حسام الدين مصطفى
24/09/2007, 01:19 AM
http://www.mrdowling.com/images/607oil.gif
ارتبطت دول الخليج العربية بما اصطلح عليه اقتصادياً باسم " الدولة الريعية" Rentier State وقد يظن البعض أن هناك ثمة ارتباط بين مفهوم الدولة الريعية وما يتم تحصيله من ريع أو أجرة للأراضي أو العقارات، لكن ما يشير إليه مصطلح "الريع" هنا إنما يشير إلى ذلك القدر من الدخل الناتج عن استغلال البيئة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تتواجد بها مصادر الدخل دون أن ينتج ذلك عن نشاط اقتصادي أو ممارسة سوقية، فالدولة الريعية تعتمد على دخل لا يتم كسبه عن طريق الإنتاج والعمل.
والريع له نمطين فهو إما يتحقق من موارد طبيعية كالثروات المعدنية والغابات والنفط وإما يتحقق عن أو نتيجة لميزة ترتبط بموقع الدولة من حيث موانيها أو تحكمها في طرق التجارة أو لثقل عسكري أي أن لموقعها ميزة جيوسياسية وأمثلة ذلك الدول التي تعتمد على الدخل الناتج عن المجاري المائية التي تشرف عليها ...
والنوع الأول هو ما يشار إليه على أنه ريع الموارد الطبيعية بينما النوع الثاني هو الريع الاستراتيجي، وهذا النوع الأخير يشمل أيضاً ما تتلقاه الدول من معونات ومنح فضلاً عن أشكال الدعم الأخرى .. وتضحى المشكلة أشد خطراً عند تلك الدول التي لا يتوافر لديها أي مورد طبيعي وتعتمد على الدعم الموجه إليها فتصبح دمية في يد الدول الداعمة لها والتي غالباً ما تستمرئ إبقاء الدولة المدعومة رازخة تحت نير هذا الدعم فلا تستطيع فكاكاً من التبعية.
وفي هذا الخصوص وقبل أن نتعمق في موضوعنا تجدر الإشارة إلى أن معظم المعونات التي تقع تحت مسمى معونات التنمية إن لم تكن كلها والتي تتكل عليها اقتصاديات كثير من الدول النامية والفقيرة تؤثر سلباً على المناخ السياسي و تؤخر المضي على طريق التحول نحو المجتمع المدني، والغاية الأساسية التي تكمن تحت ستار هذا النوع من المعونات ليست هي تحقيق النهضة السياسية أو النمو الاجتماعي أو دفع عجلة الاقتصاد فيها إلا بالقدر الذي يخدم مصالح الدول المانحة أو يطيل مدة سيطرتها على الدول التي تتلقى تلك المعونات.
والأمر لا يختلف كثيراً إذا ما قارناه بتلهف الدول الاستعمارية على بسط نفوذها على الدول الريعية سواء تلك التي ينحسر دخلها في ما لديها من موارد وثروات طبيعية أهمها النفط أو تلك الدول التي تقوم اقتصادياتها على الريع الاستراتيجي، فيتم تحويل مجتمعات هذه الدول من مجتمعات منتجة تستغل ما هو متاح لديها من مصادر إلى مجتمعات مستهلكة تتكاسل عن تصنيع وانتاج احتياجاتها، والأمر هنا لا يقتصر على الاستهلاك الغذائي فحسب بل يمتد ليشمل أيضاً استهلاك الخدمات واستيراد التكنولوجيا بل والاتكالية على الحماية العسكرية والدعم الاستخباراتي فتصبح كافة أركان الدولة وما يتعلق بأمنها مدموغاً بخاتم "صنع في الخارج"
ولعل المتتبع لأثر هذا الاقتصاد الريعي طوال العقود الأربع الأخيرة سيجد أن النفط قد تحول من نعمة يرفل فيها أهل الخليج إلى نقمة كبلت يد التمية وقصرت محرك قاطرة الاقتصاد على نوع واحد من الوقود الذي بدأ يعز ويشح تدريجياً بحكم أنه مورد غير متجدد بل وجمدت الحياة السياسية في كثير من هذه البلدان وأرخت ظلالاً قاتمة على الطبيعة الاجتماعية فيها وقلصت دور الفرد في منظومة التفاعل الاقتصادي والاجتماعي.. وهمش دوره في هرم الأيدي العاملة...
