المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباب الثاني من كتاب ( تلاش : بحث ) للأديب الباكستاني الكبير ممتاز مفتي



إبراهيم محمد إبراهيم
26/07/2007, 07:53 AM
الباب الثاني

رجال الدين
أصدقائي غاضبون مني ، يقولون : يا " مفتي " ! لماذا تثير ضجة هكذا بلا داع . وأنا أقول : يا أصدقائي ، إنني حقاً أريد أن أعرف ما معنى المسلم ؟!. فأخبروني أنتم إن كنتم تعرفون الإجابة .
كل أصدقائي يصومون ويصلون . " محمد عمر " يصلي وكأن أداء الفرض مقصود لذاته ، لا يصلي من قلبه ، وإنما يؤدي الصلاة وفقط ، وما يلبث أن ينتهي منها . يقول : إن فاتتني صلاة ذات مرة فإنني أشعر وكأن شيئاً ما ينقصني .
الصوم والصلاة :
أما " عماد " فإنه يستغرق في الصلاة حتى لا يكاد يشعر بما حوله ، إن رأيته يصلي تشعر وكأنه منتشياً سكراناً . منذ عدة سنوات جاءنا شيخ كبير ، وبالصدفة رأى " عماد " وهو يصلي ، فقال له : يا سيد ! إنك لا تصلي ، إنك تستمتع . فقال " مسعود " : يا سيدي ، إنه عندما يصلي تشعر وكأنه يمصّ " حبة مانجو " ذات مذاق رائع . فقال الشيخ : لا علم لي بالأسرار والرموز ، لكن شيخنا كان يقول : إن دخل الاستمتـاع إلى العبادة فعليك أن تتوقف عنها ، لأن المقصود ليس هو الاستمتاع ، إذ يعدّ الاستمتاع عقبة في الطريق .
على أية حال فإن أصدقائي من الملتزمين بالصيام والصلاة ، لكنهم مع ذلك يقولون نحن لا نعرف ما المقصود بالمسلم ، وكلما سألتهم سخروا قائلين : انظر ، لا يوجد أحد يعرف ما معنى المسلم . قال " مسعود " : انظر يا " مفتي " ، إن سكان المدينة (1) التي تعيش فيها جميعاً من المسلمين ، وكلهم متعلمون ، ويتولون أعلى المناصب ، ويؤمنون مخلصين بعظمة الله ورسوله ، لكنهم لم يفكروا ذات مرة فيما هو المقصود بالمسلم ، فلماذا تثير أنت هذا الجدال بغير داع . حسناً ، افترض أنك عرفت معنى المسلم ، فهل تصوغ حياتك بجدية في قالبه ؟!!.
وقهقه " عمر " قائلاً : يا صديقي دعك منه ، فإن السيد " مفتي " مجرد " مفتي " بالكلام وفقط ، وحياته تخلو تماماً من العمل والتطبيق ، بل إنه ليس لديه استعداد للعمل أصلاً ، بينما المسلـم هو الذي يكـون " عملاً " مجسمـاً . خذ " عماد " على سبيل المثال ، إنه رجل " صاحب عمل " .
فقال " مسعود " : هه ، " عماد " ليس " صاحب عمل " ، إنه مجرد " صاحب عبادات " فقط ، فهو على سبيـل المثال يده مغلولة للغاية ، إذا جاء وقت العطاء توقفت يده تماماً ، ويد المسلم لا تكون مغلولة أبداً ، سواء وفقت إلى الإنفاق أم لا ، لكنها كريمة دائماً .
وضحك " عماد " بخبث وقال : ومتى ادّعيت أنني مسلم صحيح الإسلام ، إنني حتى لا أعرف من يكون المسلم . كلامك صحيح يا " مفتي " ، وإن أردت فإننا نستطيع أن نسأله !.
تساءل " عمر " قائلاً : نسأل من ؟!.
