المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقام العراقي الى اين .؟ iraqi maqam to where / الفصل الرابع/الحلقة 9



حسين اسماعيل الاعظمي
26/08/2007, 11:19 AM
كتاب


المقام العراقي
الى أيـــــن !؟


دراسة تحليلية فنية نقدية فكرية برؤية مستقبلية




















تأليف
حسين اسماعيل الاعظمي بغـداد 2000













الفصل الرابع


















الحلقة (9)















محمد عبد الرزاق القبانجي ( 1901 – 1989 ) *
كان القبنجي الذي ترأس حملة التجديد في طرق الاداء المقامية منذ العقود الاولى من القرن العشرين قد شنت عليه حملات نقدية شعواء بين معارض ومؤيد بحيث احتدم الجدل في تلك الحقبة من الزمن ولاتزال اثارها باقية عند المحافظين القدماء والاجيال الحالية وصار النقاد والصحفيون والكتاب والمهتمون بشؤون المقام العراقي يتبادلون عجالات جدلية متحمسة … تسقط طريقة القبانجي … تحيا طريقة القبانجي … ولم يقفل باب المناقشة لهذا السبب بل سيستمر او سيعاود الموجودون الان الهجوم في الوقت الحاضر وحتى في المستقبل بين من مازال يعارض وبين مؤيدياها الكثيرين بسبب التطور المستمر الحاصل لوسائل الانتشار والتعليم الموسيقي … فالأداء المقامي والمكونات النغمية الموجودة في البناء اللحني للمقام العراقي الموروثة عن القرون الكثيرة الماضية توحي بأنطباع من التماسك بحيث نشعر بقدم الاصالة التأريخية وما يحويه من تراكمات حضارية عريقة . وكذلك نشعر بصعوبة مواءمته كشكل ومضمون للواقع المعاش ، وهي حاجة طبيعية لاختلاف روح العصر لكل جيل من الاجيال ، والمغني الذي يريد حث المستمع على الالتزام وتنبيه شعوره الى شكل العصر الذي يعيش فيه ، انما يسبغ على هذه المشاكل معنى اعتباطياً ..!! كل شيء اذاً في المقام التقليدي تمويه ومن الواجب اعادة التفكير في طبيعة طرق اداءه ويبدو ان هذه المشاحنات التي دارت حول المقامات وطرق ادائها ادت بصورة خاصة الى نتيجة معينة هي المحاولات الجدية الى تجديد الطرق الادائية للمقام بعمق والتي بدأت بشكل بسيط حتى تعمقت وتبلورت عند القبانجي ، فقد اعقبت اثار القبانجي التي غدت نموذجاً للمقام المعد المصنوع مقامات معدة شملت كل مقاماته حتى التي استحدثها بأبداع فذ مثل مقام اللامي والحجاز كار كرد والحجاز كار والقطر وغيرها .
