Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
05/11/2006, 09:49 PM
مكان نظيف جيد الإضاءة*
للكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي
كان الوقت متأخرا ، وكان كل الناس قد غادروا المقهى عدا رجل عجوز جلس في الظل الذي نتج عن سقوط الضوء الكهربي على أوراق شجرة . وفي أثناء النهار كان الشارع متربا ، أما في الليل فإن الندى كان يُسكن التراب . وكان الرجل العجوز يحب أن يبقى جالسا حتى وقت متأخر لأنه كان أصم . والآن في الليل كان يسود الهدوء وكان يشعر بالفرق . وكان الساقيان داخل المقهى يدركان أن الرجل العجوز قد ثمل قليلا . وبالرغم من أنه كان زبونا طيبا إلا أنهما كانا يعرفان أنه لو سكر كثيرا فإنه سوف ينصرف دون أن يدفع ، ولذا فقد كانا دائمي المراقبة له.
- "في الأسبوع الماضي حاول الانتحار" ، قال ذلك أحد الساقيين.
- "لماذا ؟"
- "لقد كان يائسا."
- "بخصوص ماذا ؟"
- "لا شيء."
- "وكيف تعرف أنه كان بخصوص لا شيء ؟"
- "إن لديه الكثير من المال."
وجلسا سويا إلى مائدة قريبة تستند إلى الحائط قرب باب المقهى ، ونظرا إلى الحديقة حيث كانت الموائد جميعها خالية فيما عدا المائدة التي جلس إليها العجوز في ظل أوراق الشجرة التي كانت الريح تحركها بخفة . ومرت فتاة وجندي في الشارع ، والتمع ضوء عامود النور على الرقم النحاسي المثبت على ياقته . أما الفتاة فإنها لم تكن تضع غطاء على رأسها وكانت تسرع الخطى إلى جواره.
- "سوف يمسك به الحارس" ، قال ذلك أحد الساقيين.
- "وماذا يحدث إذا ما حصل على بغيته ؟"
- "من الأفضل له أن يترك الشارع الآن ، إذ إن الحارس سوف يمسك به ، فقد انصرفوا منذ خمس دقائق."
ونقر العجوز الجالس في الظل على طبق الفنجان مستخدما القدح ، فذهب الساقي الأصغر سنا إليه.
- "ماذا تريد ؟"
ونظر العجوز إليه ، قائلا :
- "زجاجة أخرى من البراندي."
- "سوف تسكر" ، قال الساقي ذلك ، فنظر العجوز إليه ، وانصرف الساقي.
- "إنه سوف يبقى طوال الليل" ، قال هذا لزميله ، وأردف : "إن بي ميلا إلى النوم الآن ، فلست أدخل فراشي قبل الساعة الثالثة . كان ينبغي عليه أن يقتل نفسه الأسبوع الماضي."
وأخذ الساقي زجاجة البراندي وطبقا آخر من فوق الطاولة داخل المقهى وسار إلى مائدة العجوز ، فوضع الطبق وصب البراندي حتى امتلأ به القدح.
- "كان ينبغي أن تقتل نفسك في الأسبوع الماضي" ، قال ذلك للرجل الأصم ، وأشار العجوز بإصبعه قائلا : "أكثر قليلا." وأخذ الساقي يصب في القدح إلى أن طفح البراندي وجرى أسفل القدح إلى أن وصل إلى أعلى طبق في ركام الأطباق. وقال العجوز : "شكرا" ، وأعاد الساقي الزجاجة إلى داخل المقهى ، وعاد إلى الجلوس إلى المائدة مع زميله مرة أخرى ، وقال :
- "لقد سكر الآن."
- "إنه يسكر كل ليلة ."
- لأي شيء أراد أن يقتل نفسه ؟"
- "كيف لي أن أعرف ؟"
- "وكيف فعل ذلك ؟"
- "لقد شنق نفسه بحبل."
- "ومن أنزله ؟"
- "ابنة أخيه."
- "ولماذا فعلوا ذلك ؟"
- "خوفا على روحه."
- "كم لديه من المال ؟"
- "لديه الكثير."
- "لابد أن سنه ثمانون سنة."
- "على أية حال يمكنني القول إنه في الثمانين."
