المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقالات في "موسيقى الشعر" (1) للدكتور عبد العالي مجدوب



محمد بن أحمد باسيدي
09/11/2006, 06:34 PM
مقالات في "موسيقى الشعر" (1) للدكتور عبد العالي مجدوب
اللغوي والناقد والمناضل المغربي المعروف
أستاذ جامعي بجامعة القاضي عياض بمراكش

يدور مضمون هذه المقالات على بحث نظري في "موسيقى الشعر"، أركز فيه على تبيان أهمية "الوزن" في الإبداع الشعري، وأن الشعر العربي، منذ اكتمل نضجه، لم يزل لصيقا بصناعة الألحان، نظما وإنشادا ودندنة. وسأختم بمقالة تبين تهافت دعوى الحداثيين اللادينيين المتطرفين أن التحديث حكم حكمه المبرم أن يموت "الوزن" أصلُ كل الشرور، في زعمهم وحكمهم النهائي الظالم، ليحل محله "الإيقاع" بما حمّلوه من مفهوم فضفاض لا علاقة له بصناعة الشعر، وإنما هو، عند التحقيق، الادعاء والفوضى وفساد الذوق.
وإلى المقالة الأولى، متمنيا للقراء الأعزاء قراءة مفيدة وممتعة، أي قراءة "جميلة".
----------------
الشعر والغناء

"الغناء حلّة الشعر، إن لم يلبسها طُويت." (العمدة، لابن رشيق: 1/39)
"الصناعة الشعرية هي رئيسة الهيئة الموسيقية..." (كتاب الموسيقى الكبير، لأبي نصر الفارابي: 3/1093)

لقد اقتبست عبارة "موسيقى الشعر" من عناوين بعض الكتب، ككتاب "موسيقى الشعر"، للدكتور إبراهيم أنيس، وكتاب "موسيقى الشعر العربي" للدكتور شكري عيّاد.
ولعل مخترع هذه العبارة كان موفقا، إلى حدّ كبير، في إضافة الموسيقى إلى الشعر، لأنها إضافة تربط بين فنين اثنين، المضاف والمضاف إليه، كلاهما ينتمي انتماء طبيعيا-أقول طبيعيا، وليس فلسفيا أو أكاديميا على سبيل الدراسة الفكرية- لجنس أوسع وأشمل هو جنس تركيب الأصوات وتأليف الألحان.
فالأصوات، بخصائصها، وأنواعها، وأوصافها، وتعدد صور تأليفها وأشكال أدائها، هي جنس يشمل، فيما يشمل من الأنواع، فنَّـيْ الشعر والموسيقى. وفي بعض المصادر ترد الإشارة إلى فن الموسيقى بعبارة "علم الألحان" و"صناعة الألحان" (العقد الفريد، لابن عبد ربّه: 7/3)، وعبارة "صناعة الإيقاع" (المزهر، للإمام السيوطي: 2/470)، وعبارة "تأليف اللحون"(البيان والتبيين، للجاحظ: 1/208).
وقد عرّفوا الموسيقى بأنها "صناعة في تأليف النغم والأصوات ومناسباتها وإيقاعاتها وما يدخل منها في الجنس الموزون والمؤتلف بالكمية والكيفية."(كتاب الموسيقى الكبير، لأبي نصر الفارابي: 1/15)
وعرّفوا الإيقاع بأنه "هو نظم أزمنة الانتقال على النغم في أجناس وطرائق موزونة تربط أجزاء اللحن، ويتعين بها مواضع الضغط واللين في مقاطع الأصوات."(نفسه: 2/436، هامش رقم(1))
وقد وضح أبو نصر الفارابي الفيلسوف "أن الموسيقى والشعر يرجعان إلى جنس واحد هو التأليف والوزن والمناسبة بين الحركة والسكون. فكلاهما صناعة تنطق بالأجناس الموزونة. والفرق بينهما واضح في أن الشعر يختص بترتيب الكلام في معانيها على نظم موزون، مع مراعاة قواعد النحو واللغة. وأما الموسيقى فهي تختص بمزاحفة أجزاء الكلام الموزون، وإرساله أصواتا على نسب مؤتلفة بالكمية والكيفية في طرائق تتحكم في أسلوبها بالتلحين." (كتاب الموسيقى الكبير: 1/16-17)
وارتباط الشعر بالموسيقى، وبالغناء تحديدا، قديم في التاريخ. وقد استنتج الدكتور البهبيتي، في دراسته لتاريخ الشعر العربي، أن عهد اقتران الشعر بالغناء، عند العرب، هو عهد قديم "لا يمكن أن يقع في حدود المائتي سنة السابقة للإسلام، وهي الفترة التي يقع فيها شعر شعراء الجاهلية المعروفين لنا جميعا." (تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري، ص92)
وفي الموشح، للمرزباني، عن عبد الله بن يحيى، قال: "كانت العرب تغنّي النَّصْبَ، وتمد أصواتها بالنشيد، وتزن الشعر بالغناء؛ فقال حسان بن ثابت:
تغنّ بالشعر إمّا كنت قائلـــه *** إن الغناء لهذا الشعر مضمــار." (الموشح، ص52-53)
قال ابن رشيق: "فأما النّصْبُ فغناء الركبان والفتيان، قال أبو إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وهو الذي يقال له المرائي، وهو الغناء الجنابي، اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل، فنسب إليه، ومنه كان أصل الحُداء كله، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض." (العمدة: 2/313)
وذهب ابن رشيق إلى أن "غناء العرب قديما على ثلاثة أوجه: النّصب، والسّناد، والهزج.
"فأما النصب فغناء الركبان والفتيان…
"وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع، الكثير النغمات والنبرات…
"وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدفّ والمزمار، فيطرب، ويستخف الحليم.
"قال إسحاق: هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام." (العمدة: 2/313-314)
ويطلق الهَزَجُ، في اللغة، على الرّنة، وعلى الصوت المطرب، والصوت الذي فيه بَحَح، والصوت الدقيق مع ارتفاع. ويطلق، أيضا، على كل كلام متقارب متدارك، كما يطلق على الخفة وسرعة وقع القوائم ووضعها. وقيل: التهزّج صوت مطوّل غير رفيع…(لسان العرب: مادة(هزج)). وهذه المعاني كلها تدل على أن هناك نوعا من الإيقاع الموسيقي.
والهزج، في الاصطلاح العروضي، هو الذي يجيء وزنه على "مفاعيلن" أربع مرات، وهو في الدائرة الثالثة مع الرجز والرّمل.(انظر كتاب "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها"، للدكتور عبد الله الطيب: 1/104 وما بعدها، وكتاب "الكافي في العروض والقوافي"، للخطيب التبريزي، ص73 وما بعدها).
ومن أنواع الغناء التي عرفتها الحياة البدوية العربية، والتي لم تكن تنفك، في أدائها، عن شكل من أشكال الإيقاع الموسيقي، الحُداءُ والتّغْبير.
أما الحداء فهو سوق الإبل بالغناء لها. وقد كان الإيقاع الموسيقي حاضرا في أصل نشأة الحداء. فمن الروايات التي رويت في هذا الصدد، أن مضر بن نزار "سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول: وايداه، وايداه، وكان أحسن خلق الله جرما وصوتا، فأصغت الإبل إليه وجدّت في السير، فجعلت العرب مثالا لقوله: "هايداه هايداه" يحدون به الإبل." (العمدة: 2/315). راجع روايات أخرى في أصل ظهور الحداء في المصدر نفسه: (2/314-315).
"وأما التغبير فهو تهليل أو تردد صوت، بقراءة أو غيرها، حكى ذلك ابن دريد."(العمدة: 2/315)
"وحكى أبو إسحاق الزجاجي قال: سألني بعض الرؤساء: لم سُمّي التغبير تغبيرا؟ قلت: لأنه وضع على أنه يُرغّب في الغابر، أي الباقي، أي يرغب في نعيم الجنة وفيما يعمل للآخرة."(العمدة: 2/315)
وقال الأزهري: "وقد سمّوا ما يطرّبون فيه من الشعر في ذكر الله تغبيرا، كأنهم إذا تناشدوها بالألحان طرّبوا فرقصوا وأرهجوا [أثاروا الرَّهَج أي الغبار]، فسُمُّوا مُغَبَّرة." لسان العرب: مادة(غبر)). ومعنى التغبير، في اللغة، إثارة الغبار، وكذلك الإغبار.
وقد أكد الجاحظ رجوع هذه الأنواع الغنائية، في أصلها، إلى صناعة الألحان، حيث ذكر أن الرجل قد "تكون له طبيعة في الحُداء أو في التغبير، أو في القراءة بالألحان، وليست له طبيعة في الغناء، وإن كانت هذه الأنواع كلها ترجع إلى تأليف اللحون." (البيان والتبيين: 1/208)
وهناك بعض الأوزان الشعرية يرتبط اسمها، في الاصطلاح العروضي، بنوع من الإيقاع المحسوب الحركات والوقفات، كالخبب والرجز مثلا. فـَ"الخبَبُ ضرب من العدو…وقيل الخببُ السرعة"(لسان العرب: مادة(خبب)). وقيل في وزن الخبب إنه "يشبَّه بالرجز في رجل الناقة ورِعْدَتها، وهو أن تتحرك وتسكن، ثم تتحرك وتسكن…وقال الأخفش مرة: الرجز، عند العرب، كل ما كان على ثلاثة أجزاء، وهو الذي يترنّمون به في عملهم وسوقهم ويحدون به…" (نفسه: مادة(رجز))
ويرى الدكتور عبد الله الطيب، رحمه الله، أن الخبب- وقد عدّه في الأوزان القصار- لا يصلح "إلا للحركة الراقصة الجنونية" (المرشد:1/80)، وأن بعض أوزان الرجز القصير، وهما وزنان- الأول يكون بتكرار "مستفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلْ" مرّتين، والثاني بتكرار "مُتَفْعِلُنْ" أربع مرّات- "يصلحان جدّا للأناشيد المدرسية وما بمجراها من أشعار الصغار." (نفسه: 1/81)
وقد أورد صاحب "العقد الفريد"، في "كتاب الياقوتة الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه"، أخبارا وحكايات تفيد كلها شدة هذا الارتباط والتلازم الذي كان بين الشعر والغناء في الحياة العربية.
وفي حديث من هذه الأحاديث أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال للنابغة الجعدي الشاعر: "أسمعني بعض ما عفا الله عنك من غنائك. فأسمعه كلمة له. قال[أي عمر]: وإنك لقائله؟ قال: نعم. قال: لطالما غنّيْت بها خلف جمال الخطّاب." (العقد الفريد: 7/9-10). راجع أمثلة أخرى من هذه الأحاديث في الكتاب المشار إليه من هذا المصدر.
وفي هذا الغرض قال ابن عبد ربه: "وإنما جعلت العرب الشعر موزونا لمدّ الصوت فيه والدّندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور." (نفسه: 2/8)
"ويقولون: فلان يتغنّى بفلان أو بفلانة، إذا صنع فيه شعرا. قال ذو الرّمة:
أحبّ المكان القفر من أجل أننـي *** به أتغنّى باسمها غير مُعْجِــــمِ.
"وكذلك يقولون: حدا به إذا عمل فيه شعرا. قال المرار الأسدي:
ولو أنّي حدوْتُ به ارفأنّت *** نعامته وأبصر ما يقــول." (العمدة: 2/313)
ارفأنّت: اطمأنت وسكنت.