ان القابلية الفذة التي يمتلكها استاذنا محمد القبانجي في عملية الانتقال من نغم الى نغم ومن سلم الى سلم ، وادراكه العجيب بتماسك هذه العلاقات ومن ثم صياغتها بشكل انسيابي مريح ، مما ساعد على خلق حال لا يستطيع فيه المستمع بل حتى احيانا المتخصص ان يفهم تفصيلات المحتوى الموسيقي الفني لادائه … وهو في حاله هذا ، ينطلق من هذه الامكانية والمعرفة التجريبية بالانغام والسلالم الموسيقية وعملية التنوع والتجول بها وربطها مع بعضها بشكل جميل فذ ، بيد انه في نفس الوقت لا يترك المستمع تائها وحده ، فهو يرتبط معه بمحاكاة تعبيرية تجعل الصلة بينه والمستمع وثيقة جدا .. تغني عن الغموض الفني الموسيقي الذي قد يشعر به المستمع اثناء سماعه للقبانجي ..!! لذا فان القبانجي همه وهاجسه المستمع … فهو اذن يوازن بين الفن والتطريب ، وهي عملية نسبية ، وبصريح العبارة اقول ، انني لم استمع الى أي مطرب ، سواء سمعته عن طريق جهاز الصوت او من الذين عاصرتهم ، الى وجود مثل هذه الامكانية الفذة في التجول بين الانغام والسلالم داخل العمل الواحد ، مثل وجودها عند استاذنا القبانجي ، فهو قائد في غنائه .. ومدير لعمله الغنائي كله … يمسك بتلابيب المستمع ولا يتركه الا بعد ان ينتهي من الغناء بعد ان يتأكد من تطريبه وانتشائه عند ذلك يشعر انه وصل الى غايته النبيلة في تحقيق رسالته .. هي موهبة اذن !! وهي خبرة .. وهو يفهم من خبرته ان الركيزة الاساسية في العمل الفني الغناسيقي حصيلتها هي علاقة بالمستمع ، فهو اذن وعلى الرغم من التزامه بالاصول التقليدية للمسارات اللحنية للمقامات او التزامه بالشكل الغنائي المقامي عند الاداء ، يختزل بعض الاجزاء الثانوية بتصوره على الاقل ، واللا داعي لوجودها مع اضافة الكثير من عندياته ، من هنا فقد جاء بالكثير من الجديد حتى امسى صاحب اسلوب وطريقة غنائية فردية خاصة لا تضاهى ، بزت الطرق التي سبقته بحق .. وقد سمعت مرة من احد الاصدقاء بأن القبانجي قال مرة ( ان العمل الغناسيقي ، القضية فيه قضية تطريب ، يمكن فيها التساهل ببعض الاصول التقليدية ) .. اذن هو يحاول بل يجيد ربط وتقوية علاقته بالمستمع حتى لو ضحى ببعض الامور المعتادة .. انها عملية موازنة ذكية ، وهو في اسلوبه هذا يريد ان يقول بان بعض الاجزاء او الجمل الغنائية التي تدخل ضمن قضية الاصول التقليدية للمقام قد استهلكت ولا داعي لتكرارها في هذا العصر .. فهو اذن يجنح الى الارتباط بروح العصر ومتطلباته …
قد تتصور عزيزي القارئ وانت تقرأ هذه الاسطر بان القبانجي قد تجاوز على المقام ، فاقول لك تمهل ولا تسرع في تصورك .. ذلك ان القبانجي مطرب فذ بكل المقاييس ، وهو يفهم مهمته ، وهو عبقري عملاق ، في كيانه اصالة ، وثقافة تقليدية لهيكل المقام العراقي وتعبيره وحلاوته … وهو حريص كل الحرص على كيانه التاريخي الحضاري كتراث امة عظيمة سادت العالم في احدى مراحل التاريخ ، وهو قد اكد ذلك فعلا من خلال تسجيله للمقامات في بداية ظهوره ، على وضعها التقليدي القديم ، فهو اذن دونها تاريخيا ، وهو اذن لا يحاسب على معرفتها او فهم اغوارها ، ولكنه بعد تسيده للساحة الغنائية في العراق وبغداد على وجه الخصوص ، بدأ بتهذيب الكثير من متطلبات الاداء المقامي الملائم للفترة الزمنية التي عاشها ، وجاء بالكثير من عندياته من خلال الابتكار والاضافة وغيرها ، وعرضها بشكل يواكب روح عصره ، بل سبقه في التعبير واحدث وضعا فنيا قلب فيه جميع الموازين في الاوساط الغنائية المقامية ، حيث تخلى في بعضها عن المحلية في الابداع من خلال تأثره ببعض مشاركاته الخارجية في بعض المهرجانات واطلاعه على حال الفن خارج حدود العراق .. من خلال متابعتي ومعايشتي للوسط المقامي ، وممارستي لغناء المقام العراقي والاستماع اليه من شتى المؤدين ، فقد لاحظت منذ البداية ان معظم الابداعات المقامية التي ظهرت في القرن العشرين لدى المؤدين الاخرين كانت جذورها من اشعاعات وانجازات وافكار محمد القبانجي النيرة ، التي استطاع في معظمها ان يصل بها الى الذروة في الابداع ووصلت بعدها الاخر ذروة اخرى من الابداع لدى بعض من اتباعه اللاحقين من الذين تأثروا به واتبعوه وحملوا لواء طريقته الرائعة قدماً لتكملة مسيرة التطور الادائي للغناء البغدادي .