وقد ذهب الكثير من الباحثين إلى أن اعتماد الدولة على ريع مصدر اقتصادي واحد يقلص من الحراك الديمقراطي فيها بل يصل به في بعض الأحيان إلى محو المشاركة الديمقراطية بصورة كلية، وقد ذهب البعض إلى أن العائدات الضخمة للنفط تقوم بدور المخدر والمسكن للكثير من الآلام التي تعيشها مجتمعات هذه الدول.
http://farm1.static.flickr.com/123/335844252_563f71e676.jpg
إننا إذا ما تفحصنا المناخ الملائم لنمو الديمقراطية فسنجد أنه لا أصلح لها من النمو في كنف مجتمع منتج ذو اقتصاد حر ويتحقق فيه فائض إنتاج يغطي احتياجات الدولة فلا تحتاج إلى الاستدانة والاقتراض
وعندما ننتقل بحديثنا عن الدول النفطية سنجد أنفسنا أمام دول ريعية يظهر فيها النشاط الريعي بنمطيه معاً، فالنفط يمثل أحد الموارد الطبيعية وفي الوقت ذاته فهو سلعة استراتيجية ذات تأثير عالمي... لذلك فإن الدول الصناعية لا تدخر جهداً في رمي شباكها حول منابع النفط في العالم كله وتسبغ على الدول النفطية فيضاً من المعونات اللوجستية والعسكرية والأمنية بحيث تعمل على تقوية الأنظمة الحاكمة التي تربطها بها مصالح مشتركة، والدول التي تلهث خلف النفط غالباً ما تطبق سياسة "العصا والجزرة" تجاه الدول التي تسبح فوق بحيرات النفط، وتسارع إلى تجفيف تلك البحيرات النفطية بأسرع ما يمكنها...
ويمثل الريع النفطي في كثير من بلدان الدول العربية ما تتراوح نسبته ما بين 65- 90% من إجمالي إيراداتها القومية وبالتالي فإن مسيرة التطور والنهوض فيها مرهونة بحجم الانتاج والسعر العالمي للنفط وما يتبع ذلك من عوامل أخرى تحدد هذه الأسعار..
وكي يمكن للدولة القيام بمهامها وتحقيق مخططاتها الاقتصادية ومشاريعها التنموية فلابد لها من توفير موارد مالية مستقرة وثابتة، حتى يتسنى للدولة توفير تلك الموارد فإنها تتبع واحداً من أشكال عديدة لتوفير ذلك سعياً منها أن تصل إلى ما يسمى بالدولة الرعوية أو دولة الرفاة Welfare State حيث تضطلع الدولة بتوفير الخدمات التي من شأنها تحقيق الرخاء لمواطنيها وتلبي احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية...
وعودة إلى الدولة الريعية ومن خلال تشريح لنتائج الاعتماد على مصدر واحد من مصادر الدخل و الإغراق في تطبيق الاقتصاد الريعي الاتكالي الغير منتج فإننا وعلى الصعيد السياسي نجد أن هذا النوع من الدول يسير نحو أي تغير سياسي بسرعة السلحفاة كما أن تداول السلطة بين أفراده يكون أمراً منعدماً، كذلك فإن الدافع نحو تبني سياسات جديدة كالتي تقوم على توزيع متساو للدخل هو أمر مستبعد إذ أن الفئة الممسكة بمقاليد السلطة والتي تسيطر أيضاً على مصادر الدخل ومناحي توزيعها ليس من مصلحتها تبني سياسات توزيعية بل تسعى غالباً إلى إحكام قبضة السلطة وتقييد الأنماط الاقتصادية المتحكمة فيها فتظل كافة الأنشطة معتمدة بصورة مباشرة على الدولة ذاتها. إضافة إلى ذلك فإن الدولة الريعية هي المتحكمة في بناء الهيكل الاداري التنفيذي الذي يطبق سياساتها كذلك فإن لها القدرة على التحكم في هيكلة البناء الاجتماعي حين تركز خدماتها على طبقة أو فئة معينة مواطنيها.
