المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإسلام والعلمانية ضرورة تحديد المواقع أو الهويات.



أبوبكر خلاف
06/11/2006, 01:21 PM
أعني بتحديد المواقع، وبعبارة أخرى تحديد الهويات: أن يحدد كل من الطرفين المتحاورين أين هو، وما هو؟ فلا يسوغ في منطق، أن تجادل في الفروع، من لا يؤمن بالأصول، أو تقنع بالشريعة، ومن ينكر العقيدة.
فالمادي الملحد، الذي ينكر "الغيبيات" كلها، ولا يؤمن بشيء وراء المادة، التي يدركها الحس، ويعتقد أن "الله" خرافة، وأن الأديان ـ كل الأديان ـ أفيون الشعوب، ولا يؤمن بأن هناك رسلا، أوحى الله إليهم، وأنزل معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط، ولا أن وراء هذه الحياة الفانية القصيرة، حياة أخرى خالدة باقية، يجزى فيها الناس بأعمالهم، خيرا أو شرا (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (سورة الزلزلة:7،8).
أقول: من لم يؤمن بهذا كله، كيف تجادله في فرض الزكاة، أو تحريم الربا، أو الخمر، أو الميسر، أو الزنا، أو إقامة الحدود، أو إيجاب الاحتشام على المرأة، وتحريم التبرج، بله النهى عن بيع الغرر، أو صنع التماثيل، وما دون ذلك؟!
إن الذي لا يؤمن بأن محمدا رسول من الله، لا ينطق عن الهوى، وأن القرآن كلام الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، لا يجوز الجدال معه في تطبيق الشريعة، لأنه لا يؤمن بالشريعة، ولا بصاحب الشريعة، ولا بكتاب الشريعة.
إنما يكون الجدال معه أولا، في إثبات نبوة محمد، وإلهية القرآن، كما نفعل مع اليهود والنصارى.
فإذا أثبتنا هاتين القضيتين، كان الحوار حول الشريعة وتطبيقها، إذ لا يتصور قيام بناء بغير أساس.
وأما الذي لا يؤمن بالألوهية نفسها، ولا يثبت "الغيبيات" أصلا، ويتبنى ما قاله "فوير باخ" بكل تبجح وغرور: "ليس صحيحا أن الله خلق الإنسان، بل الصحيح أن الإنسان هو الذي خلق الله"!!! أي أن القول بالألوهية وهم اخترعه الإنسان، أما هذا فمن العبث بالعقول، ومن إضاعة الأوقات والجهود: الحديث معه حول الشريعة وأحكامها، والحدود وتطبيقها، والدخول في متاهات التفصيلات، التي لا تتناهى، وهو يجحد أصل الدين جملة!!
ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن، قاضيا ومعلما، كان من وصيته له:
"إنك تأتي قوما أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم في أموالهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، لترد على فقرائهم .." الحديث.
وهكذا علمه أن يبدأ الدعوة إلى العقيدة، قبل أن يدعو إلى تكاليف الشريعة.
من أجل هذا، أقول لإخواننا، الذين نصبوا أنفسهم محامين عن "العلمانية"، ومعادين للشريعة وللحل الإسلامي: حددوا مواقعكم، لنعرف أين تقفون من القضايا الكبرى: الله، والوحي، والآخرة، وبالتالي: من صحة نبوة محمد، وصدق ما جاء به من عند الله، وأن القرآن كتاب الله؟ وبعبارة واحدة: هل أنتم مسلمون، فنخاطبكم بما يخاطب به المسلم أخاه؟
أم ترون الدين والإيمان به مرحلة انتهت، كما قال "أوجست كونت" يوما، وأننا في عصر العلم لا عصر الدين! وأننا في عصر الذرة وغزو الفضاء، لا يجوز أن تحكمنا شريعة، جاءت في عصر الجمل سفينة الصحراء! وأن أبناء القرن العشرين والحادي والعشرين، لا يجوز أن تحكمهم قيم ومفاهيم وشرائع، عمرها أربعة عشر قرنا؟!!
