المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مَـقـَـــاصِــد الـعُـشــَّـــاق بين السم والترياق



NAJJAR
05/09/2007, 12:28 PM
مَـقـَـــاصِــد الـعُـشــَّـــاق
بيـن السَّــمِّ والتـِّـريــَـاق

♥ يقول المولى عزَّ و جَلّ: " قـُلْ هَلْ نُـنَـبِّـؤُكُمْ بِالأَخْسَـرِيْنَ أَعْمالاً الَّذِيْنَ ضَـلَّ سَعْـيُهُمْ فِىْ الحَـيَاةِ الدُّنْيَـا وَ هُمْ يَحْسَبُـوْنَ أَنـَّهُـمْ يُحْسِنُـوْنَ صُنْـعَـاً " (الكهف-104 ) صدق الله العظيم. وكنت أظن أن هذه الآية الكريمة نَزَلَت وصفاً دقيقاً للإرساليات التنصيريَّة التى تجوب العالم من أقصاه إلى أقصاه، بميزانياتٍ هائلةٍ تفوق بآلاف المرات ما يحتاجه فقراء الأرض حتى يعيشون فى أمنٍ وكرامة. كما يعتقد المجَنَّدون فى هذه الإرساليَّات أنهم يحملون مشاعل النور والهداية لهؤلاء الضالِّين الحيارى إلى طريق الرب، وهم يعرضون عليهم الصليب قبل رغيف الخبز. ويدَّعى أكثرهم أن طريق كنيسته هو الطريق الوحيد إلى مملكة الرب، وكأن أبواب الرحمة والهداية مغلقة بشفرة سريَّة لا يعلمها سوى دعاة الصليب.

وهم يسعون سعياً دؤوباً وفى ظنهم أنهم هم الفرقة الناجية وأن من عداهم ممنوعون من ملكوت الرب موصومون بالخطيئة الأولى رغم أنهم لم يقترفوها وبينهم وبينها أمداً بعيداً، وليس لهم فى ذلك من ذنبٍ غير أنهم من نسل آدم عليه السلام. فى حين أن آدمَ هو الذى عصى ربَّه فغَوَى، لولا أن تدَارَكَهُ رحمة من الله " فتلقى آدمُ من ربِّهِ كلماتٍ فتابَ عليه إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ". وآدم عليه السلام ليس ممنوعاً من ملكوت الرب فهو نبى من المقربين. فيا عجباً من معصيةٍ لا يُعاقَبُ فاعلُها ويُعاقبُ عليها نسلُهُ إلى يوم الدين، وحاشا لله أن يكون ذلك، فالله يقضى بالحق وهو خير الفاصلين. وهم على ضلالهم هذا، يحسَبون أنَّهم يُحسِنونَ صُنعاً.

♥ غير أن هذه الآية الكريمة، مثلُ سائر آى ِ القرآن الكريم، لا ينضُبُ مَعينُها ولا يَنفَدُ مِدادُها. فها هى تتجلى ثانيةً بمعناها الجديد وأنا أتفقد حال الناس فيما أسماه البعض بالمَوالِد. وأياً كان صاحب المَولد فإن القاسِمَ المشتركَ بين ما قد شهِدتُه، هو أولئك الذين يدَّعون الإنتماءَ إلى الصوفيةِ ويحسَبونَ أنّهم مُتَدَلِّـهونَ فى عِشقِ الله. يرَونَ ما لا نرى ويعلمون ما لا يعلمه الناس من العلم اللّدُنِّىّ. و هُمْ يفعلون- فيما يزعمون انه القرب- ما لم يأذن به الله. فيتحولُ ذِكْرُ اللهِ الذى هو ذِكٌرٌ قَلْبِىٌّ -" ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوْب"(الرعد-28 )، "واذْكُر رّبَّكَ فى نَفْسِكَ تضرُّعاً وخِيْفَة"(الاعراف-205 )- إلى تهتهاتٍ لسانيةٍ وحلقيَّةٍ، وتطوُّحاتٍ جِسمِيَّةٍ، وزيغٍ عقلىٍّ وذهنىٍّ جرَّاءَ تكرارهم لفظَ الجلالةِ بطريقةٍ هِستيريَّةٍ وتطويحاتٍ جِذْعِيَّةٍ وأرجحةٍ دماغِيَّةٍ ، وما ذلك من الله فى شىء.