· عالم دين كبير قدم إلى المدينة " إسلام آباد " ، شيخ كبير وعالم محترم ، فإن أردت اتصلنا به ، وحددنا معه موعداً لزيارته ، وتستطيع حينئذ أن تسأله ، وهو يستطيع أن يقنعك .
وبالفعل اتصل " عماد " بعالم الدين ، وحدد معه موعداً ، وفي اليوم التالي ذهبنا نحن الأربعة للقائه .
العصر الحاضر :
خرج علينا الشيخ بعد وصولنا إلى حجرة الضيوف بفترة وجيزة ، وقابلنا بترحاب كبير ، وحيّانا جميعاً . وقبل ن نوجه إليه سؤالاً بدأ هو بالحديث عما في عصرنا الحاضر من ابتعاد عن الدين ، بل وانقطاع عنه . كان كلامه في معظمه صحيحاً ويستحق الاهتمام ، لكن كان يبدو مما يقول وكأن العصر الحاضر من اختراع الجيل الحالي ومن صنع يديه ، وكأن الجيل الحالي قد تآمر عامداً متعمداً ضد الدين ، وقام بتشكيل العصر الحاضر بقدر كبير من التخطيط والتنفيذ .
كنت أريد أن أقول للشيخ : يا سيدي ، إن العصر الحاضر ليس من صنع الجيل الحالي ، وأن الظروف العالمية هي التي حمّلت الجيل الحالي مسئولية هذا العصر الحاضر . إن الجيل الحالي لم يوقع بنا هذا الظلم ، بل إنه على العكس من ذلك جيل مظلوم ، ويستحق الاهتمام والعطف من قبل علماء الدين .
سادتي ، لقد رأيت على مدى سنيّ عمري " الكبار جداً " يصبون جام غضبهم على العصر الحاضر ، فعندما كان عمري ما بين خمس سنوات إلى خمس عشرة سنه كان " كبار السن " في حيّنا يظهرون غضباً شديداً من العصر الحاضر ، وكانت " السيدات المسنّات " في حيّنا فيما بين عامي 1910م -1920م يشتمون العصر الحاضر ويلعنّه . كنّ في ضيق شديد منه ، حتى أنهن كنّ يدعين عليه بالويل والثبور ، وكنا نحن يا سيدي نمثل العصر الحاضر في تلك الأيام ، أي الأطفال من سن خمس سنوات إلى سن ثمانية عشر عاماً . كنا حوالي عشرين طفلاً ، وكانت جدّاتنا في غاية الحب لنا والحنان علينا طالما كنا جالسين في بيوتنا ، ولكن ما أن نخرج من البيوت لنلعب في ساحة الحيّ حتى نصير بالنسبة لهن " العصر الحاضر " .
كان أهل الحيّ يشكون من أننا نلعب في ساحة الحيّ . يقولون أن الجيل الناشئ هذا يضيع وقته في اللعب و " التنطيط " ، في الوقت الذي يجب عليهم فيه أن يجلسوا في بيوتهم يقرأون القرآن ، أو يراجعون دروس المدرسـة ، أو يشاركـون في أعمـال البيت طبقـاً لما يطلبه منهم " الكبار " ، وأن يخدموا آباءهم وأمهاتهم .
