المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة قصيرة/ السلخ



عبد الحميد الغرباوي
24/07/2007, 12:32 AM
السلخ
http://www.alriyadh.com.sa/2007/02/28/img/282089.jpg

و أخيرا استطعت الظفر بموعد مع المسؤول عن قسم التوظيفات...
طرقت الباب و فتحته دون أن أقف منتظرا سماع الإذن بالدخول...
تقدمت منه بخطْوات حاولت أن تكون ثابتة غير أني فشلت في ذلك ، في الوقت الذي أفلحت في وضع ابتسامة باهتة على شفتي...
أشار إلى كرسي أمامه...
و قبل أن أجلس، انحنيت نصف انحناءة، واضعا أمامه على السطح الزجاجي للمكتب مغلفا أخضر يضم بين دفتيه مجموعة من الوثائق تتحدث بالنيابة عني...
فتح المغلف، تصفح الأوراق بأصابع بيضاء غليظة مشعرة مدربة، ثم أغلقه ضاربا عليه بكفه...
زم على شفتيه، و من خلف نظارتيه الطبيتين، حدجني بنظرات لا تحمل معنى...
بل لها معنى لكني أجهله...
و مبتسما، خاطبني قائلا:
ـ هل أنت محظوظ؟
أغرقني السؤال أكثر في صمتي.... كنت طوال الوقت صامتا...
و لم يكن الصمت خوفا منه و لا حكمة و إنما اقتناعا من عدم جدوى الكلام...
شل السؤال لساني تماما، فلم أدر جوابا...
ما يقصد من ورائه !؟ ...
كرر السؤال لكن بصيغة أخرى:
ـ هل ترى نفسك من أصحاب الحظ؟...
و كيف أعرف !..
أغلب المحظوظين في هذه الدنيا هم ممن لا يحتاجون للحظ..
ما أراني عليه يمنحني و بامتياز صفة المقرود..
لقب زعيم المقرودين و بلا منازع...
أنا سيء الحظ...
و ما أحوجني لقليل من التوفيق...
ردان حضرا في خاطري..
الأول: و هل كنت تراني هنا ، أمامك الآن، يا بني آدم، لو كنت من أصحاب الحظ؟...
الثاني: أعتقد أني كذلك...
الرد الأول، احتفظت به لنفسي..
و أما الثاني فكان ردا مخاتلا، الهدف منه مسايرة أفكاره في مناورة لكسب ثقته...
المؤسسات، كل المؤسسات، تسعى إلى النجاح و تتمنى جادة أن يكون موظفوها ممن يحالفهم الحظ و التوفيق في كل ما يقدمون عليه من أعمال...
قلت:
ـ أعتقد أني من أولئك المحظوظين..
فأسرع إلى القول:
ـ هذا لا يكفي،...
لابد من أن أتأكد من ذلك عمليا، أعني بالواضح و الملموس و عاجلا...
صمت لحظة، رشقني بنظرة فاحصة، ثم أردف:
ـ هل معك نقود؟..
ـ عفوا ! ...
ـ دريهمات؟...
ـ معي..
ـ اذهب إذن إلى أقرب محل و اشتر بطاقة ـ اكشط و اربح ـ و عد سريعا إلى هنا، ستجدني في انتظارك...
و أوضح:
ـ انتبه،من النوع الذي يُحك..
استغربت طلبه، وأمام الضعف الإنساني الذي استحوذ على عقلي و كياني في تلك اللحظة، لم أجد من حل سوى أن أخضع لأمره ...
أسرعت إلى أقرب محل لبيع السجائر و أنواع العلك و أقراص الحلوى و الشوكلاطة و الطوابع البريدية و طبعا بطاقات الحظ من النوع الذي يحك و التي غير ما مرة، رأيت الناس يتهافتون على شرائها دون أن أعيرها اهتماما يذكر، بل كنت أستهجنها..
عدت أركض...
عرق غزير يسيل من جبهتي و إبطي..
