جواد البشيتي
22/09/2007, 10:13 AM
"الحوار" و"أصناف المحاورين"!
جواد البشيتي
إنَّه في منزلة البديهية أن تقول إنَّ "السلام" يُصْنَع ويتحقَّق بين "أعداء" وليس بين "أصدقاء". وفي قول مشابه نقول إنَّ "الحوار" لا تقوم له قائمة، ولا يستوفي معناه وشروطه ومقوِّماته، إذا لم يَكْن بين طرفين مختلفين فكرياً في الأمر الذي يتحاوران فيه. إنَّنا لا نتحاور في ما نحن فيه متَّفِقون، وإنَّما في ما نحن فيه مختلفون، فحيث نختلف يمكن ويجب أن نتحاور. وهذا إنَّما يعني أنَّ "الحوار"، في جوهره، هو "حوارٌ بين فكرتين متناقضتين"، وإنْ دار وجرى بين "شخصين يُمثِّلان هذا التناقض أو التضاد الفكري".
وكثيراً ما يَضْرِب المتحاورون صَفْحاً عن حقيقة في منتهى الأهمية هي أنَّ "الفكرة" مُنْتَج اجتماعي ـ تاريخي مهما بدت للذي يُمَثِّلها، ويحامي عنها، ويتعصَّب لها، كـ "مُنْتَج ذاتي شخصي". إنَّها، أي "الفكرة"، ومن حيث المبدأ والأساس، "بِنْتٌ له؛ ولكن من طريق التبنِّي".
لقد تضافر كثيرون على إنشاء وتطوير تلك "الفكرة"، التي تبنَّاها، واعتقدها، وتعصَّب لها؛ وهي نشأت وتطوَّرت كما ينشأ ويتطوَّر كل شيء، أي بوصفه "ظاهرة تاريخية"، لها ماضٍ وحاضر ومستقبل، وتَخْتَلِف، بالتالي، باختلاف الزمن.
وليس المُبْدِع والمُبْتَكِر والمُنْشئ سوى مَنْ جاء بـ "فكرة جديدة"؛ ولكن ليس من "العدم الفكري"؛ وإنَّما من "مواد فكرية أوَّلية"، ليس له من فضل في وجودها، فَمِنْ غير "مواد أوَّلية" لا تقوم قائمة لأيِّ "خَلْق".
ولكن، هل من موجِبٍ وداعٍ للحوار؟ تاريخ الحوار يَكْشِف لنا ويؤكِّد أنَّه، إذا ما استوفى شرط "الموضوعية"، على صعوبة واستعصاء ذلك في بعضٍ من القضايا والأمور، يمكن أن يكون طريقاً إلى "حقيقة فكرية جديدة".. إلى "إنشاء وتطوير فكرة جديدة ثالثة"، تَضْرِب جذورها عميقا في "الفكرتين المتناقضتين"، وإنْ تخطَّتهما وتجاوزتهما في الوقت نفسه.
في "الحوار"، وبه، يكتشف كلا الخصمين الفكريين المتحاورين "التناقض" في فكر الآخر.. تناقض الفكرة ذاتها مع أفكار أُخرى للمحاوِر نفسه (أي "التناقض المنطقي") أو تناقضها مع "الواقع الموضوعي"، أي مع الوقائع والحقائق الواقعة. وإظهار وتأكيد هذا "التناقض المزدوَج"، من خلال "الحوار"، لا بدَّ لهما من أن يؤدِّيا، إذا ما تحلَّى صاحِب الفكرة المثخنة بالجراح بـ "الروح الرياضية"، إلى تذليل العقبات من طريق إنهاء هذه "الحرب"؛ ولكن بما يَجْعَل "الحقيقة" هي "المنتصر الوحيد".
إذا فشل "الحوار" في ما يجب أن ينجح فيه فإنَّ العيب لن يكون فيه، وإنَّما في المتحاورين، أو في أحدهم.