و معظم من يعتلون هرم السلطة في الدول الريعية يكونون هم صانعي السياسات والمتفردون باتخاذ القرارات فلا يتركون الفرصة بأيدي الشعوب كي تقرر توجهها السياسي، وبالتالي فإن التراكم السلطوي يؤدي إلى تضخم ثروات الفئة الحاكمة على حساب التوزيع العادل للثروة بين المواطنين ويزيد من سيطرتها على مقاليد القوة والسياسة والاقتصاد.
أما على الصعيد الاقتصادي فإن السياسات التي تقوم عليها الدولة الريعية تفرز العديد من المشكلات الاقتصادية بدايتها الاعتماد على أنظمة اقتصادية مهترئة واتكالية تميل نحو السلوك الاستهلاكي الغير منتج، وهذا بدوره يقود نحو خلل في توزيع الدخل إذ أنه يقوم في مثل هذه الدول على المزايا السلطوية الناتجة عن النظام السياسي للدولة بدلاً من أن يقوم على أساس من التوزيع العادل حسب الإنتاجية... والأمر لا يتوقف عند الخلل المتمثل في انعدام التوزيع العادل للثروات بل يؤدي إلى ظهور أمراض اقتصادية ينشأ عنها خلل أخلاقي اجتماعي، فمثل هذا النوع من الاقتصاديات يعتبر بيئة خصبة للفساد المالي والإداري والسبب هنا لا يتناول الجانب الأخلاقي للشعوب بقدر ما يتناول ما تفرزه السياسات التي تتبعها الأنظمة وما ينتج عنها من نظم اقتصادية. وبمقارنة مبسطة بين الدول التي تتبنى اقتصاديات منتجة والدول ذات الاقتصاديات الريعية نستبين ذلك الخلل الناجم عن عدم إعادة توزيع الدخل وهيكلة الهيئات المسئولة عن عملية توزيع الموارد.
إننا إذا ما تعمقنا في نظرتنا و ركزنا على دول الخليج تحديداً لوجدنا أنها نموذج واضح للدول الريعية منذ مطلع الأربعينات من القرن الماضي، لكن الأمانة تقتضي القول بأن دول الخليج قد سعت بكل قوتها إلى السعي نحو تحديث ذاتها ... وبرغم ما تحمله هذه الكلمات من إشراق إلا أن الواقع الفعلي لهذا التغيير والتطور الذي شهدته دول الخليج العربي قد أخذ طابعاً غير ما توحي به الكلمات، فالتطور الذي شهدته منطقة الخليج متمثلاً في تطوير البنية التحتية إنما كان ضرباً من ضروب تمرير سياسات عالمية تبنتها القوى الاستعمارية بحيث خلقت لمصانعها مخازن دائمة من طاقة النفط ولمنتجاتها أسواقاً جوعى لاستهلاك ما تنتجه بداية من المخياط حتى الصواريخ.
إن تناول أشكال التغيير الأيدلوجي الذي شهدته منطقة الخليج خلال العقود الأربع الماضية تحديداً والناتج عن غرقها في اقتصاديات غير إنتاجية يساعدنا كثيراً في تفسير الكثير من الظواهر التي نتجت عن الإثراء النفطي خاصة ما يرتبط بنزعات التطرف وهذا لا يعني بصورة أو بأخرى أن بلدان الخليج العربي هي من البلدان المصدرة للتطرف أو الإرهاب وإنما يوضح أن ما أفرزته الطفرة الاقتصادية النفطية والتي لم تتبع بتطور في مفهوم تدوير الثروة وتوزيعها قد خلق خللاً اجتماعيا فظهرت فئات تقدر بالملايين من الشباب المتعطلين عن العمل والذين لم يتم استغلال طاقاتهم وتوظيفها فأصبحت ضحية لطموحاتها وواقعها الذي لم تستطع سياسات هذه الدول أن تغيره أو تساعد على إعادة هيكلته ليتفق مع احتياجات المجتمع الخليجي الشاب (نسبة الشباب من سن 15 إلى 35 عام تمثل ما يزيد على 70% في بعض دول الخليج).