وقد كان الشعراء يستطيعون معرفة عيوب شعرهم بالغناء، كما في خبر النابغة الذبياني حين دخل إلى المدينة، "فقالوا له: قد أَقْـوَيْت في شعرك، وأفهموه فلم يفهم، حتى جاؤوه بقينة فجعلت تغنّيه: "أمن آل ميّة"، وتبيّنُ الياء في "مزودِ" و"مغتدِي".
"ثم غنت البيت الآخر فبينت الضمة في قوله: "الأسودُ" بعد الدال. ففطن لذلك، فغيّره، وقال: "وبذاك تنعابُ الغراب الأسودِ""(الموشح، ص52). والإقواء في الشعر هو رفع بيت وجر آخر، ومثال ذلك قول النابغة من قصيدته المخفوضة التي مطلعها:
أمن آل ميّة رائح أو مغتــــدي *** عجلان ذا زادٍ وغير مُــــــزوّدِ
زعم البوارحُ أن رحلتنا غــــدا *** وبـذاك خبّرنا الغرابُ الأســــودُ. (الموشح، ص51).
والبوارح: ما يتشاءم به من طير أو وحش.

وقد ورد في أشعار المتقدّمين ما يفيد أن تعاطي الغناء بالأشعار كان معروفا عندهم منذ القديم، كقول أبي النجم يصف قينة:
تغنّيْ فإن اليوم يومٌ من الصّبــــا *** ببعض الذي غنّى امرؤُ القيس أو عمرو
فظلت تغنّي بالغبيط وميلـــــه *** وترفع صوتا في أواخره كســـــــرُ.(الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص54)
وقول عبدة بن الطبيب، من قصيدته التي مطلعها:
هل حبل خولةَ بعد الهجر موصولُ *** أم أنت عنها بعيد الدار مشغـولُ
(…)
ثم اصطحبتُ كُميتا قَرْقَفاً أُنُفـا *** من طيّب الراح، واللذات تعليـلُ
صرفاً مزاجا، وأحيانا يعلّلُنــا *** شعرٌ كمُذهبة السمَّان محمــولُ
تُذْري حواشِيَهُ جيداءُ آنســـةٌ *** في صوتها لسَمَاع الشَّرْب ترتيـلُ.(المفضّليات: المفضلية رقم(26)، ص145)
القرقف: التي تصيب شاربَها رعدة. السمان: الأصباغ التي تزوق بها السقوف. تذريه: ترفعه.

وقول طرفة من معلقته المشهورة:
ندامايَ بيضٌ كالنجوم وقينـــــةٌ *** تروح علينا بين بُردٍ ومُجْســــــد
رحيبٌ قطاب الجيْب منها رفيقـــةٌ *** بجَسِّ النّدامى، بضَّةُ المتجــــــرَّد
إذا نحن قلنا أَسمعينا انبرتْ لنــــا *** على رسلها مطروفةً لم تَشـــــَدّد
إذا رجّعت في صوتها خلت صوتهـا *** تجاوبَ أظآرٍ على رُبَـــــعٍ رَدِيْ. (شرح المعلقات العشر، للدكتورين ياسين الأيوبي وصلاح الدين الهواري، ص100-102)
المُجسد: الثوب الذي يلي الجسد. المتجرَّد: الجسد العاري من الثياب. مطروفة: فاترة الطرف. رُبَعٍ رَدِي: الهالك من ولد الإبل.

وقول مزرّد بن ضرار الذبياني، من قصيدته التي مطلعها:
صحا القلب عن سلمى وملَّ العواذلُ *** وما كاد لَأْيًا حبُّ سلمى يزايــــلُ.
فقد علموا في سالف الدّهر أننــي *** معنٌّ إذا جدَّ الجِراءُ ونابــــــلُ
زعيمٌ لمن قاذفته بأوابـــــدٍ *** يغنّي بها الساري وتُحدى الرّواحــلُ. (المفضليات: المفضلية رقم(17)، ص100)
المِعَنُّ: المعترض. الجِراءُ: الجري. النابِل: الحاذقُ. الأوابد: أراد بها ما يهجوهم به من الشعر.

كما ورد في أشعارهم ما يفيد أنهم كانوا يستعينون، في الغناء ببعض الآلات الموسيقية، كالصَّنْج في قول الأعشى(ميمون بن قيس):
ومستجيب لصوت الصنج يسمعه *** إذا تُرجّع فيه القينةُ الفُضُـــلُ (الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص154)
والصنج هو نوع من الآلات الوترية تشبه العود، يعزف عليها. وقيل هو الدّف ونحوه، وهو معرّب.

