المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ترجمة قصة "مكان نظيف جيد الإضاءة"



Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
05/11/2006, 09:49 PM
مكان نظيف جيد الإضاءة*

للكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي



كان الوقت متأخرا ، وكان كل الناس قد غادروا المقهى عدا رجل عجوز جلس في الظل الذي نتج عن سقوط الضوء الكهربي على أوراق شجرة . وفي أثناء النهار كان الشارع متربا ، أما في الليل فإن الندى كان يُسكن التراب . وكان الرجل العجوز يحب أن يبقى جالسا حتى وقت متأخر لأنه كان أصم . والآن في الليل كان يسود الهدوء وكان يشعر بالفرق . وكان الساقيان داخل المقهى يدركان أن الرجل العجوز قد ثمل قليلا . وبالرغم من أنه كان زبونا طيبا إلا أنهما كانا يعرفان أنه لو سكر كثيرا فإنه سوف ينصرف دون أن يدفع ، ولذا فقد كانا دائمي المراقبة له.

- "في الأسبوع الماضي حاول الانتحار" ، قال ذلك أحد الساقيين.

- "لماذا ؟"

- "لقد كان يائسا."

- "بخصوص ماذا ؟"

- "لا شيء."

- "وكيف تعرف أنه كان بخصوص لا شيء ؟"

- "إن لديه الكثير من المال."

وجلسا سويا إلى مائدة قريبة تستند إلى الحائط قرب باب المقهى ، ونظرا إلى الحديقة حيث كانت الموائد جميعها خالية فيما عدا المائدة التي جلس إليها العجوز في ظل أوراق الشجرة التي كانت الريح تحركها بخفة . ومرت فتاة وجندي في الشارع ، والتمع ضوء عامود النور على الرقم النحاسي المثبت على ياقته . أما الفتاة فإنها لم تكن تضع غطاء على رأسها وكانت تسرع الخطى إلى جواره.

- "سوف يمسك به الحارس" ، قال ذلك أحد الساقيين.

- "وماذا يحدث إذا ما حصل على بغيته ؟"

- "من الأفضل له أن يترك الشارع الآن ، إذ إن الحارس سوف يمسك به ، فقد انصرفوا منذ خمس دقائق."

ونقر العجوز الجالس في الظل على طبق الفنجان مستخدما القدح ، فذهب الساقي الأصغر سنا إليه.

- "ماذا تريد ؟"

ونظر العجوز إليه ، قائلا :

- "زجاجة أخرى من البراندي."

- "سوف تسكر" ، قال الساقي ذلك ، فنظر العجوز إليه ، وانصرف الساقي.

- "إنه سوف يبقى طوال الليل" ، قال هذا لزميله ، وأردف : "إن بي ميلا إلى النوم الآن ، فلست أدخل فراشي قبل الساعة الثالثة . كان ينبغي عليه أن يقتل نفسه الأسبوع الماضي."

وأخذ الساقي زجاجة البراندي وطبقا آخر من فوق الطاولة داخل المقهى وسار إلى مائدة العجوز ، فوضع الطبق وصب البراندي حتى امتلأ به القدح.

- "كان ينبغي أن تقتل نفسك في الأسبوع الماضي" ، قال ذلك للرجل الأصم ، وأشار العجوز بإصبعه قائلا : "أكثر قليلا." وأخذ الساقي يصب في القدح إلى أن طفح البراندي وجرى أسفل القدح إلى أن وصل إلى أعلى طبق في ركام الأطباق. وقال العجوز : "شكرا" ، وأعاد الساقي الزجاجة إلى داخل المقهى ، وعاد إلى الجلوس إلى المائدة مع زميله مرة أخرى ، وقال :

- "لقد سكر الآن."

- "إنه يسكر كل ليلة ."

- لأي شيء أراد أن يقتل نفسه ؟"

- "كيف لي أن أعرف ؟"

- "وكيف فعل ذلك ؟"

- "لقد شنق نفسه بحبل."

- "ومن أنزله ؟"

- "ابنة أخيه."

- "ولماذا فعلوا ذلك ؟"

- "خوفا على روحه."

- "كم لديه من المال ؟"

- "لديه الكثير."

- "لابد أن سنه ثمانون سنة."

- "على أية حال يمكنني القول إنه في الثمانين."

- "أتمنى لو يعود إلى منزله ، إذ إنني لا أتوجه إلى الفراش قبل الثالثة ، ويالها من ساعة تلك للذهاب إلى الفراش ؟"

- "إنه يظل متيقظا لأنه يحب ذلك؟"

- "إنه وحيد ، أما أنا فلست وحيدا ، إذ إن لي زوجة تنتظر في الفراش عودتي."