خشيت أن يتحول العرق إلى رائحة كريهة... شممت تحت إبطي، كانت الرائحة لا تزال في بداية تكونها، و خمنت أن اللقاء، على كل حال، لن يدوم طويلا.. و أن الرائحة لن تعلن عن نفسها بكل جرأة و وقاحة إلا حين أكون في الشارع، و في الفضاء الواسع....
و دون أن أطرق الباب، دفعته و دخلت...
وضعت أمامه بطاقة صغيرة مزركشة بخطوط و رسوم و ألوان مرجانية و أنا أجلس
لاحظت أنه يتحاشا النظر إليها، كما لو أنه يخشى منها أذى يصيبه.. أو يخشى أذى يصيبها منه...
و هو يمد إلي قطعة نقدية فضية، أمرني أن أحك الشريط الرمادي الذي يتوسطها...
لم أستغرب طلبه، والبطاقة لا بد لها من حاك...
كان يراقبني و أنا أحك...
و خطر على بالي خاطر خطير..
ألا تكون طريقتي في حك البطاقة، اختبارا آخر لمعرفة مدى ما أتمتع به من كفاءات و مهارات؟..
ألا يكون عاملا من عوامل نجاحي أو فشلي..
و دون أن أشغل نفسي كثيرا بمعرفة الجواب، شرعت في الحك... و بإتقان...
سلكت منهجا في ذلك، لا هو بحك شديد و لا هو بحك خفيف...
بين بين...
يقتضي أن أبدأ أولا بالزوايا، يلي ذلك الحك من فوق تارة و من تحت تارة أخرى، راسما في ما قبل الحكة الأخيرة ما يشبه شريطا دقيقا مستطيلا...
وبحكة واحدة خفيفة، مضبوطة و رشيقة أزلت الطبقة الرمادية فبدت الأرقام...
و لست أدري كيف تملكتني لحظتها، رغبة شديدة في أن أحك جلدة رأسي...
و سرعان ما اجتاحتني رغبة لاذعة حارقة في حك كامل جسدي...
شيء ما يأكلني...
أحسست أني أتعرض لجريمة افتراس...
كما لو أن جحافل نمل تغزوني من الرأس و إلى أخمص القدمين، تقرصني قرصا...
لم أهتم لأمر الأرقام التي بدت جلية..
كانت الرغبة الشرسة في الحك تلهيني عن التفكير حتى في ما سيؤول إليه اللقاء من نتائج..
أما هو، فما أن رأى الأرقام، حتى اتسعت حدقتا عينيه،احمر وجهه و اصفر، فغر فاهه و هو ينظر إلى البطاقة أمامه...
بلع ريقه في صعوبة تفضح ما أحدثته الأرقام في داخله، وسرعان ما دارى اندهاشه بمسحة من الهدوء و الاتزان المفتعلين، أما أنا فكنت في تلك الأثناء أقاوم...
وجدت متعة و راحة في الحك...
و بخفة تنم عن تجربة و حنكة، وضع البطاقة في درج من مكتبه، و خاطبني معلقا:
ـ محظوظ، محظوظ... يعني... سننظر في ملفك خلال اجتماع هذا المساء...
و مد يده إلي مودعا، فمددت إليه يدا، بينما اليد الأخرى كانت منشغلة بالحك..
ضغطت أصابعه الغليظة على أصابعي بقوة...
كانت الضغطة موجعة، لكن ألم الافتراس الذي أتعرض إليه كان أوجع..
خرجت...
في الشارع، سرت على الرصيف بدماغ يملأه البياض دون أن أتوقف عن الحك...
و كالتماعة برق، و في غفلة من الوعي الذي يشدني إلى الواقع، بدا لي أن هذا الحك الذي بلغت حدته الذروة، سلخ عن جسمي طبقة الجلد الرفيعة لتحل محلها أرقام ...
ــــــــــــــــــــــــــــ
هذا النص من النصوص الجديدة( خارج المجموعة القصصية " تفاحة نيوتن")