والمِزْهَر في قول علقمة بن عبدة الفحل، من قصيدته التي مطلعها:
هل ما علمت وما استودعت مكتــومُ *** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصــــــروم
قد أشهد الشَّرْب فيهم مِزهر رنِـــمٌ *** والقوم تصرعهم صهباءُ خُرطُـــــوم (المفضليات: المفضلية رقم(20)، ص402)
المزهر: آلة العود. الرّنم: المترنّم. الخُرطوم: أول ما ينزل من عصير العنب خمرا صافية.

وهكذا نرى أن كلمات مثل، الترنّم، والترنيم، والترتيل، والترجيع، والتغني، والدندنة، وكذلك الصنج، والمزهر، والقينة، وأشباهها من المفردات الغنائية الاصطلاحية، وأسماء الآلات الموسيقية، لم تكن غريبة عن صناعة الشعر العربي منذ أقدم العصور. بل يمكن القول إن هذه المفردات كانت من صميم عمل الشعر، لما بينها وبين أوزان الشعر من صلات قرابة قوية، هي قرابة تركيب الأصوات وتلحينها وأدائها في صورة جميلة ومطربة.
ولعل أبا نصر الفارابي لم يكن مبالغا حين قرر أن "الصناعة الشعرية هي رئيسة الهيئة الموسيقية، وأن غاية هذه أن تطلب لغاية تلك." (كتاب الوسيقى الكبير: 3/1093)

كانت هذه أمثلة من الأخبار والأشعار، وجملة من النصوص استأنست بها هذه المقالة للتدليل على أن الشعر والموسيقى، في صورة من صور أدائها المتعددة، البدائية أو المتطورة، كانا دائما متلازمين ومتصاحبين لا يفترقان، تجمعهما صناعة الأوزان والألحان والإيقاع، وأن هذا التلازم والتصاحب يرجع، في تاريخه، إلى أقدم العصور.
يمكن مراجعة هذا الموضوع (علاقة الشعر بالموسيقى) بشيء من التوسع في الفصل الثاني حول "الموسيقى والصنعة"، من الكتاب الأول في كتاب "الفن ومذاهبه في الشعر العربي"، للدكتور شوقي ضيف، ص41-90. وحول "الشعر والغناء"، في كتاب "تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري"، للدكتور نجيب محمد البهبيتي، ص89 وما بعده. وحول "الموسيقى في الحجاز وأثرها في الشعر"، في المرجع نفسه، ص129-147.
--------
نقلا عن : http://www.aljamaa.info/ar/detail_khabar.asp?id=3562&idRub=174
___________
تحية شاعرية
محمد بن أحمد باسيدي

