ولكن ما يستدعي نقاشا أكبر هو ما إذا كان الجدل العدواني (من النوع الشائع بما فيه الكفاية في الجدل الأكاديمي والسياسي) والذي مازال يواصل التركيز على الموضوع، وإن كان بشكل فظ، يعد موقفا مشتعلا أم لا. وقد أثارت هذه النقطة نقاشا كبيرا فيما بين مجموعات الدردشة (حيث يشيع سلوك بعث الرسائل المشتعلة، على الأقل مقارنة مع البريد الإلكتروني). ويذكر ويليام ميلارد حالة انتقل فيها النقاش إلى مستوى مختلف، متضمنا نزاعا حول ما إذا كانت رسالة ما شعلة أم لا، ومن ثم فقد جذب نظر المشرف على القائمة، الذي حاول السيطرة على الطريقة التي كان يمضي بها الحوار:



الرسالة أدناه ليست شعلة، بالرغم من أن المرسل يدعي أنها كذلك. ولقد لاحظت في

بعض القوائم أنه عندما يستخدم أي شخص كلمة "شعلة" في رسالة كانت لا تحرك

ساكنا حتى استخدام الكلمة، فإن المتحاورين على الشبكة يتجمهرون لقتله من جميع

أرجاء الكون الإلكتروني المعروف. لا تبالغوا في ردود أفعالكم هنا …



ومن دواعي السخرية، أن مثل هذه التدخلات يمكن أن تؤدي إلى مزيد من النقاش حول ما يعد رسائل مشتعلة، حيث يتخذ الناس مواقف متشددة، وينتهي بهم المطاف إلى أن يبعثوا رسائل مشتعلة إلى بعضهم حول موضوع إثارة الغضب – وهو ما يسميه ميلارد الحديث عن إثارة الغضب.

وقد يبدو سلوك إثارة الغضب، الذي ينشأ كما يحدث دائما من الإحباط، كما لو كان ينتهك مبدأ جرايس الخاص بالكيفية أكثر من الخاص بالكم. ووجوده في كلام الشبكة لا ينبغي التقليل من شأنه. ويحدد ميلارد، مركِّزا على القوائم الأكاديمية، عدة عوامل في الكتابة على الإنترنت تتسبب فيه. فإلى جانب الحد الأدنى من إمكانية الاتصال التي تميز الوسيط، والتي سبق الإشارة إليها (ص 37)، هناك أيضا ما يلي:



القيود الاقتصادية المعتادة على زمن الاتصال (وبذا على الصبر الشخصي)،

والاستجابة المتأخرة للمتعاملين، أو عدم الشعور بالأمان الناشئ عن إدراك

أن جماعات الإنترنت جديدة بما فيه الكفاية لكي تعوزها قواعد اجتماعية

واضحة – جنبا إلى جنب مع التوتر الكامن بين مفاهيم اللغة بوصفها

وسيطا شفافا للعمل الجاد أو مادة مكثفة للأداء المناسب



- وجميعها، كما يتوصل: "توحي بأن الكتابة الأكاديمية خلال الاتصال - بوصفها نوعا- تدعو إلى القلق، والغضب، والثأر". وهذه النقطة تتجاوز إلى حد بعيد المجال الأكاديمي. وقد ذهبت بعض المجموعات إلى حد تجربة مصفيات للشعلات تفتش كل رسالة بحثا عن كلمات أو عبارات من المحتمل أن تشعل الغضب (مثل

( get lost/ real / with it/ life; you + noun [رح في داهية / كن واقعيا / عش هذه الحياة؛ أنت أيها + اسم] وتستبعدها تلقائيا. ولكن البحث عن المعادلات اللغوية الشكلية في هذا النوع من الكفاءة الاتصالية مازال بدائيا بحيث لا يمكن الاعتماد على مثل هذه الإجراءات – فيما تستبعده وأيضا فيما تخفق في استبعاده. وما يُعدُّ أكثر فائدة إلى حد ما هو ملامح مثل أمر "خَرْبش" (المستخدم في المجتمع المتخيل المعروف باسم الجدار (The *Well = Whole Earth Lectronic Link ، ص 118) والذي يسمح للمرسلين بحذف ما أرسلوه ، واضعين كلمة <خربشة> في مكانه.

