المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ليلة فى حضن الطبيعة ( تجربة فى عالم الملايــــــــــــــــــــــــو)



NAJJAR
15/09/2007, 06:52 PM
ليلة فى حضن الطبيعة
كنت قد نزلت على رغبة بعض أصدقائى الماليزيين الذين دعونى إلى مغامرة فى الأدغال، كى أشاهد القرد ذا الأنف الطويل والذى لا يكاد يوجد إلا فى بلادهم الخضراء الجميلة. وبعد جولة سريعة فى مطار كوالالمبور الرائع، والذى يعد من أرقى مطارات العالم وأكثرها راحة ومتعة، إصطحبنى صديقى ذوالكفل ومعه صديقنا ذوالقرنين، وطالما كنت أمازحهما فى مصر وهما يدرسان فى الأزهر الشريف، وأناديهما معا " تعالا يا ذُلّلان"، لكل واحد ذلٌ واحد وأنا لى "ذُلاّن" وهنا أستمتع بضحكتيهما الجميلتين.

ذهبنا إلى الطائرة الماليزية الأنيقة فى رحلة تعدت الساعتين إلى مينة سنداكان، إحدى مدن ولاية سابه (يسميها العرب هنا صباح، ربما تذكرهم شيئا ما بالشحرورة اللبنانية المخضرمة). وهبطت بنا الطائرة فى مطار صغير إلا انه مجهز جيدا. وأمضينا سائر اليوم فى المدينة على وعد من منظم الرحلة الذى سيأخذنا بالحافلة فجرا ثم بالقارب بين الأدغال. كنت أرتعد من مجرد التفكير فى أننى فى الصباح سوف أكون محاطاً بلا حواجز بالعديد من الحيوانات الأليفة المتوحشة أو المتوحشة الأليفة. فى الحقيقة لم أكن أفهم هذه التركيبة اللغوية ربما لفرط خوفى من الزواحف عامة. وزيادة فى الرعب فقد شاهدت ليلتها فيلم الإناكوندا، وهى مصادفة أرجو ألا تتكرر لأحد بعدى. أنا لست جبانا ولست أخشى الأناكوندا ولا الهُواكوندا، ولكننى فقط لا أجيد السباحة فى غير ترعة صغيرة بقريتنا، هى فرع على استحياء من ماء النيل. ولم يجبنى صديقى ذوالقرنين عن سؤالى "هل توجد هنا أناكوندا؟". قلت لنفسى : العمر واحد والرب واحد.

ولم يكن معى فى القارب غير صديقىّ وثلاثة شباب وفتاة، من الأجانب الغربيين. لقد كانوا سعداء جداً بالرحلة، وأخبرنى أحدهم بأنها المرة الثالثة التى يأتى فى نفس الرحلة. فقلت لنفسى لقد نجا مرتان، ثم وسوس لى شيطانى بالمثل المصرى " الثالثة ثابتة". ربما أن الأناكوندا سيعجبها لحمهم الأحمر أولا ريثما أهرب. هكذا همست لنفسى كى أشجعها. وفجأة قفزت الفتاة الغربية وكادت تسقط وكدت أقفز فى الماء غير أننى لم أكن لأفعل ولو سهوا. وانتبهت على ضحك الجميع، فقد قذفها قرد بقشرة موز حسبتها ثعباناً. وكان القرد كأنه يضحك، وأخذ يقفز فوق أفرع الشجر فوقنا. وقد غنتابنا الخوف قليلاً لكثرة القردة. وأخيراً وصلنا إلى المملكة.

إنها مملكة القرد ذى الأنف الطويل. شىء ممتع حقاً أن تشاهده فى بيئته وليس فى التلفاز أو حديقة الحيوان. وأشار صاحب القارب إليه وهو يقول " أوران أوتان.. أوران أوتان" وقال ذوالكفل بالعربية " يقصد القرود حيث تعنى كلمة أوران (إنسان) وكلمة أوتان تعنى (الغابة)" والقرد هو إنسان الغابة. أنها رحلة تعود بالإنسان إلى عصور ما قبل التاريخ. حيث الطبيعة والحيوانات والماء’ بعيدا عن ضجة الحضر وتلوث البيئة والمنغصات الحياتية الكئيبة. حيث تحس ببركة الوقت وتوافق إيقاعات النفس مع تلك المنظومة الرائعة للطبيعة التى لم تخدش بعد.

كما انها كانت فرصة حقيقية لا تتاح إلا نادراً، للتقارب الثقافى بين الشرق العربى المعتدل، وأقصى الشرق الآسيوى الساخن، والشمال الأوربى المتجمد. كلنا فى حضن الطبيعة، معزولون عن تدخل العوائق التقليدية للعالم المعاصر. وحيث كان القارب يأوى بنا إلى خليجٍ صغير تم استثماره بذكاء. كانت هناك محطة استراحتنا فى كوخ كبير من عيدان البامبو. وكانت تقوم على خدمتنا مجموعة عرفنا فيما بعد انهم أسرة كاملة. فهذا المكان قد طورته الحكومة الماليزية للسياحة، وتركته لهذه الأسرة للترزق منه. وفد روعى فيه ألا يمس النسق الطبيعى بشكل من الأشكال. فجاء ككهف طبيعى فى بطن جبل. وأسبغت الخضرة عليه بهاءها ورونقها الزاهى الفريد. فعلى ضوء النار الموقدة، قضينا سهرة هادئة نتبادل أطراف الحديث.

