المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القيامة ... الآن / 2 أ رواية ابراهيم درغوثي / تونس



ابراهيم درغوثي
07/08/2007, 01:00 AM
القيامة الآن / رواية
ابراهيم درغوثي / تونس

الجزء 2 أ

البعث والنشور

النفخ في الصور

عن أبي هريرة رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق " الصور " فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه ، شاخص ببصره إلى السماء ينتظر متى يؤمر .
قال ، قلت يا رسول الله مالصور ؟
فقال القرن .
قال :
قلت كيف هو ؟
فقال : عظيم .
والذي بعثني بالحق ، إن عظم دائرة فيه كعرض السماء والأرض . فينفخ فيه ثلاث نفخات :
الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين .

إنهم يسرقون القمر

وعن " آدم " بن " آدم " الآدمي قال :
سمعت دقا عنيفا على الباب ، وكان الوقت هزيع الليل الأخير . فقمت فزعا ، وفزع الأطفال النائمين جنب أمهم . وأصاب الفزع كلبنا الرابض الرابض قريبا من باب الدار ، فصار ينبح كالمجنون ، ثم عوى وخمدت حركته .
وانطفأ قمر آخر الليل ، فعم الظلام الكرة الأرضية .
قلت من وراء الباب :
- من الطارق في هذا الليل البهيم ؟
فسمعت همهمة وعزيفا كعزيف الجن :
- افتح يا " آدم " بابك .
قلت وقد رابني ما رابني من هذه الأصوات :
- ولماذا أفتح لكم الأبواب وقد سرقتم قمر السماء ؟
فقالوا في صوت واحد موحد كالرعد القاصف :
- افتح وإلا أوقعنا على رأسك السماء .
قلت ، وقد وضعت متاريس وراء الباب :
- جربوا .
ردت أصوات الجن "
- سترى .
وانشق السماء ...
وانخلع الباب ... فداسوني بأحذيتهم ، وهم يمرون فوق جسدي .
وملأوا بهو الدار ...


نفخة الفزع

قال أبو هريرة " :
فيأمر الله " إسرافيل " بالنفخة الأولى .
فييقول : انفخ نفخة الفزع ، فينفخ نفخة الفزع . فيهرع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله . فيأمره ، فيمدها ويطيلها ولا يفتر ...
فترتج الأرض بأهلها رجا ، فتكون كالسفينة في البحر تضربها الرياح .

ليلة الفزع

وارتجت جدران البيت . وتساقطت الكتب من فوق جدران المكتبة .
لست أدري لماذا يمقت هؤلاء الرجال الكتب ؟
رأيتهم يدققون في العناوين ، ثم يكومون الكتب كدسا كبيرا في ساحة البيت ، وينهالون عليها رفسا بأحذيتهم الثقيلة .
سال العرق على جبيني وأنا أستمع إلى الاحتجاجات تصلني من وسط النيران .
اختلطت أصوات كارل ماركس وأبي حيان التوحيدي وابن رشد وحسين مروة ونجيب محفوظ وتولستوي ويوسف القعيد ولينين ومحمود المسعدي ودوستويفسكي والطيب التيزيني وأبي الطيب المتنبي .
ونهنهت نوال السعداوي ، واحتجت ، وقالت إنها ستشتكي هؤلاء الهمج للجامعة العالمية للنساء الديموقراطيات .
والتهب كدس الكتب .
وفاحت روائح شواء اللحم الآدمي .
شممت روائح اللحم الطازج ، ورأيت حصان عنترة العبسي يتخبط وسط اللهب أمام عبلة التي كانت تمسح
دموعها بكف يدها المخضبة بالحناء .
ورأيت لينين كما كان وقت ثورة " السبعطاش " يرتفع فوق الحرائق ، ويخطب في الساحة الحمراء . سمعته يحرض الروس ومن والاهم من أمم الاتحاد السوفياتي السابق ضد يلتسين ومافيات مترو موسكو .
وسمعت التوحيدي يصرخ :
تعالوا أحدثكم عن " الليلة الثامنة عشرة " من كتاب الإمتاع والمؤانسة .
والرجال ، الذين كمردة الجن يدسون القمر في جيوبهم ، ويبقرون الحشيات ، ويفرغون الحقائب الملأى بالثياب الداخلية الوسخة ، ويفتشون داخل آلة الغسيل ، فيخرجون منها القمائط الملوثة بسلح الطفل الرضيع والسراويل الملطخة بدم الطمث . ويفتشون داخل القلب ، وفي وسط العيون ، في جيوب قمصان الأطفال وداخل أصص الأزهار ، بين حشائش الحديقة وداخل بيت الخلاء .

