المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطوط حمراء فلسطينية



د. محمد اسحق الريفي
26/09/2007, 11:14 PM
خطوط حمراء فلسطينية

الشعب الفلسطيني بحاجة ماسة إلى ترميم منظومة المعايير الوطنية التي اعتراها التآكل والتشويه، ورسم خطوط حمراء جديدة، تلتزم بها الفصائل الفلسطينية كافة، وتتعهد ألا تتجاوزها مهما كانت الدوافع والأسباب، خاصة في ظل هذا المخاض العسير والخطير الذي تمر به القضية الفلسطينية، وفي ظل التجاذبات السياسية العنيفة التي يعيشها المجتمع الفلسطيني.

بدأ التراجع الكبير الذي اعترى المعايير السياسية والنضالية والأخلاقية الفلسطينية منذ هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية أمام العدو الصهيوني، واضطرار مقاتليها للخروج من بيروت سنة 1982م، وتشردهم في عدد من الدول العربية. وجسد هذا التراجع الخطير انزلاق المنظمة بعد ذلك في مستنقع التسويات السلمية، ودخولها في نفق أوسلو المظلم.

وقد ازداد حجم هذا التراجع بشكل كبير نتيجة لفشل المنظمة في الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، عبر توقيعها على اتفاقية أوسلو المشؤومة، وما ترتب على ذلك من وقوع المنظمة تحت ضغط المجتمع الدولي المعادي لطموحات الشعب الفلسطيني، والذي لا يؤمل تحررها منه في الأمد القريب، وذلك بسبب اعتماد سلطة أوسلو كلياً على الأموال المسيسة التي يقدمها المجتمع الدولي، في مقابل التزامها بمعاييره وخنوعها لشروطه وإملاءاته.

وقد انعكس ذلك على عناصر الحراك السياسي الفلسطيني بشكل خطير، فقد تحولت القضية الفلسطينية إلى قضية رواتب يدفعها المجتمع الدولي لموظفي سلطة أوسلو، فتحولت هذه الرواتب إلى وسيلة لقمع الشعب الفلسطيني ومعاقبته. وأصبح الهم الوحيد لمنظمة التحرير الفلسطينية كبح جماح المقاومة، بحظرها ونزع سلاحها ومحاربتها وملاحقة المقاومين وتدمير البنية التحتية الداعمة لثقافة المقاومة، إلى حد تجرأت عنده سلطة أوسلو على استبدال رموز الانحطاط القيمي والأخلاقي والسياسي، وشعارات الفوضى والفلتان الأمني، برموز المقاومة وشعاراتها...!!

وفي ظل هذا التردي الخطير في المعايير الوطنية الأخلاقية والسياسية، تشير ملامح المشهد السياسي الفلسطيني إلى تقزيم القضية الفلسطينية واختزالها إلى حد لا يمكن تحمله، فلم تعد مقاومة الاحتلال أولوية وطنية لدى سلطة أوسلو وحزبها والفصائل الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي أدمنت الصمت على الفساد والانحراف السياسي، ولم تحرك ساكناً لإنقاذ المشروع التحرري الفلسطيني من الضياع والانحراف، وقبلت أن تقتصر مشاركتها في العملية السياسية على طأطأة الرأس لفريق التآمر والاستسلام.

كما أصبحت الأزمة الداخلية عنواناً للقضية الفلسطينية، بما يحمل هذا العنوان من تشويه لصورة الشعب الفلسطيني، وحرف لمسيرته الجهادية التحررية، وتغييب للمعنى الحقيقي للصراع مع الصهاينة. وأصبحت مفردات الهم الفلسطيني تقتصر – إلى حد كبير – على تعبيرات اليأس والإحباط والمناكفات والمطاحنات. الأمر الذي مكن الاحتلال من توظيف هذه الحالة البائسة في التمادي في قمع الشعب الفلسطيني، وتشديد الحصار على قطاع غزة، وخلق المبررات أمام الرأي العام العربي والعالمي لعدوانه على الشعب الفلسطيني، بل إن هذه الحالة المزرية قدمت المبررات للمتخاذلين والصامتين من أبناء جلدتنا.