- "أتمنى لو يعود إلى منزله ، إذ إنني لا أتوجه إلى الفراش قبل الثالثة ، ويالها من ساعة تلك للذهاب إلى الفراش ؟"
- "إنه يظل متيقظا لأنه يحب ذلك؟"
- "إنه وحيد ، أما أنا فلست وحيدا ، إذ إن لي زوجة تنتظر في الفراش عودتي."
- "لقد كانت له زوجة أيضا في وقت من الأوقات."
- "لن تنفعه زوجة بشيء الآن."
- "لا يمكنك أن تعرف ، إذ ربما يكون أفضل حالا مع زوجة."
- "إن ابنة أخيه ترعى شئونه."
- "أعرف ، فقد قلتَ إنها أنزلته من على الحبل."
- "لست أريد أن أصبح عجوزا في مثل سنه ، فالرجل العجوز شيء كريه."
- "ليس دائما ، فهذا العجوز نظيف ، إذ إنه يشرب دون أن يريق ما يشربه ، حتى الآن وهو سكران ، انظر إليه."
- "لا أريد النظر إليه ، بل أتمنى أن يعود إلى بيته ، إنه لا يبالي بأولئك الذين يضطرون للعمل."
وابتعد العجوز ببصره عن القدح ونظر عبر الميدان ثم عاد ببصره إلى الساقيين. "زجاجة أخرى من البراندي" ، قال هذا وهو يشير إلى كأسه ، وجاءه الساقي الذي كان في عجلة من أمره.
- "انتهى" ، قالها وهو يتكلم حاذفا بعض أجزاء الجملة وهو ما يفعله الأغبياء من الناس عندما يتحدثون إلى السكارى أو الأجانب. "لا مزيد الليلة. نغلق الآن."
- "زجاجة أخرى" ، قالها العجوز.
- "لا ، انتهى" ، ومسح الساقي حافة المائدة بمنشفة وهز رأسه.
ووقف العجوز ، وأخذ يعد الأطباق ببطء[1] ، وأخرج كيس نقود جلدي من جيبه ودفع ثمن مـا شربه ، تاركا نصف "بيزيتا"[2] كبقشيش.
وأخذ الساقي يرقبه وهو يسير في الشارع ، رجل عجوز جدا يمشي في غير ثبات ولكن في وقار.
- "لماذا لم تدعه يبقى ويشرب ؟" سأل الساقي غير المتعجل ، وهما يُنزلان المصراع المعدني للمقهى ، وأضاف :
- "إن الساعة لم تصل إلى الثانية والنصف بعد."
- "أريد أن أعود إلى البيت لأنام."
- "وماذا تعني ساعة ؟"
- "تعني بالنسبة لي أكثر مما تعني بالنسبة له."
- "الساعة هي الساعة."
- "أنت نفسك تتحدث مثل رجل عجوز ، إن بإمكانه أن يشتري زجاجة وأن يشرب في البيت."
- "إن هذا ليس الشيء نفسه ."
- "لا ، ليس الشيء نفسه " ، قالها الساقي ذو الزوجة موافقا ، إذ إنه لم يُرد أن يكون غير منصف ، فقد كان في عجلة من أمره فحسب."
- "وأنت ؟ أليس لديك خوف من الذهاب للبيت قبل ساعتك المعتادة ؟"
- "هل تحاول إهانتي ؟"
- "لا ، يا فتى ، إنني فقط أمزح."
- "لا" ، قالها الساقي المتعجل ، وهو ينهض بعد أن أنزل المصراع المعدني ، "إن عندي ثقة ، بل إنني كلي ثقة."
- "لديك الشباب والثقة ووظيفة" ، قال ذلك الساقي الأكبر سنا ، وأضاف : "إن لديك كل شيء."
- "ماذا ينقصك ؟"
- "كل شيء عدا العمل."
- "إن لديك كل شيء عندي."
- "لا ، فلم تكن لديَّ ثقة أبدا ، كما أنني لست شابا."
- "هيا ، فلتتوقف عن قول هذا الهراء ولتغلق الأقفال."
- "إنني من أولئك الذين يحبون أن يبقوا حتى وقت متأخر في المقهى" ، قال ذلك الساقي الأكبر سنا ، وأضاف "مع كل أولئك الذين لا يريدون الذهاب إلى الفراش ، مع كل أولئك الذين يحتاجون إلى مصباح طوال الليل."
- "أريد أنا أن أعود إلى البيت وأن أدخل الفراش."
