Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
05/11/2006, 09:47 PM
عجوز عند الجسر
للكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي*
كان رجل عجوز ذو نظارة لها إطار من الصلب ويرتدي ملابس متربة كثيرا يجلس بالقرب من جانب الطريق. وكان هناك جسر عائم عبر النهر ، كما كانت هناك عربات ، وكانت العربات التي تجرها البغال تتمايل وهي تهبط شاطئ النهر المنحدر من عند الجسر ، وكان الجنود يقومون بالمساعدة عن طريق دفع عِصِىِّ العجلات ، وكانت الشاحنات تتحرك بصعوبة وتبتعد عن كل شيء ، وكان الفلاحون يمشون بتثاقل في التراب الذي كان يرتفع إلى مستوى كاحلي القدمين ، إلا أن العجوز جلس هناك دون حراك ، فقد أصابه تعب لم يستطع معه أن يواصل المسير أكثر من ذلك.
وكانت مهمتي أن أعبر الجسر وأن أتفقد رأس الجسر في الخلف وأن أكتشف إلى أية نقطة تقدم العدو ، وقمت بهذا وعدت فوق الجسر ، ولم تكن هناك عربات كثيرة الآن ، وكان هناك أناس قلائل جدا يسيرون على الأقدام ، ولكن العجوز كان مازال هناك.
وسألته : "من أين تأتي ؟"
"من سان كارلوس " ، قال هذا وابتسم.
وكانت هذه هي مسقط رأسه ، ومن ثم فقد كان مسرورا لذكر اسمها ولذلك ابتسم.
واستطرد قائلا : "لقد كنت أرعى الحيوانات."
فقلت : "آه" ، دون أن أفهم تماما ما يعني.
فقال : "نعم ، لقد ظللت ، كما ترى ، أرعى الحيوانات ، وكنت آخر من ترك مدينة سان كارلوس."
ولم يكن يبدو مثل راعي غنم أو راعي قطيع ، ونظرت إلى ملابسه السوداء المتربة وإلى وجهه الرمادي المترب وإلى نظارته التي صُنع إطارها من الصلب وقلت : "أي نوع من الحيوانات؟"
"حيوانات عديدة"، قال هذا وهز رأسه ، وأضاف : "لقد اضطررت إلى تركها."
وكنت أرقب الجسر ومنطقة "إبرو دلتا" الريفية التي تبدو كما لو كانت في إفريقيا ، وكنت أتساءل كم يمضي من الوقت قبل أن نرى الأعداء ، بينما كنت أتسمع طوال الوقت الأصوات الأولى التي تشير إلى كل حدث غامض يسمى بالاشتباك ، وكان العجوز مازال جالسا هناك.
وسألت : "أي أنواع الحيوانات هي ؟"
وشرح قائلا : "كانت هناك ثلاثة حيوانات في مجموعها ، كان هناك ماعزان وقطة ، كما كانت هناك أربعة أزواج من الحمام."
وسألت : "واضطررت لتركها ؟"
"نعم ، بسبب المدفعية ، فقد أمرني قائد الجنود أن أبتعد بسبب المدفعية."
وسألته وأنا أرقب النهاية البعيدة حيث كانت عربات قليلة أخيرة تسرع نازلة على منحدر شاطئ النهر : "أليست لك أسرة ؟"
وقال : "لا ، فقط الحيوانات التي ذكرتها. القطة ، بالطبع ، ستكون على ما يرام ، فالقطة تستطيع أن ترعى نفسها ، ولكنني لا أستطيع أن أفكر فيما سيحدث للآخرين."
وسألته : "وأية سياسة تعتنق ؟"
فقال : "إنني لا أعتنق أية سياسة ، إنني في السادسة والسبعين من عمري ، ولقد سرت اثنى عشر كيلو مترا الآن ، وأعتقد الآن أنه لا يمكنني أن أواصل المسير."
وقلت : "هذا ليس مكانا آمنا تتوقف فيه ، فلو استطعت ، فإن هناك شاحنات تتجه إلى حيث يتشعب الطريق إلى تورتوسا."
فقال : سأنتظر بعضا من الوقت ؛ ثم أمضي ؛ إلى أين تتجه الشاحنات ؟"
فأجبته : تجاه برشلونة."
فقال : "لا أعرف أحدا في هذه الناحية ، ولكن شكرا لك كثيرا ، شكرا لك كثيرا مرة أخرى."
ونظر إليَّ بخواء وتعب بالغين ، ثم قال ، وقد أحس بضرورة اقتسام آلامه مع شخص ما : "القطة سوف تكون على ما يرام ، أنا متأكد من ذلك ، وليست هناك مدعاة للشعور بالقلق بسبب القطة ، ولكن الآخرين ، والآن ماذا تظن بشأن الآخرين ؟"
"لماذا ، ربما خرجوا من هذا المأزق على ما يرام."
