المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الخدمة الأخيرة ,قصة بولونية مترجمة



فهد العبود
02/08/2007, 01:24 PM
الخدمة الأخيرة


الشعور الوحيد الذي يكنه سيمين كورتشاشكو للأطباء هو النفور التام, ومع ذلك فإن هذا يشكل تطورا من نوع ما, لأنه عندما كان أصغر في السن لم يكن يشعر تجاههم إلا بالبغضاء التي تحولت على اثر حادثة صغيرة إلى مجرد نفور. كانت جذور تلك البغضاء تضرب في القدم إلى فترة الحرب العالمية الأولى, عندما وصل إلى مشفى ألماني ميداني بعد إصابته في إحدى المعارك. وقد خرج من ذلك المشفى حيا ليس بفضل خدمات أولئك البياطرة بقدر ما هو بفضل المناعة الفطرية لجسده الذي تحمل, إضافة إلى الإصابة, تلوث الجرح بالجراثيم وعدوى التيفوس التي حصدت حوالي نصف الطاقم, دون الإتيان على ذكر المرضى.
عندما خرج سيمين من المشفى, أقسم بأنه لن يتعاطى ثانية مع هؤلاء الجزارين, وكان بالتأكيد سيحافظ على كلمته لولا وقوع الحرب العالمية التالية, عندما حُمل من حقل بالقرب من فويسوافيتسه حيث سقط مصابا في رأسه بشظية من طائرة ألمانية أسقطها بنفسه. كان فاقدا للوعي ولهذا السبب فقط لم يعترض.
عندما عاد إلى وعيه في مشفى سوفياتي ميداني, اتضح أنه فقد خاتم الزواج, وعلبة السجائر, وثلاثة أسنان ذهبية كانت في جيبه - كانت الأسنان من الغنائم, فهو أيضا لم يكن يتعاطى مع أطباء الأسنان- كما فقد أيضا أشياء أخرى صغيرة وثمينة, وفوق ذلك كله فإن أحدهم – وهو طبعا يتهم الطاقم – سرق سرواله وحذاءه ونطاقه الجلدي الذي كان يخبئ فيه قليلا من الدولارات, كما قام,بين قوسين,الرفاق من الخدمة الطبية /على سكرة/ بعملية فتح لجمجمته كي يتحققوا من أن الإصابة لم تؤثّر على فهمه, على أنهم في النهاية لم يزيلوا الشظية التي استقرت تحت الجلد. على كل حال, تمكن في هذه المرة أيضا من الخروج حيا, فاعتبر ذلك ضربا من التوفيق في الحياة. حمل, وهو يغادر المشفى, زجاجة سيانيد صغيرة, وخبأها وهو ينوي الانتحار ببطولية عند أي حادث آخر يدفعه للحصول على مساعدة طبية.
بعد أن تحدثت عن الكراهية , سأتحول الآن للحديث عن الأحداث التي بدلتها إلى مجرد نفور. ففي أحد الأيام, بعد حوالي ثلاثين عاما من آخر احتكاك له بالجهاز الطبي, وبينما كان سيمين يفرغ مع حفيده التبن في الهري الموجود في الحظيرة, المبنية – كما هو معمول به في تلك النواحي – مما قلّ ودلّ من المواد. انكسرت الدفة التي كانت تتكئ عليها نهاية السلم وسقط على الأرض. كان حريصا في هذه المرة على عدم تكرار التجارب السابقة, لذلك عاد إلى وعيه مباشرة تقريبا وبدون أية مساعدة. كان حفيده ميخايو قد أصبح واقفا فوق رأسه
"مسألة عويصة, كسر مفتوح. استلق يا جدي, سأعود حالا ".
نظر سيمين إلى رجله, ثم أخرج من جيبه طبنجة
"لن تذهب إلى أي مكان"
"سأذهب إلى البيت لإحضار الضمادات"
"تكذب, تريد إحضار الطبيب إلى هنا, ولكن على جثتي, أو بالأحرى على جثتك أنت, حاول فقط أن تتحرك..."
