مجدي السماك
22/09/2007, 07:41 PM
لقاء مدهش
بقلم : مجدي السماك
تردد قليلا قبل أن يفوت إلى الداخل ، فوقف أمام الباب يحسب التكلفة بكل دقة ، حائر ، فوضعه لا يحتمل أي مغامرة فيما يتعلق بالنقود ، خاصة لموظف بسيط مثله عندما يضطر لتناول الطعام في مطعم فخم ، وهو بالكاد يستطيع الأكل في بيته ، هو معزوم للأكل على حساب صديقه الذي لم يأت ، إنما هاتفه ليبلغه بعدم قدومه لأمر طارئ.. جلس إلى إحدى الطاولات ، لم ير أي ذبابة أو حشرة في المكان ، كل شيء نظيف ويلمع ، البلاط مغطى بموكيت فارسي تغوص به القدم . ما أن جلس و حدق بقائمة الطعام و بحلق بأثمان أصنافها حتى عرف أنه وقع في ورطة كبيرة أو مصيدة .. كاد أن يترك المطعم و يعود أدراجه ، لكنه تفاجأ بمجيء الجرسون قائلا و قد رصع وجهه بابتسامة رقيقة : أي خدمة يا أستاذ . شعر بالخجل و الإحراج و طلب صحن شوربة و صحن سلطة فقط .. رمقه الجرسون مندهشا ثم راح يجلب له ما طلب ، فأخذ ينتظر و يدعو الله أن لا تشمل فاتورة الحساب ابتسامة الجرسون .
فجأة اندفع إلى داخل المطعم شخص يمشي على أربعة أقدام ، قدمان طبيعيان خلقهما الله مشلولان و قدمان صناعيان خشبيان ، هما عكازان صناعة بريطانية ، يرتكز عليهما بإبطيه، يمسك بكفيه مقبض في وسط كل عكاز ، و يرفع جسمه قليلا للأعلى ويدفعه للأمام كي يمشي خطوة واحدة أو قفزة .. ويعيد كل هذه العملية مع كل خطوة يخطوها .. لا يوجد أماكن شاغرة البتة ، مما اضطره للاستئذان و الجلوس مع الموظف على نفس الطاولة ، قال الموظف لنفسه : واضح انه يريد الاستراحة ليلتقط أنفاسه ، شعره كث متسخ بالغبار ، أسماله ممزقة و قد كلح لونها ، لو أذاب ما عليها من بقع دهنية وزيوت فسيكفي لقلي سمكة كبيرة ، حدق الموظف في وجهه فاكتشف انه بعين واحدة تبصر والأخرى عمياء .. لا يوجد له رقبة ، أو هو برقبة غليظة قصيرة جدا بالكاد تظهر ، يتكور فوقها رأسه الضخم و قد توسط وجهه انف أفطس كبير .
لا يمكن أن يخطر في ذهنه أو أي ذهن انه جاء لتناول الطعام ، إنما ظنه جاء كي يلملم بقايا الطعام على الطاولات ، ليأخذه معه إلى بيته كي يطعم زوجته الغلبانة التعسة و أولاده الجياع المساكين ، فتفاجأ الموظف حين طلب الشخص من الجرسون أصناف شتى من الأطعمة الشهية غالية الثمن ، و عدة أطباق من السلطات و الحلويات الشهية ، من كريم كرميل و أصناف لا يعرفها .. تملكت الدهشة الموظف وراح يشرب الشوربة وبقي الشخص ينتظر ما طلب .. دب الفضول بالموظف كي يعرف حكايته ، و من أين له بالنقود كي يدفع فاتورة الحساب الثقيلة .. خاصة أنه لمح بيده كومة من الدولارات حين اخرج علبة السجائر ماركة مالبورو أمريكية الصنع غالية الثمن .
سأله بأدب جم : أين تسكن ؟
فقال : في وسط مدينة غزة .
سأله : ماذا تعمل ؟
أجاب بهدوء : هذه حكاية طويلة .. الحياة كلها تعب وشقاء.. ابتسم فبانت أسنانه الصفراء المتباعدة.
قال الموظف بفضول : أريد أن اعرف ماذا تعمل إذا كان ذلك بلا إحراج لك .
فقال الشخص : بعد تناولي الطعام أحدثك عن عملي .. كان يتحدث و يتناثر الرذاذ من فمه ويتفتف .
انتهى ألموظف من تناول السلطة والشوربة .. وبدأ الشخص طعامه . كان يأكل بالشوكة والسكين بمهارة عالية ، على مهل و هدوء .. لم يسمع له صوت و هو يشفط الشوربة على راحته ، و ما يلفت الانتباه أيضا هو وضعه للفوطة البيضاء على صدره .
لمّا انتهى من الأكل لم يتجشأ ، ثم اخذ يحدث عن مهنته قائلا : عندما تقصف إسرائيل عمارة ما ، سواء حكومية أو بيت مقاوم ، انتظر بعض الوقت حتى ينتهي الغبار و الإسعاف و العويل و الصراخ و إخراج الجثث والأشلاء و الزحمة ، لمّا ينتهي كل ذلك أتوجه إلى أكوام الركام ، و ابحث به عن أي شيء تالف و مدمر و آخذه .
