المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القيامة ... الآن / 2 ب رواية ابراهيم درغوثي / تونس



ابراهيم درغوثي
07/08/2007, 01:03 AM
القيامة الآن / رواية

ابراهيم درغوثي / تونس

الجزء 2 ب


ذو الرجل الخشبية

رأيت الصنم الراكب على حصان يتحول إلى " بشر " .
كنت و" عادل " قريبان من السياج ، وكان الحصان يدور ببطء تحت صرير اللجام . ثم توقف الصرير ، فتوقف الحصان عن الدوران .
رأيت " البشر " يترجل ، ويترك اللجام . والحصان واقف يصهل .
بدأت أتعرف صورة الرجل . إنه " برجل واحدة والأخرى من خشب " .
قلت : هذا " سالم العطيوي " آمر سجن " العفير " في رواية " عبد الرحمان منيف " ، " الآن هنا ... أو شرق المتوسط مرة أخرى " .
قال عادل :
- ها قد عاد لك نعيم العقل يا صاحبي .
ثم سكت فجأة ، فقد اقترب منا " العطيوي " وهو يدق الأرض برجله الخشبية .
ظل آمر سجن " العفير " يدور ويدول ، وينتقل من مكان إلى آخر ، ويتفحص الجماجم المعروضة على يمينه وشماله إلى أن توقف قربنا . ثم نقر على جمجمة " عادل " بأظافره وأدخل سبابته في محجره .
فسمعت " عادلا " يصرخ من الألم و رأيته يلتهب كمن شب فيه مس من الكهرباء زمن الدنيا الفانية ثم ينطفئ بعد أن تحول إلى ذرات من نور ونار .
وسمعت " سالم العطيوي " يحدث نفسه :
- تمنيت وأنا في سجن – العفير – أن أبني قصرا من جماجم المسجونين . وا أسفي على حظي المنكود .
تمتمت :
ابن الكلب ... هو إذن كاذب حين كان في مشفى باريس ... حين كان يأسف ويبكي ويقول عن نفسا إنه حيوان .
هو إذن كاذب حين قال إنه سيحج إلى بيت الله الحرام بعد عودته إلى عمورية .
هو كاذب حين كان يقول إنه سيطلب من الرب أن يغفر له ذنوبه .
هو كاذب ابن كل كذابي الدنيا . وأنا المغفل صدقته ، وأشفقت على حاله .
وعاد " أبو مهند " ينظر في الجماجم المعروضة في واجهة القصر المقابل للساحة .
حرك " البنكارت " الموضوعة قبالة عادل الخالدي وعوى "
مسكين يا عادل ، ظننت أنني صادق حين عبرت لك على الندامة ونحن في باريس .
ما أكبر غباءك أيها الرجل .
لقد مثلت دوري معك بإتقان حتى النهاية ، وجعلتك تدفع بي العربة في مطار " أورلي " حين أزفت ساعة الطائرة ولم يصل المرافق الذي كلفته سفارتنا بإيصالي حتى مدرج الإقلاع .
تلك مسرحية يا حبيبي جعلتك تشاركني في إخراجها ، بإرادتك . فقمت بدور الأبله .
كم أضحكتني ، وأنت تدفع بي العربة .
أضحكتني حد البكاء يا رجل .
ولم أنسك .
فما نسيتك في الدنيا ، وها أنا أتذكرك الآن .
نحن لا ننسى أبدا يا سيدي .
فمن عمل خيرا نجازيه عن خيره ، ومن أساء فتلك الطامة الكبرى والبلاء الأعظم .

بعدها أخرج من سلة معلقة على جانب الحصان مطرقة انهال بها على ما بقي من جمجمة عادل الخالدي إلى أن حولها إلى رماد . ومد يده يحاول المساك بي . لكنني طرت والهلع يدفع بي إلى الفرار بعيدا عن هذا الرجل البرونزي . ومن خوفي زرقت فوق صلعته برازا كالماء ، فمسحه بيده وقال :
- سيأتي دورك يا ابن الكلب .
هل تظن أن التلصص على أبطال القصص يمر هكذا بدون عقاب .
والله لأشوينك في نار جهنم أيتها الروح القحبة .
وعاد إلى حصانه .
لبس البرونز ، وامتطى صهوة الجواد .
فعاد الحصان يدور في الساحة .
وعادت الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس .
والشمس تراقب الصنم من بعيد .
والصنم صامت .
والصنم ساكن .
وقصر الجماجم يراقب المشهد المثير ...