وليس من الغريب ان تكون معظم المقامات العراقية التي سجلها القبانجي في تاريخه الحافل سواء على الاسطوانات او على الاشرطة المسجلة او في الاذاعة والتلفزيون ، كانت ناجحة بحق ، من حيث المنظورالفني العام للاداء المقامي وجماليات ادائه ،ولو استمعنا الى هذه المقامات لبدا لنا مدى الحبكة المتقنة في ادائه لها وصياغتها الفنية الغناسيقية ، رغم بعض تعقيدات البناء اللحني لبعض المقامات ، بيد انه كما عهدناه ، يغلفها ويؤطرها بالتطريب والتعبير المقامي البغدادي وبالنتيجة فأننا نشاركه عواطفه ومشاعره.






















حسن خيوكة (1912-1962)
يتمتع حسن خيوكة في الاوساط المقامية في العراق كمغنِ للمقامات العراقية ، بشعبية جيدة تمتاز بالاحترام والتقدير لنسبة كبيرة من الجمهور المقامي ، وكذلك في المقابل هناك عدداً آخر من الجمهور يقابل حسن خيوكة بالجفاء…!! لماذا ..؟!
بالنسبة الى الفئة الاولى فانهم يعتبرون خيوكة فنانا رومانسيا ذا تعبير اصيل في ادائه للمقامات ، اما بالنسبة الى الفئة الثانية فانهم يعتبرون خيوكة لا يملك مقومات عديدة واجب توفرها لدى مؤدي المقام ، منها بعض العيوب الموجودة في خامة صوته .
اعتقد ان حسن خيوكة ، اذا كان اداؤه محترما او عكس ذلك ، فانه المغني الذي لا يمكن تجاهله ببساطة ، فهو يمتلك انجازات فنية مقامية جيدة ، وهو من المبدعين المحسوبين في القرن العشرين .
كيف يمكننا تفسير هذه الحالة المتناقضة ..؟ فقد تكون الكتابة عن خيوكة من ادق واصعب المهام ، لتضارب وتناقض الآراء حوله ، فقد كان بسيطا وهاويا للمقام طيلة حياته ، واعماله الغنائية وانجازاته المقامية فيها جانب كبير من التطلعات الجديدة ، الا ان عملية تجريده من اهمية تلك الانجازات من قبل الفئة الثانية ، فهو حكم ليس عادلا ابدا … على الرغم من ان المرء عندما يسمع مقامات واغاني خيوكة التي عبر فيها عن تراجيديا(1) عاشها هو وعبر عن مجتمعه فيها ، غالبا ما يتساءل … ! لماذا هذه الضجة ..!؟ ان خيوكة ، حسنا فعل عندما ترك تاريخه الفني وما يحويه من ابداعات للزمن وللخبراء والنقاد ليحكموا عليه دون تدخل منه ..!
ان السامع عندما يعود ويتمعن في سماعه لمقامات واغاني خيوكة ، فانه يكتشف السحر في ادائه .
انني ارى ان كلا الفئتين المتناقضتين في الرأي بحس خيوكة تمتلكان قسطا لا بأس به من الحق ، لأن الاهتمام الرئيس والمتكرر بانجازات مؤدي المقامات العراقية هو الكشف عن الهوة التي تفصل طموحاتنا الادائية والفكرية عن حدودها وعن طموحات وانجازات معاصرينا من العرب وغير العرب في علوم الموسيقى والغناء … لذا فان اعمال خيوكة الغنائية تزخر باوصاف عاطفية قلما نجدها لدى غيره ، رخيمة بحيث استطاعت هذه الصفات ان تحجب انتباه الجماهير في كشفها لبعض العيوب الموجودة في خامة صوته ، فكانت مميزات ادائه وتعبيراته قد غطت على هذه العيوب .