سأله : مثل ماذا ؟
قال : أي أداة كهربية مثل المسجل ، تلفزيون ، كمبيوتر ، غسالة ، ثلاجة ... أي شيء به منفعة .
سأله الموظف بشوق : كيف تنتفع بها وهي خربانة تالفة مدمرة ؟
قال مبتهجا : احمل معي بحقيبة أعلقها على ظهري مفكات وشاكوس ، أفك الجهاز قطعة بعد قطعة ، و استخلص منه المادة النحاسية من قطع وأسلاك .. ثم أبيعها .
سأل الموظف مستغربا : هل من وراءها نقود كافية ؟
قال : نعم . نقود كثيرة ، خاصة أن سعر النحاس في البورصة العالمية في ارتفاع دائم ، و أنا دائم التتبع له ، كي لا يغشني أي احد .
قال الموظف : إذن أنت تبحث عما هو خربان وسط الموت والدمار ، كي تحصل على النقود و تنعم بها.
أجاب : نعم . أحيانا أجد أجهزة صالحة ، فأبيعها كما هي بمبالغ اكبر .
الموظف بكآبة يسأل : ألا يعترض أهل البيت على ذلك ؟
أجاب الشخص بحذق : لا . فهم مشغولون بموتاهم وكربهم .
سأله الموظف بشغف : ماذا لو توقفت إسرائيل عن قصف البيوت ؟
قال : في هذه الحالة سأموت من الجوع ، فاضطر للعودة لمهنتي الأولى الأصلية .
سأله الموظف بلهفة : أية مهنة ؟
قال بصوت واطئ : كنت شحاذا .
أومأ الشخص – الشحاذ سابقا - للجرسون بإشارة من يده ، و دفع عن الموظف فاتورة الحساب ، و اقسم على ذلك أغلظ الأيمان . ثم عزم عليه سيجارة من سجائره الفخمة ، لم يتمنع الموظف وأخذها ، أخرج ولاعة مذهبة فاخرة . لاحظ الموظف و هو يشعل السيجارة انه بنصف صوان أذن .
خرجا سوية من المطعم ، كانت خطوته كقفزة الكنغر و لكن بعكازين ، توقف على حافة الطريق بانتظار سيارة خصوصية .. ثم قال للموظف حين صعد بها : أنا أتناول طعامي هنا كل يومي ثلاثاء وخميس ، تعال كي نرى بعضنا و نأكل سوية .. لا تخف ، سوف ادفع عنك فاتورة الطعام .
Magdi_samak@yahoo.com
بقلم : مجدي السماك
تردد قليلا قبل أن يفوت إلى الداخل ، فوقف أمام الباب يحسب التكلفة بكل دقة ، حائر ، فوضعه لا يحتمل أي مغامرة فيما يتعلق بالنقود ، خاصة لموظف بسيط مثله عندما يضطر لتناول الطعام في مطعم فخم ، وهو بالكاد يستطيع الأكل في بيته ، هو معزوم للأكل على حساب صديقه الذي لم يأت ، إنما هاتفه ليبلغه بعدم قدومه لأمر طارئ.. جلس إلى إحدى الطاولات ، لم ير أي ذبابة أو حشرة في المكان ، كل شيء نظيف ويلمع ، البلاط مغطى بموكيت فارسي تغوص به القدم . ما أن جلس و حدق بقائمة الطعام و بحلق بأثمان أصنافها حتى عرف أنه وقع في ورطة كبيرة أو مصيدة .. كاد أن يترك المطعم و يعود أدراجه ، لكنه تفاجأ بمجيء الجرسون قائلا و قد رصع وجهه بابتسامة رقيقة : أي خدمة يا أستاذ . شعر بالخجل و الإحراج و طلب صحن شوربة و صحن سلطة فقط .. رمقه الجرسون مندهشا ثم راح يجلب له ما طلب ، فأخذ ينتظر و يدعو الله أن لا تشمل فاتورة الحساب ابتسامة الجرسون .
فجأة اندفع إلى داخل المطعم شخص يمشي على أربعة أقدام ، قدمان طبيعيان خلقهما الله مشلولان و قدمان صناعيان خشبيان ، هما عكازان صناعة بريطانية ، يرتكز عليهما بإبطيه، يمسك بكفيه مقبض في وسط كل عكاز ، و يرفع جسمه قليلا للأعلى ويدفعه للأمام كي يمشي خطوة واحدة أو قفزة .. ويعيد كل هذه العملية مع كل خطوة يخطوها .. لا يوجد أماكن شاغرة البتة ، مما اضطره للاستئذان و الجلوس مع الموظف على نفس الطاولة ، قال الموظف لنفسه : واضح انه يريد الاستراحة ليلتقط أنفاسه ، شعره كث متسخ بالغبار ، أسماله ممزقة و قد كلح لونها ، لو أذاب ما عليها من بقع دهنية وزيوت فسيكفي لقلي سمكة كبيرة ، حدق الموظف في وجهه فاكتشف انه بعين واحدة تبصر والأخرى عمياء .. لا يوجد له رقبة ، أو هو برقبة غليظة قصيرة جدا بالكاد تظهر ، يتكور فوقها رأسه الضخم و قد توسط وجهه انف أفطس كبير .