هناك من المحاورين محاوِرٌ "على خُلُقٍ قويم". إنَّه، وعلى الرغم من اختلافه معكَ فكريا في الأمر الذي فيه تتحاوران، يميل إلى "المجاملة الفكرية"، فهو كارهٌ لـ "الحروب" ولو كانت "حواراً"، يبدأ حواره معكَ بإظهار اختلافه الفكري عنكَ، ثمَّ يشرع "يُمَيِّع" هذا الاختلاف، وكأنَّ غايته التي لا تعلوها غاية هي أن تظلاَّ على توادٍّ، فهو يُحِبُّ "الحقيقة"؛ ولكنَّه يُحِبُّ "أفلاطون"، الذي هو أنتَ، أكثر. هذا محاوِر يشبه لجهة علاقته بالفكرة التي يحاوِر فيها محامٍ ضعيف، أو كاهن له من سِعَة وكِبَر النفس ما يَحْمِله على تصغير عقله، والإمعان في تصغيره. وهذا المحاوِر ليس للفكر من جذور في عقله وقلبه، ولا يملك من قوَّة الدافع ما يَجْعَله "فارِساً" في حواره، يحاوِر ويحامي عن فكره بـ "العقل البارد" و"القلب الحار". إنَّه لا يختلف معكَ فكريا، ولا يُظْهِر هذا الاختلاف، إلا لِيَجْعَل ناره نوراً تَسْتَنير به دروب "المحبَّة" و"الصداقة" و"الوفاق"، فبئس حوارٍ غايته هذه.
وهناك محاوِرٌ مُتَخَلِّق بأخلاق ابن العشيرة أو القبيلة، ليس من برزخ يقيمه بين الفكرة التي يقول بها، ويتبنَّاها، ويدافع عنها، وبين "كرامته"، فكل "تطاولٍ" على "فكرته"، التي ليست من عنده في نشأتها وتطوُّرها، يَنْظُر إليه، ويفهمه، على أنَّه تطاول على كرامته، وانتهاك لعِرْضِه، فيتحوَّل سريعا من "محاوِر" إلى "ثائِر" لا يبقى على شيء حتى يُدْرِكَ ثأره. هذه "البداوة"، في "الحوار" و"المحاوِر"، تُخْرِج "الحوار" عن سكَّته، لِتُسَيِّرَهُ، من ثمَّ، في سِكَّة السبِّ والشتم والتنابز والتعاير بالألقاب. إنَّ المُمْعِن في "البداوة الفكرية" لا يَصْلُح للحوار الفكري، ولا يُمْكِنه أن يكون محاوِراً فكرياً، فهو مُتَخَلِّقٌ بأخلاق تَخْلِقَهُ على هيئة القاصِر عقلا، فالطويل، بالتالي، لساناً ويداً.
هذا "المحاوِر" إيَّاكَ أن تحاوِره، وتُضَيِّع وقتكَ وجهدكَ في محاورته، فخيرٌ تَفْعَل إذا أنتَ تركته في جهله يَنْعَم، وفي "بداوته الفكرية" يحيا، فهو لجهة علاقته بالفكر الذي يَحْمِله على رأسه، وليس في رأسه، كمثلٍ حمارٍ يَحْمِل أسفارا.
وهناك محاوِرٌ يَلِجُّ في طلب الدليل على وجود النهار، وليس يَصِحُّ في الإفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل!
ومن خواص هذا المحاوِر، كفانا الله شرَّ محاورته، أنَّه لا يقرأ ولا يستمع. لا يقرأ رأيكَ المكتوب، ولا يستمع إلى ما تقول. وإنْ قرأ فلا يَفْهَم؛ لأنَّه يَمْلِك من الفكر ومن طرائق التفكير ما يُعْجِزَهُ عن أن يكون "موضوعياً" في القراءة، التي لن تكون "موضوعية" إذا لم تَقُدْهُ إلى المعنى الذي أرَدَت وقَصَدت. إنَّه محاوِرٌ يُرْسِل ولا يَسْتَقْبِل، "ذاتيٌّ" في قراءته وفهمه؛ وبما يُوافِق هذه "الذاتية"، يشرع يُرْسِل، وكأنَّه يبحث عمَّا يُحوِّل "الإمساك" في رأسه الصغيرة إلى "إسهال"، إنَّكَ تحاوِره لتقنعه بأنَّ 1+1= 2 وليس 3، فإذا به يحاوِركَ ليِقنعكَ بأنَّ 1+1= قِرْد!