الشياطين الطائرة
قال أبو هريرة :
فتميد الأرض بالناس على ظهرها ، وتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة من الفزع .

" الشهيري " يعاود الظهور

لمن لا يعرف " الشهيري " أقول
إنه واحد من جلاوزة رواية عبد الرحمان منيف:
" الآن هنا ... أو شرق المتوسط مرة أخرى "
أما " هلال " فهو سجين سياسي مذكور في نفس الرواية .

وأخرج الشهيري المسدس الذي قتل به هلالا بدم بارد ، فلوح به في فضاء الغرفة ، ثم أعاده إلى غمده .
قال وهو يقطع كلماته تقطيعا مقيتا :
- أتعرف هذا المسدس يا ابن القحبة ، لقد قتلت به أكثر من واحد ، فلن يثقل على قلبي دمك الوسخ .
وامتدت دم الشياطين تصفع وجهي والقفا .
تخبط في كل الاتجاهات . تركل بالأحذية ملبين الفخذين ، وتضرب بعصي البلاستيك على الحاجب وفوق الأنف .
فيتدفق الدم من كل المخارج ، ويسيل على ثياب النوم البيضاء ، يلطخ الكراسي وأرضية الغرفة وبدلات الجلاوزة .ويبكي الأطفال بأصواتهم الحادة ، ويتشبثون برداء الأم ، فتربت على أكتافهم الصغيرة وتغمض لهم الأعين بيديها الباردتين ليصمتوا مدة قصيرة ، ثم يعاودهم البكاء ، فيزمجر الشهيري في وجوههم أن كفوا يا أولاد الزنى .
فتهمد الأصوات ،
والحركة .
نفخة الصعق

قال أبو هريرة :
فيمكث الخلق في ذلك البلاء ما شاء الله . إلا أنه يطول عليهم .
ثم يأمر الله إسرافيل ، فينفخ نفخة الصعق ، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض


الرقص مع الذئاب

أتذكر: ( من رواية " الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى ) أن " الشهيري " جاءني بعد شهر من اغتيال " هلال " . لم يأت وحيدا . كان يحيط به عدد من رجاله ، ومع ذلك كان مرتبكا :
- ها يابن العريفي فتح الله عليك أم بعده عاصي قلبك ؟
نظرت إليه بسرعة ، ولم أجب ، فتابع :
- الظاهر بعده الحصان خالك ، وظني أنك أبد ما تصير آدمي ...
ابتسم ، ثم أضاف وهو يهز رأسه :
إذا ظليت ميبس راسك ، ترى دواك عندي . والدواء هذه المرة ما هو فشكة وكفى المؤمنين القتال ... لا ، راح أموتك ألف موتة ، راح أموتك كل يوم ...