سبحان الحي الذي لا يموت .

قال أبو هريرة :
قال رسول الله ، فبينما نحن وقوف ، إذ سمعنا حسا من السماء شديدا . فهال . فنزل أهل السماء الدنيا بمثل ما في الأرض من الإنس والجن . حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت بنورهم . فأخذوا مصافهم .
قال قلنا لهم ، دونكم الله . قالوا ، لا .
ثم نزل أهل السماء الثانية بمثل ما نزل من الملائكة ومثلي ما فيها من الإنس والجن . حتى إذا دنوا من الأرض ، أشرقت بنورهم . فأخذوا مصافهم .
ثم ذكر نزول أهل كل سماء على قدر ذلك من التضعيف .
قال ، ثم نزل " الجبار " في ظلل من الغمام والملائكة .
" ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " .
والعرش على مناكبهم ، يقولون :
سبحان ذي العرش والجبروت .
سبحان ذي الملك والملكوت .
سبحان الحي الذي لا يموت .
سبووووووووووووووووووووووح .
قدوووووووووووووووووووووس .
قدوووووووووووووووووووووس .
سبوووووووووووووووووووووح .
سبحان وربنا الأعلى .
رب الملائكة والروح .
سبحان الذي يميت الخلق ولا يموت .
سبحان الحي الذي لا يموت .

حفل ساهر على شرف الجماجم

جاء العبيد من كل أصقاع الدنيا : من صعيد مصر ومن بلاد الأنكا ، من جنوب الهند ومن ومن جنوب النهر الأصفر ، من غاليا ومن سكسونيا ، من البرازيل ومن بلاد الزولو ، من هنا ومن وراء سد يأجوج ومأجوج .
جاءوا من لا مكان .
جاءوا من كل مكان ، وصنعوا منصة كبيرة .
وسجد العبيد للصنم الراكب على الحصان .
والحصان يدور .
والأرض تدور .
والأرض تدور حول الشمس .
والشمس تدور حول الصنم ، ثم تتفتت ، فتتحول إلى مصابيح تضاء بالكهرباء لتزين ساحة الجماجم .
عندها ترجل الصنم من على الحصان ، وذهب إلى المنصة ، فجلس على أريكة كبيرة مصنوعة من خشب " التاك " ومزركشة بالعاج المجلوب من إفريقيا السوداء .
وجاء عبدان يحملان مروحتين كل واحدة منهما تحمل ريش سرب من النعام .
انتصب العبدان بجانب الأريكة ، على اليمين وعلى الشمال ، وراحا يحركان المروحتين جيئة وذهابا ويرشان المسك على الأرض تحت قدمي " ملك الملوك " .
وجاء عبد ثالث بكانون تلمع جمراته لمعانا يخلب الأبصار فوضعه قريبا من الأريكة ، وراح يحرق أعواد الند والعنبر، والملك المصنوع من البرونز يغمض عينيه ويفتحهما .
ثم رأيته يحرك سبابته ، ويشير بها إلى وزير الميمنة ، فقام الوزير يتعثر في جلبابه الطويل .
اقترب من الصنم ، فجثا على ركبتيه وسجد مدة طويلة . ثم قام ، فقبل يد الصنم الباردة ووضع نعل سيده على رأسه .
وسيد الأسياد جامد في مكانه لا يريم ...
ظل المشهد هكذا جامدا مدة لا يعلم طولها إلا علام الغيوب ، ثم فجأة هز الساحة دوي كالرعد القاصف :
- اضرب البندير يا وزير .
فيضرب الوزير البندير :
دج
دق
دج
دق
دج
دق
فعاد الصوت مزمجرا :
دق
دج
دق
دق
دج
دق
أكثر أكثر يا وزير :
دج، دق .
دج، دق ، دج .
دج ،
دج ، دج ، دق .
دق ، دج ، دق .
وتنهال أكف بقية الوزراء على البنادير تضربها بلا رحمة وتنهال الأكف على الأكف
ت – صفق .
تص- فيقا .
ت- تاء مربوطة .
ص – صاد منصوبة .
ف – فاء مكسورة .
ق – قاف – مربوطة .
وبين المربوط والمكسور والمنصوب والمربوط ، ترتفع المدائح والأذكار .
تمجد السيد الذي قهر الكفار .
وضرب الدينار
وحرر الصغار والكبار .