إن أخطر ما تعاني منه الدولة الريعية هي أنها ترسي أسس استمراريتها على ما تسيطر عليه من موارد وما تقدمه من خدمات وهي بذلك قد تغفل ضرورة بناء كيانها على أساس من اختيار شعوبها ولنضف إلى ذلك أن أداء الدولة الريعية يتوقف دوماً على مقدار ما تجبيه من ريع.
الناقة التي تدر دماً...
إن ارتباط أداء الدولة الريعية بمقدار ما يتاح لديها من موارد خاصة النفط يجعلنا نفكر كثيراً في مستقبل هذه الدول بعد أن تنضب آبار النفط مثلاً ويصبح فيضان الدخل القومي مجرد قطرات. إن مما لاشك فيه أن هذه الدول ستتحول إلى مواطنيها وتبدأ في خلق موارد دخل جديدة كالنظم الضريبية أو ستحاول أن تخفض حجم الدعم الذي اعتادت توجيهه للكثير من الخدمات.. ناهيك عن أنها ستضطر بصورة أو بأخرى إلى التحول نحو الاقتصاديات المنتجة بعد أن تكون قد ضحت بأهم مقومات الإنتاج وهو الطاقة المتمثلة في البترول ............... (يتبع)
في الحلقات القادمة:
النفط : خير وفير أم شر مستطير
تقييم الاقتصاديات النفطية في الخليج العربي خلال ثلاث عقود..
الآثار الإجتماعية والأخلاقية في بيئة الاقتصاد النفطي
بطالة النفط ... سوق العمل في الخليج العربي
السياسات الاصلاحية في أسواق عمل دول الخليج العربي
ارتبطت دول الخليج العربية بما اصطلح عليه اقتصادياً باسم " الدولة الريعية" Rentier State وقد يظن البعض أن هناك ثمة ارتباط بين مفهوم الدولة الريعية وما يتم تحصيله من ريع أو أجرة للأراضي أو العقارات، لكن ما يشير إليه مصطلح "الريع" هنا إنما يشير إلى ذلك القدر من الدخل الناتج عن استغلال البيئة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تتواجد بها مصادر الدخل دون أن ينتج ذلك عن نشاط اقتصادي أو ممارسة سوقية، فالدولة الريعية تعتمد على دخل لا يتم كسبه عن طريق الإنتاج والعمل.
والريع له نمطين فهو إما يتحقق من موارد طبيعية كالثروات المعدنية والغابات والنفط وإما يتحقق عن أو نتيجة لميزة ترتبط بموقع الدولة من حيث موانيها أو تحكمها في طرق التجارة أو لثقل عسكري أي أن لموقعها ميزة جيوسياسية وأمثلة ذلك الدول التي تعتمد على الدخل الناتج عن المجاري المائية التي تشرف عليها ...
والنوع الأول هو ما يشار إليه على أنه ريع الموارد الطبيعية بينما النوع الثاني هو الريع الاستراتيجي، وهذا النوع الأخير يشمل أيضاً ما تتلقاه الدول من معونات ومنح فضلاً عن أشكال الدعم الأخرى .. وتضحى المشكلة أشد خطراً عند تلك الدول التي لا يتوافر لديها أي مورد طبيعي وتعتمد على الدعم الموجه إليها فتصبح دمية في يد الدول الداعمة لها والتي غالباً ما تستمرئ إبقاء الدولة المدعومة رازخة تحت نير هذا الدعم فلا تستطيع فكاكاً من التبعية.