♥ وهنا مرَّ بخاطرى بعضُ التعبيراتِ الوجدانية عن العشقِ والوَجدِ والفـَـناءِ فى الله. وما وصل إليه الصُّـوفيةُ الأوائل، الذين تطورت خبراتهم التعبدية من الحِسَّ إلى الحَدسِ، إلى العقلِ الذى يأتى بمعرفة لا تقدر عليها الحواسَّ، ثم الوصولٌ بالإقبال على الطاعات ومفارقة النزعات والجودِ فى ذلك بالذات، إلى مرحلة الشفافية والكشف، ورفع آخر حُجُبِ الغيب النسبى عن المعرفة، والوقوف عند حاجب الغيب المطلق الذى لا يُطـْـلِعُ اللهُ عليه أحداً إلا مَنْ ارتضى مِنْ رسولٍ فإنه يسلُكُ مِنْ بينِ يديهِ ومِنْ خلفِهِ رَصَدَاً. وهذه المرحلة بعد العقل الذى يأتى بنتائج لا تأتى بها الحواس، يأتى الكشف الذى يأتى بنتائج لا يأتى بها العقل، فيقع من يغامر بالتعبير عنها فى مفارقة النزول من مرحلة اللامعقول العـُلْوِيَّـة التى ترتفع فوق العقل إلى مرحلة المُدخلات الحِسـِّـيَّة التى يرتفع فوقها العقلُ، فتخرجُ تعبيراته سُمَّـاً ناقِعاً لِمَنْ لم يتسنَّ لوعاء عقله وعيثها، وإن كانت فى ذاتِها ترياقاً للنفسِ المُرْهَفَةِ التى حَلَّت الروح فيها محلَّ العقلِ.

♥ ويخلط الناسُ فى ذلك بين أربابِ الأحوالِ وأصحابِ الأقوال، وينسَونَ أنَّ من يعلم- فى هذا الإمر- لا يقول حين يعلم ومن يقول لا يعلم حين يقول. ولا يجتمع العلم فى ذلك والقول فى آنٍ واحد. فحين الوجد، يكون المجال للروح المتحكمة فى الوجدان، وليس للعقلِ المتحكمِ فى اللسان. وفى هذا يقول صاحبُ "المنقذ من الضلال"، الإمام أبوحامد الغزالى رضى الله عنه: "السكران لا يعرف حدَّ السُّكْرِ وعلمه، وهو سكران وما معه من علمه شىء. والصَّاحى يعرف حدَّ السُّكْرِ وأركانه وما معه من السُّكْرِ شىء"، ويعنى ذلك أن المجرِّبَ فى أمر الوجد والكشفِ لا يسعُه وصف تجربته فى حينها، ولا يحتفظ بقدرته على الوصف حين يخرج عن حالة الوجد. ومن لم يَخْـبُرْ الوجدَ لا يمكنه وصفه ولا فهم محاولات من خَبَرُوهُ لوصفِه. ومن يحاول بعد الوجدِ أن يتكلم، تخرج أقواله سُمَّاً لغيره وإن كانت لديه تِرياق.

وهناك من قد فتنه الوجدُ والكشفُ فظنَّ أنه مِنْ كـَيْدِ الله فى مأمَنٍ. وخَيَّلَ له شيطانُه أنه قد وَصَلَ إلى مرحلة من الخصوصية لا يضره معها من الذنب من شىء " وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصدَّهُمْ عَنِ السَّبِيْلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونْ"(النمل-24 ). فيقول قد عَلِمَ اللهُ إيمانى به، وغاية العباداتِ النجاح فى امتحان الإيمان والتقوى. فيقعُ فيما قد وقعَ فيه إبليسُ من الكِـبْرِ، ويجدِّفُ بعيداً عن بَرِّ التقوى فيُحِلُّ لنفسهِ بعضَ ما حرَّمَ اللهُ ويتخِذُ إلاهَهُ هواهُ فيَـضِـلُ ويُـضِلُّ فى زُمرَتِهِ مَنْ غَرَّهُ ما شَهِدَ من تقواهُ آنِفاً، فيصبحُ والشيطان على فَرَسَى رِهَانٍ خَاسِر. ثمَّ لا يلبَثُ الشيطانُ أن يكيدَ له، فيَمثُـلُ له زيفَ الكرامةِ ويُلبِسَه لِباسَ الوَلاية ويفتن به الناس. فيصبحُ وبالاً على نفسِه وغيرِه.

ومِنْ هذا الصِّنفِ اليومَ كثيرٌ.فاحذر أخى المسلِمَ من كل من لا يكافِؤُ عملُـهُ قَوْلـَـه، وصَدَق الله سبحانه وتعالى حين يقول: " يا أيها الَّذِينِ آمَنوا لِمَ تَقُوْلُوْنَ مَا لا تَفْعلُوْن(2) كَبُرَ مَقْتَاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعلُوْن"( 3) (الصف-2و3).

فاللهُمَّ يا مُنـْزِلَ الكِتابِ ومُجْرِىَ السحابِ وخالِقَ الالباب، اهدِنا، ولا تُضِلَّـنا بَعْدَ إذ هديتنا، وَ هَبْ لنا مِن لَدُنْكَ رحمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهَّــاب.آمين.

NAJJAR
05/10/2008, 09:03 AM
اعتذر عن التاخر في ذكر ارقام الايات