محمد بن أحمد باسيدي
07/03/2007, 07:46 PM
مقالات في "موسيقى الشعر" (2)
رُكْنيَّة الوزن في صناعة الشعر العربي
د. عبد العالي مجدوب / Abdelali_majdoub@yahoo.fr
"الوزن أعظم أركان حدّ الشعر" (العمدة، لابن رشيق: 1/134)
اتفاق قُرُوني
منذ استوى الشعر العربي فنا مكتملا، في عناصره ومقوّماته، وإبداعا جميلا، في أسلوبه وتصويراته - منذ كان الشعر العربي شعرا والنقاد، على اختلاف مشاربهم وتباين مناهجهم، متفقون على كون "الوزن" ركنا أساسا من أركانه، إذا سقط سقطت معه شعرية هذا الشعر.
وأذكر أن هذه المقالة ليست لمعالجة علم أوزان الشعر، ولذلك لن يكون من شأننا هنا أن نغوص في التفصيلات العروضية عامة، والجزئيات المتعلقة بالوزن الشعري خاصة. وإنما همي، أساسا، هو عرض الأفكار الجوهرية التي تتعلق بهذا الموضوع، وتسجيل الملاحظات المنهجية والمضمونية الفنية التي أراها ضرورية ومفيدة في رسم صورة واضحة للمقولات الحداثية، وكذلك ملامح الاختيارات البديلة في شأن موسيقى الشعر، التي تتبناها التجارب الحداثية، وعلاقة هذه الاختيارات وتلك المقالات بالأصول التراثية. هذه الأصول التي ما تزال تهيمن على الأفكار والدراسات والأطروحات الدائرة حول مبحث الوزن الشعري، بل وتهيمن حتى على أشكال البدائل التي تقترحها بعض الدراسات الحديثة.
وكون الوزن ركنا أساسا من أركان الشعر لا يعني، على الإطلاق، إبطال أهمية العناصر الأخرى، بل الأركان الأخرى، في إقامة ماهية الشعر.
فكل شعر هو موزون وجوبا، وليس كل موزون شعرا.
وقد سبق النقاد القدامى إلى توضيح هذه المسألة، وبينوا، على طريقتهم، أن "ليس كل من عقد وزنا بقافية فقد قال شعرا"(الموشح، ص400)، وأن "الشعر أبعد من ذلك مراما، وأعز انتظاما."(نفسه)
وهذا ابن خلدون- وهو معدود في المتأخرين زمانا- يشرح في فصل عقده لِـ"صناعة الشعر ووجه تعلمه"، أن الكلام الذي ينعقد به الشعر، فضلا عن الوزن، لا بد أن يجري على "أساليب العرب المخصوصة به… لأن الشعر له أساليب تخصّه لا تكون للمنثور."(المقدمة: ص475)
ويقصد ابن خلدون بهذه الأساليب الخاصة أن يكون الشعر كلاما بليغا مبنيا على الاستعارة والأوصاف(نفسه)، "فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا."(نفسه، ص401. انظر، في هذا المعنى أيضا، "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"، لحازم القرطاجني، ص27،28.)
أما الفلاسفة الذين عنوا في تنظيراتهم وأبحاثهم بصناعة الشعر، فقد ركّزوا، في تعريفهم للشعر، على ركنين أساسين اثنين، هما الوزن والمحاكاة أو التخييل. فلا يقوم شعر، عندهم، إلا بهما.
وقد ميّز الفلاسفة بين أنواع من الكلام، وقصروا الشعر على الكلام الذي تستعمل فيه اللغة استعمالا يمتاز بفنيته وجماليته وإبداعيته. وهذا الاستعمال المتميز للغة هو الذي يصطلح على تسميته، عند الفلاسفة، بالمحاكاة أو التخييل. والتخييل، عند السجلماسي "هو موضوع الصناعة الشعرية"، ويشمل أربعة أنواع: التشبيه والاستعارة، والتمثيل والمجاز.(المنزع البديع، ص218). يُراجع عن المحاكاة والتخييل وغيرهما من الموضوعات المتعلقة بنظرية الشعر عند الفلاسفة كتابُ "نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد"، للدكتورة إلفت كمال الروبي.
ومن الفلاسفة من جعل ركنية المحاكاة مقدمة على ركنية الوزن، وهذا كله ليبينوا أن الوزن ليس هو كل شيء في الشعر. فأعظم هذين الركنين عند أبي نصر الفارابي، "في قوام الشعر هو المحاكاة وعلم الأشياء التي بها المحاكاة، وأصغرهما الوزن."(كتاب الشعر، تحقيق الدكتور محسن مهدي، منشور في مجلة "شعر"، العدد12، السنة3، خريف 1959، ص92)
ولتأكيد أهمية المحاكاة في صنعة الشعر وأن الوزن وحده فيها لا يكفي، يقول الفارابي: "وكثير من الشعراء الذين لهم أيضا قوة على الأقاويل المقنعة يضعون الأقاويل المقنعة ويزنونها فيكون ذلك عند كثير من الناس شعرا، وإنما هو قول خُطْبي عدل به عن منهاج الخطابة."(نفسه، ص93). ويشير محقق النص الدكتور محسن مهدي في الهامش رقم(3)، إلى أن عبارة "الشعر إلى منهاج" قد تكون سقطت من النص بين كلمتي "منهاج" و"خطابة". وقد أوردت الدكتورة إلفت كمال الروبي هذا النص بزيادة هذه العبارة التي افترض المحقق سقوطها، في كتابها "نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين"، ص231.
وهذا هو أيضا مذهب ابن سينا. فليس الوزن وحده، عنده، هو كل شيء في الشعر. يقول ابن سينا: "وقد يعرض لمستعمل الخطابة شعرية، كما يعرض لمستعمل الشعر خطابية. وإنما يعرض للشاعر أن يأتي بخطابية، وهو لا يشعر إذا أخذ المعاني المعتادة والأقوال الصحيحة التي لا تخييل فيها ولا محاكاة، ثم يركبها تركيبا موزونا. وإنما يغتر بذلك البُلْه، وأما أهل البصيرة، فلا يعدّون ذلك شعرا. فإنه ليس يكفي للشعر أن يكون موزونا فقط."(الخطابة، ص204. نقلا عن "نظرية لشعر عند الفلاسفة المسلمين"، للدكتورة إلفت كمال الروبي، ص232)
ونرجع، بعد هذا الاستطراد التوضيحي، إلى ما كنا فيه من حديث عن إجماع النقاد على ركنية الوزن في قوام الشعر.
لقد وصف النقاد، عبر مختلف العصور، هذه الحقيقة بعبارات تراوحت بين الإيجاز المركز والتطويل المستفيض. فمثال الإيجاز المركز عبارة قدامة بن جعفر المشهورة، في تعريف الشعر: "إنه قول موزون مقفى يدل على معنى"(نقد الشعر، ص64)، وقول أبي العلاء المعري، على لسان إحدى شخصياته في رسالة الغفران: "والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، إذا زاد أو نقص أبانه الحس."(رسالة الغفران: ص103، طبعة دار الكتب العلمية)، وقول السجلماسي: "الشعر هو الكلام المخيل المؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة…"(المنزع البديع، ص218). وهذا التعريف يطابق تعريفا من تعريفات ابن سينا الفيلسوف.(انظر "نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين"، ص84)
ومثال التطويل قولُ حازم القرطاجني: "الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه…بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيئة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك."(منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص71)
وقوله في مكان آخر: "الشعر كلام مخيل موزون، مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك، والتئامه من مقدمات مخيلة، صادقة كانت أو كاذبة، لا يشترط فيها-بما هي شعر- غير التخييل."(نفسه، ص89)