الخطبة

قال أبو هريرة :
فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه ، ثم يهتف تبارك وتعالى قائلا :
" يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم مذ خلقتكم إلى يومكم هذا . أسمع أقوالكم ، وأبصر أعمالكم ، فاسمعوا إلي .
( ملاحظة : الصوت محال على الله سبحانه وتعالى ، والمراد ملك ينادي بأمره ، فيكون الصوت للملك ، ويضاف إلى الله لأنه يأمره .)
فمن وجد خيرا ، فليحمدني ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه .


وزيرة الرعاية الاجتماعية

وتتواصل السهرة في الساحة العامة تحت أنظار الجماجم ، والحصان يصهل ، وملك الزمان المصنوع من البرونز فقد زمام نفسه فقام يرقص في الساحة الواسعة . والخلق يتفرج ولا يرى مجون الملك وجنون الوزراء والأرواح تطير وتحط قرب الجماجم ، تقرأ " البنكارت " وتتوارى داخل المحاجر .
كل روح تختار جمجمتها الخاصة بها وكأنها مسيرة إليها بجاذبية جبارة .
والملك يصيح :
- يا كلب الوزراء ، زد في ضرب البندير .
فيدوي الضرب دوي الرعد في السماء ، ويعود فيخفت حتى السكون .
ويرتفع من وسط الساحة صوت تعتعه السكر :
- باش شاوش ، اكتب لها شيكا بألف دينار ، افتح لها خزائن بيت مال المسلمين ، اعطها جواهر الملكة نفرتيتي .
وتهتز بطون الراقصات الشرقيات ، تتحرك ، ترهز عشرين نوعا من الرهز . وترتعش النهود الطرية .
وتغني قينةابن الرومي ، في شعر للنواسي وضع لحنه سلطان الطرب عبد الوهاب باشا :
ألا فاسقني خمرا
وقل لي هي الخمر .
ولا تسقني سرا ،
إذا أمكن الجهر .
فعيش الفتى ،
في سكرة
بعد سكرة ،
فإن طال هذا عنده ،
قصر العمر .
فيقوم ملك الزمان المصنوع من البرونز يضرب صدره بجمع يده ويخور :
يا كبير الوزراء ،
يا خراء ،
سمها وزيرة للرعاية الاجتماعية .

العادل

قال أبو هريرة :
ثم يقضي الله بين خلقه حتى لا تبقي مظلمة عند أحد إلا أخذها المظلوم من الظالم .

" ثم إلى ربهم يحشرون "
قرآن

قال أكثر المفسرين : تحشر الخلق والوحوش كلها وسائر الدواب حتى الذباب ، للقصاص .
وأسندوا ذلك إلى النبي .
" لسان العرب المحيط "
الجزء الأول / في حرف الحاء


صيد الخنازير.