ويأتيني صوت من حيث لا أعلم :
دلنا على مخبإ السلاح يا " آدم " .
ما عندك سلاح . طيب يا "آدم "
وآلة سحب المناشير .
طيب ، ما عندك آلة لسحب المناشير .
قل لنا فقط من رمى كلاب فرق مكافحة الشغب بالحجارة ؟
قل هذه فقط يا "آدم "
طيب لا تعرف . ومن ملأ الحيطان بكتابة ضد حكومة سيد الأسياد ؟
جميل . لا تعرف أيضا .
وهذه يا"آدم " .
من سب الحبيبة أمريكا ؟
هذه أيضا لا تعرفها . معليهش . ومن حرض على الإضراب ؟
من لعب بعقل الشعب الكريم وجعله يخرج مهتاجا للشوارع فاضطررنا للقتل دفاعا عن النفس .
هم يطلقون علينا حجارتهم ، ونحن نطلق الرصاص . حجارة برصاص ، والبادي أظلم .
ولا تريد الكلام يا ابن الفاجرة . سترى . سأجعلك تتكلم من دبرك .
ويخرج صاحب الصوت من حيث لا أدري . يخرج
" الشهيري الجديد " . يحرك عصاه ، عصا المايسترو ، ويرقص . فيرقص جلاوزته رقصة المجانين .
يدورون حولي في حلقات . حلقة داخل حلقة . يضربون بالسياط وبقضبان الحديد . ويملأون وجهي بصاقا . ويملأون الغرفة بالروائح الكريهة . روائح نتنة تخرج من أفواههم ومن تحت آباطهم .
ويضربون . ويضربون بلا كلل ولا ملل . يشدون شعر الرأس ، ويضربون .
ويضعون أصابعهم في عيني ، ويضربون .
ويضربون كمن يضرب حجرا في حجر .
ويضربون .
ويطلبون مني أن أدور معهم داخل الحلقة الكبيرة .
يضعون عصابة على عيني ، ويطلبون مني أن أدور داخل الحلقة دوران الدراويش ، أصحاب الطرابيش العالية .
وأدووووووووووووووووووووووووووووووووررررر....فيدور معي العالم .


انتحار ملك الموت
قال أبو هريرة :
فإذا خمدوا ، جاء ملك الموت إلى الجبار ، فيقول :
قد مات أهل السماء والأرض إلا من شئت . فيقول ( وهو أعلم ) : ومن بقي ؟ فيقول ملك الموت : أي رب . بقيت أنت الحي الذي لا يموت . وبقي حملة العرش ، وبقي جبرائيل وميكائيل واسرافيل . فيقول الرب : ليمت جبرائيل وميكائيل . وأقول : أي رب يموت جبرائيل وميكائيل ؟ فيقول اسكت .إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي . فيموتان .
ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار فيقول : أي رب قد مات جبريل وميكائيل . فيقول الرب ( وهو أعلم ) ومن بقي من عبادي ؟ فيقول ملك الموت : بقي اسرافيل ، وبقيت أنا . فيقول ليمت حملة عرشي ، فيموتون . فيأمر الله عز وجل العرش فيقبض الصور من اسرافيل .ثم يقول : ليمت اسرافيل . فيموت .
ثم يأتي ملك الموت ، فيقول : مات حملة عرشك ومات اسرافيل . فيقول ( وهو أعلم ) فمن بقي ؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي لا يموت . وبقيت أنا .
فيقول أنت خلق من خلقي . خلقتك لما رأيت .فمت .
فأموت .


دراكيلا

محمد علي الحامي وفرحات حشاد : مناضلان نقابيان تونسيان . مات الأول في حادث مرور بالسعدودية بعدما نفته فرنسا من تونس في بداية القرن العشرين . واغتيل الثاني – وهو مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل - في تونس في أوائل خمسينات القرن الماضي



