المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عينان صقريتان



حنان الأغا
21/08/2007, 03:56 AM
عينان صقريّتان

اليوم هو الجمعة ، عطلة رسمية . سارت مع صديقتها وهما تتمتمان
وتهمهمان بفرح طفولي يلمس روحيهما كلما أتى هذا اليوم من كل أسبوع .
كانت كل منهما تحمل قمعا من البسكويت ممتلئا بالمثلجات تلعقه بشهية ، استرعت انتباه المارة ، فتاتان شابتان ...! ولم يكن يخل الأمر من ابتسامة هنا أو هناك .شدت يد صديقتها باتجاه الكوخ الخشبي المزين من الخارج بالمجلات والصحف والذي يمتلىء بأصناف الكتب النادرة والإصدارات الجديدة . تعالي ها هو .قالت لصديقتها . حيت الرجل صاحب الكوخ الذي ناولها مجموعة من الكتب كانت موضوعة في حزمة فوق أحد الأرفف .. نقدته ثمنها وهي تكاد تقفز من السعادة.. ها هو كنزها ينمو ويتكاثر ..
تابعتا السير حتى وصلتا إلى المقهى الصغير ، حيث يلتقي الأدباء والفنانون
يحتسون القهوة المميزة التي تتصاعد رائحتها ، منطلقة إلى الرصيف خارج المقهى .. استنشقت الرائحة القوية وملأت بها رئتيها ، ونظرت إلى صديقتها فوجدتها تفعل الشيء ذاته ،ثم ضحكتا معا .
كان هذا اليوم تحديدا يحمل مفاجأة قررت أن تبقيها سرا حتى تصلا إلى المقهى.
دخلت الفتاتان بطريقة أليفة تتناسب مع جو المكان المضبب ببخار القهوة،
وحياها الرجل المسن الأنيق ذو الشعر الفضي .أهلا وسهلا بابنة الغالي
وبرائحة الغالي .. كان هذا الرجل صديقا لوالدها المرحوم .
همس الرجل بمودة أبوية .. تفضلا ، وأشار إلى منضدة صغيرة تتسع لشخصين ، ثم أشار إلى عامل المقهى أن يعد لهما فنجانيهما المعتادين ضيافة أهل المكان وبدأ على الفور بتجهيز كمية البن الأسبوعية المعتادة بالمواصفات المعتادة ، ثلثين من البن المحروق وثلث من الأشقر .
سارت مسرعة دون أن تنظر ، إلى مقعدها المعتاد بينما جلست الأخرى في المقعد المقابل .
وضعتا الكتب فوق المنضدة وأزاحت بقوة يد صديقتها التي كانت تحاول سحب كتاب لتتصفحه . ليس الآن . قالت لها .
رفعت رأسها في اللحظة التي خشخشت فيها صحيفة ما بيد الجالس قبالتها إلى المنضدة المجاورة ، وقالت لنفسها أنها دائما ترى هذا الرجل مختبئا خلف صحيفة ، وخيل إليها أنها التقطت له لمحة خاطفة هي عينين حادتين صغيرتين.. هذا ما رأته . وهي المرة الأولى منذ اعتادت على رؤيته. حولت نظرها بسرعة عندما اقتربت رائحة القهوة . تناولت كل منهما فنجانها ، وبدأ طقس جميل .
أخذت تقلب الكتب بيدها الأخرى وتكون منها مجموعتين متساويتين بحيث
كان على رأس كل منهما الكتاب نفسه بنسختين .اتسعت عينا صديقتها وأصدرت صوتا مندهشا ..هييييييي.
كل عام وأنت بخير وعيد ميلاد سعيد . قالت وهي تدفع بإحدى المجموعتين باتجاه صديقتها التي لم يسعها المكان فرحة ودهشة . وتصادف أن سمعت شيئا فرفعت وجهها لترى العينين الصقريتين تحدجانها بنظرة غريبة . لم تكن نظرة وقحة ولا نظرة إعجاب ولا مقت ، نظرة لم تستطع تفسيرها . سارع بإخفاء وجهه وجسده بالصحيفة المفتوحة على مصراعيها أمامه.
أحست بضيق ما ، فنهضت وطلبت من صديقتها أن تتبادلا المكانين .
استمرت الثرثرة الهامسة وتصفح الكتب وصيحات الاستحسان المكتومة ،
ولكنها لا تشعر بارتياح ، فقد كانت تحس بالعينين تخترقان ظهرها كطلقتين . فوقفت فجأة وأشارت لصديقتها أنْ هيا نذهب . أسرعتا خارجتين على صوت خشخشة الصحيفة يملأ أذنيها ، وعلى صوت الرجل ذو الشعر الفضي يلحقهما بالبن الذي نسيته .