عاش خيوكة حياة مأساوية قاسية استطاع ان يعبر عنها من خلال اسلوبه وصدقه التعبيري في اداء المقامات .
يمكن للسامع ، سماع أي مقام من مقامات خيوكة ، الا ان الامر يستدعي وجود سامع متذوق ويمتلك ولو فكرة بسيطة عن اصول وشروط اداء المقامات العراقية ، والتفكير في الامر بشكل موضوعي ، كما ان السامع الذكي قد يكتشف دلائل اخرى تؤدي به الى امكانية اظهار الايجابيات والسلبيات في امكانية حسن خيوكة الفنية .
ان الكثير من القيمة الادائية لخيوكة يحاول فيها الكشف عن مدى تميزه عن معاصريه من المؤدين واظهار وتوضيح الارضية التي يستند عليها . واذا اردنا ان نفكر بشكل تجريبي لاجل التأكد ، او بهدف الوصول الى معرفة ما يمتلكه خيوكة من فن ادائي وفكري ، فيجب ان يكون كل واحد منا موضوعيا في مناقشته ، واذا اردنا التفكير والمناقشة بشكل صحيح ، وجب علينا تنظيم جميع دلائل انجازات خيوكة وامكانياته الادائية حتى يتسنى لنا عدم فقدان أي منها ، والتي بالتالي تلقي الضوء على مكامن الايجاب والسلب في فنه بالرغم من صعوبة تدقيق ادلة وانجازات أي فنان او الحصول عليها بسهولة … هذه هي طبيعة مناقشاتنا للانجازات الفنية ..
ان طريقة الاداء والاسلوب التي يمتلكها حسن خيوكة ، مميزة عن كل طرق واساليب معاصريه ، وهي صفة ايجابية مهمة بلا شك ، بل غاية في الاهمية .. منذ الوهلة الاولى يمكن للسامع ان يدرك ان من يسمعه هو حسن خيوكة الذي يعتبر اهدأ مؤدٍ عرفه المقام وارقهم في أدائه.. ان الخامة الصوتية التي يمتلكها خيوكة فيها بعض العيوب والرضوض ، وان مساحة صوته ليست بالسعة المطلوبة في مداها اللحني في اداء المقامات التي تحتاج الى مساحات صوتية واسعة نسبيا . فصوته من فصيلة ( الباص باريتون ) لذا فهو يمتلك قرارات(2) جيدة ولكنه يعجز في معظم الاحيان عن اداء الجوابات(3) العالية بشكل نظيف او طبيعي ، يضمن فيه استمرارية التعبير وجماليته .. لذلك فهو يضطر في كثير من الاحيان ان يتهرب بشكل تكتيكي وتكنيكي جيد من الطبقات الصوتية العالية كما هو واضح عند سماعنا لميانه الرست الثالثة ( المدني )(4).. ولما كان خيوكة ذا تعبير فني جياش وعاطفي فقد استطاع من خلاله ان يحتل موقعا جيدا بين مؤدي المقامات العراقية ، وكذلك استطاع بميزته هذه ان يغطي على عيوب خامته الصوتية …
ان المشكلة التي اختلف عليها الجمهور وتنوعت آراؤه حول خيوكة هي ما تم طرحها سابقا ، اضافة الى ان صوته اثناء الغناء يبدو وكأنه في حالة من عدم الاستقرار ، وانه يحتاج الى كثير من التمرين ليتسنى لخيوكة السيطرة عليه كي يتلاعب به كيفما يشاء في ليونة ومرونة جميلتين في الغناء .. وهو يهدف الى عرض مشاعره من خلال احساسه العميق المعبر في ادائه بروح رومانسية عاطفية رخيمة تجنح الى التعبير عن روح العصر الذي عاش فيه خيوكة الذي عبر عنه بكل صدق وتأثر .. وبهذه الخاصية استطاع ان ينتشل اداءه وقابلياته من الفشل ..