- "إننا من نوعين مختلفين" ، قال ذلك الساقي الأكبر سنا ، والذي كان قد ارتدى ملابسه الآن للعودة إلى المنزل ، وأردف " "ليس الأمر فقط مسألة شباب وثقة بالـرغم من أن تلك الأشياء بديعة جدا ، كل ليلة لا تكون بي رغبة في الإغلاق لأنه قد يكون هناك شخص ما بحاجة إلى المقهى."
- "أيها الرجل ، هناك حانات مفتوحة طوال الليل."
- "إنك لا تفهم ، هذا مقهى نظيف ومبهج ، وهو جيد الإضاءة ، والضوء حسـن جدا ، وهناك الآن أيضا ظلال لأوراق الشجر."
- "طابت ليلتك" ، قالها الآخر ، واستمر في الحديث مع نفسه وهو يطفئ الضوء الكهربي ، إنه الضوء بالطبع ، ولكن من الضروري أن يكون المكان نظيفا ومبهجا ، فلست تريد موسيقى ، من المؤكد أنك لا تريد موسيقى ، ولا يمكنك أن تقف أمام حانة باعتداد بالنفس بالرغم من أن هذا هو كل ما يقدم في تلك الساعات ، مم كان يخشى ؟ لم يكن خوفا أو فزعا ، لقد كان لا شيء ، وهو اللاشيء الذي كان يعرفه جيدا، لقد كان كل شيء لاشيء، والإنسان لاشيء أيضا ، لقد كان هذا فحسب ، وكان الضوء هو كل ما يحتاجه وقدرا معينا من النظافة والنظام ، والبعض يعيشون فيه ولم يشعروا به أبدا ولكنه كان يعرف أن كل شيء كان لا شيء وثم لا شيء ولا شيء وثم لا شيء[3] ، لا شيئنا الكائن في اللاشيء ، لا شيء اسمك ، مملكتك لا شيء، وسوف لا شيء في اللاشيء كما أنت في اللاشيء ، امنحنا في هذا اللاشيء لا شيئنا اليومي ، ولا شيء لنا لا شيئنا طالما نحن لا شيء للاشيئنا ، ولا شيء بنا إلى اللاشيء ، بل خلصنا من اللاشيء، لا شيء[4]. مرحى باللاشيء ، المليئة باللاشيء، فاللاشيء معك[5]. وابتسم ووقف أمام بار ذي ماكينة لامعة لصنع القهوة تعمل بضغط البخار.
- "ما النوع الخاص بك ؟" سأله ساقي الحانة.
- "لا شيء."
- "شخص مجنون آخر" ، قالها ساقي الحانة واستدار مبتعدا.
- "كأس صغيرة" ، قالها الساقي ، وصب ساقي الحانة الكأس له.
- "إن الضوء ساطع جدا ومبهج ، ولكن البار غير مصقول" ، قال هذا الساقي.
ونظر ساقي الحانة إليه ولكنه لم يجب ، فقد كان الوقت متأخرا في الليل للبدء في الحديث.
- "هل تريد كأسا صغيرة أخرى ؟" سأله ساقي الحانة.
- "لا ، شكرا: ، قالها الساقي وخرج ، فقد كان يكره الحانات والخمارات ، وكان مقهى نظـيف جيد الإضاءة شيئا مختلفا تماما ، والآن ، وبدون مزيد من التفكير ، سوف يعود إلى حجرته ، وسوف يرقد في الفراش ، وأخيرا ، ومع ضوء النهار ، سوف يبدأ في النوم ، وقال لنفسه ، كل ما في الأمر أنه ربما يكون الأرق ، ولابد أنه لدى الكثيرين."
--------------------------------------------------------------------------------
* نُشرت في مجلة القاهرة ، العدد 109 (25 ربيع الأول 1411 هـ - 15 أكتوبر 1990م) ، ص ص 52 – 54.