بعد مرور شهرين
دخلتا المقهى وكان الترحيب المعتاد ، والقهوة المعتادة ، واتجهت للمقعد المعتاد .هي كذلك دائما ، ترتبط بالأمكنة وتنشأ بينهما علاقة غير مفهومة ،
كانت على استعداد أن تقف ساعة تنتظر الجالس في مكانها حتى ينهض فتسرع بالجلوس ، وكان هذا يثير ضحك أمها أحيانا .
كتب أيضا ، تتصفحها الصديقتان ، مع رشفات القهوة ، وفجأة تذكرت أمرا ،
رفعت رأسها لترى العينين الصقريتين تحدقان بها وتحاولان الاختباء خلف الصحيفة .عاد لها الشعور بعدم الارتياح ، ولكنها لم تتبادل الأمكنة مع صديقتها ، بل اكتفت بالوقوف وسارت مع صديقتها باتجاه الباب ، ثم قبل
خروجها مدت يدها فناولها صاحب المقهى بنها المعتاد وناولته الثمن شاكرة بهزة من رأسها وابتسامة لا معنى لها .

( بعد سنتين )
نظر إليها الرجل مليا ، بعد أن امتطى صهوة المقعد – مقعد سائق الحافلة –الذي نزل لإحضار ما يأكله .
جلس الرجل فوق المقعد بطريقة معكوسة بحيث كانت ذقنه تستند إلى أعلى ظهر المقعد ، مواجها لها ..
ها هو يحاول أن يفتح حوارا معها ، وهو يسدد نظراته إلى عينيها فتجاهلته .
_في أي ساعة وصلتم الميناء ؟
_ لم تجب ، وتشاغلت بالحديث مع صديقتها
_ من حظكم الطيب أن الطقس معتدل هذا اليوم
_(لا تعليق )
_لمَ بقيتما في الحافلة ولم تلحقا الأخريات إلى داخل الميناء ؟
_ كان على بعضنا أن يبقى مع الطالبات اللواتي لا يرغبن في النزول إلى الميناء .
لم تكن هي من أجابت ، بل صديقتها التي احمر وجهها حرجا .
استمرت عيناه في التحديق بها ، لكنها لم تعره التفاتة ..
حاول أن يستأنف الحديث عندما اعتقد للحظة أنها تنظر باتجاهه ، إلا أنه توقف عندما أدرك أن نظراتها تخترقه لتنفذ إلى المشهد البحري المترامي خلفه .. نظر إلى حيث تنظر وابتسم ، وهز رأسه ، ثم استدار بحركة مسرحية ، وترجل عن المقعد ، ثم أدى تحية ما ترافقها انحناءة بسيطة ونزل من الحافلة واختفى .
انطلقت ضحكاتهما ، ثم تذكرت صديقتها أن توجه لها ضربة مداعبة على كتفها :لقد سببتِ لي إحراجا ، ويبدو أن هذا الرجل يعرفك ، وجعلتِني أرد عليه بدلا منكِ.فقالت : لم أطلب منك ذلك ، وأطلقت ضحكة وهي تهرب في الممر بين المقاعد .التفتت نحو إحدى النوافذ فرأته يقف متسمرا على الرصيف ، بداية، ميزته من لون معطفه البني ، إلا أن اللون والشكل وكل ما يحيط به تلاشى بسرعة ، وبقيت عينان كعيني الصقر تحدقان بها عن بعد. أحست برعشة خفيفة واكتست ملامحها حمرة واضحة ، ثم عادت إلى مقعدها عندما تحرك الرجل مبتعدا بخطوات ثابتة .وقالت لنفسها أنها تعرف هاتين العينين .