وقول ابن خلدون: "الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به."(المقدمة، ص475)
وقد امتازت مقالات الفلاسفة خاصة، في وزن الشعر، ببعض الإضافات التي اقتضاها طابع ثقافة العصر، واتساع مجال الاطلاع ونطاق التواصل، وتعدد مصادر العلوم والحضارة والثقافة. تُراجع، مثلا، مقالات الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، في موضوع "الوزن والموسيقى"، في كتاب "نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين"،(م.س)، ص231 وما بعدها. وراجع، في المرجع نفسه، مقالاتهم في تعريف الشعر، ص71 وما بعدها.
لكن هذا الاختلاف والتنوع والغنى في أوجه التناول وأسلوب المعالجة لم يمس جوهر الاتفاق على أن الوزن ركن أساس وضرروي في تحقق شعرية الشعر.
اللغة الشاعرة" ونابتة الإديولوجية الحداثية الهدْمية
ومع تطور الفلسفة الحداثية العربية وبداية انتشارها في الخمسينات، بدأت تظهر بوادر مراجعة هذا الاتفاق "القروني"، وبدأت تُسمع في الأوساط الأدبية أصوات تنادي بمراجعة كل ما له صلة بالتراث الأدبي والنقدي.
ولم تزل هذه الأصوات تتعالى، وتكبر، ويتسع مدى صداها، تظللها وتزكيها وتدعمها الإديولوجية الحداثية العنفية المتطرفة، حتى استوت نظريةً كاملةً، ليس لها من لغة في قراءة التراث، مهما كانت قيمة هذا التراث، إلا لغةُ التجاوز، والهدم، والرفض، وأصبح يكتب ويُنشر أنه يمكن أن يكون هناك فن شعري عربي من غير وزن.
وتقوم اعتراضات هذا التيار الحداثي الإديولوجي الرافض على دعوى أن اتفاق النقاد على ركنية الوزن في قيام فن الشعر إنما هو اتفاق "رجعي" يمثل عصورا ساد فيها التفكير من خلال النموذج والقاعدة المسبقة، ولم يكن يسمح للإرادات والأفكار أن تتحرر لتبدع وتجتهد في إيجاد أشكال جديدة، مما أعطى للنموذج الموروث، والقاعدة المسبقة سلطة قامعة كابحة، موجهة إلى الوراء، إلى الماضي، والحال أن الزمان يسير إلى الأمام، إلى المستقبل.
هذا هو ملخص دعوى المعترضين. وسأعود، في مقالة لاحقة، إن شاء الله، إلى مناقشة بعض الآراء والأطروحات في هذه الدعوى.
أما الآن، فأسأل سؤالا أراه جوهريا في هذا السياق، وهو: لماذا كان للوزن كل هذه الأهمية خلال هذه القرون الطويلة في تاريخ شعرنا العربي؟
ولماذا لا يزال للوزن حضوره الفني في زماننا المعاصر، رغم تميز العصر بطوفان الإديولوجيات الحداثية الهدمية، والفلسفات الطليعية العنفية، التي ترفض التراث جملة وتفصيلا؟. ومما يناسب التذكير به هنا أن أدونيس، في رسالةٍ بعث بها إلى أنسي الحاج من باريس، عبّر عن رفضه لِـ"كل ما هو موجود بالوراثة، بالتقليد، بالعادة"، وقال، واصفا هذا الأسلوب الرافض: "هذه طريقتنا…الوراثة، التقليد، العادة؟ يا لهذه المستنقعات المقدسة…"(من نص الرسالة في "زمن الشعر"، ص225-231).
ومهما كان جوابنا عن مثل هذه الأسئلة قويا، فإنه، في رأينا، لن يكون في القوة التي امتاز بها ردّ عباس محمود العقاد ومن على شاكلته من الأدباء والنقاد الكبار، في التصدي لدعاوى أنصار التجديد الشعري، والانتصار لركنية الوزن في صناعة الشعر العربي.
وقد كانت الدعامة الأساس في ردّ العقاد قائمة على الاحتجاج بأن الوزن في الشعر العربي لم يكن، في يوم من الأيام، شيئا غريبا مفروضا من خارج مقوّمات التجربة الشعرية، وإنما كان، دائما، عنصرا موجودا وجود لزوم في البناء الصرفي للكلمة العربية، التي هي المادة الخام في صناعة الشعر.
فاللغة العربية "لغة شاعرة"، لأن التركيب الموسيقي أصل من أصولها "لا ينفصل عن تقسيم مخارجها، ولا عن تقسيم أبواب الكلمات فيها، ولا عن دلالة الحركات على معانيها ومبانيها بالإعراب أو بالاشتقاق."(اللغة الشاعرة، لعباس محمود العقاد، ص38).
"فإذا كان الشعر روحا يكمن في سليقة الشاعر، حتى يتجلى قصيدا قائم البناء، فهذه الروح في الشعر العربي يبدأ عمله الأصيل مع لبنات البناء، قبل أن ينتظم منها أركان القصيد."(نفسه، ص15)
"وحسبنا أن نلاحظ في تركيب المفردات من الحروف أن الوزن هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام…
"فالفرق بين: ينظر، وناظر، ومنظور، ونظير، ونظارة، ومناظرة، ومنظار، ومنظر، ومنتظر، وما يتفرع عليها هو فرق بين أفعال، وأسماء، وصفات، وأفراد، وجموع، وهو كله قائم على الفرق بين وزن ووزن، أو قياس صوتي وقياس مثله، يتوقف على اختلاف الحركات والنبرات، أي على اختلاف النغمة الموسيقية في الأداء."(نفسه، ص17)
فالوزن إذاً أصيل في تركيب اللغة: "فالمصادر فيها أوزان، والمشتقات أوزان، وأبواب الفعل أوزان، وقوام الاختلاف بين المعنى والمعنى حركة على حرف من حروف الكلمة، تتبدل بها دلالة الفعل، بل يتبدل بها الفعل، فيحسب من الأسماء، أو يحتفظ بدلالته على الحدث حسب الوزن الذي ينتقل إليه.
"هذه أصالة… لا يستغرب معها أن يكون للوزن شأنه في شعر هذه اللغة، وأن يكون شأنها في نظم أشعارها على خلاف المعهود في منظومات الأمم الأخرى."(نفسه، ص161). وانظر أيضا للمؤلف نفسه: "بحوث في اللغة والأدب"، ص71،81،85.
وقد ذهب الدكتور نجيب محمد البهبيتي إلى شيء قريب من هذا حين أكد "الارتباط الوثيق بين اللفظ ومدلوله[في اللغة العربية]، أي بين الجرس الصائت والمعنى المجرد أو المحسوس، ومدى تعبير هذا عن ذاك. وهي عملية موسيقية لا تتم إلا لمزاج حساس، دقيق الحس بالموسيقى."(تاريخ الشعر العربي، ص93)
وهذا، عنده "في اللغة العربية أثر من آثار الشعر، وأنه تطور تَمَّ وقبلته النفس العربية، لأنه يتصل بمركب نفسي فيها، وأنه تمَّ في أجيال طويلة متلاحقة، وأنه لكي يتم اقتضى ذلك عصورا طوالا جدّا."(نفسه)
فهذا الصمود "القروني" لركنية الوزن في قوام الشعر العربي، يرجع أساسا، إلى قيام أصول هذا الوزن في البناء الصرفي للمفردات، قبل أن تصاغ هذه المفردات صورا شعرية في بناء فني مكتمل.
هذا سبب أساس. وهناك أسباب أخرى وراء رسوخ خاصة الوزن في الشعر العربي، كوقع الكلام الموزون في النفس، عموما، ولذاذته في الطبع والسمع، وعلوقه بالذاكرة والخيال. ومن النقاد الذين تحدثوا عن الوزن اللذيذ أبو علي أحمد بن محمد المرزوقي، في "شرح ديوان الحماسة"، وذلك حين ذكر أن ما كان الشعراء يحاولونه "…التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن…لأن لذيذه يَطرب الطبع لإيقاعه، ويمازجه بصفائه، كما يَطرب الفهم لصواب تركيبه، واعتدال نظومه."(1/9-10). انظر أيضا حازما القرطاجني، في حديثه عن التأليف الذي له حلاوة في المسموع، في "منهاج البلغاء"، ص267.