وقبل الحدث عن الخطوط الحمراء الفلسطينية، لا بد من الوقوف قليلاً عند جملة من القواعد الضرورية لفهم القضية الفلسطينية والتعامل معها:

القاعدة الأولى: القضية الفلسطينية هي قضية وطن وشعب، وصراعنا مع الاحتلال الصهيوني هو صراع حدود ووجود، وأن هذا الصراع يأتي في سياق صراع عقيدي وحضاري مع الغرب والصهيونية العالمية، ولا يمكن للشعب الفلسطيني من الانتصار في معركة الوجود على أعدائه الغربيين والصهاينة دون التخلي عن تجاهل أو تهميش البعد الديني الإسلامي في الصراع.

القاعدة الثانية: السياق التاريخي لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والممارسات الأمريكية تجاهها، تثبت أن الوعود الأمريكية بإقامة دولة فلسطينية لا مصداقية لها إطلاقاً، فما يعدنا به الأمريكيون والغربيون لا يزيد عن حكم ذاتي محدود لشعب يعيش في كيان ممزق جغرافياً، ولا يتمتع بالسيادة على الحدود والمعابر والأرض والماء والأجواء، ولا يملك الحد الأدنى من مقومات الدولة المستقلة، بحسب القوانين والمعايير الدولية.

القاعدة الثالثة: الولايات المتحدة الأمريكية، والأنظمة العربية الموالية لها، والمجتمع الدولي الذي تقوده، لا تتحرك لحل القضية الفلسطينية ولا تتحدث عن دولة فلسطينية إلا لوأد المشروع التحرري الفلسطيني، وإحباط مسيرة الجهاد والمقاومة، وذلك كلما أدت هذه المسيرة إلى خسائر فادحة للاحتلال والدول الداعمة له، وكلما اقتربت من أن تؤتي ثمارها.

القاعدة الرابعة: الاحتلال الصهيوني لن يغير من مواقفه تجاه الشعب الفلسطيني، ولن يعترف بوجوده، إلا عندما ينجح العرب والمسلمون في تعديل موازين القوى لصالح شعبنا وأمتنا، وحتى يتحقق ذلك، فإن الاحتلال الصهيوني سيعمل على تغيير شكل الاحتلال وإدارته بدلاًَ من إنهائه، واتخاذ الشعب الفلسطيني جسراً للنفاذ إلى العالم العربي والإسلامي، لإنجاز المخطط الصهيوني الأمريكي الخاص بمنطقة الشرق الأوسط.

القاعدة الخامسة: نحن نعيش صراعاً حضارياً يُعد فيه الانتصار في معركة الأذهان والوجدان عاملاً حاسماً، والصورة البشعة للغرب المعادي لحقوق الشعب الفلسطيني تثير في قلوب البشر الرعب من غرب يدعم احتلالاً مجرماً جاثماً على صدور شعبنا منذ عشرات السنين، وسواء أتمادى أعداء شعبنا الغربيون في عدوانهم عليه أم توقفوا عن ذلك، فسيكون شعبنا عامل نصر لأمتنا في هذا الصراع الحضاري.

القاعدة السادسة: مقاومة الاحتلال حق مقدس للشعب الفلسطيني، ولا يمكن أن يستخدم أي طرف فلسطيني هذا الحق مادة للتفاوض مع الاحتلال، ولا يجوز التخلي عنه تكتيكياً كبادرة حسن نية تجاهه الاحتلال، ولا يجوز التخلي عنه استراتجياً كشرط لنيل شرعية دولية، إلا بعد اندحار الاحتلال ونيل الشعب الفلسطيني حقوقه كاملة وعلى رأسها حق تقرير المصير.

أما الخطوط الحمراء، فيجب أن تقوم على أساس القواعد الست السابقة، وهي خطوط تضمن إعادة الاعتبار للمعايير الوطنية السياسية والنضالية والأخلاقية لتفاعل القوى السياسية الفلسطينية مع بعضها البعض، ولتعاطيها مع القضية الفلسطينية:

أولاً: عدم التفريط بحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بكل السبل والوسائل، حتى في حالة التفاوض مع الاحتلال، أو المجتمع الدولي، أو الدول الراعية للمخطط الصهيوني الغربي. وكل من يفرط في هذا الحق المقدس يُعد خارجاً عن الصف الفلسطيني وتُنتزع شرعيته ولا يمثل إلا نفسه.