وتتواصل الفرجة :
رأيت " الشهيري " ، وقد تحول إلى خنزير بري يشخر وينخر ويضرب الأرض بحوافره ، و" طالع العريفي " السجين السياسي في رواية عبد الرحمان منيف " الآن هنا ... أو شرق المتوسط مرة أخرى " راكبا على جواد عربي أصيل وحاملا لعدة الصيد الكاملة .
كانت الكلاب السلوقية الأصيلة تمشي أمامه وخياشيمها مغروزة في الأرض كقفافي الأثر . والجند ، المدججين بالرماح والسهام والرشاشات الأوتوماتيكية يجرون وراءه .
ورأيت الكلاب السلوقية تجري وراء خنزير ذو وجه آدمي
كان الخنزير الحامل لوجه " الشهيري " آمر سجن العبيد يحاول الإفلات من أنياب الكلاب ، فيعدو عدوا منكرا ، كمن تجري وراءه الشياطين .
وكان " طالع العريفي " يتهلل وجهه بشرا ، فيلهب ظهر الجواد ويحرك المهماز تحت جنبيه . والجواد يحمحم ، ويعدو مسابقا الرياح .
والصحراء تمتد أمام الخنزير وسيعة ، لا هبة ، فيلهث ، ويتدلى لسانه .
والكلاب السلوقية تعض ردفيه ، وتعوي عواء منكرا .
والخنزير المنهوك ، المعضوض ، المكدود ، المنيوك ، التعب تعبا لا تتحمله الجبال يحاول الركض .
ولا عاصم له من الكلاب .
والحصان يصهل وراءه ، وأنفاسه الحارة تلهب مؤخرته .
و" طالع العريفي " يخزه برمحه بين كتفيه ويرفض الإجهاز عليه ليطيل عذابه أكثر ، ثم يوقف حصانه فجأة ليترك للخنزير فرصة للنجاة بعد أن سدت أمام عينيه أبواب الرحمة .
ركض الخنزير دون أن يلتفت إلى الوراء .
ركض إلى أن وصل إلى سجن " العبيد " ، فوقف يلهث أمام أبواب السرداب .
رأى سلطان " موران " واقفا هناك بكامل نياشينه الملكية .
ناداه الخنزير الحامل لوجه " الشهيري " :
أنا عبدك ، أما عرفتني يا مولاي ؟
ما رد السلطان على ندائه ، فظل الشهيري يترجى لفتة منه . لكنه أخرج من حزامه مفتاحا كبيرا وضعه في قفل باب السرداب ، وأدار القفل . فانفتح الباب على هاوية بلا قرار دفع فيها سلطان موران الخنزير ، ونزل وراءه درجات القبو ، درجة درجة .
فزلزلت الأرض زلزالها .




الصراط

قال أبو هريرة :
ويضرب الله عز وجل الصراط بين ظهراني جهنم ، كعقد الشعر أو كحد السيف ، عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان . فيمر الخلق كطرف العين ،أو كلم البصر ، أو كجياد الخيل . فناج سالم ، ومخدوش ومكدوش على وجهه في جهنم .

ملاحظة : وجدت في مخطوط مكتوب برسم فارسي حيث أن سرعة المار فوق الصراط يمكنها أن تفوق سرعة صاروخ من الصواريخ العابرة للقارات .
وقد أكد الشيخ الشعراوي هذا الخبر ووقع تحته .
ولم أعرف قصد كاتب هذه الإضافة ، أما أن أردت إيصالها للقارئ الكريم عله يفهم ما فاتني فهمه .
والله ولي التوفيق .

عقارب جهنم

وقف " سالم العطيوي " فوق الصراط .
رأى العقارب التي كان يربيها في سجن " العفير " تكبر، وتكبر ، وتكبر حتى صارت في مثل حجم البغال .
وقفت هذه العقارب / البغال على الصراط . وقفت في وجه " أبي مهند " ، وما تركته يمر .
اعترضت طريقه شاهرة في وجهه سمها الزعاف ، فكان كلما راوغها ، ضحكت ضحك العقارب وغرزت في لحمه أشواكها المسمومة حتى صار أزرق كسماء الصحراء في قائلة الصيف .
ورأى " عادل الخالدي " يقترب منه .
كان يحمل على محياه ابتسامة أعرض مما بين السماء والأرض . وكان الفل والياسمين يهطل عليه ويتساقط بين خطاه . ثم رآه يمر على الصراط كالبرق الخاطف .
قال : لقد هلكت ، وسقط في الجحيم .
فتلقفته الزبانية بكلاليب من نار .


الوعد الحق

قال أبو هريرة :
فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا :
- من يشفع لنا عند ربنا فندخل الجنة ؟
فيقول قائل : عليكم بمحمد ، فيأتوني ، ولي عند ربي ثلاث شفاعات وعدني بهن . فأنطلق ، فآتي الجنة . فإذا دخلت ، فنظرت إلى ربي تبارك وتعالى ، خررت ساجدا . فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه ، ثم يقول :
- ارفع رأسك يا محمد ، واشفع تشفع وسل تعطى .
فإذا رفعت رأسي ، قال الله ( وهو أعلم ) :
- ما شأنك ؟
فأقول ، يا ربي وعدتني بالشفاعة ، فشفعني في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة .
فيقول عز وجل : قد شفعناك ، وأذنت لهم في دخول الجنة .