والحقيقة هي أن المشكلة كلها أننا أطفال الحيّ كنا نلعب بالكرة في ساحة الحي ، وكانت هذه الساحة محاطة بقنوات صغيرة ضيقة تجري فيها مياه المجاري ، وكانت الكرة تسقط رغماً عنا في هذه المياه وتبتل بها رغم حرصنا الشديد على ألاّ تسقط فيها ، وكان الرذاذ يتطاير من الكرة أثناء اللعب فيصيب ملابس المارة من " المصلّين " وتنجّس ملابسهم ، أو أننا حين كنا نركل الكرة كانت تطيش إلى شبابيك البيوت المحيطة بالساحة ، وتسقط بداخلها فتنجّس البيت كله . وعندئذ كانت " العواجيز " من سيدات الحيّ ينظرن من الشبابيك ، ويلعنّ هذا الجيل الجديد ، ويتوعّدنه ويدعين عليه ، ويبقين هكذا لساعات ، حتى إذا ما تعبن من الكلام و " الزعيق " دخلن إلى البيت ، فيخرج الأطفال المختبئين الخائفون المذعورون من مخابئهم ، ويتجمعون في الساحة من جديد ، ثم يقومون بتقليد حركات " العواجيز " في سخرية انتقاماً منهن ، ويتغامـزون بهن ساخـرين منهن ، ولمزيد من الانتقـام من سلاطـة لسـان وتطـاول أولئك " العواجيز " ، كان الأطفال يعكفون في دأب لأيـام عديـدة على إعـداد مفرقعـة ناريـة " بومب " ، وحين يفرغون من إعدادها يحددون وقتاً يجتمعـون فيه ، ثم يقوم أكبرهم بقذف هذا " البومب " بشدة على جدران البيوت المحيطة بالساحة ، فتحدث " فرقعة " شديدة تطلّ على أثرها " العواجيز " من الشبابيك ، ويمطرونهن سبّاً وشتماً بأصوات مرتفعة ، ويصرخن حتى تكاد تتمزق حلـوقهن ، بينمـا لا تكاد الدنيا تسع الأطفال من شدة الفرح لما حدث نكاية وتشفّياً (2) .


الكلام والخطبة :
كان عالم الدين مسترسلاً في حديثه ، لا يتوقف عن الكلام ، وكنت أريد أن يتوقف لأقول له يا سيدي ، إن العصر الحاضر ليس من صنع الجيل الحالي ، إنه من صنع الظروف العالمية ، وجيلنا الحالي مظلوم يستحق تعاطفك .
ولكن كيف أقول هذا لعالم الدين وهو لم يتوقف عن الكلام أصلاً . إنه في الحقيقة لم يكن يتكلم ، إنما كان يخطب . كان يبدو وكأنه يحفظ عدة خطب عن ظهر قلب ، وما أن تنتهي واحدة منها حتى يصلها بأخرى ، وهكذا يبقى الحديث متواصلاً .
وفجأة دقت الساعة على الحائط الثانية عشرة . وفوجئنا بذلك ، فلقد جئنا عند الشيخ في العاشرة صباحاً ، وهذا يعني أننا بقينا جالسين لساعتين كاملتين ننتظر أن يتوقف الشيخ عن الكلام فنسأله ، لكننا فشلنا . وعرفت منذ ذلك الحين أن الحديث مع رجال الدين أمر غير ممكن ، لأنهم لا يرغبون في الاستماع ، فهم يعشقون الكلام ، ولديهم كميات ضخمة منه بحيث لا تبدو له نهاية :
· إن عظمة وجلال " فقيه المدينة " أكبر من هذا كله ، لذا لم يتح لنا الكلام ، ولم يؤذن لنا بالكلام (3) .
وعلى فرض أنه استمع إلى سؤالك – وهو فرض بعيد – فإنه لن يحاول فهمه ، وسوف يجيبك إجابة لا علاقة لها بالسؤال ، فتصيبك الدهشة ، ثم إنه سوف يطوّع الكلام بطريقة أو بأخرى بحيث يربطه بخطبة يحفظها ، وتتحوّل الإجابة إلى خطبة .
مخلوق أفضل :
سادتي ! إنني في غاية اليأس من أئمتنا ووعاظنا ودعاتنا الكرام . إنهم لا يجيدون الحديث عن موضوعين فقط : ذمّ العصر الحاضر ، ومدح الماضي ، وعلاوة على هذا فإن لديّ شكايات أخرى من هؤلاء السادة ، وشكايتي الأساسية منهم أنهم ليسوا مثلي .. ليسوا من البشر العاديين .. ليسوا منا ؛ لباسهم مختلف عن لباسنا ، وطريقتهم مختلفة ، ونبرات أصواتهم مختلفة . أصواتهم تخرج من الطبقـات السفلى للحلق .. كلا ، إنها لا تخرج بنفسها ، وإنما يخرجونها هم ، يخرجونها بجهد وتكلف ، حتى يبدو فيها تميزاً خاصاً !!. مشيتهم ليست كمشيتنا ، ففيها بعض التفاخر والكبر.. تفاخر بالتميز ، يبدون بحليتهم كأنهم مخلوقات أخرى ، مخلوقات أفضل .. مخلوق بين الإنسان والملاك ، أو كأنهم ممثلون في مسرحية تاريخية ... يكاد تزينهم يغلب على تزين الممثلين أنفسهم .
