المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شوال بطاطا - قصة واقعية - نزار ب. الزين



نزار ب. الزين
26/07/2007, 05:33 PM
شوال بطاطا
قصة واقعية
نزار ب الزين*
*****
في الرابعة عشر كان عمره .
وحيد أهله بعد أربع بنات .
في موسم المدرسة يدرس ، و في موسم الصيف يعمل .
كحال معظم الغلمان في قريته الصغيرة محدودة الدخل ، كان .
فعلى طول ضفتي النهر أنشأ أهل القرية مطاعم تقدم أفخر الطعام للهاربين من حر الصيف اللاهب من سكان العاصمة .
فمنذ أواخر الربيع و حتى أوائل الخريف تزدحم بروادها من ذوي الدخل المتوسط ، و تزدحم أكثر و أكثر أيام الجمعة ..
يتوافدون بمختلف وسائل النقل ، بعضهم في قطار النزهة ، بعضهم بحافلات الباص الكبيرة أو الصغيرة ، و بعضهم بسيارات الأجرة ، و الأيسر حالاً بسياراتهم الخاصة .
مهنة عبد الرحمن في الصيف ، ترتيب مواقف المتنزهين و غسيل سيارات من يرغب منهم .
كان عبد الرحمن يوفر بمكسبه الجيد لشراء اللوازم المدرسية و الملابس ، و يسلم والده ما يفيض .
شعلة من النشاط و الذكاء ، و شخصية قيادية ، إذ سرعانما تزعم رفاقه العاملين في نفس المجال ، فكان يوزع العمل بينه و بينهم بالعدل و القسطاط مقابل حصة بسيطة ...
*****
و في يوم ازدحمت فيه القرية و تكدس في مطاعمها المائات ، اشتد الضغط على عبد الرحمن و رفاقه ؛
في ذلك اليوم المشؤوم وقعت الحادثة .
فبينما كان عائدا من النهر بدلوين ملأهما من مائه ، إذا بسيارة أجرة تدهسه ، فارتمى على الأرض فاقد الوعي ..
استغل قائد السيارة تجمع الناس حول المصاب محاولين إسعافه ، فلاذ بالفرار ..
أصيب رفاقه باضطراب و ارتباك كبيرين ..
تمر شاحنة أبو محمود الصغيرة ذات الثلاث عجلات ..
يوقفونها
يلقون عبد الرحمن فيها ، و كأنهم يلقون ( شوال )* بطاطا
يصحو ..
يتأوه ..
(كسر في عظمة فخذه بدأ ينهش العضلة المجاورة )
يصرخ ..
صاح صائح :
- خذه يا أبو محمود إلى المشفى ..
= شاحنتي بطيئة يا جماعة و ممنوع عليَّ أن أدخل بها إلى المدينة.
صاح آخر :
- (دبر راسك) يا أبو محمود ، إذا سألك أحد قل له أن معك حالة إسعاف!
اقترح ثالث :
- فليرافقه أحد
و بلمح البصر صعد (أبو فياض) إلى جانب السائق ، و أبو علي إلى جانب المصاب .
تحركت الشاحنة الصغيرة ببطء ،
صعدت إلى الطريق العام بصعوبة ..
عبد الرحمن يصيح متألما مع كل هزة
( ضلع من قفصه الصدري بدأ ينبثق خارج الجلد )
يهدئه أبو علي ..
ثم يصرخ أبو علي قارعا على نافذة السائق الخلفية :
إنه ينزف بغزارة ، أسرع أكثر يا أبو محمود ..
و أبو محمود يتجاهله ، فهذه أقصى ما يمكنه من سرعة .
*****
في قرية مجاورة لمح أبو محمود سيارة أجرة واقفة .
توقف بدوره ، هُرع نحوها ، خاطب السائق ، فأقنعه و رفيقاه بضرورة إسعاف المصاب ، فرضي على مضض .
حملوه و كأنهم يحملون ( شوال )* بطاطا ثم أدخلوه إلى باطن السيارة بصعوبة.
المصاب يولول ، و يزداد صياحه ، و يتحشرج صوته ، يصفر وجهه ...
( ضلع أخر من قفصه الصدري بدأ يحفر رئته اليمنى )
ثم أغمي عليه من جديد ..
و انطلقت سيارة الأجرة بالجريح و صحبه به بأقصى سرعة ،
و قد وضع السائق يده على البوق ، فأخذ يعوي محاكيا سيارة الإسعاف