حددوا لنا موقعكم بصراحة أيها الأخوة المحاورون، وقولوا لنا: من أنتم وما أنتم؟ حتى يكون حوارنا على بصيرة، ولا نتناقش في الجزئيات، ونحن لم نتفق على الكليات، أو نجادل في "الحواشي"، ونحن مختلفون في "المتن"، أو نثير معارك حول فروع الفروع، ونحن لم نقم أصل الأصول.
أما نحن، فموقعنا ـ بحمد الله ـ محدد من جهاته الأربع، وهويتنا واضحة بينة كالشمس في رابعة النهار، لا نتنكر لها، ولا نلبس أقنعة تخفي حقيقتها، ولا نخفض أصواتنا بالإعلان عنها، بل نعلنها صريحة مدوية: إننا "مسلمون"، رضينا بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبالقرآن منهاجا، ولسنا مستعدين أن نتنازل عن ديننا لأي سبب، ولا بأي بدل، ولا لأي أحد، بعد أن ارتضيناه لأنفسنا وارتضاه الله لنا، وأتم به النعمة علينا (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا) (سورة المائدة:3).
وكوننا مسلمين، يحدد موقعنا العقائدي، وهويتنا الحضارية والأيديولوجية، ولكنه لا يلغي موقعنا الجغرافي، ولا موقعنا التاريخي.
موقعنا الجغرافي: أننا عرب، نعيش في وطن تجمع أهله لغة واحدة، وتاريخ واحد، ولهم آمال وآلام مشتركة، وأننا مصريون نعيش في بلد واحد، له تاريخ، وبين أهله صلات توجب حقوقا والتزامات، تقتضيها المواطنة والجوار، ولنا مشكلات تخصنا، يجب أن نتعاون على حلها.
ولا تنافي بين الانتماء إلى الإسلام، والانتماء إلى شعب خاص، أو وطن خاص، لأنه لا تنافي بين العموم والخصوص، كما سنوضح ذلك بعد.
وموقعنا التاريخي: أننا نعيش في أوائل القرن الخامس عشر الهجري، وأواخر القرن العشرين الميلادي، في عصر حطم الذرة ووصل إلى القمر، ويرنو إلى كواكب أخرى أبعد من القمر، وصنع بعقله عقلا، يصنع العجائب هو "الكمبيوتر".
كما لا ننسى أننا لسنا وحدنا فوق هذه الكرة، بل نعيش في عالم تتعدد فيه الديانات والمذاهب، والفلسفات، تعدد الأجناس والألوان واللغات، ونحن ـ وإن كنا نحو خمس العالم عددا "ألف مليون أن نزيد" ـ لسنا الأقوى عدة، ولا الأكثر علما، بل لازلنا عالة على غيرنا، وكلنا ـ نحن المسلمين ـ في دائرة ما سموه "العالم الثالث"، أو "البلاد النامية"، والنمو تعبير مؤدب للتخلف، الذي نرزح تحت نيره.
ومادمنا مسلمين، فلا يسعنا إلا التسليم لحكم الإسلام في شئون حياتنا، فحقيقة الإسلام: أن تسلم قيادة لله، ولا تجعل لك مع أمره أمرا، فإذا أخبر الله قلت: آمنا، وصدقنا، وإذا أمر الله قلت: سمعنا وأطعنا. وإذا نهى الله قلت: انتهينا، وحرمنا. ولا يتحقق إيمان بغير هذا، ولا خيار لمؤمن أمام أمر الله وحكمه (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة، إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب:36).
هذه قضية مسلمة، لمن ارتضى الإسلام دينا، وعرف ما هو الإسلام، ومعنى الربوبية والعبودية، ومعنى الخالقية والمخلوقية، وأن من حق الرب، الخالق المنعم، أن يأمر وينهى، ومن واجب عباده المخلوقين له، المغمورين بنعمه، أن يسمعوا ويطيعوا.