أفقت حين لسعتني صعقات كهرباء هزت بدني هزا ، فارتعشت كالمقرور رعشات خفيفة لكنها مؤلمة عدت بعدها للحياة شيئا فشيئا .
وجدت نفسي داخل قاعة نظيفة بها طاولة فوقها باقة أزهار اصطناعية ومنفضة سجائر وكرسيان ومكتبة صغيرة تكدست فوق رفوفها الكتب .
رأيت وراء الطاولة شبحا بدأت ملامحه تتكشف لي كلما أفقت من الدوار ، ولكنها تعود فتضطرب حين تغيم الرؤية وتبزغ نجوم شديدة اللمعان أمام وجهي .
وأخيرا تمثلت الشبح . هو رجل في الأربعين . يضع نظارة طبية على عينيه . ويلبس بدلة أنيقة يميل لونها إلى الرمادي .
قدم لي الرجل سيجارة " مارلبورو " وقهوة سخنة يصاعد منها البخار ، وحدثني بود كبير .
قال إنه ليس كالآخرين ، وطلب مني أن أنسى ما فات ثم تركني أترشف قهوتي على مهل وأعب من دخان السيجارة . وبهدوء شديد وقف ، واتجه نحو المكتبة ، ثم رأيته يختار كتابا مجلدا تجليدا فاخرا فيضعه فوق الطاولة ويعود للجلوس .
نظر في عيني بحنان كبير بعدما أنهيت قهوتي وسيجارتي وقال :
- هل تعرف أننا تحترم حقوق الإنسان أكثر من اللازم ؟
قلت ، وطعم السيجارة يخنق أنفاسي :
- أكثر من اللازم .
وتركته يتكلم عن الضمانات الموضوعة للمشبوه فيهم في حالات الاحتفاظ تقديسا لحرية الفرد وصيانة كرامنه الجسدية . عن التصديق على الاتفاقيات المتعلقة بحماية حقوق الانسان وحرياته العامة بما في ذلك الاتفاقيات الخاصة بمنع التعذيب والعقوبات المهينة .
وقال كلاما كثيرا ...
وعدت للدوران مع الدراويش أصحاب الطرابيش العالية .
والحلقة تضيق ...
والسن المربوط في عنقي يؤلمني .
وعدت إلى رجلي المنتفختين من الضرب حد الانفلاق .
ولحمي المحروق بأعقاب السجائر .
وأنا أرقص مع دراويش " قونيا " رقصة " الملوية "
أدور معهم في حلقة الرقص .
أدووووووووووووووووووووووووووووووووووووووورر
وأدوووووووووووووووووووووووووووووووووووووورر
وأدوووووووووووووووووووووووووووووووووووووورر
حد الإغماء ...
والرجل الجالس قبالتي وراء الطاولة يقرأ في كتابه عن الرجم والقطع والقتل .
عن التعذيب والصلب والاحراق .
عن السلخ عند الفاطميين ، وحشو جلود بني آدم بالتبن وتعليقها فوق الأسوار .
عن جلد عظام الأموات .
عن قطع الغذاء والحشو بالماء المغلى .
عن الخنق بوسائد الحرير .
عن الشنق وسمل العيون ودس السم .
عن إدخال المغضوب عنه إلى حمام محمى ونسيانه هناك يوما وليلة .
عن دفن الأحياء في سراديب .
والرجل الجالس فبالتي وراء الطاولة يحكي عن فضاعات المعتضد والمعتمد ، والقاهر ، والحاكم بأمر الله ، وعن سيف الدولة وعضد الدولة ، والناصر لدين الله ، والمستكفي ، والقائم بأمر الله .
وعن ...القائمة لن تنتهي ، لهذا فضلت السكوت عن بقية الأسماء .... ) . ثم أدنى مني الكتاب وقال :
أنا مغرم بالمطالعة يا رجل . هل ترى تلك الكتب ؟ هي مكتبتي الخاصة . اشتريتها بعرق جبيني ، ولم تدفع الدولة فيها مليما واحدا .
أنا أعشق الأدب والتاريخ . على فكرة . هل تعرف "الشهيري " بطل رواية عبد الرحمان منيف " الآن هنا .... أو شرق المتوسط مرة أخرى " ؟ أنا متأكد من معرفتك به . لقد تدربنا سويا ب" أمريكا " لكنني لا أحبذ طريقة عمله . هو لا يعجبني كثيرا ، فهو رجل جلف ... بدوي يا أخي ..
لا يعرف القراءة ، ولا يحب الفنون .
ووضع الكتاب أمامي فقرأت الحروف المذهبة : " الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ، أو عصر النهضة في الإسلام " .