عبد العزيز غوردو
24/07/2007, 01:14 AM
فاتنة أخرى تضيفها إلى فاتناتك أخي عبد الحميد...

ويبهجني جدا أن أكون أول المعانقين...

أن يتحول المرء إلى مجرد رقم... هذا عبث الواقع بنا عادة...

أن يسلخ جلده كي يتحول إلى مجرد رقم، هذا قمة العبث/الجنون الذي يقذفنا إليه الواقع...

بنكهة الحكمة حضرت هذه المرة أيها المبدع المنير...

شيء أخير: أعتقد أن فيتاغورس كان محقا فيما ذهب إليه ذات يوم...

مودتي أستاذي الفاضل

مالكة عسال
24/07/2007, 05:25 AM
قصة تجسد ظاهرة اجتماعية /البطالة والبحث عن العمل
واستفزازات أصحاب القرار ،ومراوغاتهم اللامنتهية ،
من أجل مفابل ما،أو رشوة أو شيء من هذا القبيل
السارد شخص من شخوص القصة له دور البطل .
القصة تتماها بين زمنين زمن داخلي ،وآخر خارجي :
الإدارة ،وصاحب المحل الذي اشتريت منه البطاقة ..
حبكة سلسة بلغة بسيطة خالية من أي تعقيد .
مابن السطور نقط تتابع مما يدل أن هناك مسكوتا
عنه لم يشأ الكاتب أن يقول كل شيء ،ليترك مجالا للقارئ
يشاركه الإبداع ..

محمد فؤاد منصور
24/07/2007, 07:31 AM
أخى الأستاذ عبد الحميد
كعادتك دائماً تخرج إلينا من جعبتك المترعة بالأفكار مايثير التأمل ويستوقف التفكير ، فى نص محكم متقن تتجلى فيه براعة القص وجمال الحبكة وفى لغة سلسة وحكاية من نوع السهل الممتنع يبدأ القص بمدخل بسيط وواضح وموقف نصادف مثيلاً له كل يوم حتى يفاجئنا السؤال الذى يشكل عقدة الحدث ومدار الأفكار التى ينبنى عليها النص" هل أنت محظوظ؟"فإذا نحن مشدودون بالنص حتى آخر كلمة ، براعة تأخذنا وتأسرنا رغم بساطة المحتوى فلانغادرها حتى النهاية ، نص جميل يعتبر نموذجاً للقصة الحديثة أحييك عليه أخى العزيز ودمت بكل خير.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl:

عبد الحميد الغرباوي
25/07/2007, 11:27 AM
فاتنة أخرى تضيفها إلى فاتناتك أخي عبد الحميد...
ويبهجني جدا أن أكون أول المعانقين...
أن يتحول المرء إلى مجرد رقم... هذا عبث الواقع بنا عادة...
أن يسلخ جلده كي يتحول إلى مجرد رقم، هذا قمة العبث/الجنون الذي يقذفنا إليه الواقع...
بنكهة الحكمة حضرت هذه المرة أيها المبدع المنير...
شيء أخير: أعتقد أن فيتاغورس كان محقا فيما ذهب إليه ذات يوم.../ عبد العزيز غوردو
تحية لأخي عبد العزيز من الأعماق، سعيد لتفاعلك مع القصة.
مودتي أستاذي الفاضل

عبد الحميد الغرباوي
26/07/2007, 12:35 PM
قصة تجسد ظاهرة اجتماعية /البطالة والبحث عن العمل
واستفزازات أصحاب القرار ،ومراوغاتهم اللامنتهية ،
من أجل مفابل ما،أو رشوة أو شيء من هذا القبيل
السارد شخص من شخوص القصة له دور البطل .
القصة تتماها بين زمنين زمن داخلي ،وآخر خارجي :
الإدارة ،وصاحب المحل الذي اشتريت منه البطاقة ..
حبكة سلسة بلغة بسيطة خالية من أي تعقيد .
مابين السطور نقط تتابع مما يدل أن هناك مسكوتا
عنه لم يشأ الكاتب أن يقول كل شيء ،ليترك مجالا للقارئ
يشاركه الإبداع ../ مالكة عسال
قراءة مقتضبة و عميقة للنص...
مع خالص المودة