[1] عدد الأطباق يدل على عدد الأقداح التي شربها والتي سيدفع ثمنها. (المترجم)
[2] البيزيتا هي وحدة النقد الإسباني قبل انضمام إسبانيا للاتحاد الأوروبي واتخاذ اليورو عملة لها. (المترجم)
[3] باللغة الإسبانية في النص الإنجليزي nada y pues nada y nada y pues nada . (المترجم)
[4] هذه الفقرة عبارة عن صلاة تُعرف باسم صلاة الرب ، بعد أن استبدل هيمنجواي معظم الكلمات. (المترجم)
[5] حدث الاستبدال نفسه في هذه الصلاة لكلمتي مريم العذراء. (المترجم)
للكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي
كان الوقت متأخرا ، وكان كل الناس قد غادروا المقهى عدا رجل عجوز جلس في الظل الذي نتج عن سقوط الضوء الكهربي على أوراق شجرة . وفي أثناء النهار كان الشارع متربا ، أما في الليل فإن الندى كان يُسكن التراب . وكان الرجل العجوز يحب أن يبقى جالسا حتى وقت متأخر لأنه كان أصم . والآن في الليل كان يسود الهدوء وكان يشعر بالفرق . وكان الساقيان داخل المقهى يدركان أن الرجل العجوز قد ثمل قليلا . وبالرغم من أنه كان زبونا طيبا إلا أنهما كانا يعرفان أنه لو سكر كثيرا فإنه سوف ينصرف دون أن يدفع ، ولذا فقد كانا دائمي المراقبة له.
- "في الأسبوع الماضي حاول الانتحار" ، قال ذلك أحد الساقيين.
- "لماذا ؟"
- "لقد كان يائسا."
- "بخصوص ماذا ؟"
- "لا شيء."
- "وكيف تعرف أنه كان بخصوص لا شيء ؟"
- "إن لديه الكثير من المال."
وجلسا سويا إلى مائدة قريبة تستند إلى الحائط قرب باب المقهى ، ونظرا إلى الحديقة حيث كانت الموائد جميعها خالية فيما عدا المائدة التي جلس إليها العجوز في ظل أوراق الشجرة التي كانت الريح تحركها بخفة . ومرت فتاة وجندي في الشارع ، والتمع ضوء عامود النور على الرقم النحاسي المثبت على ياقته . أما الفتاة فإنها لم تكن تضع غطاء على رأسها وكانت تسرع الخطى إلى جواره.
- "سوف يمسك به الحارس" ، قال ذلك أحد الساقيين.
- "وماذا يحدث إذا ما حصل على بغيته ؟"
- "من الأفضل له أن يترك الشارع الآن ، إذ إن الحارس سوف يمسك به ، فقد انصرفوا منذ خمس دقائق."
ونقر العجوز الجالس في الظل على طبق الفنجان مستخدما القدح ، فذهب الساقي الأصغر سنا إليه.
- "ماذا تريد ؟"
ونظر العجوز إليه ، قائلا :
- "زجاجة أخرى من البراندي."
- "سوف تسكر" ، قال الساقي ذلك ، فنظر العجوز إليه ، وانصرف الساقي.
- "إنه سوف يبقى طوال الليل" ، قال هذا لزميله ، وأردف : "إن بي ميلا إلى النوم الآن ، فلست أدخل فراشي قبل الساعة الثالثة . كان ينبغي عليه أن يقتل نفسه الأسبوع الماضي."
وأخذ الساقي زجاجة البراندي وطبقا آخر من فوق الطاولة داخل المقهى وسار إلى مائدة العجوز ، فوضع الطبق وصب البراندي حتى امتلأ به القدح.
- "كان ينبغي أن تقتل نفسك في الأسبوع الماضي" ، قال ذلك للرجل الأصم ، وأشار العجوز بإصبعه قائلا : "أكثر قليلا." وأخذ الساقي يصب في القدح إلى أن طفح البراندي وجرى أسفل القدح إلى أن وصل إلى أعلى طبق في ركام الأطباق. وقال العجوز : "شكرا" ، وأعاد الساقي الزجاجة إلى داخل المقهى ، وعاد إلى الجلوس إلى المائدة مع زميله مرة أخرى ، وقال :
- "لقد سكر الآن."
- "إنه يسكر كل ليلة ."
- لأي شيء أراد أن يقتل نفسه ؟"
- "كيف لي أن أعرف ؟"
- "وكيف فعل ذلك ؟"
- "لقد شنق نفسه بحبل."
- "ومن أنزله ؟"
- "ابنة أخيه."
- "ولماذا فعلوا ذلك ؟"
- "خوفا على روحه."
- "كم لديه من المال ؟"
- "لديه الكثير."
- "لابد أن سنه ثمانون سنة."
- "على أية حال يمكنني القول إنه في الثمانين."
- "أتمنى لو يعود إلى منزله ، إذ إنني لا أتوجه إلى الفراش قبل الثالثة ، ويالها من ساعة تلك للذهاب إلى الفراش ؟"
- "إنه يظل متيقظا لأنه يحب ذلك؟"
- "إنه وحيد ، أما أنا فلست وحيدا ، إذ إن لي زوجة تنتظر في الفراش عودتي."