تركني أقرأ عنوان الكتاب وأعيد قراءته إلى رأى الملل في عيني ، فرفعه من على الطاولة ، وأعاده إلى مكانه في الرف وهو يقول :
- " آدم متز " مستعرب ذكي أعطى الحضارة الإسلامية حقها ، ولكنه جعلنا نبلع الدواء المر بعدما غلفه بطبقة رقيقة من الحلوى . هل سمعت تلك القائمة من الفضاعات التي كان أمراء المؤمنين يمارسونها ضد السجناء ؟
ومع ذلك أنا أعشق كتابات هؤلاء المستشرقين . أحسهم يتحدثون عن حضارتنا وديننا بدون عقد ولا خوف من سيف الرقيب الذي سينهال على أعناقهم لو تحدوا الحد المسموح به لدى الباحث المسلم . و... فجأة ، التفت ناحيتي وبادرني بالسؤال :
ماذا لو حدثتني قليلا عن تاريخ " الاتحاد العام التونسي للشغل " ؟ عن محمد علي الحامي وفرحات حشاد ؟
لقد بلغ سمعي أنكم تؤكدون أن " وكالة المخابرات المركزية الأمريكية " هي التي دبرت مقتل محمد علي الحامي في السعودية ، وأن فرحات حشاد قتله تونسيون ولم تقتله عصابة " اليد الحمراء " الفرنسية .
ما رددت على أسئلته واستفساراته فانتقل بالحديث إلى قلب الحدث . قال :
- من أين جئتم بالأسلحة التي كدسها أعضاء النقابات في مقرات الاتحاد بتونس وصفاقس وسوسة ؟
فانفجرت . جاء انفجاري عفويا . لم أخطط له . فقد عزمت على عدم الرد عليه ولو أرغمني على الكلام بفوهة المسدس ، ولكنني ما قدرت :
- هذا غير صحيح . إنه تدبير من ميليشيات " الصياح " . هذا افتراء على الشغالين .
فقال بهدوء عجيب :
- لا تغضب يا أخي . إنها مجرد أسلحة نارية خفيفة وبعض السكاكين والعصي الغليظة التي يمكنك أن تشاهد نماذج منها معروضة أمام هذه الغرفة .
ولما سكت . واصل ساخرا :
- هل صحيح كنتم تنوون الاستيلاء على السلطة بهذه الأسلحة البدائية ؟
ثم أضاف بعد قليل من الصمت :
- وأنت ، هل كنت تطمع في وزارة أم سفارة ؟
ولما استفزه سكوتي صاح :
- تريد أن تنصب لأسيادك المشانق في الساحات العامة يا ابن الكلبة الجرباء .
فجأة انتفض الرجل في مكانه ، وسال عرق غزير على جبينه وعلى عنقه ، واسود وجهه ، وانتفش شعر رأسه ، وكبر ناباه حتى أصبح الواحد في طول ناب " دراكيلا " ، وبدأت النيران في الخروج من خياشيمه .
قلت : هذا " دراكيلا " حقيقي .
واقشعر بدني ، فحاولت التماسك . لكنه لم يترك لي الوقت لشد أنفاسي ، فقد قام كالإعصار المدمر . اجتاحني بسرعة كبيرة ، فطرحني أرضا وغرز نابيه في عنقي .
وعضني عضا شديدا حتى فار الدم من الجراح ، فجثا على ركبتيه فوق جثتي ، وراح يلحس الدم ....
ودار دراويش " قونيا " حولي . حركوا طرابيشهم العالية ، وأمالوا الرؤوس يمنة ويسرة ، وبدأوا في الدوران . داروا حول أنفسهم ثم داروا حول العالم .وحولوا الأفلاك السيارة في سماوات الرب إلى تحت قدمي . ثم بدأت حلقة الرقص تضيق . وبدأت أختنق . والحلقة تزداد ضيقا . وأنا أزداد اختناقا ، فأحاول الصراخ لكن الصوت المقهور داخل الحلق لا يقدر على الاندياح . وأحاول مرة ومرة إلى أن ينفجر البركان ، فيغمر السهول والجبال ويغرق سفينة نوح وبوارج الأسطول السادس والغواصات الذرية والصواريخ العابرة للقارات وكل سفارات البيت الأبيض وجواسيس " الكريملين ومعابد الرب ونواقيس العذراء والمخبرين الصغار بمعاطفهم الشهباء ونظاراتهم العمياء والمتاجرين بأنياب الفيل والمارغوانا والحشيش المغربي وبكلاسين الفتيات الصغيرات وأكلة لحوم البشر وقرصان المحيطات والعمائم الحريرية وكتب التدجيل الصفراء وكتب الخطب الرئاسية والأناجيل المحدثة وأصنام الرؤساء المنصوبة في الساحات العامة .