يوسف عمر ( 1918 – 1986 )*
يوسف عمر الرجل الذي كرس حياته الغنائية في اداء المقام العراقي ، بل كرس كل حياته منذ ان نشأ بالاهتمام بالغناء المقامي ذي الروح والتعبير البغدادي ، حيث غنى معظم المقامات كبيرها وصغيرها وقد اجاد ونجح في جميعها على وجه التقريب ، واداها بنضوج فطري ترافقها خبرة طويلة في الممارسة ، اضافة الى الموهبة التي يتمتع بها .
ان المقامات التي غناها يوسف عمر تكشف النقاب عن امكانية مؤثرة في الجماهير ، وقد امتاز يوسف بطريقة اداء واسلوب غنائي تعليمي واضح المعالم ودراسي ، جاء بالفطرة دون قصد منه . أي ان طريقته الغنائية السهل الممتنع كما يقال في الادب .. ولعل هذه الميزة التي انفرد بها يوسف من اهم اسباب نجاحاته في الاداء وبناء مجده الذي لم يكن يوسف قد حسب له حسابا بالمرة(5) .
وبهذه السهولة الادائية فقد كان يوسف قريبا لابسط المستمعين ثقافة ، وقد كنت شخصيا استعين بالكثير من تسجيلاته خلال تدريسي للمقام العراقي في معهد الدراسات الموسيقية ، باعتبارها نموذجا غنائيا واضحا المكونات في نفس الوقت ، وقد اعتمد يوسف في اسلوبه هذا على تبيان عناصر المقام واجزائه في تسلسل واضح وجيد في معظم الاحيان ، والسامع يستطيع من اول وهلة ان يتتبع سير او تشخيص محتويات المقام الذي يسمعه بصوت يوسف عمر . بذلك فقد حصل يوسف على مستمعين من كافة المستويات بمزيد من المتعة ويمكن تقارب هذا القول في اساليب بعض المشاهير المؤدين الذين حازوا على جزء من صفة السهولة الادائية الذين يبدو حماس الجماهير لهم حماسا صادقا .
ان هذا الوصف الصريح للاداء المقامي البغدادي ، هو من مميزات المقام العراقي كلون تراثي غنائي شامخا بين الالوان الغنائية العربية ، وهناك كثير من المتعة والقناعة التي يستطيع فيها يوسف عمر ان يعطيها بتعبيراته العاطفية ذات الجاذبية التي يستمتع بها المستمع ..
ويمكن ان يكون هناك اعتراض في ان كل هذا يحدث على الصعيد المحلي ، ولكن رغم ان هذا الاعتراض فيه بعضا من صحة القول ، الا انه يمكن ان نقول بان المقام العراقي من خلال مؤديه المشاهير قد تمكن بنجاح مطرد من وضع كيانه الادائي ضمن خارطة الغناء العربي المنتشرة هنا وهناك من مناطقنا العربية بل وحتى خارجها …
قد يتساءل جمهور المقام العراقي عن امكانية ظهور يوسف عمر كمؤدٍ للمقامات بدون القبانجي ..!؟ او هل ان يوسف عمر ظهر بأفول نجم محمد القبانجي ..!؟ اني اشك في هذا .. ان اساليب التذكير المبنية في داخل اداء كل منهما توضح لنا الميزة الفارقة بينهما من خلال ادائهما للمقام وما يسمعه السامع ، ذلك على الرغم من ان كثيرا من فن يوسف وصفاته الادائية وطريقته التي بنى عليها اداءه للمقام ، كان قد استقاها من استاذه القبانجي ، الا ان يوسف ليس بسارق افكار او اساليب وطرق غيره ، ليس بسبب اسلوبه الادائي المستقى .. وانما لأن السامع يشعر انه يسمع شيئا