بين الوزن اللغوي الوضعي والوزن الشعري الفني
هذا عن جنس الوزن مطلقا. ويمكن التمييز تحت هذا الجنس بين نوعين اثنين:
النوع الأول هو الوزن اللغوي الوضعي القائم في البناء الصرفي للمفردات. وأشكال هذا الوزن بعدد أشكالِ المفردات وأشكالِ ما يتركب منها من جمل وعبارات، وأشكالِ ما يتركب من هذه الجمل والعبارات من كلام طويل أو قصير.
وحسب مفهوم هذا النوع من الوزن، يكون قولنا: "هذا كتاب البيان والتبيين لعمرو بن بحر الجاحظ" كلاما موزونا، لأنه يمكننا أن نقطّعه، استنادا إلى أصول الوزن المصطلح عليها، وإلى الأجزاء المركبة من هذه الأصول وما يلحقها من زحافات وعلل، مثلا، كما يلي:
-0-0--0/-0--0/--0-0-0/---0-0/--0-0/-0--0/
مستفـعلن/ فـاعلن/ مفـاعلْـتن/ فعِـلاتن/ فـعولن/ فـاعلن/
أما الأصول فهي ثلاثة: سبب ووتد وفاصلة. "فالسبب نوعان: خفيف، وهو متحرك بعده ساكن… وثقيل، وهو متحركان(…). والوتد أيضا نوعان/ مجموع، وهو متحركان بعدهما ساكن…، ومفروق، وهو ساكن بين متحركين(…). والفاصلة فاصلتان: صغرى، وهي ثلاث متحركات بعدها ساكن…، وكبرى، وهي أربع متحركات بعدها ساكن…"(العمدة: 1/138). انظر أيضا "كتاب الكافي في العروض القوافي"، للخطيب التبريزي، ص17-18.
أما الأجزاء المركبة، فقد اصطلحوا على حصرها، على أشهر الآراء، في ثمانية أمثلة: "اثنتان خماسيتان، وهما فعولن، فاعلُنْ، وستة سباعية، وهنّ: مفاعيلنْ، فاعلاتنْ، مستفعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفعولاتُ. وما جاء بعد هذا فهو زحاف له أو فرع عليه."(كتاب الكافي في العروض والقوافي،(م.س)، ص19). قارن بما في "العمدة": 1/135.
ومثل هذا المثال، في الوزن الصرفي الطبيعي، مثل قول أدونيس:
"ذاهل تحت شاشة النبوءة، مأخوذ بالرّمل- يا رجلْ ! قل لنا آيةً تأتي…"(الآثار الكاملة، المجلد الأول، ص523). وتسكين المنادى (رجل) هو من تصرّفي.
فتقطيعه، حسب أصول الوزن الوضعي اللغوي، يمكن أن يكون كالآتي:
فاعلاتُنْ/مفاعلن/مُفاعلتنْ/فعْلُنْ/فعْلُنْ/مفاعلنْ/فاعلاتنْ/مُفاعلْتُنْ/
قلت: (يمكن)، لأن هناك عدة أشكال محتملة للتقطيع، ترجع في أساس تركيبها إلى الأصول الثلاثة والأجزاء الثمانية المصطلح عليها. فمثلا، يمكن تقطيع الكلام، فقط، بمقياس الوحدات التي تمثلها الأصول الثلاثة(الأسباب والأوتاد والفواصل). وهذا المقياس نفسه يتيح لنا عدة اختيارات لتمييز الوحدات بعضها من بعض. فقول أدونيس "ذاهل تحت شاشة النبوءة" مثلا، يمكن تقطيعه إلى سبع وحدات وفق الأصول الثلاثة المصطلح عليها، وهي: فا(سبب خفيف)، علنْ(وتد مجموع)، فا(سبب خفيف)، علن(وتد مجموع)، مَفَا(وتد مجموع)، علن(وتد مجموع)، مَفَ(سبب ثقيل).
ومثال ثالث قول ابن قتيبة: "وللشعر دواع تحث البطيء، وتبعث المتكلّف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب."(الشعر والشعراء، ص30)
فهذا الكلام أيضا، لا يخرج في وزنه الوضعي الطبيعي عن شكل من الأشكال التي تُعد بعدد إمكانيات ترتيب الأسباب والأوتاد والفواصل المحتملة.
فالوزن إذاً، بهذا المفهوم الوضعي اللغوي، قائم في كل أنواع الكلام، في الشعر وفي غير الشعر. وهذا النوع من الوزن، هذا الوزن المتضمن في بناء اللغة ذاتها، هو الذي جعل العقاد يصف اللغة العربية بأنها لغة شاعرة، "فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء.
"وهذه الخاصة في اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب مفرداتها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد."(اللغة الشاعرة، ص11)
النوع الثاني هو الوزن الشعري الفني. وهو أشكال مستقاة من الاحتمالات اللامحدودة التي يتيحها الوزن اللغوي الوضعي.
وقد اختلفت نظريات النقاد في أصل نشأة أوزان الشعر العربي، بين نظرية قائلة بأصالة هذه النشأة، وأخرى قائلة بأن العرب استفادوا، بعض الاستفادة، في وزن أشعارهم، من أمم أخرى.
وممن قالوا بأصالة أوزان الشعر العربي ابن رشيق، حيث زعم أن الكلام كله كان منثورا "فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز أنفسها إلى الكرم وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام. فلما تم لهم وزنه سموه شعرا، لأنهم شعروا به، أي فطنوا؟"(العمدة: 1/20)
وممن قالوا بالتأثر والاقتباس من أمم أخرى الدكتور عبد الله الطيب، في كتاب "المرشد": 2/750 وما بعدها. اقرأ آراء أخرى متعلقة بهذا الموضوع في "منهاج البلغاء"، لحازم القرطاجني، ص231 وما بعدها، وفي "تاريخ آداب العربية"، لجرجي زيدان: 1/599، وفي كتاب "تاريخ الشعر العربي"، للدكتور نجيب محمد البهبيتي، ص85 وما بعدها، وفي كتاب "اللغة الشاعرة"، للعقاد، ص30 وما بعدها.
والذي أرجحه مع الدكتور البهبيتي هو أن أوزان الشعر العربي قديمة قدم هذا الشعر نفسه، وأنها استغرقت، في تطورها، زمانا طويلا قبل أن تستقيم على هذا النضج والاكتمال الذي عرفناها به في الأشعار التي وصلتنا من العصر الجاهلي.(انظر "تاريخ الشعر العربي"، للدكتور البهبيتي، ص89-90)
وهذا الوزن الفني هو الذي ميّز الشعر العربي عبر مختلف عصوره، وهو موضوع ما اصطلح على تسميته بعلم العروض، أي العلم الذي يدرس أوزان الشعر العربي، في أصولها، وأشكالها، وخصائصها الموسيقية، وما إلى ذلك من الموضوعات التي توسعت في بسطها مصنفات علم العروض والقوافي.
والمشهور أن الخليل بن أحمد الفراهيدي- توفي بين 170 و175 هـ، على اختلاف الروايات- هو أول من تكلم في علم العروض وصنف فيه، وهو أول من استنبط أوزان الشعر العربي وصنفها إلى بحور جعل عدتها خمسة عشر بحرا، موزعة على خمس دوائر، وتعرف بالدوائر الخليلية، وهي: دائرة الطويل والمديد والبسيط، ودائرة الوافر والكامل، ودائرة الهزج والرجز والرمل، ودائرة السريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجثت، ودائرة المتقارب. ومن دائرة المتقارب استنبط الأخفش الأوسط(أبو الحسن سعيد بن مسعدة(ت221هـ) بحرا جديدا سمّاه المتدارك، ويسمّى أيضا بحر الخبب.(راجع تفصيلات هذه الدوائر والبحور في "العمدة": 1/135 وما بعدها، و"كتاب الكافي في العروض والقوافي"، ص21 وما بعدها، وكتاب "العقد الفريد": 6/283-289، وكتاب "تيسير علم العروض والقوافي"، للأستاذ محمد بن عبد العزيز الدباغ، ص17-18).
----
نقلا عن:
size=4]http://www.aljamaa.info/ar/detail_khabar.asp?id=3578&idRub=174]
ــــ
تحية شاعرية
محمد بن أحمد باسيدي