- "لقد كانت له زوجة أيضا في وقت من الأوقات."

- "لن تنفعه زوجة بشيء الآن."

- "لا يمكنك أن تعرف ، إذ ربما يكون أفضل حالا مع زوجة."

- "إن ابنة أخيه ترعى شئونه."

- "أعرف ، فقد قلتَ إنها أنزلته من على الحبل."

- "لست أريد أن أصبح عجوزا في مثل سنه ، فالرجل العجوز شيء كريه."

- "ليس دائما ، فهذا العجوز نظيف ، إذ إنه يشرب دون أن يريق ما يشربه ، حتى الآن وهو سكران ، انظر إليه."

- "لا أريد النظر إليه ، بل أتمنى أن يعود إلى بيته ، إنه لا يبالي بأولئك الذين يضطرون للعمل."

وابتعد العجوز ببصره عن القدح ونظر عبر الميدان ثم عاد ببصره إلى الساقيين. "زجاجة أخرى من البراندي" ، قال هذا وهو يشير إلى كأسه ، وجاءه الساقي الذي كان في عجلة من أمره.

- "انتهى" ، قالها وهو يتكلم حاذفا بعض أجزاء الجملة وهو ما يفعله الأغبياء من الناس عندما يتحدثون إلى السكارى أو الأجانب. "لا مزيد الليلة. نغلق الآن."

- "زجاجة أخرى" ، قالها العجوز.

- "لا ، انتهى" ، ومسح الساقي حافة المائدة بمنشفة وهز رأسه.

ووقف العجوز ، وأخذ يعد الأطباق ببطء[1] ، وأخرج كيس نقود جلدي من جيبه ودفع ثمن مـا شربه ، تاركا نصف "بيزيتا"[2] كبقشيش.

وأخذ الساقي يرقبه وهو يسير في الشارع ، رجل عجوز جدا يمشي في غير ثبات ولكن في وقار.

- "لماذا لم تدعه يبقى ويشرب ؟" سأل الساقي غير المتعجل ، وهما يُنزلان المصراع المعدني للمقهى ، وأضاف :

- "إن الساعة لم تصل إلى الثانية والنصف بعد."

- "أريد أن أعود إلى البيت لأنام."

- "وماذا تعني ساعة ؟"

- "تعني بالنسبة لي أكثر مما تعني بالنسبة له."

- "الساعة هي الساعة."

- "أنت نفسك تتحدث مثل رجل عجوز ، إن بإمكانه أن يشتري زجاجة وأن يشرب في البيت."

- "إن هذا ليس الشيء نفسه ."

- "لا ، ليس الشيء نفسه " ، قالها الساقي ذو الزوجة موافقا ، إذ إنه لم يُرد أن يكون غير منصف ، فقد كان في عجلة من أمره فحسب."

- "وأنت ؟ أليس لديك خوف من الذهاب للبيت قبل ساعتك المعتادة ؟"

- "هل تحاول إهانتي ؟"

- "لا ، يا فتى ، إنني فقط أمزح."

- "لا" ، قالها الساقي المتعجل ، وهو ينهض بعد أن أنزل المصراع المعدني ، "إن عندي ثقة ، بل إنني كلي ثقة."

- "لديك الشباب والثقة ووظيفة" ، قال ذلك الساقي الأكبر سنا ، وأضاف : "إن لديك كل شيء."

- "ماذا ينقصك ؟"

- "كل شيء عدا العمل."

- "إن لديك كل شيء عندي."

- "لا ، فلم تكن لديَّ ثقة أبدا ، كما أنني لست شابا."

- "هيا ، فلتتوقف عن قول هذا الهراء ولتغلق الأقفال."

- "إنني من أولئك الذين يحبون أن يبقوا حتى وقت متأخر في المقهى" ، قال ذلك الساقي الأكبر سنا ، وأضاف "مع كل أولئك الذين لا يريدون الذهاب إلى الفراش ، مع كل أولئك الذين يحتاجون إلى مصباح طوال الليل."

- "أريد أنا أن أعود إلى البيت وأن أدخل الفراش."

- "إننا من نوعين مختلفين" ، قال ذلك الساقي الأكبر سنا ، والذي كان قد ارتدى ملابسه الآن للعودة إلى المنزل ، وأردف " "ليس الأمر فقط مسألة شباب وثقة بالـرغم من أن تلك الأشياء بديعة جدا ، كل ليلة لا تكون بي رغبة في الإغلاق لأنه قد يكون هناك شخص ما بحاجة إلى المقهى."