ثانياً: التفاوض مع الاحتلال يجب أن يستند إلى عوامل قوة، ولا يوجد أقوى من الخيار الشعبي الذي يعبر عن تمسك شعبنا بحقوقه ووطنه ووجوده، ولهذا يجب احترام خيار الشعب، وعدم تجاهله أو مخالفته، ويجب الاستناد إليه في أي مفاوضات حول القضية الفلسطينية.

ثالثاً: يجب تحقيق المشاركة السياسية الكاملة، عبر ضمان حق القوى السياسية الفلسطينية الحرة والشريفة والفاعلة، والتي تلتزم بالخطوط الحمراء والقواعد الست السابقة، في المشاركة السياسية الحرة والنزيهة، دون احتكار للسلطة أو إقصاء للآخرين.

رابعاً: عدم الاندماج في المشاريع السياسية للجهات المعادية لشعبنا ورفض الشراكة في الأجندة السياسية أو البرنامج السياسي لحكومات الاحتلال أو الجهات التي تمثل كيان الاحتلال الصهيوني، والفئة التي تندمج مع المخططات الصهيونية الأمريكية تصبح طابوراً خامساً للاحتلال والأمريكان وتخرج عن الصف الوطني.

خامساً: لا وصاية لأي فصيل على الشعب الفلسطيني، والشعب الفلسطيني وحده هو الذي يحكم على هذه الفصائل من خلال مواقفها وممارستها، وهو وحده من يملك صلاحية اختيار من يمثله في المجتمع الدولي، وهو وحده الذي يحدد شرعية النظام السياسي أو الحكومة أو السلطة التي تقوده وتحمل همومه وتعبر عن طموحاته.

سادساً: يجب أن يوجه الجميع حرابه إلى صدر العدو المحتل. ويجب اللجوء إلى الحوار لفض النزاعات الداخلية، واحترام ما يتم الاتفاق عليه بين الفصائل المتنازعة، وتجنب الزج بالشعب الفلسطيني في عملية الاحتراب الداخلي، ومن يشذ عن ذلك، ويوجه سلاحه إلى أبناء دينه ووطنه، يعد خارجاً عن الصف الوطني وباغياً تجب مقاتلته حتى يفيء إلى أمر الله عز وجل.

سابعاً: يجب الحرص على استمرارية الإصلاح في مؤسسات الشعب الفلسطيني، ومحاربة الفساد، ومحاسبة المفسدين، والتصدي لمن يتطاول على الشرع والقانون. وذلك عبر إشراك جميع قوى العشب الفلسطيني في العمل للقضية الفلسطينية على قاعدة: من ينجز أكثر هو الأحق والأجدر بالثقة والقيادة، ولكن يجب ألا يكون هذا الانجاز على حساب الحقوق والثوابت الفلسطينية.

ثامناً: جميع الفصائل مسؤولة عن مصير الشعب الفلسطيني وما يلحق به من معاناة. وعلى كل فصيل أن يتحمل مسؤوليته كاملة، بدلاً من الوقوف على الحياد أو الصمت حيال التجاذبات السياسية العنيفة التي تشهدها الساحة الفلسطينية.

لقد أظهرت الأحداث التي تلت فوز حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في الانتخابات التشريعية السابقة، ومشاركتها في الحكم والسلطة، الكثير من الحقائق الدامغة التي مهدت الطريق أمام شعبنا الفلسطيني من الحكم على منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة "فتح" التي تهيمن علي المنظمة، والفصائل الديكورية التي تسكن تحت عباءتها، والقوى السياسية الفلسطينية السلبية والمحايدة. وهذا كفيل بوضع قدم الشعب الفلسطيني على بداية الطريق في مسيرته الطويلة نحو تصحيح مسار المشروع التحرري الفلسطيني بعد تيه وانحراف.

26/09/2007م