وقد يُنتهك مبدأ الكيفية أيضا انتهاكا خطيرا من خلال الطريقة التي تعمل بها بعض حالات الإنترنت. هل ستكون الإسهامات منظمة ومختصرة، وتتجنب الغموض واللبس؟ من المؤكد أن الاختصار يمثل رغبة ملحوظة في جميع تفاعلات كلام الشبكة، فيما يتعلق بطول الجملة، وعدد الجمل في أحد أدوار الحوار، أو كمية النص على الشاشة. وتنصح كتيبات الأسلوب المستخدمين مرارا بأن يلزموا الاختصار (ص 63)؛ وفي حين توجد علامات عديدة للاختصار في حالات الإنترنت المختلفة، فإن الأمر يستغرق فقط فترة قصيرة على الشبكة لكي نجد أمثلة كثيرة يُحترم فيها المبدأ فيما يتعلق باختراقه أكثر مما يتعلق باتباعه. كما أن مصممي صفحات الشبكة يتكلمون باستمرار على أهمية "الإبحار النظيف" خلال صفحة ما، وفيما بين الصفحات في موقع ما، وفيما بين المواقع، بهدف إتاحة الوصول بدون مشكلات إلى المواقع، وإلى تصميمات واضحة للشاشة، وخيارات تعمل بيسر (للبحث، والمساعدة، ومزيد من المعلومات، إلخ). ولكن سمة تصميم الهواة في كثير من صفحات الشبكة العنكبوتية (إذ إن تكلفة تصميم موقع ذي نوعية عالية على الشبكة العنكبوتية يمكن أن تكون هائلة) تعني أن مبدأ الكيفية كثيرا ما يُكسر. وفي مجموعات الدردشة المتزامنة، يتسم التحدي بأنه أكثر أساسية بكثير؛ وهناك درجة غير عادية من عدم النظام, ويرجع هذا أساسا إلى كثرة عدد المشاركين الذين يتحدثون في الوقت نفسه، مما يجعل من تتبع النص المكتوب لتفاعل ما أمرا صعبا إلى أقصى درجة. وهناك سؤال مهم عن الحد الذي يكون فيه الغموض واللبس أمرين محتملين أكثر في كلام الشبكة نظرا لاعتماد الوسيط على مُدْخَل مكتوب. إذ إن الكتابة باستعمال لوحة المفاتيح بوصفها سلوكا غير طبيعي، تفرض ضغطا قويا على المرسل لكي يختار ما يقوله، خاصة إذا ما كان الشخص ليس طابعا سريعا جدا أو كفؤا. ولابد لاختيار التعبير من أن يؤدي إلى جميع أنواع عدم الوضوح.

رابعاً* مبدأ العلاقة – بمعنى أن الإسهامات ينبغي أن تكون واضحة التعلق بالغرض من التفاعل – يُنتهك أيضا في بعض حالات الإنترنت. ويمكن للمرء أن يتساءل: ما غرض الحوار على الإنترنت؟ في بعض الحالات، من الممكن تحديد الغرض بسهولة كبيرة – وهو البحث عن معلومات عن موضوع محدد على الشبكة العنكبوتية، على سبيل المثال، أو الرغبة في إحراز نقاط في لعبة خيالية. وفي حالات أخرى، يمكن لعدة أغراض أن توجد في الوقت نفسه، مثل بريد إلكتروني يجمع بين وظائف معلوماتية، واجتماعية، وطرائفية. ولكن في حالات كثيرة، ليس من السهل تبين الغرض من التفاعل. وكثيرا ما يبدو أن الناس قد بعثوا رسائل ليس الغرض منها التواصل الحقيقي ولكن لمجرد إعلان وجودهم الإلكتروني للأعضاء الآخرين في المجموعة، أي لكي "يتركوا بصمتهم" لكي يراها العالم (بروح رسوم الحائط نفسها)، أو لكي يستخدموا الوسيط لكي يساعدوا أنفسهم على التفكير في شيء حتى نهايته. أما الموقف على الطرف الآخر من النقيض فنجده في كثير من مجموعات الدردشة، حيث يمكننا, من خلال حجم التنقل بين الموضوعات, أن نتوصل إلى أنه ليس هناك أي موضوع يمكن وصفه بأنه غير ذي صلة. ولطالما ميِّزت المحادثة غير الرسمية بسبب العشوائية النسبية في موضوعاتها؛ ولكن تمييز خيط الموضوع في الحوار المنطوق هو البساطة بعينها مقارنة بالتفاعلات في مثل مجموعات الدردشة هذه، حيث يُناقش العديد من الموضوعات في الوقت نفسه، وحيث يقحم المشاركون تعليقات على الطريقة التي تمضي بها المحادثة، وحيث يجري روتينيا إدخال عبارات غير متعلقة بالأمر (كما في حالة الخداع) وذلك بهدف الإضحاك أو لأسباب أخرى. وعادة ما ترتبط فكرة الصلة بوظيفة فكرية أو مبنية على المحتوى للغة؛ ولكن هنا يبدو أننا نواجه موقفا لا يُقدَّر فيه المحتوى، وتُعطى فيه الأولية لعوامل ذات سمة اجتماعية.