سادتي ! يقول الحكماء : إذا أردت أن تؤثر على أحد ، وأن يسمع الآخر ما تقول باهتمام ، يسمعه بأذن قلبه لا بأذن رأسه فقط ، فإنه يجب عليك أولاً أن تصير مثل هؤلاء الذين تريد أن تؤثر عليهم ، تصير مثلهم حتى يعتقدوا أنك منهم .
التميز والمساواة :
فإن أردت أن تؤثر على الغربان فعليك أولاً أن تصير غراباً ، ولن تحقق هدفك إذا جعلت من نفسك طاووساً تختال بهزّ ذيلك الملوّن ، فلو فعلت لأثرت بين الغربان ردّ فعل ضدّك .
والوعاظ وأئمة المساجد لا يستوعبون شيئاً بسيطاً ، وهو أن عليهم أن يستميلوا إلى الدين تلك الطبقة التي لا يعترفون بها ، إنهم لا يعرفون أن العصر الحاضر هو الحال بالنسبة لنا ، وسرعان ما يصبح مستقبلنا . لكنهم لا يعرفون أن العصر الحاضر موج لا يمكن إيقافه ، ولا يمكن أن تقام في طريقه السدود ، وإنما يمكن توجيهه وترويضه فقط . إنهم يتوهمون أننا سوف نصنع عصرنا الحاضر بأنفسنا ، فيقيمون المدارس الدينية في كل مكان ، ويحاولون من خلالها حماية الأطفال من العصر الحاضر هذا ؛ يحرمونهم من العلوم الدنيوية ، ويربّونهم بطريقة تجعلهم صورة منهم بعد أن يكبروا ، فتختلف طريقتهم وحياتهم وحركاتهم وسكناتهم عن البشر العاديين . إنهم يخلقون في الأطفال تلك العلامة المميزة التي يتميزون بها . ليتهم يشعرون أنهم يفرّقون بيننا ، في حين أن عظمة الإسلام تقوم على المساواة .
المتصوفة الكرام :
على العكس من هؤلاء اتخذ المتصوفة الكرام من المساواة طريقاً لهم . كانوا يعرفون أن عليهم أن يصيروا مثل أولئك الذين يريدون التأثير عليهم ، حتى يظنوا أنهم منهم ، وغير متميزين عنهم .
لقد كان المتصوفة الكرام يقطعون مئات الأميال قادمين من وسط آسيا إلى الهند ، حتى إذا ما وصلوا إليها اتخذوا من أرضها وطناً ، ومن سكانها أهلاً ، فتكلموا لغتهم ، ولبسوا ملابسهم ، وعاشوا مثلهم ، ودانوا بعاداتهم وتقاليدهم ، وبعدها تحدثوا إليهم . كانوا يعرفون حقيقة أنهم إن لم يصيروا مثلهم ، فلن يصل إليهم كلامهم . وحين اندمجوا فيهم تماماً أخذوا يكتبون حكاياتهم الشعبية بلغتهم ، ويبثون في ثناياها رسالتهم إليهم ، واتسمت مؤلفاتهم هذه بقربها من الناس ، حتى حفظوها ، وأخذوا يقرأونها بشوق في المناسبات والمحافل ، ويسمعونها متمايلين في وجد .