الأول والآخر

قال أبو هريرة :
ولم يبق أحد إلا الله الواحد الأحد . الصمد . الذي لم يلد ولم يولد .ولم يكن له كفوا أحد .
فكان آخرا كما كان أولا .
فيطوي السماوات كطي السجل للكتاب ،
ثم يقول :
- لمن الملك اليوم ؟
لمن الملك اليوم ؟
لمن الملك اليوم ؟
ولا يجيبه أحد ...

بعد أن عضني " دراكيلا "وجدت نفسي كعصفور يقلى على المقلى أو كشاة حية تسلخ بيد القصاب ، ثم بدأ كل عضو من أعضائي يبرد إلى أن بلغت روحي الحلقوم .
أحسست بها تغادرني مرتعدة ، خائفة ، ثم رأيتها تحط كالخطاف على الأسلاك المتدلية بين عواميد الهاتف .
كان الفزع يهزها هزا . وكانت تنظر بحيرة إلى عصافير السنونو الجاثمة قربها هادحة هازجة ، تتبادل الغرام بالمناقير ، ويركب بعضها فوق بعض .
ظلت مدة تراقب المشهد المثير ، ثم طارت .
عادت من جديد إلى جثتي . حطت فوقي ، وحاولت أن تلجني ، فما قدرت . وحاولت مرات ومرات ، ولكن الجسد كان مغلقا في وجهها بمفاتيح السماء . كان مغلقا بألف مفتاح ومفتاح .
ظلت الروح تحاول ولوج الجسد إلى أن دب فيها اليأس ، فتركته لوحشته وطارت .
طارت سبعة أيام بلياليها . كانت كلما أصابها الإعياء ضربت بأجنحتها الشفافة الصغيرة وواصلت الطيران ، إلى أن وصلت أبواب السماء الدنيا . رأت المصابيح التي تزين السماء تبرق . وسمعت تراتيل تعلو وتهبط ، فأعجبها اللحن ، فأدمنت الاستماع إليه . ظلت تستمع إلى تراتيل السماء مدة لا يعلم مقدارها إلا الله ( مقدار ألف ألف سنة مما يحسب أهل الأرض مثلا ، أو أكثر أو أقل ) . وكانت في كل مرة تطرق الأبواب ، تسأل من هي ؟ فتقول روح ضالة لم تعرف إلى أين تذهب . فلا يجيبها مجيب .
وكانت ترى الشهب ترجم الشياطين التي تحاول استراق السمع من حديث الملإ الأعلى ، فتخاف أن يصيبها شواظ من نار يفتك بها . تخاف هذه الشهب المنطلقة في كل الاتجاهات تفتك بالشياطين الطيارة . والشياطين لا تنفك تعود ، فتقابل بوابل من رش كرش راجمات الصواريخ .
إلى أن يئست أخيرا من اجتياز حائط الدفاع عن السماء ، فعادت أدراجها إلى أرض الناس .

صاحب الدابة
في ساحة المدينة ،
في وسط الساحة ،
صنم مصنوع من البرونز .
الصنم راكب على حصان .
والحصان يدور في الساحة .
والساحة ملأى بالخلق .
والخلق من جميع الأجناس .
يتكلمون السيريانية
والأنكليزية
ويسجدون للشمس .
يسجدون لبعل حامون
وللدولار .
والصنم راكب على حصان
والحصان يدور .
والصنم يصيح داخل مكبر الصوت :
لمن الملك اليوم ؟
ولا مجيب .