محمد بن أحمد باسيدي
28/03/2007, 08:43 PM
مقالات في "موسيقى الشعر" (3)
وقفة سريعة مع علم العروض
د. عبد العالي مجدوب / جامعة القاضي عياض بمراكش -المغرب

انتهيت، في المقالة الثانية، إلى التمييز بين نوعين اثنين من الوزن: لغوي وضعي وشعري فني؛ فأما الوزن اللغوي فهو موجود في أصل وضع مفردات اللغة لا ينفك عن بنائها الصرفي. فإذا اقتبسنا، مثلا، المثالَ الذي جاء به الجاحظ في "البيان والتبيين"، فإن قول البائع الذي يصيح: "من يشتري باذنجان" هو قول موزون يمكن تقطيعه على صورة "مسْتـََفْعِلُنْ مَفْعُولاَتْ". وكذلك عنوان هذه المقالة "وقفة سريعة مع علم العروض"، فهو كلام موزون اعتبارا لبناء مفرداته اللغوي، ويمكن اختيارُ تقطيعه، من بين عدة اختيارات، على الشكل التالي: فَاعِلُنْ/مَفَاعِلُنْ/فَعِلُنْ/فَاعِلاَتُنْ.
أما الوزن الشعري، فهو وزن خاص مقارنة بالوزن اللغوي العام؛ فهو صور وأنساق صوتية مختارة من بين صور وأنساق كثيرة يتيحها الوزن اللغوي. وهو وزن فني لأنه مولود من رحم الفنان المبدع، الذي إليه وحده يرجع اختيار توقيع ألحانه على موجات هذا البحر أو ذاك حسب طبيعة تجربته و مكنونات وجدانه. والبحث في هذا الوزن الفني هو موضوع علم العروض.
وها هنا لا بد من التمييز بين وجودين: وجود قبلي ملازم لماهية الشعر نفسه، وهو المتعلق بالوزن الشعري، ووجود صناعي بعدي، مبني على الاستنباط والاجتهاد، وهو المتعلق بالعلم الذي يدرس الوزن الشعري. ومن هذا العلم البعدي الاجتهادي تصنيفُ البحور وتسميتُها، وحصرُ عدد التفعيلات(التفاعيل) وتحديد أشكالها، واختراع الدوائر وتفسير مضامينها.
وبناء على هذا التمييز، فالأوزان التي استنبطها الخليل بن أحمد (ت175هـ) تحتمل أن تُشكل أو تُقرأ وفق نظام صوتي آخر لا ينحصر، بالضرورة، في أشكال التفاعيل الثمانية المصطلح عليها في "علم العروض"، ومن ثم فالدوائر الخليلية الخمسة ببحورها الخمسة عشر يمكن أن تتشكل في صور أخرى غير الصور الاصطلاحية المحفوظة.
وهذه الملاحظة لا تعني، لا من قريب ولا من بعيد، التقليل من أهمية الاختراع الخليلي، وإنما هي ملاحظة من أجل دفع الخلط والالتباس، حتى يكون الفرق واضحا بين الوزن بما هو موسيقى حيّة بحياة خلايا الحركات والسكنات، التي تتشكل منها عناصر المادة الشعرية، المتمثلة في المفردات اللغوية، وبين الوزن بما هو حصر، وتحديد، واختيار، وأسماء، واصطلاحات، وتصنيفات. بل لقد نوّه بهذا الاختراع، من الأدباء والنقاد، من هو رأسٌ في الدعوة إلى نقض العروض الخليلي وتجاوزه. فقد وصف أدونيس استنباط الخليل للأوزان الشعرية وتقعيدها بأنه "عمل إبداعي لا يكشف عن حسّه الموسيقي الأصيل وحسب، وإنما يكشف كذلك عمّا كان يمتلكه من قدرة تحليلية باهرة."(الشعرية العربية، ص17-18)
فالوزن كما أحسه وتذوقه وعاشه وعبّر عنه الشاعر العربي بطبعه وسليقته هو غير الوزن الذي صنعه العروضي في مختبر عقله، وحدّده وصوّره بذكائه وعلمه واجتهاده.
أما علم العروض بما هو عمل اجتهادي يقوم على الاستقراء والاستنباط، فسيظل، في رأيي، راسخا شامخا ما دام قائما، في نظريته وتطبيقاته، على اصطلاحات علمية لم تزل تنتقل من جيل إلى جيل، عبر مختلف العصور، إلى يومنا هذا، لم تنقضها نظرية وتطبيقات مخالفة جديدة، لها من قوة الاصطلاح العلمي والرسوخ والانتشار ما يفوق قوة النظرية الخليلية وتطبيقاتها.
وقد اختارت العرب، عبر تطور طويل، أوزان أشعارها- بالصورة التي وصلتنا في الشعر الجاهلي- من بين أشكال لا حصر لها من التراكيب الوزنية التي يمكن صياغتها من الوزن الوضعي للمفردات اللغوية، الذي يرجع، في أساسه، إلى الشكل الذي يكون عليه ترتيب الحركات والسكنات.
فلماذا اختارت العرب هذه الأشكال دون غيرها من الأشكال الأخرى؟ وللتذكير، فإن هذه الأشكال ليست محصورة فقط في أوزان البحور الستة عشر بأجزائها التامة، بل هناك أيضا أشكال مجزوءات هذه البحور ومشطوراتها.
لست أرى في استقرار العرب على هذه الأوزان التي وصلتنا في أشعارها أية غرابة، لأنني أرى أن من الطبيعي، بعد زمان طويل جدا من التطور والتدرج والتجارب، أن تستقيم السليقة العربية على أشكال موسيقية ناضجة، تستجيب أولا لطبيعة الفطرة العربية، وطبيعة الجغرافيا، والمناخ، والحياة البدوية عامة، وتستجيب ثانيا، لقواعد الذوق الفني الإنساني المبنية على التوازن والتناسب والانسجام والتناسق الجميل.
"…فكم استلزم الأمر من زمن ومن اتساع آفاق النفس، حتى وصل الشعر العربي إلى تحقيق هذا العدد الضخم من الأوزان لنفسه؟
"كل هذا نذير بأنه عريق جدا، لا يقف عمره عند مائتي عام، ولا ثلاثمائة، إنما هو موغل في الزمان إيغالا…"(تاريخ الشعر العربي، للدكتور نجيب محمد البهبيتي، ص89.)
هذا، مع استحضار الدور الفاعل والحاسم، في هذا التطور الطويل، لطبيعة اللغة العربية ومميزاتها الصوتية وخصائصها الموسيقية الغنائية.
ولهذا، لا نستغرب أن نجد من النقاد القدامى والمحدثين في زماننا، من يذهب إلى أن الأوزان التي وصلتنا قد جمعت من المقومات الصوتية أخفَّها وأحسنها وأجملها، ومن الخصائص الموسيقية أفضلَها وأنسبها وأحلاها.
يقول حازم القرطاجني في هذا المعنى: "وضروب التركيبات كثيرة جدا. وإنما استعملت العرب من جميع ذلك ما خفّ وتناسب. وليس يوجد أصلا في ضروب التركيبات والوضع الذي للحركات والسكنات والأجزاء المؤتلفة من ذلك أفضلُ مما وضعته العرب من الأوزان."(منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص232.)
ويتساءل الدكتور البهبيتي، في أثناء مناقشته هذا الموضوع، إن كانت الأوزان العربية قد استنفدت كل مزايا الإيقاع الشعري الجميل، فلم تترك للمتأخرين من الشعراء، في العصر الإسلامي والأموي والعباسي، أية إمكانية موضوعية، ولا أي سبب فني، لاختراع أوزان جديدة، أم أن المسألة، ببساطة، هي مسألة ضعف إبداعي في هؤلاء الشعراء أنفسهم حال بينهم وبين الإختراع وإضافة الجديد؟
ويذهب الدكتور البهبيتي إلى أن الأمر الأول هو الأرجح.(تاريخ الشعر العربي، ص89.)
ولست أفهم من تساؤل الدكتور البهبيتي أنه يقصد أن ملكات الشعراء الذين عاشوا بعد العصر الجاهلي، وخاصة في العصر العباسي، كانت عقيمة بمعنى العقم الذي يمتنع معه أي نوع من أنواع التوليد والتجديد والإحداث. وذلك لأن مصادر عديدة نقلت لنا أخبارا وأمثلة شعرية تفيد وتؤكد أن الشعراء، بعد العصر الجاهلي، قد استحدثوا أوزانا تخالف، في تشكيلها وترتيب أجزائها، أوزان الشعر العربي التي استنبطها الخليل. بل وجدنا من نقاد الشعر وعلماء اللغة والعروض، في العصور المتأخرة، من راجع اجتهادات الخليل العروضية مستدركا عليها بالزيادة والنقصان. من هؤلاء، فضلا عن الأخفش الأوسط، إسماعيلُ بن حماد الجوهري اللغوي المشهور(توفي ما بين عامي 393 و400هـ، على اختلاف الروايات). فقد أسقط، في استدراكاته، أربعة من بحور الخليل، وهي: السريع، والمنسرح، والمقتضب، والمجثت، وعلل ذلك بِـ"أن الخليل إنما أراد بكثرة الألقاب الشرحَ والتقريبَ، قال: وإلا، فالسريع هو من البسيط، والمنسرح والمقتضب من الرجز، والمجثت من الخفيف."(العمدة: 1/135-137)
وأوزان البحور الخليلية نفسها منها ما يرى بعض النقاد أنه مفقود في شعر العرب، وهو ما يعني-إن ثبت ذلك- أن الخليل لم يستنبطه من الشعر العربي القديم، وإنما استفاده من شعراء عاشوا بعد العصر الجاهلي.
فأوزان المضارع، والمقتضب، والمجثت، "قلّ ما توجد في أشعار المتقدمين"(الفصول والغايات، لأبي العلاء المعري، ص132).
فوزن المضارع، في الأصل، (مفاعيلُ فاعلاتنْ مفاعيلنْ) مرتين، لكنه لم يستعمل إلا مجزوءا. وأصل وزن المقتضب (مفعولاتُ مستفعلنْ مستفعلنْ) مرتين، لكنه، هوأيضا، لم يرد إلا مجزوءا. وأصل وزن المجثث (مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن) مرتين، لكنه استعمل مجزوءا.