انتابه في تلك اللحظة ألم فجائي أفقده الوعي, وعندما فتح عينيه ثانية, كان حفيده قد اختفى واختفت معه أيضا الطبنجة والمنجل والشاعوب – لم يستطع أحد القول بأن ميخايو لم يكن متنبئا – . جأر سيمين غضبا من هكذا قلة طاعة للكبار, ثم استغرق في التفكير, عادة التمعن في التفكير هذه متجذّرة فيه منذ ما يقارب الثمانين عاما, حين كان يتعلم البيولوجيا في سانت بطرس بورغ. لمع الحل في ذهنه بعد خمس دقائق من العمل الفكري المركّز. لماذا ذهب حفيده إلى الطبيب؟ طبعا لكي يجبّر هذا الأخير رجله المكسورة, ثم يلفها بالجبس.
ابتسم العجوز ابتسامة خفيفة, لو أنه فقط يستطيع تجليسها بنفسه, فلن تكون هنالك أية مشكلة,إذ إن لديه كيسا كاملا من الإسمنت, الذي يفترض فيه أن يكون جيدا مثل الجبس تماما. إنها مسألة بسيطة,لدرجة أنه يخجل من أن الأمر استغرقه كل هذا الوقت من التفكير. يجب البدء بالعمل إذن.
اتضح له منذ البداية, للأسف أن شد رجل مكسورة هو أصعب مما اعتقد. فمطّ الساق, في مجال حركة ضيق مثل هذا لم يأت بأية نتيجة. حك رأسه, ثم وقع على الفكرة الألمعية التالية. سحب لفة الحبل المعلقة على الجدار, صعد السلم الثاني إلى المكان الذي سقط منه قبل عشر دقائق, جلس على عارضة بارزة في الجدار, ربط كاحله بالحبل وربط نهاية الحبل الأخرى بالعارضة التي يجلس عليها. لم يتبق الآن إلا أن يرسم إشارة الصليب ويقفز فمن المفروض أن يشد ثقل الجسد الساق. أغمي عليه ثانية, وعندما عاد إلى وعيه كان معلقا رأسا على عقب على مسافة مترين من الأرض ومترين من العارضة, آلمته رجله لدرجة أنه كان على وشك الصراخ, وإلى ذلك فإن أي تحسن واضح لم يحدث, لا شيء سوى أن العظم خرج قليلا من الجلد وسال من ذلك المكان خيط رفيع من الدم,لقد تمكن من رؤية ذلك كله لأن حجلا السروال كانا قد تمزقا تماما.
آخ, ليس جيدا,قال لنفسه.
كان أول شيء قام به بعد أن انتبه إلى مكان وجوده حين عاد إلى وعيه في المستشفى, هو إخراج زجاجة السيانيد الصغيرة من تحت ياقة قميصه المعلق على كرسي بجانب السرير. كسر عنقها وأفرغ محتواها على راحة يده. كان لون السيانيد أبيضا ورائحته مقززة. لعق
العجوز البودرة بدأب ثم اتخذ وضعية شخص ميت(استلقى على ظهره وصالب يديه على صدره). مضت الدقائق إلا أن شيئا لم يحدث. كان طعم فمه لا يحتمل ولكنه مع ذلك لا يزال حيا.
" اللعنة, هذا على ما أعتقد لم يكن سيانيد ".
حضر بعد ذلك طبيب كان يبدو عليه التهذيب. وتم إخراج سيمين من المشفى إلى البيت بعد ثلاثة أيام.
جُبر الكسر بعد خمسة أشهر, وبشكل جيد, ومنذ ذلك الحين راح سيمين ينحني لأطباء المنطقة عندما يلتقيهم في الشارع, بعد أن كان, عادة, يبصق لمجرد رؤيتهم.
عندما أحس في أحد فصول الصيف بألم في محيط الطحال, ذهب, مترددا, إلى اللقاء الرابع مع تلك المافيا البيضاء.