*****
عند مفترق الطريق المؤدي إلى المدينة ، أوقفته دورية شرطة المرور :
- إعطِنا أوراقك ، تجاوزت السرعة المقررة ، و أزعجت المارة بصوت ( زمورك )
- معي حالة إسعاف يا أخوان .
= هات أوراقك ( بلا كتر حكي ).
- المصاب في حالة خطرة يا أخوان .
= هات أوراقك في الحال و إلا ....
يتدخل أبو فياض :
- يا إخوان المصاب بحاجة لإسعاف فوري ، إنه ينزف ، بدأ الدم يخرج من فمه.
يسأله شرطي :
= لماذا لم تطلبوا سيارة إسعاف ؟
هز أبو فياض رأسه و قد ارتسمت على شفتيه إبتسامة ساخرة :
- في الأسبوع الماضي طلبنا سيارة الإسعاف لأم رضا جارتنا بعد أن وقعت من أعلى درجات السلم فتكسرت عظامها ؛ وصلت سيارة الاسعاف بعد ساعة من وفاتها !!!
يتقدم قائد الدورية من السائق سائلا :
= لعلك أنت من دهسه ؟ أنت موقوف حتى استكمال التحقيق !
- انا لم أدهس أحدا يا بك ، أنا إنما اقوم بعمل خير لإنقاذ هذا المسكين .
يتدخل أبو علي :
- الدماء غطت كل ملابسه ، وجهه أصبح أبيضا ، إنه يرتعش ، إنه ينازع ، الرحمة به يا أخوان ...
*****
يتقدم السائق من قائد الدورية ، يهمس بأذنه ، يضع شيئا ما في جيبه ،
يبتسم الشرطي ، ثم يسمح له بالانطلاق
*****
- ها هو ذا المشفى ، يزفر أبو فياض بارتياح ،
تتوقف السيارة عند بابه الرئيسي ، ثم يحملونه و كأنهم ي يحملون ( شوال ) بطاطا !
يصحو عبد الرحمن من غيبوبته ، يصرخ متألما ،( ضلع ثالث من قفصه الصدري بدأ يذبح قلبه ) ، و يزداد صياحه مع كل حركة .
يدخلون به إلى فسحة الاستقبال ، فتصيح مسؤولة الاستقبال :
- ما ذا تفعلون ؟؟ و من أنتم ؟ و من هذا الذي تحملون ؟؟ و من أرسلكم إلينا ؟
يجيبها السائق و هو يلهث :
= دهسته سيارة ، إنه ينزف و لا وقت للكلام يا أختي .. أسعفوه ، الله يرحم أمواتكم .
تجيبه باستكبار :
- هذا مشفى خاص يا أخ
= و هذه حالة إسعاف خاصة يا أختي ، يجيبها أبو علي منفعلا ..
تصيح في وجهه :
- ( بلا كتر حكي ) يا سيد ، ليس لدينا هنا قسم إسعاف ، نحن لا نستقبل حالات الإسعاف .
يشتد الجدال ، تعلو الأصوات ، يخرج لهم مدير المشفى ، يهرعون إليه مستنجدين ، فيجيبهم و قد قطب جبينه و لوى فمه :
قالت لكم الست ، ليس لدينا قسم إسعاف ، خذوه إلى المشفى الحكومي !
يصيح في وجهه أبو فياض :
- الشاب يكاد يموت بين أيدينا، و تقول خذوه إلى المشفى الحكومي ؟
أنت إنسان أنت ؟ إن مات عبد الرحمن الخضرا ، ستحمل أنت و موظفتك ( الكركمة ) هذه ، وزره إلى يوم الدين !
و يعقب أبو فياض :
- هذا مشفى أم إسطبل ؟
*****
يحملونه من جديد و كأنهم يحملون (شوال) بطاطا .
يفيق من إغمائه للمرة العاشرة ، يستغيث ، يصرخ متألما مع كل حركة ، و مع كل هزة ، فعظامه المكسورة تنهش بلحمه و أعصابه .
يصلون إلى المشفى الحكومي ،
يفحصه الطبيب المناوب ،
يلتفت نحوهم آسفا :
- وصلتم متأخرين يا أخوان !--------------------------------------------------
* نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
عضو جمعية إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
عضو الجمعية الدولية للمترجمين و اللغويين العرب
البريد : nizar_zain@yahoo.com
الموقع : www.FreeArabi.com