وتمثل الوظيفة الاجتماعية للتواصل على الإنترنت موضوعا رئيسيا في الأدبيات خلال السنوات الأخيرة، وبخاصة فيما يتعلق بالإشارة إلى مفهوم "المجتمع المتخيل". وهذا المفهوم حظي بغير قليل من الجدل، وعدَّه بعض الناس عبارة فارغة، وحاول آخرون إعطاءه تعريفا ذا معنى. ومن المؤكد أن مجرد الانخراط في أحد الأنشطة على الإنترنت لا يُنشئ في مستخدم ما نوع الهوية والانتماء الذي يصاحب مصطلح المجتمع. ومن ناحية أخرى، فإن بعض حالات الإنترنت تنمي مثل هذا النوع من الانتماء والذي ينشأ من "تجربة مشاركة فضاء التواصل مع آخرين غير مرئيين". وتكمن تحت وجهة النظر هذه قضية أوسع، تتعلق بالكيفية التي أصبح الإنترنت يُستخدم بها في الممارسة الفعلية. ولنلخص جدلا معقدا (in a netshell, perhaps)* :إن الإنترنت ليس وسيطا عالميا كما يبدو للوهلة الأولى. ففي حين حدثت من ناحية المبدأ استفادة كبيرة من قدرته على تخطي حواجز البنيات المادية، والاختلافات الثقافية، والمناطق الزمنية,** مما سمح للناس من أي مكان بالتواصل مع أناس في أي مكان آخر حول أي شيء على الإطلاق، فإنه من الناحية العملية نجد أن أنماط التواصل التي تحدث تتسم بأنها أكثر محدودية وأقل اتساعا بكثير. إذ إن معظم تفاعلات الإنترنت ليست عالمية في طبيعتها؛ إذ إننا لا نتحدث إلى ملايين عندما ننشئ صفحاتنا على الشبكة العنكبوتية، أو نرسل بريدا إلكترونيا، أو نلتحق بمجموعة دردشة، أو ندخل عالما متخيلا. ويعلق دريك فوستر، في معرض تلخيصه لبحث حول التواصل من خلال الحاسب الآلي من تأليف جارث جرام: "إن تفاعلية التواصل من خلال الحاسب الآلي تتعلق بالصلات البشرية. إنها تتعلق بالحديث، وهي تخدم الأفراد والجماعات، وليس الجماهير الغفيرة." ويصف هوارد راينجولد الإنترنت بأنه "نظام بيئي" للثقافات الفرعية. وترى باتريشيا والاس الغرض بوصفه أكثر أهمية من الجغرافيا:



بالرغم من أنني أحب استعارة "القرية العالمية"، فإن الإنترنت لا يشبه تلك معظم الوقت.

وفيما يتعلق بالتفاعل الإنساني، فإنه أكثر شبها بتجمع ضخم من الأحياء السكنية حيث

يمكن لأناس لهم اهتمامات مشتركة أن يتشاركوا في المعلومات، ويعملوا معا، ويرووا

الحكايات، ويتبادلوا النكات، ويتجادلوا حول السياسة، ويساعد بعضهم بعضا، أو يلعبوا الألعاب.



ومن الواضح أن مستخدمي الإنترنت يريدون الحديث مع آخرين ينتمون إلى المجموعة التي تشاركهم اهتماماتهم نفسها (ثقافة ثانوية، النخبة، البيئة …) أو من يريدون أن يمارسوا تأثيرا فيهم حتى يصبحوا جزءا من مجموعة اهتمامهم. ومن الأمور ذات المغزى هي كيفية استخدام أعضاء المجموعة أسماء مثل "ضيوف"، و "أغراب"، و "أجانب" عند. الإشارة إلى زائري منتداهم. بل وتتجاوز الأوصاف خفيفة الظل ذلك. وعلى سبيل المثال، فإن آندي إناتكو تصف الموقف كما يلي: "الغرض الحقيقي من استخدام اللغة هو فرض التقسيم على قبائل المجتمع، أو على الأقل تصعيب فهم الأمور بما فيه الكفاية بحيث يظل الدَّهماء بعيدا. واللغة الجديدة للإنترنت، التي يتكلم بها عدد هائل من الأنواع المنعزلة إلى حد ما التي تريد أن تحافظ على اتصال شخصي فيما بينها إلى الحد الأدنى في البداية، لا تمثل استثناء من القاعدة." ويبدو أن التحليل الذي يقوم به علم الاجتماع الآن يتحرك مبتعدا عن وجهة النظر القائلة بأن نوعية المفاتيح الاجتماعية المصغرة التي وصفناها فيما سبق لا تسمح بتطور علاقات اجتماعية وشخصية معقدة على الشبكة. ونظرا لأننا نستخدم مجموعة محددة من الرموز الطباعية فإن هذا لا يمنع الناس من بناء عالم اجتماعي جديد، وجادل بعض الناس قائلين إن فضاء الاتصالات في بعض أحواله يتيح مستويات كبرى من التقدم.