"أتظن ذلك ؟"
"ولم لا ؟" ، قلت هذا وأنا أرقب الشاطئ البعيد الذي كان قد خلا الآن من العربات.
"ولكن ماذا سيفعلون تحت نيران المدفعية ، وقد أُمرت أن أترك المكان بسبب المدفعية؟"
وسألته : "هل تركت عش الحمام مفتوحا ؟"
"نعم."
"إذن فسيطير."
فقال : " نعم ، بالتأكيد سيطير. ولكن الأخرى ، من الأفضل ألا أفكر في الأخرى."
وقلت أحثه : "إذا كنت قد استرحت فإني سأنصرف ، انهض وحاول أن تسير الآن؟"
"شكرا ، قال هذا ونهض واقفا على قدميه ، وترنح من ناحية لأخرى ثم جلس إلى الوراء في التراب.
وقال بكآبة ولكنه لم يعد يوجه كلامه إليَّ : "لقد كنت أرعى الحيوانات ، فقط كنت أرعى الحيوانات."
ولم يكن ثمة ما أستطيع فعله من أجله ، فقد كان اليوم هو الأحد الموافق عيد الفصح ، وكان الفاشيون يتقدمون في اتجاه إبرو ، وكان يوما قاتما ملبدا بالغيوم وذا سحب منخفضة ، فلم تقم طائراتهم بطلعات ، وكانت هذه الحقيقة ، إلى جانب حقيقة أن القطط تعرف كيف ترعى نفسها ، هو كل حسن الحظ الذي بمقدور هذا العجوز أن يناله.
--------------------------------------------------------------------------------
* إرنست هيمنجواي (1899-1961) كاتب أمريكي حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1954. قضى بعضا من حياته في إسبانيا (1937-1938) حيث عمل مراسلا حربيا خلال الحرب الأهلية، واستفاد من خبرته هذه في كتابة روايته الشهيرة لمن تدق الأجراس؟ ، وخلال الحرب العالمية الأولى عمل سائقا لسيارة إسعاف في الجيش الإيطالي ، وهي الحرب التي تدور حولها روايته وداعا للسلاح . وفي الحـرب العالمية الثانية عمل مراسلا حربيا في أوروبا ، وبعد انتهاء الحرب عاش في إفريقيا وكوبا. وأنهى حياته منتحرا عام 1961.
للكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي*
كان رجل عجوز ذو نظارة لها إطار من الصلب ويرتدي ملابس متربة كثيرا يجلس بالقرب من جانب الطريق. وكان هناك جسر عائم عبر النهر ، كما كانت هناك عربات ، وكانت العربات التي تجرها البغال تتمايل وهي تهبط شاطئ النهر المنحدر من عند الجسر ، وكان الجنود يقومون بالمساعدة عن طريق دفع عِصِىِّ العجلات ، وكانت الشاحنات تتحرك بصعوبة وتبتعد عن كل شيء ، وكان الفلاحون يمشون بتثاقل في التراب الذي كان يرتفع إلى مستوى كاحلي القدمين ، إلا أن العجوز جلس هناك دون حراك ، فقد أصابه تعب لم يستطع معه أن يواصل المسير أكثر من ذلك.
وكانت مهمتي أن أعبر الجسر وأن أتفقد رأس الجسر في الخلف وأن أكتشف إلى أية نقطة تقدم العدو ، وقمت بهذا وعدت فوق الجسر ، ولم تكن هناك عربات كثيرة الآن ، وكان هناك أناس قلائل جدا يسيرون على الأقدام ، ولكن العجوز كان مازال هناك.
وسألته : "من أين تأتي ؟"
"من سان كارلوس " ، قال هذا وابتسم.
وكانت هذه هي مسقط رأسه ، ومن ثم فقد كان مسرورا لذكر اسمها ولذلك ابتسم.
واستطرد قائلا : "لقد كنت أرعى الحيوانات."
فقلت : "آه" ، دون أن أفهم تماما ما يعني.
فقال : "نعم ، لقد ظللت ، كما ترى ، أرعى الحيوانات ، وكنت آخر من ترك مدينة سان كارلوس."
ولم يكن يبدو مثل راعي غنم أو راعي قطيع ، ونظرت إلى ملابسه السوداء المتربة وإلى وجهه الرمادي المترب وإلى نظارته التي صُنع إطارها من الصلب وقلت : "أي نوع من الحيوانات؟"
"حيوانات عديدة"، قال هذا وهز رأسه ، وأضاف : "لقد اضطررت إلى تركها."