أنتَ تناقشه في أمر، وتتحدًَّاه أن يجيب عن أسئلتكَ، فإذا به يناقشكَ في أمر يُخْرِجُكَ وإيَّاه عن الأمر مَوْضِع النقاش برمَّته، هارباً متهرِّباً من أسئلتك، وكأنَّكَ لم تسأل، ولم تتحدَّاه أن يجيب. ولَيْتَهُ يَزِنُ الحقيقة في رأيكَ بميزانها، فأنتَ مُصيب إذا ما قُلْتَ برأيٍ يُوافِق قولاً يَعْتَقِده، ومُخطئ إذا لم يُوافٍقه، أو ناقضه، وكأنَّه مُمسِك بـ "مسطرة فكرية"، لا تتأثَّر أبدا باختلاف المكان والزمان، ويقيس بها كل فكر أو رأي أنْتَجه مكان وزمان مختلفين، وكأنَّ "المبادئ" ليست بمُشْتَقَّة من "الواقع"، وكأنَّ "الواقع" مُشْتَقٌّ من "المبادئ"!
هذا المحاوِر مع "مسطرته" التي هبطت عليه من السماء إنَّما يُذَكِّرني بصديق اشترى قلم حِبْر، فكَتَبَ به، وظلَّ يَكْتُب، حتى جَفَّ؛ ومع ذلك ظلَّ يقول إنَّه يملك قلم حِبْرٍ!
وعندما يَظْهَر ويتأكَّد أنَّ ما يقول به من مبادئ (أي "مسطرته") قد "جَفَّ حِبْره"، أو قد ضاق بالوقائع والحقائق الجديدة، يشرع يَمُطُّ تلك المبادئ، وكأنَّها شريط مطَّاطي، ويُقلِّص ويُصغِّر تلك الوقائع والحقائق، مع أنَّها غير قابلة للتقليص والتصغير، ومع أنَّ الإمعان في شدِّ ومطِّ "شريط المبادئ" يؤدِّي، حتماً، إلى قطعه، وإلى جَعْل "المقطوع" أشد مقاوَمةً للشدِّ والمطِّ.
هو لم يَصْنَع تلك "المسطرة"؛ ولكنَّها هي التي صنعته، فأساءت صنعه إذ أعمت بصره وبصيرته، وأصَمَّته، فـ "النملة" لا وجود لها؛ لأنَّها أصغر من "مسطرته"، و"الفيل" لا وجود له؛ لأنَّه أكبر منها!
هذا المحاوِر لا يَجْمَع في رأسه من الفكر إلا "مُسَلَّمات" هي في حقيقتها أفكار يعوزها "الإثبات"، ولا يجوز، بالتالي، اتِّخاذها دليل إثبات، أو نفي، للفكر أو الرأي الآخر.
هذا هو كل متاعه الفكري.. "مُسلَّمات" لا تَسْلَم من الواقع وحقائق، فلا يبقى للقائلين بها من سلاح يدافعون به عنها غير سلاح يشبه قول "إنَّها عنزة ولو طارت"!
بقي من أصناف المحاورين المحاوِر الذي يَزِنُ "الحقيقة" في رأيكَ وفكركَ بـ "ميزان مصالحه (الشخصية والفئوية الضيِّقة)"، فكل رأي أو فكر يوافقها ويخدمها إنَّما هو الحقيقة بعينها، وكل رأي أو فكر يعارضها ويؤذيها إنَّما هو الباطل بعينه.
هذا المحاوِر لا تحاوِره توصُّلاً إلى إقناعه، فعقله لا يقتنع إلا بما تقنعه به مصالحه. إنَّه يعرف أنَّ اللبن أبيض، وهو مؤمِنٌ مثلك، وربَّما أكثر منكَ، بأنَّ اللبن أبيض؛ ولكنَّه سيظلُّ مصرَّاً على أنَّ اللبن أسود؛ لأنَّ مصالحه تَحْمِله على ذلك، فإذا أظْهَر عجزاً عن مقارعة الحُجَّة بالحُجَّة، وعن دحض ما هو في منزلة بديهية هندسية فإنَّه لن يتورَّع عن أن يناصب عِلْم الهندسة العداء، فما أهمية المنطق والحقيقة إذا لم ينزلا على مصالحه برداً وسلاماً؟!