يختلف عما يسمعه في مقامات محمد القبانجي .. على الرغم من وجود كثير من اوجه التشابه في بناء المسار اللحني وتطبيق الاصول المقامية بينهما ، الا اننا نلاحظ ان هناك اسبابا اخرى لنجاح يوسف عمر في ادائه ، منها .. فارق الزمن .. فالقبانجي برز في العقود الاولى للقرن العشرين ، اما يوسف فانه ظهر بعد منتصف هذا القرن .. ولا شك ان هذا الفارق الزمني في العصر الحديث يعتبر فارقا زمنيا كبيرا ، للتطور السريع المستمر في الزيادة الحاصل لشتى مجالات الحياة .. فالتعبير عن روح عصر كل منهما يختلف بطبيعة الحال ، مع اضافة ان القبانجي ارستقراطي(6) الطبع في حضوره الادائي بينما يوسف شعبي(7) الطبع في حضوره الادائي .. ولعل هذه البساطة في اداء يوسف عمر جعلته ايضا ، قريبا الى اسماع الجماهير بشكل ملفت للنظر …
ومن خلال هذه الميزة التي يتمتع بها يوسف عمر في ادائه الذي اطلقنا عليه صفة الشعبية .. فانه يعتبر اقرب المؤدين قاطبة من التعبير الادائي للروح البغدادية … واخيرا فان كلا من القبانجي وتلميذه يوسف عمر يتمتعان ببراعة احترافية جيدة ..
ومن ناحية اخرى فقد امتاز يوسف عمر كما ذكرنا آنفا بالروح المعبرة عن البيئة البغدادية في كل ادائه ، وكذلك تميز بنقله للاصول والشروط المقامية من حيث مساراتها اللحنية وتعبيراتها من السابقين الى اللاحقين بكل امانة واتقان ، ولم ينقص منها شيئا وكذلك لم يضف اليها جديدا سوى انه عبر عنها باسلوب جمالي فذ استمع اليه الناس المعاصرون … وقد كان امتلاكه ( للبحة ) الجميلة التي تأتي ضمن الترديدات المتكسرة في الاداء وتسمى ايضا ( البنتاية ) اثرا جميلا خلال ادائه خاصة في الابوذيات التي تعلمها من الملا نوري النجار هي الاخرى ميزة له … وامتاز يوسف عمر بحفظه المثير للقصائد والزهيريات والابوذيات والاغاني الكثيرة ، على الرغم من كونه لم يتعد المرحلة الابتدائية في الدراسة …
وكذلك امتاز صوته بمساحته الكبيرة التي تتسع لمدى لحني لاكثر من اوكتافين ، وعليه فان صوته متكامل بالنسبة للمساحات التي يحتاجها اداء المقام العراقي وهي بلا شك مساحات واسعة جدا . فنوع صوته هو ( التنور ) (8).
وبالرغم من كل هذه الميزات الايجابية في صوت واداء يوسف عمر ، فاننا لو تطرقنا بالحديث عن صوته كخامة صوتية فاننا سنكتشف انه يحتوي على بعض الثغرات والرضوض عند الاداء ، ومن المؤكد ان يوسف عمر كان يدرك هذه الناحية في صوته حسيا ، وظلت محاولاته في معالجتها معالجة عن طريق الخبرة فقط ، ولذلك نستطيع ان نلاحظ هذه العيوب في بعض من مقاماته مثلا تكون نهايات المقاطع غير متقنة او ان صوته احيانا يرتفع وينخفض نسبيا داخل الطبقة المغناة دون ان يدرك ذلك ، واضافة الى ان احاسيس فنان مثل يوسف تكون متقنة حيث كان جمال صوته وتعبيراته المقامية الاصيلة تعويضا رائعا لهذه العيوب التي يثير بها الجمهور ليخلو مع خيالاته وعواطفه ..