بديعة بنمراح
30/07/2007, 10:14 PM
المبدع القدير عبد الحميد
نحن مجتمع نؤمن بالحظ أكثر من الإيمان بالعمل و الجد.
الحظ.. حلم وردي نامل من خلاله أن نحقق المستحيل. نحلم و نحلم ، و لا عمل يقابل الحلم.
هل الإنسان في واقعنا أصبح مجرد رقم؟ الكفاءة .. لا يهم! الشهادات .. ليست ضرورية
المهم هو الحظ.. و الحظ هو ...
أسجل إعجابي بقصتك.
مودتي

عبد الحميد الغرباوي
31/07/2007, 07:39 PM
أخى الأستاذ عبد الحميد
كعادتك دائماً تخرج إلينا من جعبتك المترعة بالأفكار مايثير التأمل ويستوقف التفكير ، فى نص محكم متقن تتجلى فيه براعة القص وجمال الحبكة وفى لغة سلسة وحكاية من نوع السهل الممتنع يبدأ القص بمدخل بسيط وواضح وموقف نصادف مثيلاً له كل يوم حتى يفاجئنا السؤال الذى يشكل عقدة الحدث ومدار الأفكار التى ينبنى عليها النص" هل أنت محظوظ؟"فإذا نحن مشدودون بالنص حتى آخر كلمة ، براعة تأخذنا وتأسرنا رغم بساطة المحتوى فلانغادرها حتى النهاية ، نص جميل يعتبر نموذجاً للقصة الحديثة أحييك عليه أخى العزيز ودمت بكل خير.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية
أجل ، هل أنا محظوظ؟..هل أنت محظوظ؟...هل نحن محظوظين في زمن الإحباط و اليأس و الفشل تلوى الفشل..سؤال وجودي يفرض نفسه فرضا..
شكرا لك أخي فؤاد، و تحية صادقة لمتابعاتك و ملاحقتك للنصوص قارئا و مشجعا..
و بالمناسبة أسجل لك رفع بعض النصوص التي ظلت نسيا منسية و إعادتها إلى الضوء..
مودتي

حسن البقالي
31/07/2007, 10:31 PM
وأخيرا استطعت الظقر بموعد مع المسؤول عن قسم التوظيفات..
حكاية كل يوم..حكاية المواطن المقهور الذي يصطدم بالمؤسسة فتجعل قهره مضاعفا, وعوض أن يجد ما يصبو اليه يعيش فصولا جديدة لسلخ الجلد .
ما الذي جعل المسؤول يمد يده اليه مصافحا بحرارة في آخر القصة بينما اكتفى في البداية بأن حدجه بنظرة تتأبط شرا دون ريب؟ لعله الرضا عنه بتنفيذه الأمر بالحك: دق آخر مسمار في نعش التفكير العقلاني الواعي المنظم وتعويضه بالمراهنة على حظ مستحيل..
متواليات سردية كتبت بيد قاص حاذق..
كامل المودة أخي عبد الحميد.

عبد الحميد الغرباوي
01/08/2007, 01:26 AM
نحن مجتمع نؤمن بالحظ أكثر من الإيمان بالعمل و الجد.
الحظ.. حلم وردي نامل من خلاله أن نحقق المستحيل. نحلم و نحلم ، و لا عمل يقابل الحلم.
هل الإنسان في واقعنا أصبح مجرد رقم؟ الكفاءة .. لا يهم! الشهادات .. ليست ضرورية
المهم هو الحظ.. و الحظ هو ...
أسجل إعجابي بقصتك.
مودتي/ بديعة بنمراح
شكرا للأديبة الرقيقة بديعة...و لعبة الأرقام تستمر...
مودتي

أحمد الأقطش
01/08/2007, 11:48 PM
سيدي المبدع العزيز عبد الحميد الغرباوي

أعجبني هذا التمازج بين البطاقة والجسد!