جواد البشيتي
إنَّه في منزلة البديهية أن تقول إنَّ "السلام" يُصْنَع ويتحقَّق بين "أعداء" وليس بين "أصدقاء". وفي قول مشابه نقول إنَّ "الحوار" لا تقوم له قائمة، ولا يستوفي معناه وشروطه ومقوِّماته، إذا لم يَكْن بين طرفين مختلفين فكرياً في الأمر الذي يتحاوران فيه. إنَّنا لا نتحاور في ما نحن فيه متَّفِقون، وإنَّما في ما نحن فيه مختلفون، فحيث نختلف يمكن ويجب أن نتحاور. وهذا إنَّما يعني أنَّ "الحوار"، في جوهره، هو "حوارٌ بين فكرتين متناقضتين"، وإنْ دار وجرى بين "شخصين يُمثِّلان هذا التناقض أو التضاد الفكري".
وكثيراً ما يَضْرِب المتحاورون صَفْحاً عن حقيقة في منتهى الأهمية هي أنَّ "الفكرة" مُنْتَج اجتماعي ـ تاريخي مهما بدت للذي يُمَثِّلها، ويحامي عنها، ويتعصَّب لها، كـ "مُنْتَج ذاتي شخصي". إنَّها، أي "الفكرة"، ومن حيث المبدأ والأساس، "بِنْتٌ له؛ ولكن من طريق التبنِّي".
لقد تضافر كثيرون على إنشاء وتطوير تلك "الفكرة"، التي تبنَّاها، واعتقدها، وتعصَّب لها؛ وهي نشأت وتطوَّرت كما ينشأ ويتطوَّر كل شيء، أي بوصفه "ظاهرة تاريخية"، لها ماضٍ وحاضر ومستقبل، وتَخْتَلِف، بالتالي، باختلاف الزمن.
وليس المُبْدِع والمُبْتَكِر والمُنْشئ سوى مَنْ جاء بـ "فكرة جديدة"؛ ولكن ليس من "العدم الفكري"؛ وإنَّما من "مواد فكرية أوَّلية"، ليس له من فضل في وجودها، فَمِنْ غير "مواد أوَّلية" لا تقوم قائمة لأيِّ "خَلْق".
ولكن، هل من موجِبٍ وداعٍ للحوار؟ تاريخ الحوار يَكْشِف لنا ويؤكِّد أنَّه، إذا ما استوفى شرط "الموضوعية"، على صعوبة واستعصاء ذلك في بعضٍ من القضايا والأمور، يمكن أن يكون طريقاً إلى "حقيقة فكرية جديدة".. إلى "إنشاء وتطوير فكرة جديدة ثالثة"، تَضْرِب جذورها عميقا في "الفكرتين المتناقضتين"، وإنْ تخطَّتهما وتجاوزتهما في الوقت نفسه.
في "الحوار"، وبه، يكتشف كلا الخصمين الفكريين المتحاورين "التناقض" في فكر الآخر.. تناقض الفكرة ذاتها مع أفكار أُخرى للمحاوِر نفسه (أي "التناقض المنطقي") أو تناقضها مع "الواقع الموضوعي"، أي مع الوقائع والحقائق الواقعة. وإظهار وتأكيد هذا "التناقض المزدوَج"، من خلال "الحوار"، لا بدَّ لهما من أن يؤدِّيا، إذا ما تحلَّى صاحِب الفكرة المثخنة بالجراح بـ "الروح الرياضية"، إلى تذليل العقبات من طريق إنهاء هذه "الحرب"؛ ولكن بما يَجْعَل "الحقيقة" هي "المنتصر الوحيد".
إذا فشل "الحوار" في ما يجب أن ينجح فيه فإنَّ العيب لن يكون فيه، وإنَّما في المتحاورين، أو في أحدهم.