عادت روحي إلى الأرض .
حاولت التعرف على الحي الذي كنا نسكنه ، فما قدرت لأن المنازل قد تغيرت هندستها ، ولأن العالم صار عالما آخر
دارت روحي المسكينة في الحواري والأزقة وهي تلتفت في كل الاتجاهات لعلها تعثر عن معلم يدلنا عن الحي ، ولكن بدون طائل إلى أن سربا من الحمام .
طارت مع سرب الحمام إلى أن وصلت ساحة كبيرة ، فرأت في الساحة معلما عظيما .
جذبتها هندسة المعلم وشكله ، فطافت حوله مع الحمام وهي تهلل وتكبر ، ثم حطت قريبا من شرفة صغيرة .
قابلتها جمجمة .
قابلتها جماجم كثيرة .
اندهشت الروح أمام المعلم المبني بالجماجم .
ورأت فوق كل جمجمة " بنكارت " مكتوب عليها اسم صاحبها .
حطت روحي على جمجمة " عادل الخالدي " السجين السياسي في رواية " عبد الرحمان منيف " ، " الآن هنا ... أو شرق المتوسط مرة أخرى " ، فانتفضت وخرج منها دخان أزرق تحول إلى أشعة تبهر الرائي .
نفذ الشعاع في الروح ، فصار منها وصارت منه . اتحدا حتى كأنها شيء واحد . ثم تكلمت جمجمة عادل فقالت :
- أنا عادل الخالدي ، هل عرفتني يا عزيزي ؟
قلت ، وأنا أضطرب اضطرابا شديدا :
- ها قد وجدت من يعرفني ، لن أتوه بعد الآن .
ثم تداركت اضطراني وأحسست وكأنني لم أفرح به كثيرا ، فاحتضنته .
أحسست وكأنني أحتضن تيارا كهربائيا . لكن " عادلا " طمأنني :
-لا تخف ، فهنا كلنا تحولنا إلى كهارب موجبة وسالبة تتدافع وتتجاذب .
وها قد تجاذبنا فلن نفترق بعد الآن .
ثم سألني بود :
- متى وصلت ؟
فقلت :
- اللحظة .
قال :
- وأنا هنا منذ ألف ألف سنة أترقب عودتك إلى الأرض ولم أيأس إلى أن جذبك تياري ، فحططت قربي .
ثم أضاف "
تعال نشاهد هذه المسرحية التي قتلت بها كل هذا الوقت ، هذه المسرحية التي شغفتني حتى كأنني غادرت دنيا الناس البارحة فقط .
أنظر هذه الساحة يا صاحبي ، سترى عجبا .



نفخة البعث

قال أبو هريرة :
ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة ، فإذا هم في الأرض المبدلة في مثل ما كانوا فيه من الأولى . من كان في باطنها ، كان في باطنها . ومن كان على ظهرها كان على ظهرها .
ثم ينزل الله عليهم ماء من تحت العرش كمني الرجال . ثم يأمر السماء أن تمطر أربعين يوما حتى يكون فوقهم إثنى عشر ذراعا . ثم يأمر الأجساد أن تنبت ، فتنبت كنبات البقل . حتى إذا تكاملت ، فكانت كما كانت ، قال عز وجل : ليحيا حملة العرش ، فيحيون . ثم يقول : ليحيا جبريل وميكائيل واسرافيل ، فيحيون . ثم يأمر اسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه . ويدعو عز وجل بالأرواح ، فيؤتى بها . أرواح المؤمنين تتوهج نورا على نور والأخرى ظلمة على ظلمة . فيقبضها الرب جميعا في كفه ، ثم يلقيها في الصور . ويأمر اسرافيل أن ينفخ نفخة البعث . فتخرج الأرواح كأنها النحل ، قد ملأت مابين السماء والأرض .فيقول الله
وعزتي وجلالي
وعزتي وجلالي
وعزتي وجلالي
ليرجعن كل روح إلى جسده .
فتدخل الأرواح في الخياشيم ، ثم تمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ
ثم تنشق الأرض ، فتخرجون منها إلى ربكم : حفاة ، عراة ، غرلا . ثم تقفون موقفا واحدا مقدار سبعين سنة .