وفي هذا الخصوص وقبل أن نتعمق في موضوعنا تجدر الإشارة إلى أن معظم المعونات التي تقع تحت مسمى معونات التنمية إن لم تكن كلها والتي تتكل عليها اقتصاديات كثير من الدول النامية والفقيرة تؤثر سلباً على المناخ السياسي و تؤخر المضي على طريق التحول نحو المجتمع المدني، والغاية الأساسية التي تكمن تحت ستار هذا النوع من المعونات ليست هي تحقيق النهضة السياسية أو النمو الاجتماعي أو دفع عجلة الاقتصاد فيها إلا بالقدر الذي يخدم مصالح الدول المانحة أو يطيل مدة سيطرتها على الدول التي تتلقى تلك المعونات.
والأمر لا يختلف كثيراً إذا ما قارناه بتلهف الدول الاستعمارية على بسط نفوذها على الدول الريعية سواء تلك التي ينحسر دخلها في ما لديها من موارد وثروات طبيعية أهمها النفط أو تلك الدول التي تقوم اقتصادياتها على الريع الاستراتيجي، فيتم تحويل مجتمعات هذه الدول من مجتمعات منتجة تستغل ما هو متاح لديها من مصادر إلى مجتمعات مستهلكة تتكاسل عن تصنيع وانتاج احتياجاتها، والأمر هنا لا يقتصر على الاستهلاك الغذائي فحسب بل يمتد ليشمل أيضاً استهلاك الخدمات واستيراد التكنولوجيا بل والاتكالية على الحماية العسكرية والدعم الاستخباراتي فتصبح كافة أركان الدولة وما يتعلق بأمنها مدموغاً بخاتم "صنع في الخارج"
ولعل المتتبع لأثر هذا الاقتصاد الريعي طوال العقود الأربع الأخيرة سيجد أن النفط قد تحول من نعمة يرفل فيها أهل الخليج إلى نقمة كبلت يد التمية وقصرت محرك قاطرة الاقتصاد على نوع واحد من الوقود الذي بدأ يعز ويشح تدريجياً بحكم أنه مورد غير متجدد بل وجمدت الحياة السياسية في كثير من هذه البلدان وأرخت ظلالاً قاتمة على الطبيعة الاجتماعية فيها وقلصت دور الفرد في منظومة التفاعل الاقتصادي والاجتماعي.. وهمش دوره في هرم الأيدي العاملة...
وقد ذهب الكثير من الباحثين إلى أن اعتماد الدولة على ريع مصدر اقتصادي واحد يقلص من الحراك الديمقراطي فيها بل يصل به في بعض الأحيان إلى محو المشاركة الديمقراطية بصورة كلية، وقد ذهب البعض إلى أن العائدات الضخمة للنفط تقوم بدور المخدر والمسكن للكثير من الآلام التي تعيشها مجتمعات هذه الدول.
http://farm1.static.flickr.com/123/335844252_563f71e676.jpg
إننا إذا ما تفحصنا المناخ الملائم لنمو الديمقراطية فسنجد أنه لا أصلح لها من النمو في كنف مجتمع منتج ذو اقتصاد حر ويتحقق فيه فائض إنتاج يغطي احتياجات الدولة فلا تحتاج إلى الاستدانة والاقتراض
وعندما ننتقل بحديثنا عن الدول النفطية سنجد أنفسنا أمام دول ريعية يظهر فيها النشاط الريعي بنمطيه معاً، فالنفط يمثل أحد الموارد الطبيعية وفي الوقت ذاته فهو سلعة استراتيجية ذات تأثير عالمي... لذلك فإن الدول الصناعية لا تدخر جهداً في رمي شباكها حول منابع النفط في العالم كله وتسبغ على الدول النفطية فيضاً من المعونات اللوجستية والعسكرية والأمنية بحيث تعمل على تقوية الأنظمة الحاكمة التي تربطها بها مصالح مشتركة، والدول التي تلهث خلف النفط غالباً ما تطبق سياسة "العصا والجزرة" تجاه الدول التي تسبح فوق بحيرات النفط، وتسارع إلى تجفيف تلك البحيرات النفطية بأسرع ما يمكنها...