أبعد الأبعدين

لا أدري كيف وجدت نفسي مع النفري في موقف واحد . كنت وإياه في مكان كالأرض وما هو بالأرض ، كالدنيا وما هو بالدنيا .
وكنت أرى الناس ، وأعجب لحالهم . فما هم بالناس الذين كنت أعرفهم . ناس كالناس وما هم بناس . ترى أشكالهم ، فتعجب لحالهم . كل واحد لاه عن غيره . لا يعرف إلا نفسه . يهرب من الحبيب وينكر القريب ويعيش كالغريب .
وكان النفري يغطيني بردائه ويرتل ، فأرتل وراءه :

أوقفني وقال لي : من أنت ، ومن أنا ؟ فرأيت الشمس والقمر والنجوم وجميع الأنوار .
وقال لي : ما بقي نور في مجرى بحري إلا وقد رأيته .
وجاءني في كل شيء ، حتى لم يبق شيء . فقبل عيني ، وسلم علي ، ووقف في الظل .
وقال لي :
- تعرفني ولا أعرفك .
فرأيته كله يتعلق بثوبي ، ولا يتعلق بي .
وقال : هذه عبادتي .
فمال ثوبي ، وما ملت . فلما مال ثوبي ، قال لي :
- من أنا ؟
فكسفت الشمس والقمر، وسقطت النجوم وخمدت الأنوار ، وغشيت الظلمة كل شيء سواه . ولم تر عيني ، ولم تسمع أذني ، وبطل حسي .
ونطق كل شيء : الله أكبر .
وجاءني في كل شيء وفي يده حربة ، فقال لي :
- اهرب .
فقلت :
- أين ؟
فقال :
- قع في الظلمة .
فوقعت في الظلمة ، فأبصرت نفسي . فقال لي :
لا تبصر غيرك أبدا ، ولا تخرج من الظلمة أبدا . فإذا خرجت منها أريتك نفسي ، فرأيتني . وإذا رأيتني ، فأنت أبعد الأبعدين .

