المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشيخ والمريض



حسن البقالي
18/09/2007, 12:58 AM
قصة قصيرة
الشيخ والمريض
حسن البقالي


حين فاه الشيخ بجملته غير المتوقعة إطلاقا, خيل إلى المريد أنه لم يسمع جيدا, فتلعثمت ساقاه تحت الجسد ولم يقوَ على الحراك.
كانت هناك مسافة..
هي المسافة الضرورية التي كانت وسوف تكون دوما بين الآمر والصادع بالأمر..
وبدا المكان رطبا..
وبين مجمرة من نحاس مهيأة لزغردة عود القماري, وبضع مخطوطات معتقة, جلس الشيخ وضاءا ناضحا بالمهابة ..
كان قد اصطفاه من بين المريدين, وأومأ إليه أن إئتني طوعا..فأتى يسابق خواطره..
بقلب واجف وخطى مرتبكة, دخل الى مخدع الأسرار حيث يلوذ الشيخ بجمرة المعاني..
في جلسته التي تستمطر الأحوال , لا هو باليقظ ولا المبحر في السبات..جفناه يرفان بتلك الحركات السريعة الفاضحة لأطوار شريط حلمي يمر خلف واجهة الجسد, بينما الكف تغازل حبات في حجم عقلة الأصبع لمسبحة أربعينية من خشب العرعر..
- رأيت أني أعودك, فكن مريضي.
فهل سمع المريد, لكن ذهنه لم يستوعب شراهة اللغة الداعية الى السقم؟
كان يعرف أنه مقبل على أمر جلل, كما يعرف أن الرؤيا زفرة من طاقة الغيب يمن بها الله واسع القدرة على من يصطفي من عباده..
رد بشكل لا يقبل أي التباس:
- شرف لي أن أكون مريضك, شيخي الجليل.
أنارت وجه الشيخ بسمة رضية..
وتقلصت المسافة الى الحدود الدنيا..
وفي الحال..
أحس المريد بمغص شديد يلوي أمعاءه, ورغبة في الهرولة باتجاه المرحاض, حيث يدفعه إسهال ماحق إلى إفراغ ماء الداخل..
ومن خلل امتقاعه, ألقى بنظرة مستفسرة إلى الشيخ, الذي لوّح بيده وقال:
- ليس بعد.
داهمته الحمى ..وهزت جسده رعشات متتالية..وفيما كانت حبات المسبحة تتأوه خشوعا تحت لمسات أصابع الشيخ البيضاء, بدت له خلال لحظة مقتطعة من زمن الحرائق, محض حلمات واعدة بنهود لن تلبث أن تبزغ في المجال وتشبع الهواء بمستقطر شهوة دفينة..
دفع بالخاطر الآثم إلى القعر , وأثقل جفنيه السؤال:
- هل رضيت يا شيخنا؟
- ليس بعد..ليس بعد..
رأى الجراثيم تداهمه من كل صوب , وطفحت خلاياه بأعراض أمراض فتاكة..
صار سمكة في بحر الألم.
أخذه الشيخ الى منزله ..دثروه بأغطية لم تمنع عنه استفحال المرض..حتى إذا استشعر دنو أجله, رفع عينين بيضاوين إلى الشيخ وغمغم في وهن:
- هل أنت راض الآن؟
أجاب:
- ظللت لسنوات مديدة مريدي الأثير, و...
لكنه أسلم الروح قبل سماع البقية..
سجّاه.
واخترق بنظراته الأشياء وهو يقول:
- رأيت أيضا أني.. أدفنك .
وانسل بين خيوط العتمة ونشيج أهل الدار.

سعيد أبو نعسة
18/09/2007, 06:25 PM
أخي الكريم حسن البقالي
بمبضع الحكيم تنفذ إلى عفن الجهل المطبق وتكشف النقاب عما يحيق بشرائح واسعة من أمتنا من ظلام و سذاجة و حمق دفين .
متى نفيق ؟
سؤال لم يحن وقت الإجابة عنه .
و أحيله إلى علماء بني إسرائيل علني أجد عندهم جوابا شافيا .
منذ زمن لم أقرأ نصا بهذه القوة و المتانة في السبك و الدقة في اختيار الألفاظ
دمت مبدعا

حسن البقالي
19/09/2007, 05:03 PM
العزيز سعيد أبو نعسة
شكرا أخي الكريم على شهادة تحفز على المزيد من البذل..
مودتي..