قراءة أمتعتني ورسمت ابتسامة إعجاب على شفتي

فلك خالص تحياتي وتقديري

عبد الحميد الغرباوي
02/08/2007, 11:25 AM
حكاية كل يوم..حكاية المواطن المقهور الذي يصطدم بالمؤسسة فتجعل قهره مضاعفا, وعوض أن يجد ما يصبو اليه يعيش فصولا جديدة لسلخ الجلد .
ما الذي جعل المسؤول يمد يده اليه مصافحا بحرارة في آخر القصة بينما اكتفى في البداية بأن حدجه بنظرة تتأبط شرا دون ريب؟ لعله الرضا عنه بتنفيذه الأمر بالحك: دق آخر مسمار في نعش التفكير العقلاني الواعي المنظم وتعويضه بالمراهنة على حظ مستحيل..
متواليات سردية كتبت بيد قاص حاذق../ حسن البقالي
نحن البسطاء، نستيقظ صباحا على أمل أن يكون يومنا أحسن من أمسنا... لكن مفاجآت و غرائب كل يوم هي مما لا ينتهي و يتكرر أولا يتكرر..
بطل الحكاية واحد منا..لقد تابع سيره وجسده تغطيه أرقام، و السلخ سيستمر، إلى متى ؟...الله أعلم..
شكرا أخي حسن..
مودتي

فيصل الزوايدي
02/08/2007, 04:20 PM
أخ عبد الحميد الغرباوي .. نص آخر من نصوصك الذكية التي توحي بالكثير و تفضح واقعا دون الوقوع في الوقائعية الضيقة .. دمتَ متالقا .
مع كل الود

عبد الحميد الغرباوي
02/08/2007, 08:14 PM
أعجبني هذا التمازج بين البطاقة والجسد!
قراءة أمتعتني ورسمت ابتسامة إعجاب على شفتي/ أحمد الأقطش
أخي أحمد،
كثرة الهم تُضحك...على كل هنا الضحك من النوع الأسود...
مودتي

عبد الحميد الغرباوي
04/08/2007, 11:49 AM
أخي عبد الحميد الغرباوي،
نص آخر من نصوصك الذكية التي توحي بالكثير و تفضح واقعا دون الوقوع في الوقائعية الضيقة .. دمتَ متالقا .
مع كل الود

القصة القصيرة أخي فيصل ، لا تستحمل المباشرة و الأسلوب التقريري، و الغوص في التفاصيل بشكل يوحي أننا أمام فصل من رواية...
علينا ألا نستسهل هذا الفن..إنه صعب و بامتياز...هذا ما لقنته لي التجربة...
مودتي

نجوى الظافري
05/08/2007, 10:11 AM
لقد شدتني هذه القصة من ألسطر الأول إلى السطر الأخير.
أسلوب سلس يعري مشكلة البطالة التي تتفاقم يوما بعد يوم في أقطارنا
تحياتي

حسام الدين نوالي
06/08/2007, 04:45 AM
ياااااااه.. من أين تأتيك الحكايا يا رجل؟ وكأن في جلدك ثلاث جدات لا ينضبن ..
قلت لك في رسالة إن هذا النص "قنبلة سردية"، حين قرأته لم أستوعب الصدمة -الدفقة القوية من فرح المتعة-، وابتعدت عنه، وقرأته مرة أخرى.. وكان علي أن أبتعد أكثر لأراه مثل زهرة، تماما مثلما تبدو قنبلة هيروشيما من بعيد، زهرة لكن الاقتراب منها متاهة واحتراق ونزيف..
هذا النص يتشكل من بنية عمودية ومن بنية أفقية، وبتعبير "السرديات": وظائف سردية وتعارضات مفاهيمية، يعني تلك العلاقات الداخلية بين الشخصيات والتي تشكل أوضاع السرد، مع تلك العلاقات التصنيفية التي تبني الهرمية... وهذا النص يضم الحوار وهو إحدى المعابر نحو واقعية النص وإقناعيته،.. وهذا النص يضم المتوالية السردية التي تشكل الترابط التحليلي للوظائف.. وهذا النص قنبلة.
1- الشخصيات:
نحن أمام شخصيتين متقابلتين، البطل/السارد ومسؤول قسم التوظيف.
منذ البدء يمنحنا السارد إشارة ما، الشخصيتان بينهما جدار وباب، والباب يفضي إلى المحاورة، لكن يمنحنا متقابلات معلنة ودفينة، هناك فرحة المقابلة لدى السارد وحياد المسؤول، وهناك طالب مقابل مانح، وهناك توتر مقابل لا اهتمام، هناك خط مرسوم في ذهن السارد كمشروع: "التوظيف" مقابل عبثية المسؤول "لا خط مرسوم للتوظيفات"، ثم بعد توالي السرد يتبادل الشخصان الأدوار، مانح الشغل يغدو طالبا "لورقة الحظ"، صاحب المشروع، يغدو مستجيبا "غير فاعل" فيما يصبح الآخر صاحب مشروع الربح، والذي كان مرتاحا "المسؤول" صار متوترا والعكس بالعكس "بلع ريقه في صعوبة تفضح ما أحدثته الأرقام في داخله، وسرعان ما دارى اندهاشه بمسحة من الهدوء و الاتزان المفتعلين، أما أنا فكنت في تلك الأثناء أقاوم... وجدت متعة و راحة في الحك..."
إن تفاعل الشخصيتين أنتج ما يشبه المرآة العاكسة، مرآة تمنح صورة الأنا في الآخر، كما تمنح العدوى. وفيما كان السارد يحك بطاقة الحياة من أجل حظ في العمل صار هو نفسه بطاقة حظ للمشغِّل، بطاقة تحك نفسها بنفسها ما دامت تشتغل. وهو ما سيحدث حتما بعد اجتماع المسؤولين، وهو ما استشرفه السارد فبدأه منذ المقابلة بيد تمتد لتصافح المسؤول فيما الأخرى بدأت شغل "حك الذات".