النفري
المواقف والمخاطبات
موقف : من أنت ومن أنا ؟




حفل بالمسرح الروماني بقرطاج

1 – صراع

جاء عمال البلدية إلى ساحة الجماجم وقفوا مدة طويلة ينظرون في كل الاتجاهات ، ثم قاسوا الساحة بالعين المجردة وانصرفوا .
في الغد ، عادوا بكرة . هدموا " قصر الفرجة " . كوموا الرؤوس في أكداس كالجبال ، ثم عادوا يبنون بالجماجم بناية جديدة .
كانت البناية غريبة الشكل .بناية لم يعهد لها مثيلا في الزمن الحاضر .
سألت عنها أحد البنائين فقل إنهم يعيدون بناء المسرح الروماني .
... وامتد بهم العمل مدة طويلة . هطلت على الجماجم أمطار الخريف ، وتساقطت فوقها ثلوج الشتاء ، ونفخت عليها رياح الشهيلي الحارة . والبناية الجديدة تكبر وتكبر حتى سدت الآفاق .
كانت بناية في غاية الفخامة ، على شكل دائرة ، شرفاتها تطل على الساحة الكبيرة ومقاصيرها جميلة بها عواميد من المرمر وسقوفها مدهونة بالذهب .
وعاد عمال البلدية إلى قراهم الصغيرة بعد أن أنهوا العمل . لم يعد منهم سوى طويل العمر ، أما البقية فقد ماتوا مطحونين تحت الحجارة العملاقة التي بنوا بها مسرح العجائب السبعة .
عادوا من حيث أتوا ، وتركوا القصر الجديد في عاصمة
" عمورية " لترفرف فوقه الأعلام خفاقة .
ونفخ الموسيقيون في أبواقهم ، وضربوا الصنوج والدفوف ستة أيام .
في اليوم السابع جاء القيصر إلى القصر. وجاء معه الضيوف من كل أنحاء الأمبراطورية الرومانية ، فدخل قصر المسرح تحف به الخيالة من كل مكان ، ويتدافع الخلق لتحيته .
وامتلأت المدارج بالمتفرجين . وعم الهرج والزعيق والصفير إلى أن جلجل صوت يأمر الكل بالسكوت لأن الأمبراطور سيلقي كلمة في الحاضرين .
ساد صمت رهيب أرجاء المسرح حين بدأ القيصر حديثه ، فصلى على رسول الله، وأثنى على الصحابة والتابعين وتابعي التابعين بإحسان إلى يوم الدين ، ثم تحدث عن إنجازات عهده الميمون : المدارس الحكومية والخاصة ، ومدارس المبشرين والآباء البيض ، وكتاتيب القرآن الكريم ، ورياض الأطفال ، والمستشفيات ، والمصحات الخاصة ، والمارستانات ، والمساجد ، والكنائس ، والمعابد ، وبيع اليهود ، والسجون للمجرمين والمارقين على القانون . قانوني أنا طبعا ، قال الأمبراطور . فصفق الحضور حتى انتفخت أصابعهم وزغردت النسوة ، ولعلعت البواريد .
قال : حتى يعم الأمن والرخاء في كل أرجاء البلاد .
وشكر مسؤولي " البنك الدولي " الذين لم يبخلوا يوما على الأمبراطورية بالمال والنصيحة إلى أن اكتمل هذا الصرح الذي لا يوجد له مثيلا في إفريقيا وآسيا وكل دول العالم الثالث .
هذا الصرح الذي سيرفع اسم دولتنا عاليا حتى نجوم السماء
وانهمر التصفيق من جديد والدعاء بحياة الأمبراطور
" يوليوس " أمير البرين وخاقان البحرين . ولم يهدأ الهرج والصياح والتكبير والتهليل إلا حين عاد مذيع برامج الاحتفال بتدشين المسرح الجديد إلى النفخ في بوقه وعرض برامج السهرة .
وأطفأت أنوار فوانيس الكهرباء . وارتفعت المشاعل في أيدي العبيد . ووضع قفصان فوق خشبة المسرح .
كان بداخل كل قفص أسد .
فتح العبيد القفصين ، وابتعدوا شاهرين السيوف والرماح . وزمجر الأسدان وزأرا زئيرا يهد الجبال ، فعم السكون أرجاء المسرح إلى أن نشب صراع رهيب بين الأسدين . عض بالأنياب الحادة ، وخدش بالمخالب ، وكر وفر...
وسال الدم من الجراح بعد أن امتدت المعركة ردحا من الزمن ، وطالت صولاتها وجولاتها ، والأسدان في هياج كبير ، وكر وفر إلى أن برك أحدهما ، وراح يبصبص بذنبه كالكلب المضروب .
وقف الأسد الفائز يزأر ويشخر ، ووقف الجمهور الهائج يصفق ويصفر ، فعاد العبيد إلى الركح شاهرين بنادقهم .
أدخلوا الأسد المهزوم في قفص ، وأطلقوا عليه النار ، ووضعوا على رأس الأسد الفائز إكليلا من الغار ، فصفق الجمهور الهائج حد الجنون .
وعاد مذيع السهرة يطلب من الجمهور الكريم قليلا من الصمت والانتباه ويعلم الجميع بأن الأمبراطور سيرتاح في مقصورته حتى يحين موعد العرض الجديد .
وخرجت نساء جميلات بلباس السهرة من مقهى المسرح . كن يدفعن أمامهن عربات صغيرة فوقها مكسرات : لوز وجوز وفول سوداني وعلب عصير وكوكاكولا وبيبسي وفانتا ومانغا وأناناس ومثلجات أخرى .
ذهبت النسوة إلى المدارج يعرضن على المتفرجين بضائعهن . وذهب الأمبراطور إلى " البار " الصغير ليشرب مع حاشيته وضيوفه ، زجاجات " البرة " المثلجة وكؤوس " الشمبانيا " والخمور المعتقة .
دامت استراحة الأمبراطور نصف ساعة عاد بعدها المذيع يعرض على المتفرجين مفاجأة السهرة .