- "أيها الرجل ، هناك حانات مفتوحة طوال الليل."

- "إنك لا تفهم ، هذا مقهى نظيف ومبهج ، وهو جيد الإضاءة ، والضوء حسـن جدا ، وهناك الآن أيضا ظلال لأوراق الشجر."

- "طابت ليلتك" ، قالها الآخر ، واستمر في الحديث مع نفسه وهو يطفئ الضوء الكهربي ، إنه الضوء بالطبع ، ولكن من الضروري أن يكون المكان نظيفا ومبهجا ، فلست تريد موسيقى ، من المؤكد أنك لا تريد موسيقى ، ولا يمكنك أن تقف أمام حانة باعتداد بالنفس بالرغم من أن هذا هو كل ما يقدم في تلك الساعات ، مم كان يخشى ؟ لم يكن خوفا أو فزعا ، لقد كان لا شيء ، وهو اللاشيء الذي كان يعرفه جيدا، لقد كان كل شيء لاشيء، والإنسان لاشيء أيضا ، لقد كان هذا فحسب ، وكان الضوء هو كل ما يحتاجه وقدرا معينا من النظافة والنظام ، والبعض يعيشون فيه ولم يشعروا به أبدا ولكنه كان يعرف أن كل شيء كان لا شيء وثم لا شيء ولا شيء وثم لا شيء[3] ، لا شيئنا الكائن في اللاشيء ، لا شيء اسمك ، مملكتك لا شيء، وسوف لا شيء في اللاشيء كما أنت في اللاشيء ، امنحنا في هذا اللاشيء لا شيئنا اليومي ، ولا شيء لنا لا شيئنا طالما نحن لا شيء للاشيئنا ، ولا شيء بنا إلى اللاشيء ، بل خلصنا من اللاشيء، لا شيء[4]. مرحى باللاشيء ، المليئة باللاشيء، فاللاشيء معك[5]. وابتسم ووقف أمام بار ذي ماكينة لامعة لصنع القهوة تعمل بضغط البخار.

- "ما النوع الخاص بك ؟" سأله ساقي الحانة.

- "لا شيء."

- "شخص مجنون آخر" ، قالها ساقي الحانة واستدار مبتعدا.

- "كأس صغيرة" ، قالها الساقي ، وصب ساقي الحانة الكأس له.

- "إن الضوء ساطع جدا ومبهج ، ولكن البار غير مصقول" ، قال هذا الساقي.

ونظر ساقي الحانة إليه ولكنه لم يجب ، فقد كان الوقت متأخرا في الليل للبدء في الحديث.

- "هل تريد كأسا صغيرة أخرى ؟" سأله ساقي الحانة.

- "لا ، شكرا: ، قالها الساقي وخرج ، فقد كان يكره الحانات والخمارات ، وكان مقهى نظـيف جيد الإضاءة شيئا مختلفا تماما ، والآن ، وبدون مزيد من التفكير ، سوف يعود إلى حجرته ، وسوف يرقد في الفراش ، وأخيرا ، ومع ضوء النهار ، سوف يبدأ في النوم ، وقال لنفسه ، كل ما في الأمر أنه ربما يكون الأرق ، ولابد أنه لدى الكثيرين."











--------------------------------------------------------------------------------

* نُشرت في مجلة القاهرة ، العدد 109 (25 ربيع الأول 1411 هـ - 15 أكتوبر 1990م) ، ص ص 52 – 54.

[1] عدد الأطباق يدل على عدد الأقداح التي شربها والتي سيدفع ثمنها. (المترجم)



[2] البيزيتا هي وحدة النقد الإسباني قبل انضمام إسبانيا للاتحاد الأوروبي واتخاذ اليورو عملة لها. (المترجم)

[3] باللغة الإسبانية في النص الإنجليزي nada y pues nada y nada y pues nada . (المترجم)



[4] هذه الفقرة عبارة عن صلاة تُعرف باسم صلاة الرب ، بعد أن استبدل هيمنجواي معظم الكلمات. (المترجم)



[5] حدث الاستبدال نفسه في هذه الصلاة لكلمتي مريم العذراء. (المترجم)

محمد الركابي
10/12/2007, 12:42 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بروفيسور احمد..اشكرك على ترجمة ساعدت في فهم النص الاصلي...واقترح ان تستعمل كلمة ( عدم ) مع كلمة ( لا شيء) في فقرة ( اللاشيء).

تحياتي