( مرت ثلاث سنوات )

تمسك بسماعة الهاتف ، وتحاول مقاطعة الصوت المتسلل إليها عبرها ، ولكن، لدقيقتين لم تتمكن من تكملة الكلمة التي حاولت نطقها ، وأخيرا استطاعت أن تقول لزوجها: سنبقى أصدقاء، والزمن لا يعود للوراء ،ومن غير المفيد لنا أن تصبح كلمة لا ، نعم ، أعرف أنه أبغض الحلال ، ولكن ثلاث سنوات هو وقت كاف ، كي لا نتحول إلى عدوين .. وتمنت له التوفيق ، ثم فردت جسدها على المقعد الطويل طلبا للاسترخاء .

( ومر عام )

كانت تجلس إلى مكتبها تشرب القهوة في فترة الاستراحة ، فتناولت دفترها الأحمر الذي يرافقها دائما ، وقلبت صفحاته. كانت تقف عند عبارات مثل المختبىء خلف الصحيفة ، ورائحة البن ، والمقعد المعتاد،
والعينين الصقريتين .. وتبتسم وتهز رأسها .. ذكريات !! تقول لنفسها .
ودخلت إحدى زميلاتها المكتب وهي تحمل مفكرة سوداء ، فأغلقت دفترها ووضعته في درج مكتبها .. ما هذا الذي بيدك؟ سألت . فأجابت زميلتها :هو مخطوطة لمجموعة قصص قصيرة ، كتبها شقيقي وأعطاها لي لعلي أحظى بمن يصمم له الغلاف .
مدت يدها وتناولت المفكرة وفتحتها بينما غادرت الزميلة إلى مكتبها . بدأت بتقليب الصفحات بملل ، وقد تراجعت بمقعدها للخلف ، مسندة ظهره إلى النافذة .. فجأة اعتدلت في جلستها وحدقت جيدا في عبارات مثل :
كانت أمامي كلها .. شعرها الغابي الطويل .. الذي عقدته اليوم على هيئة
ذيل الفرس.. بسرعة أخفيت وجهي خلف الصحيفة ..
ترى هل تمكنت من رؤيتي؟

قربت وجهها أكثر وتابعت:

بعد شهرين ..

اليوم تبعتها من بيتها إلى بيت صديقتها ، متأكد أنا أنها لم تنتبه لي .أنا سعيد..يكفي ني أن أراها ، يكفيني أن أحس بها فرحة تتناول المثلجات كطفلة ، تتمتم بجذل وحيوية .
أصبحت أعرف ألوانها المفضلة ، ومذاق قهوتها ، وعناوين الكتب التي تقرأ. غدا سأبتاع مثلها .
تململت وهي مأخوذة ، وتطلعت حولها ، ثم قرأت: أحبها هذه الجريدة ، ولكنني اليوم غاضب منها ، فهي لم تستطع إخفاء وجهي. لقد لمحتني .هل سأراها مرة أخرى ؟؟؟

أخرجت دفترها الأحمر وفتحته عند الصفحة التي وصل إليها هو ،
ووضعت الدفترين أحدهما بجانب الآخر وقرأت :

بعد عامين

في دفترها ، تقول : امتطى الرجل صهوة المقعد .
في دفتره يقول: كنت أنتظرها هناك في المدينة البحرية ، علمت بأمر الرحلة وتوقيتها ، وكنت أنتظر الحافلة، ولما نزلت المعلمات والطالبات ولم تنزل صعدت إلى الحافلة .. لم أستطع الانتظار أكثر ، لا أريدها أن تهرب مني .
تحركت في مقعدها ، وجعلت أصابعها تتخلل شعرها ، وتابعت من دفترها :

لم أنظر إليه ، هذا المتطفل الذي يحاول أن يجعلني أكلمه ، ولن أرد عليه .
مسكينة صديقتي لقد اضطرت للرد حرجا .. ههههههه .