لا يمكن أن يخطر في ذهنه أو أي ذهن انه جاء لتناول الطعام ، إنما ظنه جاء كي يلملم بقايا الطعام على الطاولات ، ليأخذه معه إلى بيته كي يطعم زوجته الغلبانة التعسة و أولاده الجياع المساكين ، فتفاجأ الموظف حين طلب الشخص من الجرسون أصناف شتى من الأطعمة الشهية غالية الثمن ، و عدة أطباق من السلطات و الحلويات الشهية ، من كريم كرميل و أصناف لا يعرفها .. تملكت الدهشة الموظف وراح يشرب الشوربة وبقي الشخص ينتظر ما طلب .. دب الفضول بالموظف كي يعرف حكايته ، و من أين له بالنقود كي يدفع فاتورة الحساب الثقيلة .. خاصة أنه لمح بيده كومة من الدولارات حين اخرج علبة السجائر ماركة مالبورو أمريكية الصنع غالية الثمن .
سأله بأدب جم : أين تسكن ؟
فقال : في وسط مدينة غزة .
سأله : ماذا تعمل ؟
أجاب بهدوء : هذه حكاية طويلة .. الحياة كلها تعب وشقاء.. ابتسم فبانت أسنانه الصفراء المتباعدة.
قال الموظف بفضول : أريد أن اعرف ماذا تعمل إذا كان ذلك بلا إحراج لك .
فقال الشخص : بعد تناولي الطعام أحدثك عن عملي .. كان يتحدث و يتناثر الرذاذ من فمه ويتفتف .
انتهى ألموظف من تناول السلطة والشوربة .. وبدأ الشخص طعامه . كان يأكل بالشوكة والسكين بمهارة عالية ، على مهل و هدوء .. لم يسمع له صوت و هو يشفط الشوربة على راحته ، و ما يلفت الانتباه أيضا هو وضعه للفوطة البيضاء على صدره .
لمّا انتهى من الأكل لم يتجشأ ، ثم اخذ يحدث عن مهنته قائلا : عندما تقصف إسرائيل عمارة ما ، سواء حكومية أو بيت مقاوم ، انتظر بعض الوقت حتى ينتهي الغبار و الإسعاف و العويل و الصراخ و إخراج الجثث والأشلاء و الزحمة ، لمّا ينتهي كل ذلك أتوجه إلى أكوام الركام ، و ابحث به عن أي شيء تالف و مدمر و آخذه .
سأله : مثل ماذا ؟
قال : أي أداة كهربية مثل المسجل ، تلفزيون ، كمبيوتر ، غسالة ، ثلاجة ... أي شيء به منفعة .
سأله الموظف بشوق : كيف تنتفع بها وهي خربانة تالفة مدمرة ؟
قال مبتهجا : احمل معي بحقيبة أعلقها على ظهري مفكات وشاكوس ، أفك الجهاز قطعة بعد قطعة ، و استخلص منه المادة النحاسية من قطع وأسلاك .. ثم أبيعها .
سأل الموظف مستغربا : هل من وراءها نقود كافية ؟
قال : نعم . نقود كثيرة ، خاصة أن سعر النحاس في البورصة العالمية في ارتفاع دائم ، و أنا دائم التتبع له ، كي لا يغشني أي احد .
قال الموظف : إذن أنت تبحث عما هو خربان وسط الموت والدمار ، كي تحصل على النقود و تنعم بها.
أجاب : نعم . أحيانا أجد أجهزة صالحة ، فأبيعها كما هي بمبالغ اكبر .
الموظف بكآبة يسأل : ألا يعترض أهل البيت على ذلك ؟
أجاب الشخص بحذق : لا . فهم مشغولون بموتاهم وكربهم .
سأله الموظف بشغف : ماذا لو توقفت إسرائيل عن قصف البيوت ؟
قال : في هذه الحالة سأموت من الجوع ، فاضطر للعودة لمهنتي الأولى الأصلية .
سأله الموظف بلهفة : أية مهنة ؟
قال بصوت واطئ : كنت شحاذا .
أومأ الشخص – الشحاذ سابقا - للجرسون بإشارة من يده ، و دفع عن الموظف فاتورة الحساب ، و اقسم على ذلك أغلظ الأيمان . ثم عزم عليه سيجارة من سجائره الفخمة ، لم يتمنع الموظف وأخذها ، أخرج ولاعة مذهبة فاخرة . لاحظ الموظف و هو يشعل السيجارة انه بنصف صوان أذن .
خرجا سوية من المطعم ، كانت خطوته كقفزة الكنغر و لكن بعكازين ، توقف على حافة الطريق بانتظار سيارة خصوصية .. ثم قال للموظف حين صعد بها : أنا أتناول طعامي هنا كل يومي ثلاثاء وخميس ، تعال كي نرى بعضنا و نأكل سوية .. لا تخف ، سوف ادفع عنك فاتورة الطعام .
Magdi_samak@yahoo.com