كانت العيادة بيضاء وكل شيء في مشفى خيوم كان أبيضا. جلس سيمين على كرسي حديدي مريح, وحدق ببصره الضعيف في الصورة الشعاعية, فرأى وهو ينظر تحت الضوء صفا من البقع المختلفة. رفع بصره إلى الطبيب:
" هل هذا يعني أنه لا يمكن إرسال هذا الشيء إلى الشيطان؟"
"للأسف. إنها معجزة حقيقية أنك لا تزال حيا يا سيدي. لم يتبق لك في الحياة أكثر من شهرين أو ثلاثة أشهر, وطوال هذه الفترة ستتناول الأدوية المسكنة.
غضب سيمين جدا,لكن غضبه كان باردا تماما, لا يمكن قراءته في وجهه.
" هل هذا يعني أنني تمكنت من البقاء مائة وست سنوات, من ضمنها ثلاث حروب, كي يقتلني الآن /خراء/ صغير يقبع في داخلي "
أسبل الطبيب, بلا حيلة, يديه:
" لم يعد بالإمكان فعل أي شيء, لا أحد يمكنه عمل شيء الآن "
أبرز له سيمين إصبعه الوسطى وقال بهدوء:
" تم شفاء أمراض أصعب من هذا. لا زال لدي رغبة في رؤية القرن الحادي والعشرين "
رمى الصورة الشعاعية بتقزز على الطاولة, ثم خرج من العيادة.
بعد ساعتين كان قد أصبح في بيته, في فويسوافيتسه. بما أن الطب الرسمي لم يستطع المساعدة فلا زالت هناك الطرق الشعبية. أسرج فرسه كارولينا
" فلنذهب إلى دوبينكا يا كارولينا "
نظرت الفرس إليه بتفاجئ. كانت نظرتها تقول: إنها مسافة تزيد عن العشرين كيلومترا. هل أنت متأكد من أن الحافلة لن تكون أسرع.
" هيا أسرعي, لا تفكري بل أمسكي الطريق"
وصلا حوالي الساعة الثامنة مساء. تصلب شعر سيمين عندما رأى القرية. صحيح أنه لم يكن في تلك النواحي منذ عشرين عاما, ولكن التغييرات مع ذلك صدمته.
" اللعنة, ما الذي حصل لهذه القرية"
من المفترض أن تصادفهم غابة في الطريق التي سلكاها فوق المروج على ضفة نهر بوغ باتجاه أوهافكا, ولكنهم على ما يبدو قطعوها. وحتى الرابية,التي كانت موجودة خلف الغابة, اختفت أيضا. وكوخ ماتشوخ الذي كان, يوما ما يقع وسط غابة , أصبح الآن في حقل فارغ.
اقترب بهدوء من بقعة أرض مناسبة, ثم قفز إليها وقرع الباب.
برز من الداخل شخص يقارب الثلاثين, بعينين محمرتين, وشعر أشعث.
" نعم, ما الأمر؟"
" هل هذا بيت فرانكو "
" قبرنا جدي منذ حوالي العشرين عاما "
" مات؟ لقد كان أصغر مني سنا "
"أجل مات, ولكن ربما أستطيع أنا المساعدة. يبدو أنك تشكو من شيء ما. أنا أوميليان "
" أها, اسمي سيمين كورتشاشكو "
"تفضل إلى الداخل"
كان الكوخ, المكون من مكان واحد, مؤثثا بشكل نموذجي لعمل الأطباء الشعبيين. تدلت تحت السقف حزم أعشاب, وعلى الموقد راحت تجيش عدة مراجل, وعلى الرفوف اصطفت مرطبانات تحتوي على ضفادع مخللة وبراعم قاسية وأشياء من هذا القبيل. وعلى الجدار عُلقت,ضمن إطارات, أحكام قضائية بحق أربعة أو خمسة أجيال بسبب ممارسة العمل الطبي بالخفاء, فبدت وكأنها أوراق اعتماد رسمية.
" تفضل واستلق" أشار الطبيب إلى /الكاريتا/
اضطجع سيمين وراح أوميليان يمارس فوق جسده حركات خاصة.
