سعدية اسلايلي
07/09/2007, 10:17 PM
يستيقظ الولد الريفي الصامت حتى الريبة، والوسيم حتى الاستحالة، ينفض ملابسه المتربة ورأسه المعشوشبة بالأفكار ، يشطف وجهه بماء بات للنجوم، وكما يفعل كل صباح، يطعم صغار الحمام التي نسج لها أعشاشا من الحلفاء والحنان في زوايا الإسطبل البارد، يهتم بصغار الخراف التي لم يسعفها بعد عودها للحاق بالقطيع، يداعبها قليلا... قبل أن يخرج ليومه المُتعب، يتفقد ركنه السري في طقوس تكاد تكون تعبدية. مند ما يفوق السنة، اكتشف بالصدفة بقعة وسط الصبار، فأثاره نقاؤها، حمل لها التراب والغبار المخصب، و غرس شجرة زيتون وبعض الأزهار الجبلية واهتم بها كما يهتم شاعر مهووس بالطفولة، بترتيب الأحلام. بعدها فقط، يقصد المدرسة وقد حمل كيسا به بعض الدفاتر المتفككة وقنينة من الشاي البارد رفقة كسرة ناشفة. يعود في بداية المساء وقد خبأ راحتيه تحت إبطيه وجمد دمعتين في جحر عينيه. لم يفهم يوما لماذا يمنعون الأطفال من اللعب ويضربونهم كل يوم، لم يستسغ جسمه الأبي الحبس بين فتحتي مقعد من خشب وحديد والنظر إلى لوح أسود رغم رحابة الكون.
رضوان سينهي الابتدائية لكنه لا يعرف حتى كتابة اسمه. لم يمنحوه سريرا في الداخلية لهذا عليه أن يقطع عشرين كيلومتر يوميا نحو الإعدادية، أو أن يعيش في بيت عمة عمياء لا تطبخ أكلا إلا أحترق. فكرة الإسمنت الرمادي في المدينة تخنقه، ومجاورة العجائز تذكره بالموت ولا يتخيل الحياة من دون حيواناته.
لم يتكلم لكنه تحرك مثل بطل منسي على خشبة مظلمة: جر أخاه الأصغر نحو الحديقة السرية وأوصاه :""إذا كنت تحبني اعتن بالشجرة حتى تصير أعلى من الصبار .... "" ثم اختفى.
لا أحد يتذكر أن رضوان يكمل اليوم السنة السادسة عشرة، انتظر منتصف الليل بعد أن نام الآخرون، جلس القرفصاء أمام موقد الفحم ، قرب قنينة البنزين التي تستعمل عادة لإشعال النار، وتناول علبة الغراء الكيميائي من جيبه، وبدأ يمزج الغراء المخدر مع بعض البنزين قبل أن يقطر المحلول فوق الجمر ليتشرب الدخان المتصاعد من جراء احتراقه. قطرة، قطرتان...وبدأ ذلك الكائن المزعج في علبة رأسه يتقلص حتى أصبح بحجم حبة المشمش الصلبة الحامضة، وامتنع عن الحل والربط وغاب خلف ضبابية أفكاره المعلم والجدران الرمادية والمقعد البارد و...وفتحت فوقه عوالم مزركشة مغشية بضبابية ساحرة. راق له منظر الفقاقيع وهي تتصاعد بحرية وخفة نحو السماء، فكر أن يتحول إلى فقاعة لينعم براحة الانمحاء. بلل ملابسه بالسائل الناري، ثم دهن وجهه وشعره بالغراء المخلص. عندما بلغت به النشوة حد إلغاء الشعور بالألم، تناول جمرة كما يتناول الطفل الحلوى، وما هي إلا لحظة حتى فرقعت ضحكاته في صمت الليل البهيم : كأنه نشيد للاحتراق الصوفي يعلو حتى تذوب الذات العاشقة في لهيب عشقها ويختصر في اشتعاله العمر. ارتفع باسما وهو يرقب وميضه الخاص في قلب العتمة! لم يتألم، .طارت الحمائم وفضلت أن لا تعاود الهجوع. عندما خرج دخانه ورائحة لحمه المحروق من المطبخ، كان رضوان قد غدا كومة رماد وبعض العظام الملتصقة بالتراب. اتصلوا بالإسعاف فكان السائق في الحمام، والعربة في حاجة لتغيير العجلة .