مدينة الجماجم

وعاد الصنم الراكب على الحصان في ساحة المدينة إلى صمته . وعاد الحصان إلى الدوران .
وتجمهر الناس حول الساحة .
والحصان يدور .
والصنم صامت .
والنياشين المعلقة على صدر الصنم وعلى كتفيه تطن .
والحصان يدور .
والخلق يتكدس حول الساحة .
والخلق يهلل ويكبر للصنم .
والصنم لا ينظر إلى " الشعب الكريم " الذي أكثر من التهليل والتكبير .
فيبدأ " الشعب الكريم " في البكاء وفي طلب الرحمة .
والشعب لا يعرف ذنبه ، ومع ذلك يطلب الرحمة والغفران
ويركع الخلق . يخر الرجال والنساء والأطفال والشيب والشباب وكل من هب ودب على وجه الخليقة ساجدا لصاحب حصان البرونز.
فينزل الصنم من عليائه ليرفس السجد الركع بحذائه البرونزي .
يرفسهم على رؤوسهم وعلى ظهورهم وعلى الأرجل ، ثم يستل سيفا من غمده ويبدأ في قطع الرؤوس رأسا وراء رأس . فتسيل الدماء أنهارا . وتختلط بالبسمات الصفراء وبالعيون الساحرة الاحورار .
ثم يجمع الرؤوس ، رأسا فوق رأس يبني بها قصوره :
قصر الهناء وقصر السعادة وقصر الشعب وقصر الحرية وقصر الاستقلال وقصر الكرامة الوطنية وقصر الشتاء وقصر الصيف وقصر ال...
وتغني القيان في القصور على : ليل الصب متى غده ؟ ...
ويلقي الشعراء قصائدهم العصماء : ( من مدح ابن هانىء الأندلسي في المعز لدين الله الفاطمي ) :
ما شئت ،
لا ماءت الأقدار ،
فاحكم فأنت الواحد القهار ،
وكأنما أنت النبي محمد ،
وكأنما أنصارك الأنصار .
وتحوك القهرمانات الدسائس .
و يشترين الخصيان المرد الصقالبة للأمراء ، والإماء الحبشيات لربات القصور .
ويتلاعبن بأسعار الصرف في أسواق العبيد . ويقدمن الرشاوي العظيمة لكبار النخاسة : سبائك من الذهب الخالص وعقود زمرد وياقوت وشيكات على بياض مسحوبة على بنوك نيويورك و لندن وباريس وجنيف وطوكيو ...
ويقمن الحفلات الصاخبة في الملاهي الليلية ، يجملنها بألف راقصة وراقصة يحضرنهن من كل أصقاع الدنيا ، من الهند والسند وروسيا البيضاء والحمراء ومن أثيوبيا وجزر واق واق .
فترقص الجميلات طول الليل .
وعند الفجر ، يذبحن تحت أقدام الأمراء اليافعين بعدما يؤتين أجورهن براميل نفط .
فيبني الساسة الصغار أحلامهم الكبيرة .
وتسمي قهرمانات القصور الوزراء بجرة قلم ، ويعزلوهم بجرة قلم .



الشفيع

قال أبو هريرة :
والله ينظر إليكم ولا يقضي بينكم . ثم تدمعون دما ، فتغرقون فيه حتى يبلغ منكم أن يلجمكم أو يبلغن الأذقان .فتصيحون وتقولون : من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا ؟ فيقول قائل ، من أحق من أبينا آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ؟ . فتأتون آدم ، فتطلبون إليه ذلك ، فيأبى ، ويقول ما أنا بصاحب ذلك .ثم تأتون الأنبياء نبيا نبيا ، كلما جئتم واحدا يأبى عليكم . قال رسول الله حتى تأتوني ، فـي معكم " الفحص " ، فأخر ساجدا .
قال أبو هريرة : قلت ما الفحص يا رسول الله ، قال قدام العرش .
قال حتى يبعث الله ملكا فيأخذ بيدي . فيقول لي يا محمد ، فأقول نعم يا رب . فيقول ما شأنكم ؟ ( وهو أعلم ) . قال ، فأقول يا رب وعدتني بالشفاعة وشفعتني في خلقك ، فاقض بينهم .
فيقول الله لقد شفعتك يا محمد . أنا آتيهم ، فأقضي بينهم .
قال رسول الله ، فأرجع ، فأقف مع الناس .






dargouthibahi@yahoo.fr