هناك من المحاورين محاوِرٌ "على خُلُقٍ قويم". إنَّه، وعلى الرغم من اختلافه معكَ فكريا في الأمر الذي فيه تتحاوران، يميل إلى "المجاملة الفكرية"، فهو كارهٌ لـ "الحروب" ولو كانت "حواراً"، يبدأ حواره معكَ بإظهار اختلافه الفكري عنكَ، ثمَّ يشرع "يُمَيِّع" هذا الاختلاف، وكأنَّ غايته التي لا تعلوها غاية هي أن تظلاَّ على توادٍّ، فهو يُحِبُّ "الحقيقة"؛ ولكنَّه يُحِبُّ "أفلاطون"، الذي هو أنتَ، أكثر. هذا محاوِر يشبه لجهة علاقته بالفكرة التي يحاوِر فيها محامٍ ضعيف، أو كاهن له من سِعَة وكِبَر النفس ما يَحْمِله على تصغير عقله، والإمعان في تصغيره. وهذا المحاوِر ليس للفكر من جذور في عقله وقلبه، ولا يملك من قوَّة الدافع ما يَجْعَله "فارِساً" في حواره، يحاوِر ويحامي عن فكره بـ "العقل البارد" و"القلب الحار". إنَّه لا يختلف معكَ فكريا، ولا يُظْهِر هذا الاختلاف، إلا لِيَجْعَل ناره نوراً تَسْتَنير به دروب "المحبَّة" و"الصداقة" و"الوفاق"، فبئس حوارٍ غايته هذه.
وهناك محاوِرٌ مُتَخَلِّق بأخلاق ابن العشيرة أو القبيلة، ليس من برزخ يقيمه بين الفكرة التي يقول بها، ويتبنَّاها، ويدافع عنها، وبين "كرامته"، فكل "تطاولٍ" على "فكرته"، التي ليست من عنده في نشأتها وتطوُّرها، يَنْظُر إليه، ويفهمه، على أنَّه تطاول على كرامته، وانتهاك لعِرْضِه، فيتحوَّل سريعا من "محاوِر" إلى "ثائِر" لا يبقى على شيء حتى يُدْرِكَ ثأره. هذه "البداوة"، في "الحوار" و"المحاوِر"، تُخْرِج "الحوار" عن سكَّته، لِتُسَيِّرَهُ، من ثمَّ، في سِكَّة السبِّ والشتم والتنابز والتعاير بالألقاب. إنَّ المُمْعِن في "البداوة الفكرية" لا يَصْلُح للحوار الفكري، ولا يُمْكِنه أن يكون محاوِراً فكرياً، فهو مُتَخَلِّقٌ بأخلاق تَخْلِقَهُ على هيئة القاصِر عقلا، فالطويل، بالتالي، لساناً ويداً.
هذا "المحاوِر" إيَّاكَ أن تحاوِره، وتُضَيِّع وقتكَ وجهدكَ في محاورته، فخيرٌ تَفْعَل إذا أنتَ تركته في جهله يَنْعَم، وفي "بداوته الفكرية" يحيا، فهو لجهة علاقته بالفكر الذي يَحْمِله على رأسه، وليس في رأسه، كمثلٍ حمارٍ يَحْمِل أسفارا.
وهناك محاوِرٌ يَلِجُّ في طلب الدليل على وجود النهار، وليس يَصِحُّ في الإفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل!
ومن خواص هذا المحاوِر، كفانا الله شرَّ محاورته، أنَّه لا يقرأ ولا يستمع. لا يقرأ رأيكَ المكتوب، ولا يستمع إلى ما تقول. وإنْ قرأ فلا يَفْهَم؛ لأنَّه يَمْلِك من الفكر ومن طرائق التفكير ما يُعْجِزَهُ عن أن يكون "موضوعياً" في القراءة، التي لن تكون "موضوعية" إذا لم تَقُدْهُ إلى المعنى الذي أرَدَت وقَصَدت. إنَّه محاوِرٌ يُرْسِل ولا يَسْتَقْبِل، "ذاتيٌّ" في قراءته وفهمه؛ وبما يُوافِق هذه "الذاتية"، يشرع يُرْسِل، وكأنَّه يبحث عمَّا يُحوِّل "الإمساك" في رأسه الصغيرة إلى "إسهال"، إنَّكَ تحاوِره لتقنعه بأنَّ 1+1= 2 وليس 3، فإذا به يحاوِركَ ليِقنعكَ بأنَّ 1+1= قِرْد!