محمد فؤاد منصور
27/07/2007, 12:20 AM
أخى الأستاذ نزار الزين
كتبت فأبدعت ووصفت فأتقنت وشبهت فوقع الحافر على الحافر، فى بلادنا المبتلاة ببعض أبنائها هذا هو قدر الأنسان عندنا حتى أصبحت المعادلة هكذا.
شوال بطاطا = الإنسان العربى
والمعادلة صحيحة...تقبل تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl:

مصطفى ابووافيه
27/07/2007, 07:41 PM
استاذى /نزار
ابدعت فى وصف حالت التبلد واللامبالاه التى اصابت الكثيرين فى مجتمعنا
لكن لا أتفق مع دكتور / محمد فى أن شوال البطاطا = إنسان عربى ففى هذه المعادله ظلم بيّن لشوال البطاطا
دمت لنا مبدعا ًولك تحياتى
مصطفى ابووافيه

عبد العزيز غوردو
28/07/2007, 03:40 PM
شوال بطاطا... هكذا تحولنا في زمن أذلنا حكامه...

أبدعت أستاذي نزار في رصد الحالة... البيروقراطية المكبلة... والاستهتار بالمواطن...

ولغة النص واقعية تماما... وجميلة

تحول قلمك إلى مشرط حقيقي في هذه القصة...

فبورك من قلم... وبورك صاحبه...

مودتي

نزار ب. الزين
29/07/2007, 04:54 PM
أخي العزيز الدكتور محمد فؤاد
أسعدتني مصافحتك لنصي و ثناؤك عليه ، و أعجبتني معادلتك التي تنطبق على حالنا المزري .
شكرا لمرورك
و تقبل خالص المودة
نزار

نزار ب. الزين
29/07/2007, 04:57 PM
أخي الكريم الأستاذ مصطفى أبو وافية
شكرا لتعليقك الطريف و دفاعك عن شوال البطاطا
و ألف شكر لإطرائك الحافز
مودتي و تقديري
نزار

نزار ب. الزين
29/07/2007, 05:04 PM
أخي الكريم الدكتور عبد العزيز غوردو
كلماتك الطيِّبة غمرتني بالفخر و هي وسام يزين حروفي و صدري أعتز به
نعم يا أخي ، لقد كبلنا الجهل و البيروقراطية و الاستهتار بالإنسان ، فمتى تزول هذه الكوابيس ؟.
شكرا لمرورك و دمت بخير
نزار

ابراهيم عبد المعطى داود
01/08/2007, 12:55 AM
المبدع الأصيل / نزار ب الزين
( وصلتم متأخرين يا إخوان )
من فجيعة ألإ همال , وفضيحة الرشوة , وألإستهتار بالإ نسان
فتكسًرت العظام , وبضً الدم , وذاد ألألم
واغوثاه ---لآ مغيث
مغيثك مالك , سطوتك , جاهك , نفوذك , قوًتك
أما الفقير المعدوم , المسكين ,
فقد تحوًل إلى شوال بطاطا
أبدعت أستاذنا الكريم فى الوصف واللفظ والتصوير فكما هو قطعة أدبية جميلة
هو أيضًا صورة لمأساه أليمة
مأساة ألإنسان الفقير فى الوطن العربى
فشكرا لإبداعك ,
ابراهيم عبد المعطى ابراهيم

نزار ب. الزين
02/08/2007, 04:39 PM
أخي الحبيب الأستاذ ابراهيم
شكرا لزيارتك و لثنائك العاطر
صدقت يا أخي هي مأساة الفقر في بلادنا يدعمها الجهل و الفساد الإداري
عميق مودتي و تقديري
نزار