جلست أمه فوق الرماد وهي تلم الفحم إلى حضنها. "كنت دائما تقول لي يا وليدي
:"يا أمي لا فائدة من البلوغ في هذه البلاد، سأضل طفلا إلى الأبد."
ملحوظة:هذه قصة رضوان: ولد حقيقي انتحر على إثر قرار نقله إلى المدينة من قرية مستفركي قرب وجدة شرق المغرب
ه
رضوان سينهي الابتدائية لكنه لا يعرف حتى كتابة اسمه. لم يمنحوه سريرا في الداخلية لهذا عليه أن يقطع عشرين كيلومتر يوميا نحو الإعدادية، أو أن يعيش في بيت عمة عمياء لا تطبخ أكلا إلا أحترق. فكرة الإسمنت الرمادي في المدينة تخنقه، ومجاورة العجائز تذكره بالموت ولا يتخيل الحياة من دون حيواناته.
لم يتكلم لكنه تحرك مثل بطل منسي على خشبة مظلمة: جر أخاه الأصغر نحو الحديقة السرية وأوصاه :""إذا كنت تحبني اعتن بالشجرة حتى تصير أعلى من الصبار .... "" ثم اختفى.
لا أحد يتذكر أن رضوان يكمل اليوم السنة السادسة عشرة، انتظر منتصف الليل بعد أن نام الآخرون، جلس القرفصاء أمام موقد الفحم ، قرب قنينة البنزين التي تستعمل عادة لإشعال النار، وتناول علبة الغراء الكيميائي من جيبه، وبدأ يمزج الغراء المخدر مع بعض البنزين قبل أن يقطر المحلول فوق الجمر ليتشرب الدخان المتصاعد من جراء احتراقه. قطرة، قطرتان...وبدأ ذلك الكائن المزعج في علبة رأسه يتقلص حتى أصبح بحجم حبة المشمش الصلبة الحامضة، وامتنع عن الحل والربط وغاب خلف ضبابية أفكاره المعلم والجدران الرمادية والمقعد البارد و...وفتحت فوقه عوالم مزركشة مغشية بضبابية ساحرة. راق له منظر الفقاقيع وهي تتصاعد بحرية وخفة نحو السماء، فكر أن يتحول إلى فقاعة لينعم براحة الانمحاء. بلل ملابسه بالسائل الناري، ثم دهن وجهه وشعره بالغراء المخلص. عندما بلغت به النشوة حد إلغاء الشعور بالألم، تناول جمرة كما يتناول الطفل الحلوى، وما هي إلا لحظة حتى فرقعت ضحكاته في صمت الليل البهيم : كأنه نشيد للاحتراق الصوفي يعلو حتى تذوب الذات العاشقة في لهيب عشقها ويختصر في اشتعاله العمر. ارتفع باسما وهو يرقب وميضه الخاص في قلب العتمة! لم يتألم، .طارت الحمائم وفضلت أن لا تعاود الهجوع. عندما خرج دخانه ورائحة لحمه المحروق من المطبخ، كان رضوان قد غدا كومة رماد وبعض العظام الملتصقة بالتراب. اتصلوا بالإسعاف فكان السائق في الحمام، والعربة في حاجة لتغيير العجلة .
جلست أمه فوق الرماد وهي تلم الفحم إلى حضنها. "كنت دائما تقول لي يا وليدي
:"يا أمي لا فائدة من البلوغ في هذه البلاد، سأضل طفلا إلى الأبد."
ملحوظة:هذه قصة رضوان: ولد حقيقي انتحر على إثر قرار نقله إلى المدينة من قرية مستفركي قرب وجدة شرق المغرب
ه