"فأما المضارع فالبيت الذي وضعه له الخليل:
وإن تدن منه شبرا ** يقرّبك منه باعـا
"وهو مفقود في شعر العرب…"(الفصول والغايات، لأبي العلاء المعري، ص132). "ولم يجئ فيه شعر معروف. وقد قال الخليل: وأجازوه."(كتاب الكافي في العروض والقوافي، للخطيب التبريزي، ص117). وقد أنكر الأخفش ورود هذا الوزن في شعر الجاهليين، ونسب وضعه إلى المحدثين.(تيسير علم العروض والقوافي، ص143). ويذهب حازم القرطاجني، في رفضه لهذا البحر، إلى أنه ليس هناك شيء من الاختلاق أحق بالتكذيب والردّ من هذا البحر، "لأن طباع العرب كانت أفضل من أن يكون هذا الوزن من نتاجها."(منهاج البلغاء، ص243)
"وأما المقتضب، فالبيت الذي وضعه الخليل فيه:
أعرضت فَلاحَ لنا ** عارضان من برد
"وهو مفقود في شعر العرب…"(الفصول والغايات، لأبي العلاء المعري، ص132). انظر أيضا، "تيسير علم العروض والقوافي"، ص149-151.
وقد حفظت لنا المصادر أشعارا كثيرة لم يثبت لأوزانها أصل في العروض الخليلي، أي فيما استنبطه الخليل من أشعار العرب، كقصيدة عبيد بن الأبرص: "أقفر من أهله ملحوب" المشهورة، فَـ"وزنها مختلف وليست موافقة لمذهب الخليل في العروض"(نفسه، ص131). وكذلك "قصيدة عديّ بن زيد العبادي:
قد حان أن تصحو لو تقصرْ ** وقد أتى لما عهدت عُصُــرْ"(نفسه، ص131-132)
وقصيدة المرقش الأكبر:
هل بالديار أن تجيب صممْ ** لو أن حيّا ناطقا كلّــمْ"
في رواية "المفضليات": "لو كان رسم ناطقا كلّم".(المفضلية رقم(54)، ص237)
فقد علق أبو هلال العسكري على اختيار الأصمعي لقصيدة المرقش هاته بقوله: "ولا أعرف على أي وجه صرف اختياره إليها، وما هي بمستقيمة الوزن…"(كتاب الصناعتين، ص3)
وتخبرنا مصادر كثيرة أيضا عن بعض الشعراء الذين كانوا يقولون الشعر على أوزان غير الأوزان العربية المشهورة. ولعل أبا العتاهية أشهر هؤلاء الشعراء. فقد كانت "له أوزان طريفة قالها مما لم يتقدمه الأوائل فيها."(الأغاني:ج4/ص2) فقد "كان أحد المطبوعين، وممن يكاد يكون كلامه كله شعرا(…)وكان لسرعته وسهولة الشعر عليه ربّما قال شعرا موزونا يخرج عن أعاريض الشعر وأوزان العرب."(الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص534)
وإلى أبي العتاهية يُعزى استحداث وزن "مدقّ القصّار"، وهو: (فاعلاتن فاعلن) مرتين. (يراجع "علم العروض ومحاولات التجديد"،(م.س)، ص38،39). فقد رُوي أنه "قعد يوما عند قصّار فسمع صوت المِدَقَّة فحكى ذلك في ألفاظ شعره، وهو عدة أبيات فيها:
للمنون دائرا ** تٌ يدرن صرفها
هنّ ينتقيننـا ** واحدا فواحـدا"(نفسه، ص534)
ومن هؤلاء الشعراء الذين استحدثوا أوزانا خارج العروض الخليلي (رزين العروضي)(ت247هـ). فقد ذكروا أنه كان نحا نحْوَ عبد الله بن هارون في قول أوزان "غريبة من العروض"، "فأتى فيه ببدائع جمّة."(معجم الأدباء، لياقوت الحموي: 11/138)
و"يكاد يجمع أهل العروض على أن للمولّدين أوزانا مخترعة لم يسبقوا إليها، وقد سمّيت بالبحور المهملة."(موسيقى الشعر، للدكتور إبراهيم أنيس، ص230.)
وقد كانت الحاجة إلى الغناء، أساسا، وراء استحداث الأوزان القصار التي ولّدها الشعراء المولدون من الأوزان العربية الطوال. وكذلك كانت هذه الحاجة وراء ما ولّدوه من البحور المهملة في الدوائر الخليلية، كالبحر المستطيل، وهو مقلوب الطويل، ووزنه (فاعلن مفاعيلن) أربع مرات، والبحر الممتد، وهو مقلوب المديد، ووزنه (فاعلن فاعلاتن) أربع مرات، والبحر المتئد، وهو مقلوب المجثت، ووزنه (فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن) مرتين، والبحر المنسرد، ووزنه (مفاعيلن مفاعيلن فاعلاتن) مرتين، والبحر المطرد، وهو مقلوب المنسرد: (فاعلاتن مفاعيلن مفاعيلن) مرتين، وغيرها من الأوزان التي لم تستعملها العرب في أشعارها.
ويرجّح الدكتور أنيس أن هذه البحور المهملة لم يخترعها الشعراء المولدون، وإنما اخترعها العروضيون، "وذلك لأنا- يقول الدكتور أنيس- نرى أمثلتها وشواهدها تتكرر هي بعينها في كتبهم غير منسوبة لشاعر معروف، وتبدو عليها سمة من الصنعة العروضية."(نفسه، ص231)
إضافة إلى هذا، فقد سجلت لنا المصادر تشكيلات أوزان أخرى مستحدثة، تمتاز بإيقاعات خفيفة وسريعة استدعتها التغيرات الطارئة على البيئة الاجتماعية الحضارية، وخاصة في جانبها الغنائي المتعلق باللهو والترفيه، أو السماع الديني القائم على الإنشاد الجماعي في الذكر والأمداح. يُراجع، في "أوزان المولّدين"، الفصل السابع من كتاب "موسيقى الشعر، للدكتور إبراهيم أنيس، ص230-272، وكتاب "هذا الشعر الحديث"، للدكتور عمر فرّوخ، ص61-63. وفي موضوع "الأوزان القصار"، كتاب "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها"، الجزء الأول، ص78-84.
وقد ظهرت هذه التشكيلات الوزنية في فنون غنائية مستحدثة، كفنّ "المواليا"، و"كان وكان"، و"القوما"، و"الدوبيت"، و"السلسلة".
أما(المواليا)، فيظهر أنه "هو نفس النوع المعروف في الشعر العامي بالموال، لأن أمثلته قد جاءت مزيجا بين ألفاظ معربة وأخرى غير معربة."(موسيقى الشعر، ص232). وأما (كان وكان)، فقد زعموا "أن هذا الوزن قد شاع بين البغداديين في عصور متأخرة بدأ بعض الناظمين فيها يتحللون من بعض قواعد الإعراب. وقد ارتقى هذا الوزن قليلا حين جاء الإمام ابن الجوزي والواعظ شمس الدين، فنظما منه الحكم والمواعظ في القرن السادس والسابع الهجري."(نفسه، ص234). وأما وزن(القوما)، فيرجح الدكتور إبراهيم أنيس أنه " لا يعدو أن يكون مجزوء الرجز تغيرت فيه (مستفعلن) الثانية إلى (مستفعلْ)، مثل (محمول)، ثم سكن آخره لينسجم هذا مع ما شاع في هذه العصور من التخلص من حركات الإعراب."( نفسه، ص236). وأما (الدوبيت)، فـ"يكاد الرواة يجمعون على أنه فارسي…استعاره بعض الناظمين باللغة العربية الفصيحة في النادر من الأحيان…وقد وصفه العروضيون بأنه: (فعْلنْ متفاعلن فعولن فَعِلُن)…"( نفسه، ص238). وأما (السلسلة)، فمن أمثلته المشهورة:
السحر بعينيك ما تحرك أو جال ** إلا ورماني من الغرام بأوجال
يا قامة غصن نشا بروضة إحسان ** أيان هفت نسمة الدلال به مال
"…وأجدر بوزن "السلسلة" أن يضم إلى تلك البحور المهملة التي حدثونا عنها."(نفسه، ص240،241)
ولعل أشهر هذه الفنون المستحدثة جميعا هو فن "الموشح"، وهو "كلام منظوم على وزن مخصوص، وهو يتألف في الأكثر من ستة أقفال وخمسة أبيات، ويقال له التام، وفي الأقل من خمسة أقفال وخمسة أبيات، ويقال له الأقرع(…) والأقفال هي أجزاء مؤلفة يلزم أن يكون كل قفل منها متفقا مع بقيتها في وزنها وقوافيها وعدد أجزائها.
"والأبيات هي أجزاء مؤلفة مفردة أو مركبة يلزم في كل بيت منها أن يكون متفقا مع بقية أبيات الموشح في وزنها وعدد أجزائها لا في قوافيها(…)"(دار الطراز في عمل الموشحات، لابن سناء الملك، ص32،33)
"والموشحات تنقسم قسمين: الأول ما جاء على أوزان العرب، والثاني ما لا وزن له فيها، ولا إلمام له بها."(نفسه، ص44)
(تراجع تفصيلات أخرى عن فن "الموشح" وأوزانه في المصدر السابق(دار الطراز)، وفي "مقدمة ابن خلدون"، ص491 وما بعدها، وفي كتاب "موسيقى الشعر"، للدكتور إبراهيم أنيس، ص241-257، وكتاب "في أصول التوشيح"، للدكتور سيد غازي).
وقد درس المستشرق مارتن هارتمانMartin Hartmann "تفاعيل الموشحات فوجد أنه يتركب منها "أوزان" تبلغ مائة وستة وأربعين عدّا. ثم وجد أنه يمكن أن يتفرع من هذه الأوزان أوزان أخرى تبلغ بعدد الأوزان إلى مائتين وثلاثة وثلاثين(…) وربما كان هناك موشحات قد ضاعت أو لم يستطع هارتمان أن يطلع عليها، وهي- وهذا ممكن- على غير هذه الأوزان أيضا."( هذا الشعر الحديث، للدكتور عمر فرّوخ، ص64-65).
نقلا عن :
http://www.aljamaa.info/ar/detail_khabar.asp?id=3714&idRub=174
ــــ
تحية موزونة
محمد بن أحمد باسيدي