الحوار:
لن أطيل في الإشادة بدرجة احترافية الكاتب في نسج حوار واقعي مقنع، فقط سأقول هي تجربة الحكي الطويلة عند الغرباوي.
الحوار في النص نوعان: مسترسل ومتقطع.
يبدأ الحوار من "هل أنت محظوظ؟" وكأنها جملة غير حوارية تل في الهواء، فيما الطرف الآخرفي الحوار يسير في تيه التفسير والتحليل هناك في الداخل، فيغدو الحوار معبرا يفضي للمونولوغ، وبالتالي معبرا نحو العمق، وهو نفس الطريق الذي يسلكه السارد بعد كل جملة حوار من المسؤول إلا في محطة واحدة:
"ـ هل معك نقود؟..
ـ عفوا ! ...
ـ دريهمات؟...
ـ معي..
ـ اذهب إذن إلى أقرب محل و اشتر بطاقة ـ اكشط و اربح ـ و عد سريعا إلى هنا، ستجدني في انتظارك..."
هل كانت إشارة أخرى ذكية من السارد ليضيء الطريق؟
هنا الحديث يتواصل لأنه حديث عن المال، ما يربط الشخصيتين هو المال، هو المادة، وهو الاستفادة، لكن المانح الآن ليس المشغل -الذي رُتب في الأعلى- بل المعطل عن العمل هو المانح.. وهنا يبدأ السلخ.
الحوارات التالية لا تواصلية، هي جمل فردية ،و بينها مسافات.

السرد:
البطل سليم في الزمن1
يحدث السلخ "طلب النقود" للبطل في الزمن2
البطل يسلخ نفسه في الزمن 3

كل مرحلة هي وصف حالة، ذلك أن السرد هو "فعل وصف" وفعل" تفسير" أصلا.. ولان الحدث هو حدث واقعي جدا "البحث عن عمل" فإن السرد واقعي جدا -مثل جل سرود الغرباوي- وذو صلة باليومي (وربما التأريخي)، واتسم بصفتين أساسيتين: هناك شفافية الأسلوب، وهناك اقتصاد معجمي يرتبط بشكل مباشر بالمرجع.
هذا طعّمه الكاتب بسرد آخر هو "السرد الاستبطاني"، عنى فيه برصد تعقيدات الحياة الجوانية للبطل وانفعالاته الداخلية وصراعاته وتفكيره، واستند في إيصال ذلك إلى المحكي النفسي والمونولوغ المسرّد.