أنتَ تناقشه في أمر، وتتحدًَّاه أن يجيب عن أسئلتكَ، فإذا به يناقشكَ في أمر يُخْرِجُكَ وإيَّاه عن الأمر مَوْضِع النقاش برمَّته، هارباً متهرِّباً من أسئلتك، وكأنَّكَ لم تسأل، ولم تتحدَّاه أن يجيب. ولَيْتَهُ يَزِنُ الحقيقة في رأيكَ بميزانها، فأنتَ مُصيب إذا ما قُلْتَ برأيٍ يُوافِق قولاً يَعْتَقِده، ومُخطئ إذا لم يُوافٍقه، أو ناقضه، وكأنَّه مُمسِك بـ "مسطرة فكرية"، لا تتأثَّر أبدا باختلاف المكان والزمان، ويقيس بها كل فكر أو رأي أنْتَجه مكان وزمان مختلفين، وكأنَّ "المبادئ" ليست بمُشْتَقَّة من "الواقع"، وكأنَّ "الواقع" مُشْتَقٌّ من "المبادئ"!
هذا المحاوِر مع "مسطرته" التي هبطت عليه من السماء إنَّما يُذَكِّرني بصديق اشترى قلم حِبْر، فكَتَبَ به، وظلَّ يَكْتُب، حتى جَفَّ؛ ومع ذلك ظلَّ يقول إنَّه يملك قلم حِبْرٍ!
وعندما يَظْهَر ويتأكَّد أنَّ ما يقول به من مبادئ (أي "مسطرته") قد "جَفَّ حِبْره"، أو قد ضاق بالوقائع والحقائق الجديدة، يشرع يَمُطُّ تلك المبادئ، وكأنَّها شريط مطَّاطي، ويُقلِّص ويُصغِّر تلك الوقائع والحقائق، مع أنَّها غير قابلة للتقليص والتصغير، ومع أنَّ الإمعان في شدِّ ومطِّ "شريط المبادئ" يؤدِّي، حتماً، إلى قطعه، وإلى جَعْل "المقطوع" أشد مقاوَمةً للشدِّ والمطِّ.
هو لم يَصْنَع تلك "المسطرة"؛ ولكنَّها هي التي صنعته، فأساءت صنعه إذ أعمت بصره وبصيرته، وأصَمَّته، فـ "النملة" لا وجود لها؛ لأنَّها أصغر من "مسطرته"، و"الفيل" لا وجود له؛ لأنَّه أكبر منها!
هذا المحاوِر لا يَجْمَع في رأسه من الفكر إلا "مُسَلَّمات" هي في حقيقتها أفكار يعوزها "الإثبات"، ولا يجوز، بالتالي، اتِّخاذها دليل إثبات، أو نفي، للفكر أو الرأي الآخر.
هذا هو كل متاعه الفكري.. "مُسلَّمات" لا تَسْلَم من الواقع وحقائق، فلا يبقى للقائلين بها من سلاح يدافعون به عنها غير سلاح يشبه قول "إنَّها عنزة ولو طارت"!
بقي من أصناف المحاورين المحاوِر الذي يَزِنُ "الحقيقة" في رأيكَ وفكركَ بـ "ميزان مصالحه (الشخصية والفئوية الضيِّقة)"، فكل رأي أو فكر يوافقها ويخدمها إنَّما هو الحقيقة بعينها، وكل رأي أو فكر يعارضها ويؤذيها إنَّما هو الباطل بعينه.
هذا المحاوِر لا تحاوِره توصُّلاً إلى إقناعه، فعقله لا يقتنع إلا بما تقنعه به مصالحه. إنَّه يعرف أنَّ اللبن أبيض، وهو مؤمِنٌ مثلك، وربَّما أكثر منكَ، بأنَّ اللبن أبيض؛ ولكنَّه سيظلُّ مصرَّاً على أنَّ اللبن أسود؛ لأنَّ مصالحه تَحْمِله على ذلك، فإذا أظْهَر عجزاً عن مقارعة الحُجَّة بالحُجَّة، وعن دحض ما هو في منزلة بديهية هندسية فإنَّه لن يتورَّع عن أن يناصب عِلْم الهندسة العداء، فما أهمية المنطق والحقيقة إذا لم ينزلا على مصالحه برداً وسلاماً؟!