عبد العزيز غوردو
20/09/2007, 01:05 AM
هذا اليراع بتّ أحبه...

ناعم حاد كما مبضع الجراح...

أخي المبدع حسن:

نص قوي.. وأعتز بأني أقرأ لك...

مجدي السماك
20/09/2007, 04:08 PM
اخي المبدع الرائع .. انا قرأت لك هذه القصة على موقع انفاس نت ..اعجبتني جدا ورائعة ..تدل على امتلاكك لتقنية القصة و اللغة الرصينة .. للاسف هذا هو حالنا و وضعنا ..اتمنى لك المزيد من التالق و الابداع .. زميلك : مجدي السماك

مجدي السماك
20/09/2007, 04:08 PM
اخي المبدع الرائع .. انا قرأت لك هذه القصة على موقع انفاس نت ..اعجبتني جدا ورائعة ..تدل على امتلاكك لتقنية القصة و اللغة الرصينة .. للاسف هذا هو حالنا و وضعنا ..اتمنى لك المزيد من التالق و الابداع .. زميلك : مجدي السماك

حسن البقالي
20/09/2007, 08:59 PM
أخي عبد العزيز
االاعتزاز من بعضه..
دام لك الألق

حسن البقالي
20/09/2007, 08:59 PM
أخي عبد العزيز
االاعتزاز من بعضه..
دام لك الألق

حسن البقالي
22/09/2007, 12:12 AM
أخي مجدي السماك
تتبعث بعض ما نشرتَه هناك أيضا..أحييك وأرحب بك مبدعا وصديقا..

محسن رشاد أبو بكر
29/09/2007, 02:59 AM
(هي المسافة الضرورية التي كانت وسوف تكون دوما بين الآمر والصادع بالأمر..)

هى المسافة التى كانت ومازالت بيننا وبينهم

(كان قد اصطفاه من بين المريدين)

لقد اصطفونا ولكننا لم نصطفيهم

(أن الرؤيا زفرة من طاقة الغيب يمن بها الله واسع القدرة على من يصطفي من عباده..)

إن الغيب أصبح دليلنا إلى الحياة والحق والعدل

(واخترق بنظراته الأشياء وهو يقول:
- رأيت أيضا أني.. أدفنك .
وانسل بين خيوط العتمة ونشيج أهل الدار.)

هل يمكن عودة الروح لمن أصبح خيطا فى رداء الجهل والخرافة لقرون وقرون بدعوى الشيوخ والمريدين

تقبل تحياتى لقلمك المبدع وحسك المرهف

رباب كساب
29/09/2007, 05:54 AM
- هل رضيت يا شيخنا؟
- ليس بعد..ليس بعد..
- رأيت أيضا أني.. أدفنك

سرنا نسير بخطى واثقة نحو الهلاك ، لولا بقية من أمل لقلت أنا هلكنا بالفعل وأنهم يجهزونا للدفن ، هل سيدفننونا طبقا لشريعتنا أم سيضعوننا في مقابر جماعية دون شواهد تدل علينا ، رغبة منهم في محونا للأبد .

أستاذي : حسن البقالي
ما أروع ما قرأت ، وأجمل ما سطر قلمك .

كل عام وأنت بخير .
دمت مبدعا .
رباب كساب

حسن البقالي
01/10/2007, 04:23 PM
أخي محسن رشاد أبو بكر
شكرا على تلك المصفوفة الجميلة من الكلمات في حق "الشيخ والمريض"
تحيتي وكل المودة

حسن البقالي
01/10/2007, 04:26 PM
أختي رباب كساب
كلماتك الدافئة مبعث سرور وحافز على المزيد من الحفر ..
دمت بخير ورمضانك كريم سيدتي.