ويمثل الريع النفطي في كثير من بلدان الدول العربية ما تتراوح نسبته ما بين 65- 90% من إجمالي إيراداتها القومية وبالتالي فإن مسيرة التطور والنهوض فيها مرهونة بحجم الانتاج والسعر العالمي للنفط وما يتبع ذلك من عوامل أخرى تحدد هذه الأسعار..
وكي يمكن للدولة القيام بمهامها وتحقيق مخططاتها الاقتصادية ومشاريعها التنموية فلابد لها من توفير موارد مالية مستقرة وثابتة، حتى يتسنى للدولة توفير تلك الموارد فإنها تتبع واحداً من أشكال عديدة لتوفير ذلك سعياً منها أن تصل إلى ما يسمى بالدولة الرعوية أو دولة الرفاة Welfare State حيث تضطلع الدولة بتوفير الخدمات التي من شأنها تحقيق الرخاء لمواطنيها وتلبي احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية...
وعودة إلى الدولة الريعية ومن خلال تشريح لنتائج الاعتماد على مصدر واحد من مصادر الدخل و الإغراق في تطبيق الاقتصاد الريعي الاتكالي الغير منتج فإننا وعلى الصعيد السياسي نجد أن هذا النوع من الدول يسير نحو أي تغير سياسي بسرعة السلحفاة كما أن تداول السلطة بين أفراده يكون أمراً منعدماً، كذلك فإن الدافع نحو تبني سياسات جديدة كالتي تقوم على توزيع متساو للدخل هو أمر مستبعد إذ أن الفئة الممسكة بمقاليد السلطة والتي تسيطر أيضاً على مصادر الدخل ومناحي توزيعها ليس من مصلحتها تبني سياسات توزيعية بل تسعى غالباً إلى إحكام قبضة السلطة وتقييد الأنماط الاقتصادية المتحكمة فيها فتظل كافة الأنشطة معتمدة بصورة مباشرة على الدولة ذاتها. إضافة إلى ذلك فإن الدولة الريعية هي المتحكمة في بناء الهيكل الاداري التنفيذي الذي يطبق سياساتها كذلك فإن لها القدرة على التحكم في هيكلة البناء الاجتماعي حين تركز خدماتها على طبقة أو فئة معينة مواطنيها.
و معظم من يعتلون هرم السلطة في الدول الريعية يكونون هم صانعي السياسات والمتفردون باتخاذ القرارات فلا يتركون الفرصة بأيدي الشعوب كي تقرر توجهها السياسي، وبالتالي فإن التراكم السلطوي يؤدي إلى تضخم ثروات الفئة الحاكمة على حساب التوزيع العادل للثروة بين المواطنين ويزيد من سيطرتها على مقاليد القوة والسياسة والاقتصاد.
أما على الصعيد الاقتصادي فإن السياسات التي تقوم عليها الدولة الريعية تفرز العديد من المشكلات الاقتصادية بدايتها الاعتماد على أنظمة اقتصادية مهترئة واتكالية تميل نحو السلوك الاستهلاكي الغير منتج، وهذا بدوره يقود نحو خلل في توزيع الدخل إذ أنه يقوم في مثل هذه الدول على المزايا السلطوية الناتجة عن النظام السياسي للدولة بدلاً من أن يقوم على أساس من التوزيع العادل حسب الإنتاجية... والأمر لا يتوقف عند الخلل المتمثل في انعدام التوزيع العادل للثروات بل يؤدي إلى ظهور أمراض اقتصادية ينشأ عنها خلل أخلاقي اجتماعي، فمثل هذا النوع من الاقتصاديات يعتبر بيئة خصبة للفساد المالي والإداري والسبب هنا لا يتناول الجانب الأخلاقي للشعوب بقدر ما يتناول ما تفرزه السياسات التي تتبعها الأنظمة وما ينتج عنها من نظم اقتصادية. وبمقارنة مبسطة بين الدول التي تتبنى اقتصاديات منتجة والدول ذات الاقتصاديات الريعية نستبين ذلك الخلل الناجم عن عدم إعادة توزيع الدخل وهيكلة الهيئات المسئولة عن عملية توزيع الموارد.