اما من حيث الاداء فقد كان يوسف في كثير من مقاماته ، كثير التفصيلات والاسهاب ، لا يختزل منها شيئا ، حتى تتكرر جملة ما عدة مرات ، وكذلك يسمح للعازف عندما يحاوره بآلته الموسيقية وقتا اكثر مما يجب على حساب ترابط العلاقات الغنائية والموسيقية مع بعضها لصياغة عمل مقامي كوحدة متكاملة ، وخطورة هذا المنحى في الغناء يكمن في احتمال الوقوع في شرك الضعف والركاكة ومن ثم تجزئة الجمل اللحنية في وحدات متفرقة ضمن عملية البناء الفني لغناء المقام ، ولكن والحق يقال ان يوسف عمر رغم مغامرته هذه فقد نجا من هذا الشرك في كثير من الاحيان ، وقد استطاع بخبرته ومقدرته وتجربته الادائية ان ينتشل اداءه المسهب من الضعف ، واقرب مثال على ذلك هو اداؤه لمقام النوى الذي اصاب به نجاحا كبيرا رغم الاسهاب والتكرار في لحن ابيات القصيدة ، وبالتالي فقد احرز العون من لدن الجماهير المحبة للمقام ، فكان يوسف عمر منذ بداياته ولم يزل يغني مقام النوى الذي اداه بأقصى امكانيته التعبيرية وموهبته وخبرته الادائية بقصيدة ابن المعصومي :
اما الصبوح فانه فرض
هذا الصباح بدت بشائره
يسقيها من كفه رشأ
والكاس اذ تهوي به يده
فانهض الى صهباء صافية
والليل قد شابت ذوائبه
لا تنكروا لهوي على كبر
سيان خمرته وريقته
بات الندامى لا حراك بهم
مهلا فليس على الفتى دنس
فعلام يكحل جفنك الغمض
ولخيله في ليله ركض
لدن القوام مهفهف بض
نجم بجنح الليل منقض
قد كاد يشرب بعضها البعض
وعذاره بالفجر مبيض
فعلىّ من زمن الصبا قرض
كلتاه ماضي عنبيه محض
الا كما يتحرك النبض
في الحب ما لم يدنس العرض

ناظم الغزالي ( 1921 – 1963 )
ان المغني الشهير ناظم الغزالي نادر الشبه ، وهو مثل بارز ، من ابرز الامثلة لمغن يفرض غناءه وفنه وامكانياته على عصره ، وقد نفذ نتاجه الفني الى جيل العقود التي عاشها في القرن العشرين والتي تلتها ولا يزال كذلك ، محدثا انعطافا فنيا كبيرا في مسيرة الغناء البغدادي والعراقي والعربي على وجه العموم ، تغييرا وثورة على الاوضاع الفنية السائدة في عصره ، ولم تكن هذه النزعة الابداعية التي تجسدت في انجازاته وتهذيبه لاسلوب العرض المقامي وانضاج العملية الادائية التي نجح فيها نجاحا فاق التصور ، وثورته على القيود القديمة في شكل ومضمون التعابير الادائية السائدة التي اداها بشكل لائم اذواق الناس المعاصرين ، فلم تكن هذه الطموحات في غير مكانها ، وقد كانت الجماهير المستسلمة للاساليب القديمة قد حملته كما حملوا استاذه محمد القبانجي من قبل ، مسؤولية جميع التغييرات التي اجتاحت الاداء المقامي في زمنه حتى حاربوها بكل ما استطاعوا الى ذلك سبيلا .. وبطبيعة الحال وقف امام هؤلاء المعارضين قوم آخرون من الجماهير المحبة للتجديد والابداع ، التي ايدت وبقوة معظم او جميع الابداعات التي طرأت للاداء المقامي لتنتصر في النهاية كل عناصر التجديد والابداع والعلم …
وجاءت من ثم الشهرة الغزالية التي كانت نتيجة طبيعية في حق ناظم الغزالي ، التي اجتاحت الآفاق العربية بشكل سريع وغريب على لسان وسائل الاعلام المرئية والمسموعة لتقول بسخرية … انها ابداع القبانجي .. انها ابداع الغزالي .. انها ابداع المقام العراقي .. انه الفن العراقي بروحه وكيانه .. اعيدوا النظر في فنكم ايها الفنانون …!!