آه, ليس جيدا"
" أتستطيع شفائي؟ سأدفع ذهبا, لقد وضع الأطباء عليّ إشارة الضرب "
" هل هذا يعني سرطان" قال أوميليان " أمر صعب "
" ألا يمكن علاجه؟"
" للأسف "
" اعتقدت أن الأطباء الشعبيين في دوبينكا يشفون كل الأمراض "
" ربما كان هذا في السابق, أما اليوم فالأمراض أصبحت أعسر على الشفاء. ثم عن أي أطباء شعبيين تتحدث, أنا آخرهم, ومع ذلك فإنني أتبع دورة للعلاج بالطاقة, إنه أكثر عصرية ولا يمكن القعود عنه "
نهض سيمين. أحس بالقرف من الطب كله, سواء ذلك الرسمي أو ذلك الذي يمثله هذا الذي شخص مرضه بدون صور شعاعية.
" وما الذي أستطيع فعله؟"
" سمعت أن شرب زيت البرافين يساعد "
" هذا جيد, فمن محاسن الصدف أن عندي زجاجة كاملة في البيت "
رمى روبلا فضيا على الطاولة, من قبيل الواجب, واعتلا الحصان وغادر إلى البيت الذي وصله بالكاد في منتصف الليل.
كانت الأيام التالية شبيهة ببعضها البعض شرب فيها سيمين الكحول المقطر بالتناوب مع البرافين, ومن الطبيعي أن النتائج التي حصل عليها من هذه الطريقة لم تحمل أي شيء جيد, فقد عمل البرافين- توافقا مع طبيعته – على تنظيف جوفه لدرجة أن أمعاءه كادت تتمزق.
حضر في اليوم الثامن أوميليان
" أوه؟! " بهذه الطريقة عبر سيمين عن استغرابه لرؤيته.
" جئت لأنني تذكرت شيئا "
كان واضحا أن الطبيب الشعبي أصبح على أفضل طريق ليصبح معالجا بالطاقة, فقد مشط شعره قليلا وارتدى جاكيت وحمل تحت إبطه حقيبة أوراق جلدية جديدة.
دعاه سيمين إلى الداخل.
كيف تشعر؟ سأل الضيف وهو يرفع زجاجة البرافين عن الطاولة. نظر إلى الورقة الملصقة عليها, ولوى رأسه تقززا.
" هذا البرافين مثل/ قفاي /"
" شربت منه كأسين فكدت ألفظ روحي "
" هذا ليس للشرب, يجب أن تشتري من الصيدلية برافينا مقطرا, خاصا للعلاج. على كل حال ربما لدي شيء أفضل "
أخرج من جيبه الداخلية زجاجة مليئة بلتر من سائل كثيف.
" لقد تبقى بعد جدي. صحيح أن عمره تجاوز الثلاثين عاما, ولكنه كان محفوظا بمطربان محكم الإغلاق, لذلك ربما لم يفقد مفعوله بعد "
" يمكنني أن أجرب. ولكن ما هو بالضبط؟"
إنه بلسم /غاليٌّ/*, علاج لكل الأمراض, لكن المرء بعد استعماله يفقد وعيه لبضع ساعات, وينتابه ألم في رأسه."
ترك الطبيب الشعبي الزجاجة على الطاولة وغادر دون أن يجلس.
فتح سيمين غطاء الزجاجة وشم السائل. كان هذا الشيء في الداخل كثيفا كاللبن الرائب وله رائحة صباح دافئ فوق مستنقعات, وعلى الورقة الملصقة على الزجاجة كُتب: إكسير مستنقعي. نصف ملعقة في كل مرة.
" من المفروض أن يكون بلسما /غاليّاً/ ولكن حسنا سنرى, لا شيء الآن يمكن أن يضرني أكثر "
حك سيمين رأسه, ثم تبادرت إلى ذهنه فكرة أخرى.
القطط... إذا وُضعت قطة على الشخص المريض فإنه يتعافى, وبالمقابل فإن القطة..... تحسن مزاجه, نهض وغادر إلى الصيدلية وهو يصفر فالس/ في خواء منشوريا / وهناك اشترى عشر زجاجات من الناردين.