2 – مصارعة يابانية على ركح المسرح الروماني بقرطاج بمباركة أمبراطور الشرق والغرب
" يوليوس "

فتح العبيد بابين على يمين وشمال الركح .
خرج من البابين مصارعان .
المصارع الأول يلبس تبانا مرقطا مصنوعا من جلد النمر ، والمصارع الثاني يغطي عورته بقطعة من جلد الأيل .
عرض المذيع المصارعين على الجمهور .
صفق الجمهور تصفيقا حارا ، فعادت فوانيس الكهرباء إلى الانطفاء وعادت المشاعل تلتهب في أرجاء المسرح .
عندها خرجت على الجمهور بنتان في زي ملكات جمال العالم .
كانت البنتان تدوران وسط الركح وتعرضان لا فتتين تحملان اسمي المتصارعين .
قرأت على اللافتة الأولى : وحش الركح " الشهيري " .
وقرأ عادل الخالدي على الثانية : المارد الجبار " العطيوي " .
صفق شق من المتفرجين ، الشق الجالس على يمين الركح وهلل لسالم العطيوي القادم من " تدمر " أميرة الصحراء .
وهلل الجمهور الجالس على يسار الركح وصاح مناديا باسم " الشهيري " .
وسكنت الحركة ، وساد صمت رهيب أرجاء المسرح إلى أن أمسك " الشهيري " ب " سالم العطيوي " من رقبته وراح يضغط بكل قوته .
ضغط حتى خرج الزبد من بين شدقيه فصار " العطيوي " يرغي كالبعير . لكنه وبحركة يائسة ضرب خصمه برجله ، ما بين فخذيه . فصات " الشهيري " ، وانطرح أرضا فبرك " أبو مهند " فوقه وراح يضرب برأسه الركح . والجمهور الهائج يشجعه بكل قواه ويطلب منه أن يقضي عليه .
وافتك " العطيوي " نفسه من " أبي مهند " ورصع عاليا ، ثم سقط بكل ثقله على الركح ، فراوغه " الشهيري " ، ثم استل خنجرا من بين طيات ثيابه وأهوى به على قلب
" العطيوي " .
تفجر الدم من القلب الذي صار كالنافورة ، فسجد
" الشهيري " قريبا من الجسد السخن ، وراح يلعق الدم ويخور كما تخور الثيران المحبوسة منذ بداية الخليقة .




مشهد من النار

قال أبو هريرة :
ثم يدخل أهل النار إلى النار ، فمنهم من تأخذه إلى قدميه لا تتجاوز ذلك . ومنهم من تأخذه إلى نصف ساقه . ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه . ومنهم من تأخذه إلى حقويه . ومنهم من تأخذه في جسده كله .
ثم يأمر الله عز وجل في الشفاعة ، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع .
ثم يقول : بقيت أنا ، وأنا أرحم الراحمين .
فيخرج منها ما لا يحصى عدده .


النار الأخرى .

راقبت الساحة ألف سنة . تغير لون الحصان من الأسود إلى الأبيض ومن الرمادي إلى البني ، وما تغير صنم البرونز .
كان كما رأيته أول مرة جديدا تماما ، يلمع نوره في النهار والليل . والخلق يباركونه في كل آن وحين .
ذبح له الفينيقيون الأطفال الرضع ، وأشعل له الفرس نارا لا تخمد . وعبده الروم في كنائس عظيمة .
وأنا ؟
أنا هناك في الساحة المقابلة للصنم ، أسكن خالدا ، وخالد يسكنني ...
... إلى أن سئمت المشاهد المعروضة في ساحة الجماجم ، فعاودت الطيران من جديد . ذهبت أدق الخزان / السماوات ، واستمع إلى تراتيل الملإ الأعلى . فهاجمتني الشهب من كل مكان وطردت كما يطرد الجمل الأجرب من القطيع . تناوبت الملائكة والشياطين على طردي ، فعدت غريبا إلى الأرض الغريبة .
حطت روحي فوق هذه الأرض التي غادرتها منذ أسبوع ، سنة ، ألف سنة ، مليون سنة ... رأت العالم وقد تغير ... ولم تعد الأرض أرضنا ، فتحدت النواميس وعادت تطير من جديد في رحلة أبدية بين السماء والأرض إلى أن سمعت النفخ في الصور ، فجمدت في مكانها وتحجرت ، ثم هوت إلى أسفل سافلين ...


dargouthibahi@yahoo.fr