وكنت أرقب الجسر ومنطقة "إبرو دلتا" الريفية التي تبدو كما لو كانت في إفريقيا ، وكنت أتساءل كم يمضي من الوقت قبل أن نرى الأعداء ، بينما كنت أتسمع طوال الوقت الأصوات الأولى التي تشير إلى كل حدث غامض يسمى بالاشتباك ، وكان العجوز مازال جالسا هناك.
وسألت : "أي أنواع الحيوانات هي ؟"
وشرح قائلا : "كانت هناك ثلاثة حيوانات في مجموعها ، كان هناك ماعزان وقطة ، كما كانت هناك أربعة أزواج من الحمام."
وسألت : "واضطررت لتركها ؟"
"نعم ، بسبب المدفعية ، فقد أمرني قائد الجنود أن أبتعد بسبب المدفعية."
وسألته وأنا أرقب النهاية البعيدة حيث كانت عربات قليلة أخيرة تسرع نازلة على منحدر شاطئ النهر : "أليست لك أسرة ؟"
وقال : "لا ، فقط الحيوانات التي ذكرتها. القطة ، بالطبع ، ستكون على ما يرام ، فالقطة تستطيع أن ترعى نفسها ، ولكنني لا أستطيع أن أفكر فيما سيحدث للآخرين."
وسألته : "وأية سياسة تعتنق ؟"
فقال : "إنني لا أعتنق أية سياسة ، إنني في السادسة والسبعين من عمري ، ولقد سرت اثنى عشر كيلو مترا الآن ، وأعتقد الآن أنه لا يمكنني أن أواصل المسير."
وقلت : "هذا ليس مكانا آمنا تتوقف فيه ، فلو استطعت ، فإن هناك شاحنات تتجه إلى حيث يتشعب الطريق إلى تورتوسا."
فقال : سأنتظر بعضا من الوقت ؛ ثم أمضي ؛ إلى أين تتجه الشاحنات ؟"
فأجبته : تجاه برشلونة."
فقال : "لا أعرف أحدا في هذه الناحية ، ولكن شكرا لك كثيرا ، شكرا لك كثيرا مرة أخرى."
ونظر إليَّ بخواء وتعب بالغين ، ثم قال ، وقد أحس بضرورة اقتسام آلامه مع شخص ما : "القطة سوف تكون على ما يرام ، أنا متأكد من ذلك ، وليست هناك مدعاة للشعور بالقلق بسبب القطة ، ولكن الآخرين ، والآن ماذا تظن بشأن الآخرين ؟"
"لماذا ، ربما خرجوا من هذا المأزق على ما يرام."
"أتظن ذلك ؟"
"ولم لا ؟" ، قلت هذا وأنا أرقب الشاطئ البعيد الذي كان قد خلا الآن من العربات.
"ولكن ماذا سيفعلون تحت نيران المدفعية ، وقد أُمرت أن أترك المكان بسبب المدفعية؟"
وسألته : "هل تركت عش الحمام مفتوحا ؟"
"نعم."
"إذن فسيطير."
فقال : " نعم ، بالتأكيد سيطير. ولكن الأخرى ، من الأفضل ألا أفكر في الأخرى."
وقلت أحثه : "إذا كنت قد استرحت فإني سأنصرف ، انهض وحاول أن تسير الآن؟"
"شكرا ، قال هذا ونهض واقفا على قدميه ، وترنح من ناحية لأخرى ثم جلس إلى الوراء في التراب.
وقال بكآبة ولكنه لم يعد يوجه كلامه إليَّ : "لقد كنت أرعى الحيوانات ، فقط كنت أرعى الحيوانات."
ولم يكن ثمة ما أستطيع فعله من أجله ، فقد كان اليوم هو الأحد الموافق عيد الفصح ، وكان الفاشيون يتقدمون في اتجاه إبرو ، وكان يوما قاتما ملبدا بالغيوم وذا سحب منخفضة ، فلم تقم طائراتهم بطلعات ، وكانت هذه الحقيقة ، إلى جانب حقيقة أن القطط تعرف كيف ترعى نفسها ، هو كل حسن الحظ الذي بمقدور هذا العجوز أن يناله.
--------------------------------------------------------------------------------
* إرنست هيمنجواي (1899-1961) كاتب أمريكي حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1954. قضى بعضا من حياته في إسبانيا (1937-1938) حيث عمل مراسلا حربيا خلال الحرب الأهلية، واستفاد من خبرته هذه في كتابة روايته الشهيرة لمن تدق الأجراس؟ ، وخلال الحرب العالمية الأولى عمل سائقا لسيارة إسعاف في الجيش الإيطالي ، وهي الحرب التي تدور حولها روايته وداعا للسلاح . وفي الحـرب العالمية الثانية عمل مراسلا حربيا في أوروبا ، وبعد انتهاء الحرب عاش في إفريقيا وكوبا. وأنهى حياته منتحرا عام 1961.