- "لقد كانت له زوجة أيضا في وقت من الأوقات."
- "لن تنفعه زوجة بشيء الآن."
- "لا يمكنك أن تعرف ، إذ ربما يكون أفضل حالا مع زوجة."
- "إن ابنة أخيه ترعى شئونه."
- "أعرف ، فقد قلتَ إنها أنزلته من على الحبل."
- "لست أريد أن أصبح عجوزا في مثل سنه ، فالرجل العجوز شيء كريه."
- "ليس دائما ، فهذا العجوز نظيف ، إذ إنه يشرب دون أن يريق ما يشربه ، حتى الآن وهو سكران ، انظر إليه."
- "لا أريد النظر إليه ، بل أتمنى أن يعود إلى بيته ، إنه لا يبالي بأولئك الذين يضطرون للعمل."
وابتعد العجوز ببصره عن القدح ونظر عبر الميدان ثم عاد ببصره إلى الساقيين. "زجاجة أخرى من البراندي" ، قال هذا وهو يشير إلى كأسه ، وجاءه الساقي الذي كان في عجلة من أمره.
- "انتهى" ، قالها وهو يتكلم حاذفا بعض أجزاء الجملة وهو ما يفعله الأغبياء من الناس عندما يتحدثون إلى السكارى أو الأجانب. "لا مزيد الليلة. نغلق الآن."
- "زجاجة أخرى" ، قالها العجوز.
- "لا ، انتهى" ، ومسح الساقي حافة المائدة بمنشفة وهز رأسه.
ووقف العجوز ، وأخذ يعد الأطباق ببطء[1] ، وأخرج كيس نقود جلدي من جيبه ودفع ثمن مـا شربه ، تاركا نصف "بيزيتا"[2] كبقشيش.
وأخذ الساقي يرقبه وهو يسير في الشارع ، رجل عجوز جدا يمشي في غير ثبات ولكن في وقار.
- "لماذا لم تدعه يبقى ويشرب ؟" سأل الساقي غير المتعجل ، وهما يُنزلان المصراع المعدني للمقهى ، وأضاف :
- "إن الساعة لم تصل إلى الثانية والنصف بعد."
- "أريد أن أعود إلى البيت لأنام."
- "وماذا تعني ساعة ؟"
- "تعني بالنسبة لي أكثر مما تعني بالنسبة له."
- "الساعة هي الساعة."
- "أنت نفسك تتحدث مثل رجل عجوز ، إن بإمكانه أن يشتري زجاجة وأن يشرب في البيت."
- "إن هذا ليس الشيء نفسه ."
- "لا ، ليس الشيء نفسه " ، قالها الساقي ذو الزوجة موافقا ، إذ إنه لم يُرد أن يكون غير منصف ، فقد كان في عجلة من أمره فحسب."
- "وأنت ؟ أليس لديك خوف من الذهاب للبيت قبل ساعتك المعتادة ؟"
- "هل تحاول إهانتي ؟"
- "لا ، يا فتى ، إنني فقط أمزح."
- "لا" ، قالها الساقي المتعجل ، وهو ينهض بعد أن أنزل المصراع المعدني ، "إن عندي ثقة ، بل إنني كلي ثقة."
- "لديك الشباب والثقة ووظيفة" ، قال ذلك الساقي الأكبر سنا ، وأضاف : "إن لديك كل شيء."
- "ماذا ينقصك ؟"
- "كل شيء عدا العمل."
- "إن لديك كل شيء عندي."
- "لا ، فلم تكن لديَّ ثقة أبدا ، كما أنني لست شابا."
- "هيا ، فلتتوقف عن قول هذا الهراء ولتغلق الأقفال."
- "إنني من أولئك الذين يحبون أن يبقوا حتى وقت متأخر في المقهى" ، قال ذلك الساقي الأكبر سنا ، وأضاف "مع كل أولئك الذين لا يريدون الذهاب إلى الفراش ، مع كل أولئك الذين يحتاجون إلى مصباح طوال الليل."
- "أريد أنا أن أعود إلى البيت وأن أدخل الفراش."