ومن دفتره :
لماذا تكرهني هذه الفتاة؟... هي حتى لا تعرفني!..
كيف نكره من لا نعرف ؟......
ولكني أحبها وهذا يكفي ....
لا أستطيع القول إنني لم أتألم عندما لم تكلف نفسها عناء النظر إلي ،
تأملت أن تفعل ، فقد تتذكرني ...لكنها نظرت من خلالي كأني غير موجود!!

ومن دفترها :
نظراتها تخترقه لتنفذ إلى المشهد البحري المترامي خلفه ..
رفعت رأسها ووضعت كفيها كلاّ على دفتر ، ونظرت أمامها مباشرة ، وقبل
أن تشرد بفكرها ، نظرت أمامها إلى الغرفة المقابلة ، فوجدت رجلا يجلس إلى المكتب المقابل وقد أسند مرفقيه فوقه ، رفعت نظراتها إلى الأعلى قليلا فوجدت العينين الصقريتين تحدقان بها ، في ود . ارتسمت على ملامحها ابتسامة تسللت من روحها دون استئذان ، واستجابت عيناها لعينيه ،وتسللت
أصابعها تغلق الدفترين معا .

_________
حنان الأغا
2007

عبد الحميد الغرباوي
21/08/2007, 05:18 AM
و ماذا بعد أيتها الشاعرة القصصية..حنان الأغا...
كنت أقرأ ما خطه يراعك وأنا غارق في دهشة من هذه الرشاقة في الكتابة، وهذه البراعة في اختزال الوقت (الزمن)..وهذا البناء الهندسي المحكم الأطراف ..جعلت الضوء يدخله من كل الجوانب...
ناهيك عن الفكرة.. سموت بالحكي عن العلاقة بين الرجل والمرأة درجات..
هنيئا لك شهرزاد بحفيدة تتقن السرد وبامتياز...
سأكتفي بهذا..
و أقول لكل من يزور هذه الصفحة: اقرأ وتمتع بفن الحكي..
مودتي

عبد العزيز غوردو
21/08/2007, 11:42 PM
انسيابية في الحكي..

ورشاقة في التعبير... تخترق الأزمنة والأمكنة... والفضاءات...

بعد رابع ها هنا يختفي.. وراء تقطيع النص...

وشخوص دافئة علاقاتها.. عن بعد..

حنان، أيتها المبدعة:

أحييـــــــــــــــــــك

حنان الأغا
29/08/2007, 12:44 PM
و ماذا بعد أيتها الشاعرة القصصية..حنان الأغا...
كنت أقرأ ما خطه يراعك وأنا غارق في دهشة من هذه الرشاقة في الكتابة، وهذه البراعة في اختزال الوقت (الزمن)..وهذا البناء الهندسي المحكم الأطراف ..جعلت الضوء يدخله من كل الجوانب...
ناهيك عن الفكرة.. سموت بالحكي عن العلاقة بين الرجل والمرأة درجات..
هنيئا لك شهرزاد بحفيدة تتقن السرد وبامتياز...
سأكتفي بهذا..
و أقول لكل من يزور هذه الصفحة: اقرأ وتمتع بفن الحكي..
مودتي
_____________________________

الأديب الرائع
الغرباوي

هي شهادة أعتز بها حقا أيها الأستاذ.

لا أعرف ما ينبغي قوله ردا على كلماتك الجميلة سوى

شكرا .:good:

مصطفى ابووافيه
29/08/2007, 05:11 PM
رغم انه من البدايه نعلم انها قصه عاطفيه لكن روعة النص وتسلسل الاحاث بأنسيابيه نشهد لها تجعل القارىءمشدود لمعرفه كيف تكون النهايه وهو مايجعله لايستطيع التوقف قبل ان يصل الى الخاتمه
لك خالص تحياتى ودمت لنا مبدعه
مصطفى ابووافيه

حنان الأغا
01/09/2007, 06:08 PM
انسيابية في الحكي..

ورشاقة في التعبير... تخترق الأزمنة والأمكنة... والفضاءات...

بعد رابع ها هنا يختفي.. وراء تقطيع النص...

وشخوص دافئة علاقاتها.. عن بعد..

حنان، أيتها المبدعة:

أحييـــــــــــــــــــك

____________--------

عبد العزيز
الكثير من الشكر لتعقيبك الرقيق
ولقراءتك الدافئة

كل الود