وتسليمنا للنص الإلهي، ليس تسليما اعتباطيا ولا جزافيا، ولا شيئا خارجا عن نطاق العقل. بل هو ما اقتضته الفطرة، وفرضه العقل ذاته، فالعقل هو الذي هدانا إلى الله سبحانه وتعالى، استدلالا بالصنعة على الصانع، وبالنظام البديع، في هذا الكون، على منظمه ومبدعه.
وهو نفسه الذي دلنا على أن محمدا صادق، فيما بلغه عن ربه، وأن القرآن ليس من صنعه وتأليفه، بل هو كلام الله (أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير) (هود:1).
وبعد أن أثبت العقل المستقل أعظم حقيقتين في الوجود، وهما: وجود الله الواحد، وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، عزل العقل نفسه ـ على حد تعبير الإمام الغزالي ـ ليتلقى عن الوحي، ما يعجز عن الوصول بأدواته إليه من شئون الغيب، وما تضطرب فيه العقول، وتحتاج معه إلى مصباح، يضيء الطريق، ودليل يهدي السبيل.
وليس معنى هذا، أن العقل لم يعد له عمل ولا دور مع وجود النص، فالواقع أن العقل هو المخاطب بالنص، وهو الذي يفهمه ويفسره، وبخاصة أن الأكثرية العظمى من النصوص، تحتمل أكثر من فهم، وأكثر من تفسير، حكمة من الله، الذي جعل من النصوص ما هو قطعي الدلالة، وما هو متشابه محتمل، لتجتهد العقول، وتبحث عن الحق والصواب، ويرجح هذا رأيا، وذاك آخر، وثالث غيره، وكلهم مأجورون، ماداموا أهلا للاجتهاد، وهدفهم الوصول إلى الحق، بحسب طاقتهم البشرية.
وللعقل دور أكبر، فيما لا نص فيه، وهو كثير وكثير، فلم تشأ إرادة الله الحكيم البر الرحيم، أن يقيد عباده بالنصوص في كل شيء، بل ترك لهم مساحات رحبة، يعملون فيها عقولهم، وفق مصالحهم المادية والمعنوية، الفردية والجماعية، الدنيوية والأخروية، مهتدين بالنصوص المعصومة، وما وضعته من قواعد، وما سنته من أحكام، وما أقامته من موازين.
هذه هي القضية الأولى بيننا وبين خصوم "الحل الإسلامي" من دعاة "العلمانية"، والمعارضين لتطبيق الشريعة الإسلامية، قضية تحديد الهوية، تحديد الموقع: هل هم مسلمون أم لا؟ هل هم مع الإسلام أم ضده؟ هل هم مع الشريعة أم عليها؟
أكبر الظن أنهم سيقولون: نحن مسلمون، عريقون في الإسلام، أبا عن جد!
ولا يتوقع من أناس في حنكتهم السياسية، أن يخسروا الجماهير العريضة من الشعب ـ وخصوصا في بلد كمصر ـ ويعلنوا أنهم لا يؤمنون بدين، وأن عهد الدين قد ولى.
إنما الذي يتوقع منهم، أن يقولوا: نحن مسلمون مثلكم، ولكننا نختلف معكم فيما هو الإسلام، فإسلامنا إسلام تجديدي، وإسلامكم إسلام تقليدي، إسلامنا إسلام عصري، وإسلامكم إسلام قديم، إسلامنا متطور متحرك، وإسلامكم ثابت جامد.
وقد نرد عليهم بأن ما ندعو إليه هو الإسلام الصحيح، وما تزعمونه إنما هو أفكار مستوردة، تلبي لبؤس الإسلام، وأننا ننطلق من الإسلام، عقيدة ومنهاجا، وأنتم تنطلقون من مسلمات أخر، نحن نرى الإسلام روح وجودنا، وجوهر حياتنا، وأنتم تسمون ذلك "المسألة الدينية"!!
_________
مقال للدكتور/ يوسف القرضاوي.