وهكذا فالنص مشبع، وثخين ليس دلاليا فقط -وهو مساحة مغرية بالتأويل- بل أيضا على مستوى الشكل، وآليات اشتغاله. من هنا أعتبر أن للنص سُمكا فنيا يشتغل فيه كل جزء على حدة، ومن كل الجهات يصل خطاب الحكاية، "مثل قنبلة عنقودية".
ـ ـ ـ ـ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ ـ ـ ـ ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
تواصل:
مالكة عسال: "مابين السطور نقط تتابع مما يدل أن هناك مسكوتا
عنه لم يشأ الكاتب أن يقول كل شيء ،ليترك مجالا للقارئ
يشاركه الإبداع .."
ربما ليس الصمت من اختيارات الكاتب، هو اشتغال اللغة نفسها، فللنصوص أفاعيل، والصمت فيما وصل إليه "جاك دريدا وأتباعه" يوجد في المنطوق أكثر مما هو في البياض.
نقط الحذف ليست صمتا، هي قول كثير، لكن اللغة تخفي أكثر.. في مثل أمازيغي يقول" إغال أونَّا إنْدرْ إس أور إسيويل": "ظن الذي تنهد أنه لم يتكلم".. هي الحكمة نفسها، نقط الحذف تتكلم فيما اللكلام يواري الكثير.

الأخوة الكرام: ع العزيز غوردو، مالكة عسال، محمد فؤاد منصور، بديعة بنمراح، حسن البقالي..
تعليقاتكم على هذا النص تؤكد أن التواصل مع النصوص في واتا أكبر من بصمة عبور، تخلقون حوارا رائعا وتواصلا.. أعانقكم واحدا واحدا..
مع كل الحب

عبد الحميد الغرباوي
06/08/2007, 05:05 PM
لقد شدتني هذه القصة من السطر الأول إلى السطر الأخير.
أسلوب سلس يعري مشكلة البطالة التي تتفاقم يوما بعد يوم في أقطارنا
تحياتي
أسعدني مرورك...و أتمنى أن أكون عند حسن ظنك قارئة و مهتمة
مودتي

عبد الحميد الغرباوي
07/08/2007, 03:53 PM
ياااااااه.. من أين تأتيك الحكايا يا رجل؟ وكأن في جلدك ثلاث جدات لا ينضبن ..
قلت لك في رسالة إن هذا النص "قنبلة سردية"، حين قرأته لم أستوعب الصدمة -الدفقة القوية من فرح المتعة-، وابتعدت عنه، وقرأته مرة أخرى.. وكان علي أن أبتعد أكثر لأراه مثل زهرة، تماما مثلما تبدو قنبلة هيروشيما من بعيد، زهرة لكن الاقتراب منها متاهة واحتراق ونزيف..
ممتن لك أخي حسام بهذه القراءة المستفيضة.. استفيد كثيرا من كتاباتك النقدية و تعليقاتك...
خالص مودتي