لم تكن المغامرة النهرية قد تركت لنا فرصة التعارف الكامل. وانتهزنا فرصة السكون المحيط بنا فى التعارف. وعرفت أن الأجانب منهم شابان من النرويج، وشاب وزوجته حديثا من الدانمارك. لقد كانوا يتمتعون بوحدة مميزة وظننت أنهم جميعا من بلد واحد. وكان لإسم مصر صدى كبيرا عندهم. وفوجئت انهم لا يعرفون عنها سوى التاريخ البعيد للفراعنة. وتوليت الترجمة بين صديقىّ الماليزيين والأوربيين. وشاركنا صاحب القرب أحيانا. وبطريقة لطيفة استأذن صديقى الماليزيين وانتبذا من المجلس جانبا وافترشا قماشة كبيرة ولبسا كل واحد منهما قماشة مخيطة مفتوحة الطرفين يقولون لها " سارونج "، ولحقت بهما وهما على وشك الصلاة. وهنا أصرا على تقديمى للإمامة. وصلينا المغرب والعشاء جمع تأخير ولم تنته الصلاة إلا وخلفى صف من المصلين أحسبهم خمسة أو ست ماليزيين. وكانت نهاية صلاتنا بداية لحوارٍ طويل.

لقد فغرت أفواه النرويجيين والدانماركيين لما رأوا. وبمجرد أن انتهينا من الصلاة بادرونى بالأسئلة. لقد عجبوا أولا لأننى مسلم، وعجبوا ثانيا لأننى لم أتردد فى أن أصلى مع الماليزيين كما لم أسأل عن مذهبهم قبل أن أنضم إليهم، وأيضاً أصلى بهم وكأننى منهم، وهم يصلون بالعربية رغم كونهم غير عرب. لقد كانوا يضربون كفا بكف. كانوا يعجبون لذلك الصف ولمن يكمل ما فاته عندما انتهينا. وسألنى أحد النرويجيين أليس بينكم أى إختلاف فى المذاهب؟ فقلت بلى، لدينا. فالماليزيون شافعيون والمصريون مالكيون. فقال فكيف تصلون جماعة؟ فأخبرته بأن الإختلاف بين المذاهب فى الإسلام هو فى تطبيقات الفروع وليس فى المبادىء، وأنه قد لا يلحظ هذه الإختلافات بسهولة.

وبادرتنى الدانماركية بسؤال حول ما إذا كنت عربيا فعلاً أم تربيت فى الخارج. وعندما أخبرتها أننى من صميم العروبة، عجبت لذلك وحدثت زوجها بكلمات ورأيت علامة التعجب على وجهه. وقال: أتعرف؟ لو اننا كنا نعرف مسبقا أنك عربى ما ركبنا معك؟ وقبل أن أغضب بادرنى. لاتسىء فهمى. أننا نتلقى معلومات معكوسة عنكم. لقد جئنا إلى ماليزيا بعد أن قرأنا أنهم مسلمون ولكن مسالمون. وكنا نظن كل المسلمين إرهابيون متطرفون. وللحق فإننا لو كنا قابلناك فى الدانمارك ما كانت هناك فرصة كهذه لنعرف الحقيقة.

إنها الطبيعة التى جمعت بيننا تحت أغصان السلام، دون تلفزة مغرضة أو سهامٍ وأقلام. الطبيعة التى أتاح سكونها لهؤلاء الناس أن يستمعوا إلى القرآن وأن يتفكروا فى حال ذلك الصف الذى يبدوا كالبنيان المرصوص. وفى هذه القيادة (الإمامة) التى انعقدت دون حاجة إلى ديمقراطية أو تصويت. وإلى ذلك القانون الذى نجح فى أن يتربع فى قلوبٍ شتى ما كان لها أن تجتمع ولو أُنفقت عليها أموال العالم. وهم يسألون أنفسهم فى هدوء: ماذا لو كان هؤلاء المصلون منهم البروتستانتى ومنهم الأرثوذوكسى ومنهم الكاثوليكى وإن كانوا جميعا من بلد واحد؟ هل كانوا هكذا يصلون؟ بمثل هذا التوافق والإتفاق؟ وبمثل هذا الجمع والإشتراك؟ أم انهم كانوا سيعرضون عن العبادة كى لا يصطدمون؟

من علم هؤلاء الذين يسكنون الغابة أن يأكلوا بيمناهم ويغسلوا وأن يتطهروا؟ ومن الذى أدبهم هذه الآداب وهم لم يذهبوا إلى مدرسة ولم يتعلموا فى أوربا؟ وكيف يحفظون القرآن وهم لا يعرفون لغته؟ بل كيف هم مسلمون؟ إنها أسئلة كثيرة أقحمت نفسها فى عقولهم فانشغلوا عن كل شىء. وأجبناهم عن بعضها ولا زالوا يتساءلون.

وحين عدنا إلى المدينة تزايدت تساؤلاتهم. فقد بدأوا ينظرون إلى كل شىء من جديد. لقد لقنهم محاضروهم أن المسلمين متخلفون وبدائيون. وهم فى بلادهم يختلفون عن المسلمين فى أوربا ممن تعلموا وتخلصوا من بدائيتهم، غير أنهم لايزالون مسلمين وإرهابيين. وهاهم يرون المسلمين فى بلد مسلم. متقدمون ومؤدبون؟ إنها مفاجأة الطبيعة. ونتيجة ليلة ساهرة بعيدة عن عالم الغوغاء والإضلال. أنهم يقتربون ويقتربون. قلت لهم: إنقلوا ما عرفتم لأهلكم وذويكم. وتفكروا.. تجدوا جوابا لكل الذى تسألون.