أفرغ الزجاجات على سريره, وفتح النافذة على مصراعيها, رسم إشارة الصليب, ثم اضطجع بعد أن شرب نصف كأس من ذلك المستحضر الذي قطع أوصاله مباشرة, وأحس, وهو يسبح في الظلمة بأولى القطط, التي استغوتها الرائحة, تستلقي إلى جانبه.
عاد إلى وعيه بعد يومين, كان جائعا, وقطيع القطط لا يزال يغطي سريره, والهواء مفعم بالرائحة المركزة لتلك الحيوانات التي كانت تتمرغ فوقه وفوق الشراشف. شعر بتحسن واضح, لكن جلده كان مزرقا بشكل غريب ومغطى بطبقة دبقة. أكل كيفما اتفق وكرر العلاج. استيقظ بعد مرور يومين. كان خائر القوى, إلا أن شعره الذي لم يكن يملك منه الكثير, نمى بشكل أكثف وأصبح أقل شيبا, ولكن, بالمقابل, سقط من فمه سنان, غير أنه لم يقلق لهذا الأمر, لأن سنين جديدين كانا ينموان في مكانيهما.
تعكز إلى الحظيرة. كانت كارولينا خلال تلك الأيام الأربعة قد أكلت قِدرا ونصف من التبن, ونظفت دلوا كاملا من العلف, وشربت من الماء كمية لم يستطع تقديرها, لأن المشرب كان يعمل آليا. ابتسم لها, لكن نوبة من الألم المفاجئ قطعت تلك الابتسامة, فتلوى ثم سقط على الأرض. عاد إلى وعيه بعد أن راحت الفرس تلعق وجهه. نهض, أمعن في التفكير لحظة. مائة وست سنوات, لم يصل إلى هذا العمر العجائزي أحد تقريبا. نظر إلى فرسه المنهكة, ثم اتخذ قراره.
لم يعد يوجد مكان للعب هاهنا- همس لنفسه- ثم قفل عائدا إلى البيت, حيث كتب رسالة, ثم طوى نفسه, وانحشر بين القطط وبعض القرائن التي تشير إلى أنشطتها الفيزيولوجية, وبحركة تصميم قرّب الزجاجة من شفتيه, وأفرغ في جوفه ما يقارب اللتر دفعة واحدة فدخل في لاوضوح تام.
زاره في اليوم التالي ياكوب فندروفيتش, طارد الأرواح الشريرة الهاوي. دخل إلى البيت, بعد أن قرع الباب عدة مرات دون أن يجيبه أحد. رأى كومة القطط وهي تموء على سرير صديقه فأسرع ورمى بأكثرها من النافذة.انحنى إلى السرير. تفحص صديقه فوجده ميتا, لكنه كان يبدو غريبا, فجلد وجهه مشدود, حيث اختفى عنه جزء من التجاعيد, واكتسب لونا ورديا خفيفا كالذي يظهر على وجه مدمن الكحول, إلا أنه لم يكن يتنفس, ولم يكن نبضه محسوسا, وجسده كان باردا تماما.
أخذ الورقة عن الطاولة الموجودة بجانب السرير
" عزيزي ياكوب
قدني أو احملني. شربتُ جرعة من قذارة, قادرة على قتل حصان. إذا مت فكل نقودي المدفونة- تعلم أين- تصبح لك, بشرط أن تدفن فرسي كارولينا معي في قبر واحد. ابق برعاية الله.
سيمين
ملاحظة: كحولك المقطَّر قذارة مرعبة "
حك طارد الأرواح الشريرة رأسه, ثم ذهب لإحضار الشرطة والطبيب, بعد أن خبأ الورقة, فما الداعي لأن يعرف الغرباء أن بعض الزووتيات* تخصه.
أكد الطبيب الوفاة, لكن أمرا ما تبادر إلى ذهن ياكوب, في تلك اللحظة بالتحديد:
الجسد ليس متيبسا كما يحدث عادة بعد الموت- قال-
إنه أمر عادي- هدأ الطبيب من روعه- لا بد أن الوفاة حدثت منذ وقت قريب, فلم يتيبس الجسد بعد.