- "إننا من نوعين مختلفين" ، قال ذلك الساقي الأكبر سنا ، والذي كان قد ارتدى ملابسه الآن للعودة إلى المنزل ، وأردف " "ليس الأمر فقط مسألة شباب وثقة بالـرغم من أن تلك الأشياء بديعة جدا ، كل ليلة لا تكون بي رغبة في الإغلاق لأنه قد يكون هناك شخص ما بحاجة إلى المقهى."
- "أيها الرجل ، هناك حانات مفتوحة طوال الليل."
- "إنك لا تفهم ، هذا مقهى نظيف ومبهج ، وهو جيد الإضاءة ، والضوء حسـن جدا ، وهناك الآن أيضا ظلال لأوراق الشجر."
- "طابت ليلتك" ، قالها الآخر ، واستمر في الحديث مع نفسه وهو يطفئ الضوء الكهربي ، إنه الضوء بالطبع ، ولكن من الضروري أن يكون المكان نظيفا ومبهجا ، فلست تريد موسيقى ، من المؤكد أنك لا تريد موسيقى ، ولا يمكنك أن تقف أمام حانة باعتداد بالنفس بالرغم من أن هذا هو كل ما يقدم في تلك الساعات ، مم كان يخشى ؟ لم يكن خوفا أو فزعا ، لقد كان لا شيء ، وهو اللاشيء الذي كان يعرفه جيدا، لقد كان كل شيء لاشيء، والإنسان لاشيء أيضا ، لقد كان هذا فحسب ، وكان الضوء هو كل ما يحتاجه وقدرا معينا من النظافة والنظام ، والبعض يعيشون فيه ولم يشعروا به أبدا ولكنه كان يعرف أن كل شيء كان لا شيء وثم لا شيء ولا شيء وثم لا شيء[3] ، لا شيئنا الكائن في اللاشيء ، لا شيء اسمك ، مملكتك لا شيء، وسوف لا شيء في اللاشيء كما أنت في اللاشيء ، امنحنا في هذا اللاشيء لا شيئنا اليومي ، ولا شيء لنا لا شيئنا طالما نحن لا شيء للاشيئنا ، ولا شيء بنا إلى اللاشيء ، بل خلصنا من اللاشيء، لا شيء[4]. مرحى باللاشيء ، المليئة باللاشيء، فاللاشيء معك[5]. وابتسم ووقف أمام بار ذي ماكينة لامعة لصنع القهوة تعمل بضغط البخار.
- "ما النوع الخاص بك ؟" سأله ساقي الحانة.
- "لا شيء."
- "شخص مجنون آخر" ، قالها ساقي الحانة واستدار مبتعدا.
- "كأس صغيرة" ، قالها الساقي ، وصب ساقي الحانة الكأس له.
- "إن الضوء ساطع جدا ومبهج ، ولكن البار غير مصقول" ، قال هذا الساقي.
ونظر ساقي الحانة إليه ولكنه لم يجب ، فقد كان الوقت متأخرا في الليل للبدء في الحديث.
- "هل تريد كأسا صغيرة أخرى ؟" سأله ساقي الحانة.
- "لا ، شكرا: ، قالها الساقي وخرج ، فقد كان يكره الحانات والخمارات ، وكان مقهى نظـيف جيد الإضاءة شيئا مختلفا تماما ، والآن ، وبدون مزيد من التفكير ، سوف يعود إلى حجرته ، وسوف يرقد في الفراش ، وأخيرا ، ومع ضوء النهار ، سوف يبدأ في النوم ، وقال لنفسه ، كل ما في الأمر أنه ربما يكون الأرق ، ولابد أنه لدى الكثيرين."
--------------------------------------------------------------------------------
* نُشرت في مجلة القاهرة ، العدد 109 (25 ربيع الأول 1411 هـ - 15 أكتوبر 1990م) ، ص ص 52 – 54.
[1] عدد الأطباق يدل على عدد الأقداح التي شربها والتي سيدفع ثمنها. (المترجم)
[2] البيزيتا هي وحدة النقد الإسباني قبل انضمام إسبانيا للاتحاد الأوروبي واتخاذ اليورو عملة لها. (المترجم)
[3] باللغة الإسبانية في النص الإنجليزي nada y pues nada y nada y pues nada . (المترجم)
[4] هذه الفقرة عبارة عن صلاة تُعرف باسم صلاة الرب ، بعد أن استبدل هيمنجواي معظم الكلمات. (المترجم)
[5] حدث الاستبدال نفسه في هذه الصلاة لكلمتي مريم العذراء. (المترجم)