إننا إذا ما تعمقنا في نظرتنا و ركزنا على دول الخليج تحديداً لوجدنا أنها نموذج واضح للدول الريعية منذ مطلع الأربعينات من القرن الماضي، لكن الأمانة تقتضي القول بأن دول الخليج قد سعت بكل قوتها إلى السعي نحو تحديث ذاتها ... وبرغم ما تحمله هذه الكلمات من إشراق إلا أن الواقع الفعلي لهذا التغيير والتطور الذي شهدته دول الخليج العربي قد أخذ طابعاً غير ما توحي به الكلمات، فالتطور الذي شهدته منطقة الخليج متمثلاً في تطوير البنية التحتية إنما كان ضرباً من ضروب تمرير سياسات عالمية تبنتها القوى الاستعمارية بحيث خلقت لمصانعها مخازن دائمة من طاقة النفط ولمنتجاتها أسواقاً جوعى لاستهلاك ما تنتجه بداية من المخياط حتى الصواريخ.
إن تناول أشكال التغيير الأيدلوجي الذي شهدته منطقة الخليج خلال العقود الأربع الماضية تحديداً والناتج عن غرقها في اقتصاديات غير إنتاجية يساعدنا كثيراً في تفسير الكثير من الظواهر التي نتجت عن الإثراء النفطي خاصة ما يرتبط بنزعات التطرف وهذا لا يعني بصورة أو بأخرى أن بلدان الخليج العربي هي من البلدان المصدرة للتطرف أو الإرهاب وإنما يوضح أن ما أفرزته الطفرة الاقتصادية النفطية والتي لم تتبع بتطور في مفهوم تدوير الثروة وتوزيعها قد خلق خللاً اجتماعيا فظهرت فئات تقدر بالملايين من الشباب المتعطلين عن العمل والذين لم يتم استغلال طاقاتهم وتوظيفها فأصبحت ضحية لطموحاتها وواقعها الذي لم تستطع سياسات هذه الدول أن تغيره أو تساعد على إعادة هيكلته ليتفق مع احتياجات المجتمع الخليجي الشاب (نسبة الشباب من سن 15 إلى 35 عام تمثل ما يزيد على 70% في بعض دول الخليج).
إن أخطر ما تعاني منه الدولة الريعية هي أنها ترسي أسس استمراريتها على ما تسيطر عليه من موارد وما تقدمه من خدمات وهي بذلك قد تغفل ضرورة بناء كيانها على أساس من اختيار شعوبها ولنضف إلى ذلك أن أداء الدولة الريعية يتوقف دوماً على مقدار ما تجبيه من ريع.
الناقة التي تدر دماً...
إن ارتباط أداء الدولة الريعية بمقدار ما يتاح لديها من موارد خاصة النفط يجعلنا نفكر كثيراً في مستقبل هذه الدول بعد أن تنضب آبار النفط مثلاً ويصبح فيضان الدخل القومي مجرد قطرات. إن مما لاشك فيه أن هذه الدول ستتحول إلى مواطنيها وتبدأ في خلق موارد دخل جديدة كالنظم الضريبية أو ستحاول أن تخفض حجم الدعم الذي اعتادت توجيهه للكثير من الخدمات.. ناهيك عن أنها ستضطر بصورة أو بأخرى إلى التحول نحو الاقتصاديات المنتجة بعد أن تكون قد ضحت بأهم مقومات الإنتاج وهو الطاقة المتمثلة في البترول ............... (يتبع)
في الحلقات القادمة:
النفط : خير وفير أم شر مستطير
تقييم الاقتصاديات النفطية في الخليج العربي خلال ثلاث عقود..
الآثار الإجتماعية والأخلاقية في بيئة الاقتصاد النفطي
بطالة النفط ... سوق العمل في الخليج العربي
السياسات الاصلاحية في أسواق عمل دول الخليج العربي