لم يقم المتصوفة الكرام بالدعوة إلى الدين أبداً ، لم يناقشوا أحداً أبداً أو يجادلوه ، ولم يلقوا خطباً أو كلمات ، إنهم لم يتخذوا من الإسلام وظيفة ، إنما كانوا يحيون للإسلام فقط ، كان لديهم سلاحان هما الأخلاق وحسن السير والسلوك ، وكانت المساواة هي حدّ هذين السلاحين ، وهو حدّ أسنّ من حدّ السكين .
لم يسأل الشيخ " علي الهجويري " (4) أبداً من طلب منه صدقة إن كان هندوسياً أم مسلماً ، لأنه كان يعرف كيف يعطي وفقط ، والله الواحد المطلق القادر على العطاء هو الذي كان يحفظ عليه كرامته وماء وجهه في أن يعطي حتى ولو لم يكن معه شيء !!. وكانت النتيجة أن أصبح نصف سكان " لاهور " في عدة سنوات قليلة من المسلمين . إن المتعصبين يقولون إن الإسلام انتشر بالسيف . لقد صدقوا ، ولكنه لم يكن ذلك السيف الفولاذي ، وإنما سيف السلوك الإسلامي . اعلموا سادتي أنه ليس هناك أمضى من سيف المساواة .
الله ها :
وعلى العكس من ذلك فإن دعاتنا ووعاظنا الكرام لا يختلطون بالعامة ، فهم يحافظون على تميزهم الخاص بهم ، فتراهم مختلفين في قيامهم وجلوسهم وطعامهم وشرابهم وأسلوب حياتهم وطريقة كلامهم ، يجمّلون شفاههم حين يتحدثون ، ويخرجون حروف الكلام من الطبقات السفلى للحنجرة ، حتى يدخلوا على السامع مزيداً من الوقار لأنفسهم ، لدرجة أنهم ينطقون لفظ الجلالة " الله " بطريقة وتلفّظ خاص يبدو معه وكأن " الله " عندهم مختلفاً عن " اللـه " عندنا ، وأن " الله " عندهم قد لفّ هو الآخر عمامة ثقيلة على رأسه .
من يعرف ومن لا يعرف :
إن دعاتنا ووعاظنا الكرام عندما يخاطبون أحداً فإنهم يخاطبونه بنوع من التميز ، بحيث يفهم المخاطب أنه لا يتكلم مع رجل عادي ، ويبدو من طريقتهم أنهم " يعرفون " ، ومن يعتقد في نفسه أنه " يعرف " فإنه بالضرورة سوف يعتبر الآخر " جاهلاً " ، ومن الفطرة أنك إذا اعتبرت الآخر " جاهلاً " فسوف يتولد بداخلك إحساس بالتفوق ، وسوف تجلس على الكرسي ، وتجعل الآخرين يسمعونك وقوفاً .
أيها السادة ! اعلموا أنه لو كان المتحدث جالساً على الكرسي ، والسامع واقفاً ، فلن يكون هناك حديث ، إذ سوف يتكلم المتحدث ، ولكن كلامه لن يصل إلى السامع . صحيح أن أذنه سوف تسمع الكلام ، ولكن لن يكون لهذا الكلام أثر على قلبه . يقول الحكماء : لا يكفي الكلام فقط ، فما لم يصل هذا الكلام لن يثمر شيئاً .
سادتي : النـاس في أيامنا هذه يتكلمون ، يتكلمون كثيراً . البعض منهم يتكلم واقفاً على المنبر ، والبعض الآخر يتكلم والميكروفون يكاد يلاصق شفتيه ، والثالث يتكلم من فوق خشبة المسرح . البعض يتكلم متكئاً على المنصب ، والبعض يتكلم معتمداً على الزعامة ، والبعض يتكلم معتمداً على كبر سنه ، والبعض الآخر يتكلم معتمداً على الدين . الجميع يتكلمون ، كل يدقّ طبوله ، لكن أحداً منهم لم يسأل نفسه إن كان كلامه يصل إلى أحد أم لا !. الجميع يتكلمون كالأطفال ، لا يتوقفون عن الكلام .. أطفال كبار ... أطفال " عواجيز " .