بين القبانجي والغزالي
أما فيما بين القبانجي والغزالي فان كليهما قاما بدور مهم وكبير لمسيرة الاداء المقامي البغدادي والعراقي .. فقد كان القبانجي كثير الانجازات ، كثير الابداعات ، كثير الافكار .. ولا غرابة في القول ان معظم ابداعات المؤدين اللاحقين للقبانجي كانت في الحقيقة من خزائن الابداع الذي يمتلكه القبانجي فقد وضع الاسس والمبادئ الاولى وجسدها هو في عصره خير تجسيد ثم تطورت مرة اخرى عند اتباعه المؤدين وقدموها واضافوا لبعضها من خلال ادائهم الذي تميزوا به عن الآخرين ، وقد كان الغزالي في مقدمة هؤلاء الذي عرض وطور واضاف لمبتكرات القبانجي الشيء الكثير ، وعرضها باسلوب شيق وجميل معاصر …
ولاشك ان كلا من القبانجي والغزالي قد تعرضا في نضالهما الابداعي ، كما هو شأن كل المبدعين والمجددين ، الى بغض الكثير من الجماهير المعارضة لروح الابداع ومن بعض المتخصصين والممارسين لنفس الفن وغيرهم … وفي النهاية فقد استطاع القبانجي والغزالي والمبدعون الآخرون دحض معارضيهم وبز افكارهم التي تتصف بالسلبية …. وعقد هؤلاء المبدعون العزم على هدم بناء المجتمع الفني القديم وتخلفاته ومساوئه ، لذلك فان النهضة التجديدية للاداء المقامي الفني قد اعتبرت القبانجي مثيرها الاول ومؤسسها الحقيقي وبها رفع القبانجي الى مصاف المؤدين الاسطوريين …! بيد انه من المؤكد ان هذا لم يكن النصر الذي كان القبانجي خليقا بأن يكتفي باحرازه والتوقف عنده .. بل وضع المبادئ والاسس والمنحى والفكر لطرق واساليب الاداء المقامي التي سار عليها كل المؤدين اللاحقين له .. ان الانجازات الكبيرة منعطفات تاريخية تفوق مبدعها شهرة على الدوام ..
على ان الغزالي الفنان المجتهد الدؤوب سيظل بالرغم من عمره القصير ( 1921 – 1963 ) وآسفنا للحال الذي قسمه له القدر في التاريخ ، رائد عاصفة جديدة ومبدع حقبة زمنية جديدة في اسلوب عرض المقام العراقي ، بل في الاداء الغنائي عموما . على الرغم من ان كثيرا من انجازاته اساسها من ابداعات سلفه محمد القبانجي ، بيد ان الغزالي كان قد اخذها مزيدا عليها الكثير من ابداعاته الخاصة وعرضها بشكل خلاب ومثير.
على ان الحجم الفني الكبير والشهرة الواسعة التي تمتع بها ناظم الغزالي هي اغرب ما في امره ، ليس لأنه لم يدرك او لم يحسب حسابا لخطرها فحسب ، بل ان هذين الامرين قد هبطا عليه بالرغم منه بشكلهما الواسع وانتشاره السريع المذهل …
ان حياة الفنانين الكبار وانجازاتهم تمثل لنا في ميدان التاريخ والمسيرة الفنية ، حالة ربما كانت فريدة لرجال فنانين عباقرة قد هبطت عليهم العبقرية دون حساب لها .



أخوكم your,s
مطرب المقام العراقي singer of Iraqi maqam
حسين إسماعيل الأعظمي hussain ismail al aadhamy
عمّان amman jordan
00962795820112 gabel al hussain
الأردن ، عمّان ، جبل الحسين b.x 922144
ص . ب 922144 hussain_alaadhamy@yahoo.com