محمد أسليم
08/08/2007, 08:12 PM
هذا النص للقاص المبدع عبد الحميد الغرباوي يسلك مثل معظم نصوصه السابقة خطا ثابتا في الكتابة سبق أن لوحظ عليه في أكثر من تعقيب عن مجموعة من قصصه المنشورة في منتديات أخرى، ويتمثل هذا الثابت في نوع من المفجأة للقارئ (أو المراوغة له إن جاز التعبير)، إذ حيثما يتنظر المتصفح شيئا (أو أشياء) يقع شيئا آخر أو لا يقع أي شيء بالمرة، مع اختلاف في نبرات ومُضمرات هذه الملاحظة يمكن تصنيفها إلى قسمين: فئة ربما تقول بطرق ملتوية: نحن إزاء كتابة لا تستوفي شروط هذا الجنس الأدبي؛ تتوقف حيث يجب الانطلاق، و(فئة)أخرى تقول بالالتواء نفسه: نحن إزاء كتابة استنفذت طاقاتها وإمكانياتها، وهي الآن تردد نفسها مثل لازمة أغنية.
قد أكون أكون أسأتُ قراءة هذه التعقيبات أو أخطأت فهمها، ولكن الثابت في الحالتين هو هذا الرصد، مثلما أفعل الآن، لوجود مناخ غير عاد (ولكن أليس الخروج عن المعتاد من السمات الجوهرية للأدب؟) يخيم على نصوص الغرباوي؛
في المثال الذي بين أدينا، سار كل شيء على أحسن ما يُرامُ: بطل يسعى للحصول على شغل أو وظيف، شخصية ثانية (رئيس قسم التوظيفات، احتمال ثان، إمكانية جديدة لتطوير السرد بحيث يمضي وفق رغبات السارد أو ضدها)، حدث رئيسي قابل بدوره للتطوير مبدئيا وفق أحد اتجاهين: تلبية طلب البطل أو رفضها، ولكن عوضا عن هذه القاعدة (وهنا بيت قصيد ما يلاحظ على قاصنا) يرد حدث غير مرتقب تماما: أمر الطالب بإحضار بطاقة لعب وحكها. ورود هذا الحدث يُدخل القارئ في جو يظن معه أن انعطاف بالكتابة قد جرى نحو فضاء عجائبي (أو حتى سوريالي)، ولهذا الفضاء عناصر ومُقتضيات سينتظر القارئ من الآن فصاعدا ورودها مما تبقى له قراءته من جسد النص، ولكن لا شيء من ذلك يقع. في المقابل، يتم التركيز على عملية الحك وفعله دون الاكتراث بنتيجته ( وفق القاعدة التي فرضها المشغِّل، وهي: اختبار ما إذا كان البطل محظوظا أم لا)؛ تنتقل عدوى الحك، في الإحساس، من البطاقة إلى جسد البطل وربما إلى وجوده.
سيخرج القارئ العادي المغرم بمعرفة العواقب النهائية للأمور خائبا دون شك مثله مثل الناقد الذي يقرأ النصوص وفق خطاطات النقد الجاهزة ناسيا أو متناسيا أن النصوص هي التي ترفد القواعد النقدية لا العكس وأن كل نص جديد أو عمل أديب يمكن أن يمد النقد بعينة جديدة من احتمالات الكتابة الأدبية وممكناتها.
ما تأتى لي قراءته لحد الآن من أعمال عبد الحميد الغرباوي، وضمنها الحالي، يتيح افتراض أننا إزاء كتابة تقتضي من قراءها القيام بعملية «حك» بمعنى الكلمة للوقوف أمام الرقم المختفي في كل نص والذي يكون عموما عبارة عن كلمة واحدة تشكل منفذا للمعنى. والنفاذ إلى هذا المعنى يقتضي تحريك عناصر من البحث المعجمي وحقل الرمزية واستدعاء المجتمع. وراء البساطة الظاهرية لكل نص يختفي لغز يتعين على القارئ اكتشافه بتحريك مخزونه الفكري. مفتاح الفهم في نصنا الحالي هو «الحك»، ولكن فهم الآلية التي تم بها نقل هذا العمل من فعل موضوعه بطاقة إلى إحساس يُغرق الجسد والفكر ستقتضي الرجوع إلى المعجم باعتباره يحفظ الثغثغات الأولى للغة وهي أساسية جدا للوقوف على ما لا تبوح به الكلمات خلال رواجها، ثم إجراء رحلة بحث في عالم الدلالة عن ذلك الخيط المفقود في الظاهر والذي أتاح الانتقال من الورق إلى الجسد، ومعنى هذا الانتقال، اي ما يريد قوله..
ومع أن فهم هذا المنحى في الكتابة لا يمكن أن يتم إلا بدراسة تنكب على مجموع أعمال الكاتب، يمكن افتراض أن العملية تتم لدى الغرباوي بآليتين:
- واحدة واعية وشعورية بدليل أننا لسنا أمام كاتب «أمي» يكتب بالموهبة دون أن يفقه في النقد شيئا؛ نحن إزاء صانع نصوص ملم بقواعد الجنس الذي يكتب فيه.
- ثانية لا شعورية، بموجبها قد يكون هذا المنحى في الكتابة يعكس نظرة للذات والمجتمع والوجود عموما، وسيكون مفيدا جدا محاولة الكشف عن سر هذه النظرة في الظروف الحياتية للكاتب.

عبد الحميد الغرباوي
10/08/2007, 06:19 PM
أخي أسليم،
أقف وقفة احترام و تقدير لشخصكم الكريم
شرفني وقوفك هنا طويلا قارئا و محللا و ناقدا...
مودتي