نعم ، إن دعاتنا ووعاظنا الكرام لا يتكلمون مع العامة ، إنهم يخطبون فيهم تأكيداً ، ينصحونهم .. ينصحونهم نصيحة على منوال " احذر فأنا لم أفعل " (5) . وكأنهـم يأكلـون " كيزان العسل ، ويمنعون الآخرين من تناولها " (6) . إنهم يأمرون ، يزعقون .. لكنهم لا يتكلمون .
المساواة :
إن الذي يستطيع الكلام هو ذلك الشخص الذي يقول بالمساواة ، وفي مجتمعنا أيها السادة قليلون هم أولئك الذين لديهم الشجاعة على إعطاء الآخرين درجة المساواة ، فالأب لا يعطي ابنه درجة المساواة ، لا يستطيع أن يعطيه هذه الدرجة ، وحين يصير الابن شاباً ، ويضع قدمه على أعتاب عنفوان الشباب ، فإن سلوك الأب تجاهه يصير مزدوجاً .. يفخر بابنه أمام الناس ، وبينه وبين نفسه يراه " صغيراً " ، " عديم الخبرة " ، " أحمقاً " ، " مجرد نطفة مهينة خرجت من جسمه " . دعك من الأب ، فليس هناك " كبير " مستعـداً لأن يعطي الصغير أهمية ، فالكبار يحكمون الصغار منذ قرون .


هوامش
1 - يقصد مدينة إسلام آباد عاصمة باكستان .
2 - وكأن ممتاز مفتي يصف ما كان يحدث معنا عنما كنا أطفالاً ، بالرغم من تباعد الزمن والمسافات .
3 - البيت باللغة الأردية لشاعرة مشهورة هي " بروين شاكر : 1952م – 1994م " ، والبيت كالتالي :
نه كوئى بحث كى نوبت نه كوئى اذن سوال :: فقيه شهر كا جاه وحشم زياده
4 - من كبار رجال التصوف في شبه القارة الهندو باكستانية ، وله ضريح في مدينة لاهور عاصمة إقليم البنجاب الباكستاني يؤمه الناس من كل مكان . اسمه علي ، وكنيته أبو الحسن ، ولقبه داتا كنج بخش . ولد بحي هجوير بمدينة غزنه بأفغانستان عام 400هـ / 1009م ، وإلى هذا الحي ينسب ، وتوفي عن عمر يناهز الخامسة والستين عاماً ، ودفن حيث يوجد ضريحه في مدينة لاهور بباكستان ، ويقام له مولد سنوي في شهر صفر من كل عام . وللشيخ الهجويري مؤلفات عديدة منها : منهاج الدين – كتاب الفناء والبقاء – كتاب البيان لأهل العيان – بحر القلوب – رساله در شرح كلام حلاج ، ولكن أشهر مؤلفاته كتاب كشف المحجوب الذي كتبه رداً على استفسار حول أسرار ورموز التصوف من أبي سعيد الهجويري الذي هاجر مع الشيخ من غزنة إلى لاهور بأمر من شيخهما ، وقد دفن أبو سعيد هذا بعد وفاته في قبر بجوار قبر الشيخ . ويعد كتاب كشف المحجوب هذا أول كتاب في التصوف في شبه القارة الهندو باكستانية ، وله مكانة كبرى في قلوب المسلمين هناك ، ويحتوي هذا الكتاب على قضايا التصوف ، وكرامات الأولياء ، وأقوال ونصائح الحكماء ، وذكر للصفات الطيبة كالصبر والقناعة والإيثار والسخاء وغيرها .
5 - التعبير باللغة الفارسية وهو " من نه كردم شما حذر بكنيد " ، ومعناه كما أثبتناه بالترجمة .
6 - في الأصل تعبير بالأردية يقول " خود كر كهانا دوسرون كو منع كرنا " ، ومعناه كما أثبتناه بالترجمة .