وتتبع ذلك أسئلة لغوية مشوقة. إذا كانت جماعات الإنترنت الحقيقية تتسم بأنها محدودة النطاق نسبيا، فإنها سوف تستعرض تضامنها عن طريق تطوير (سواء أكان بوعي أم بدون وعي) مقاييس للهوية، بعضها سيكون ذا طبيعة غير لغوية (مثل المعرفة المشتركة، أو أخلاقيات معينة) وبعضها لغوي في طبيعته. وسوف تستغرق الملامح اللغوية وقتا حتى تتطور، وبخاصة في وسيط تتغير فيه الإمكانات التكنولوجية بسرعة هائلة وحيث تنتشر درجة ما من عدم التوافق فيما بين المستخدمين، ولكنها في النهاية سوف تقدم للمجتمع لهجة مهنية يجب على الجدد أن يتعلموها إذا ما أرادوا الانتماء إليها. فالسمات الشخصية اللغوية الخاصة بالجماعات الفردية من جماعات الدردشة والزنزانات المتعددة المستخدمين كثيرا ما لوحظت، على الأقل ملاحظة عابرة. وأحد أهداف ما قد يُطلق عليه في يوم من الأيام علم اللغة الاجتماعي للإنترنت (أو علم اللهجات) سوف يكون تحديد إلى أي مدى تكون مثل هذه الملامح نظامية وكم من مثل هذه اللهجات يمكن تمييزها. ويتيح البحث الأوَّلي المتعلق بكل من الحالات الرئيسية للإنترنت الفصول من 4 إلى 7. إلا أنه من المحتمل أيضا، إزاء القيود التي تنشأ عن استخدام جميع الناس تكنولوجيا حاسب آلي تتشابه في ملامحها العريضة وتتصف بمجموعة متشابهة من الحوافز، أنه سوف تكون هناك مجموعة من الملامح اللغوية المشتركة، التي ستوجد بغض النظر عن حالات الإنترنت. أما إلى أي حد يوجد مثل هذا "اللب المشترك" فإن هذا يمثل موضوع الفصل 3.





--------------------------------------------------------------------------------

* أو الأنظمة, أي مجموعة البرامج واللغات والروتينيلت التي تتحكم في عمليات الحاسب الآلي في عمل معين. (المترجم)

** أو المعدات, أي مجموعة الأجهزة المادية التي تكوِّن الحاسب الآلي وملحقاته. (المترجم)

* أي بين العبارة الرئيسة والعبارة الفرعية. (المترجم)

* تجدر الإشارة هنا إلى أن المؤلف يعد حالات الإنترنت أربع حالات فقط, وليس خمس حالات, وذلك علي النقيض مما ورد عدة مرات في الكتاب. (المترجم)

* في الأصل centur وهي ما يمكن ترجمتها إلي "القَنْطُور", وهو كائن خرافي نصفه رجل ونصفه فرس. (المترجم)

* أي الكلمة العامية التي تعني "مجامعة". (المترجم)

* أي "الوصلة الإلكترونية الشاملة للكرة الأرضية". (المترجم)

* لم يستخدم المؤلف الكلمات "أولا" و"ثانيا" و"ثالثا", ولكن الإشارة هنا إلى مبدأ العلاقة الذي يلي مبادئ جرايس الثلاثة الأولى المتعلقة بالكيف, والصلة, والكم. (المترجم)

* أصل العبارة هو in a nutshell , أي "باختصار". وقد حُوِّرت الكلمة الأخيرة إلى netshell التي تضم كلمة net , أي "شبكة" في جزئها الأول. (المترجم)

** بمعنى اختلاف التوقيت من مكان إلى آخر. (المترجم)