حك ياكوب رأسه, لكنه لم يقل شيئا, بل سمر بصره على الزجاجة, التي تحوي آثار السائل
وما هذا؟- قال بفضول-
تتبع الطبيب نظراته
" كان سيمين مريضا بالسرطان. كان يتألم وقد تبقى له في الحياة بضعة أسابيع, وربما حاول أن يعالج نفسه بهذه القذارة. "





استلقى الميت في التابوت. توافدت العائلة كلها: ستة أولاد, ثمانية أحفاد, حوالي العشرين من أولاد الأحفاد, وبضعة من أحفاد الأحفاد أيضا. كانوا يصطفون صامتين, مكفهرين. ركع ياكوب وراح يصلي, وحضّر خادم الكنيسة كل شيء للجناز. تناهى إلى مسامع ياكوب صوت خافت, قادم من التابوت
لابد أنني متوتر الأعصاب- قال في نفسه-
لم يكن غطاء التابوت قد ثُبت بعد, عندما دخل الطبيب مترنحا, بعد أن كان قد شرب حتى الثمالة, لمدة ثلاثة أيام. قطّب أولاد سيمين جباههم دفعة واحدة وكأنهم تلقوا أمرا عسكريا بذلك.
ما كان جدي ليحبذ حضور أي طبيب إلى جنازته- قال أحد الأحفاد-
حوزق الطبيب بشدة:
" لقد أخطأوا في التشخيص, كانت كتلة دهنية وليس سرطانا. لقد كان سليما."
ماذا؟- جأر ياكوب- أيها الـ...
سوف..... اندفع أحد الأحفاد غاضبا.
هدوء!- صاح خادم الكنيسة- إنه بيت الرب وليس حانة. لكن ياكوب لم يعد يسمعه, بل أخذ يكسّر الكرسي إلى عصي, بينما راح الطبيب يجاهد تحت ضغط الأيدي القوية. ضاع صوت الصرير المقلق في الخلف, وسط الضجة العارمة, حتى أن سقوط غطاء التابوت حدث دون أن ينتبه إليه أحد. ولم يتوقف الصراخ إلا عندما انضم المرحوم إلى المعركة وجأر بكامل صوته
" آخ سألجم /بوزك/ يا........"
هذا غير ممكن يا جدي, /على حساب/ أنك ميت- قال أحد أولاد الأحفاد-
" أنت أيضا ستبدأ......, سأضربك كما لم تُضرب من قبل "
دفعت نعومة ياكوب الفطرية به إلى الابتعاد عن مكان الحادثة. ووسط الأشجار, بالقرب من الكنيسة, التقى بالقس الذي كان يسرع باتجاهها
ما الذي يحدث هناك؟- سأل بقلق-
" اتضح أن سيمين كان في غيبوبة, وقد عاد منها وهو يضرب الطبيب الآن. ربما من الأفضل ألا تدخل إلى هناك."
نظر القس إلى ياكوب بنفور
" هذا ليس جيدا, سأضطر إلى الشطب في سجلات الكنيسة "
هز ياكوب يديه: " القدر لا يعفي أحدا من المفاجآت ."
انبعثت من داخل المعبد أصوات العائلة المتصارعة
" رأيتم جدكم في النعش, وفورا....., سأسأل للمرة الأخيرة, من منكم يا أسمالا بالية سرق ساعتي الفضية؟!!




قصة الكاتب البولوني: أندجي بيليبيوك
ترجمها عن البولونية: فهد حسين العبود
القصة منشورة في مجلة الينابيع السورية




*غاليّ: نسبة إلى بلاد الغال أو فرنسة
* الزووتي: العملة المتداولة في بولونيا

ابراهيم درغوثي
28/08/2007, 03:37 PM
مرة أخرى أكرر لك شكرا وامتناني على هذا المجهود الكبير
لا تحرمنا من هذا الابداع الراقي يا فهد

فهد العبود
29/08/2007, 10:31 AM
ومرة أخرى أكرر محبتي وتقديري لك أيها العزيز المبدع ابراهيم