عبدالجواد خفاجى
27/09/2007, 03:39 AM
حول علمية النقد الأدبي
عبدالجواد خفاجي
إذا كان هناك ما يُسمَّى بعلمية النقد الأدبي فمن البديهي أن نسأل : بماذا صار النقد علماً ؟ ، فثمة خرافة أكاديمية قديمة ـ على حد تعبير تيري إيجلتون ـ تدَّعى أن النقد علم ، وأنه لكي يكون كذلك يجب أن نكرس له أكبر قدر من المنهجية . والحقيقة أننا ـ ومهما كان ادعاؤنا بأن النقد علم ـ يجب أن نتوقف عند إمكانية أن يكون المنهج النقدي هو سبب علمية النقد. والإشكالية يجب أن تبدأ بالتساؤل : ما المنهج ؟
فالملاحظ أن المفاهيم مختلطة حول هذه الكلمة ، فالبعض يخلط بين المنهج بمعناه اللغوي ( المنهاج ) وبين المنهج بمعناه الاصطلاحي ، والبعض يخلط بين المنهج بمعناه العام ، والمنهج النقدي بمفهومه الخاص ، ومن ثم عندما نقرأ دراسات هؤلاء نستشعر أنهم لا يفرقون بين الطريق المعبَّد الذي ستسير فيه الدراسة ( الخطوات الإجرائية) التي يهتمون بتوصيفها وبين المنهج النقدي . وقد نلتفت إلى تساؤل طرحه د. عبد الله أحمد بن عتو ، وهو على أية حالة نفس تساؤلنا : ـ ما المنهج ؟ وفي الإجابة قال : " إننا ننظر إلى المنهج ليس باعتباره مجرد أسلوب ، أو وسيلة تضبطها خطة وقواعد تيَسِّر السير في البحث عن الحقيقة ، وتساعد على الوصول إلى نتائج معينة ، ولكن ننظر إليه كمنظومة مكتملة بالوعي والرؤيا المشكلين لروح المنهج وكنهه اللامرئي ، وتنتهي بالعناصر اللازمة لتحقيق ذلك الوعي ، وتلك الرؤيا من خلال الكشف والفحص والدرس والتحليل والبرهنة ، للإثبات أو النفي " (1) وإن كان د. عبد الله بن عتو قد اعتمد في إجابته عن السؤال على رأي آخر هو د. عباس الجراري في كتابه " خطاب المنهج " بما يعكس قناعة الاثنين بالإجابة المقدمة إلا أننا لو تأملنا رأيهما للاحظنا أنهما بدءا بنفي ما هو خاطئ من مفاهيم عن المنهج ، وانتهيا إلى تفسير الماء ـ بعد الجهد ـ بالماء .
وما هو خاطئ كرسته الجامعة المعاصرة إذ تضع حدوداً صارمة وهمية في الغالب رغبة منها في ترسيم معالم الدراسات المقدمة لنيل الدرجات العلمية ، وهو أمر لازم وضروري للمتتلمذ حيث لابد من ترسيم الطريق الذي سيسير فيه حتى لا يضل، ومن جهة أخرى يَسهُل على أستاذه المشرف أن يحاسبه على حياده عن الطريق المحدد سلفاً ، وفي رأيي أن ذلك ضروريًا لضبط خطوات الدارس / التلميذ إذ يسير في دراسته ، وهي خطوة استثنائية في حياة التلميذ العلمية قد يجتازها ويتجاوز عنها إذ يمارس عمله النقدي في مراحل حياته التالية ، وقد أصبح محترفاً . فمما لاشك أن قارئ الدراسات الأدبية ليس بحاجة لمعرفة الطريقة أو الطرق التي سار أو سيسير فيها الدارس للوصول إلى " روما " / النص ؛ طالما أن كل الطرق تؤدى إلى روما فما يعنى قارئ الدراسات أن يعاين ـ مع الدارس ـ روما نفسها. ثم .. ما علاقة ذلك الإجراء بالمنهج ؟ ألم أقل إنهم يخلطون بين المنهج والمنهاج ؟! إن أي استراتيجية يمكن أن يستعين الدارس بها ـ ومن دون توصيفها بداية للقارئ ، أو العناية بإثباتها خطاً ـ تظل ضرورية للدارس نفسه لإتمام دراسته الأدبية ، بل لابد أن تكون من ضمن التزاماته الضمنية ... هذه الاستراتيجية يمكن أن تسمى منهاجاً أو سبلاً إجرائية ، وهي شيء مختلف عن المنهج النقدي . وفي رأيي أن هذه السبل الإجرائية لا علاقة لها بكون الدراسة الأدبية المنجزة مكتسِبةً لصفة العلمية أو مجردة منها ، لسبب بسيط يبدو بديهياً : فكل الدراسات الأدبية تسير ـ بشكل علني أو ضمني ـ في إطار استراتيجية ما ، واضحة أو شبه واضحة المعالم ، وهي التي تحدد كيفية سير الناقد / الدارس إجرائياً في دراسته . وبمعاينة أية دراسة سنكتشف كيف تَنقَّل الدارس في دراسته من جزئية إلى أخرى ، وكيف أنه انتقل من الأجزاء إلى الكليات أو العكس ، وكيف أنه استنبط واستنتج ، وكيف حلل هذه الجزئية وعلى أي أساس ، وكيف أنه تساءل ثم أجاب ، أو كيف أنه ابتدأ بالفرضيات وأثبت صحتها أو خطأها وبأي وسيلة تم ذلك وكيف ، وكيف؟ ولاشك أن مثل هذه الإجراءات المتوارثة منذ أرسطو حتى يومنا هذا ، تظل من مكتسبات أي ناقد أو دارس للأدب ، أو أي باحث في المجالات الأدبية وغير الأدبية ، وهي ليست منهجاً أيضاً ، وفي رأيي أن هذه الإجراءات والسبل في حد ذاتها ليست دليلاً على علمية المضمون ، لأنها باختصار شكلية، وقد أكون شكلياً ملتزماً بأصول البحث العلمي في بحثي عن " الخرافة " وكيف أنها تزاحــم العقائد الدينية ـ مثـــلاً ـ ومن دون أن يكون لدىّ تعريف علمي قاطع للخرافة باعتبارها مادة البحث . كذلك لا يمكنني أن أدعى أن ما قلته (مضمون البحث ) علم بالمعنى الدقيق للكلمة لسبب بسيط هو أن مفهوم الخرافة نفسه يظل ملتبسا ويتوقف في جانب كبير منه على ما أعتبره أنا خرافة ، حتى لو استعنت بآراء مئات الفلاسفة والمفكرين والعلماء حول مفهوم الخرافة ، ومن ثم فالجانب الذاتي في البحث سيظل هو المتحكم في جوهر ما قلت ، وليس في شكله ، وعليه فإنني ملتزم شكليًّا بأصول العلمية فيما أقول ، بيد أن ما قلته يدق خازوقاً في العلم نفسه ، ليس لأننا عجزنا منذ البداية عن تحديد معنى الخرافة وحسب ، بل لأننا فوق هذا عاجزون عن تحديد ما نقصده بقولنا " علم " ، فما كانت الفيزياء الكلاسيكية التي قادها نيوتن تدعيه علماً ، تحول عند أينشتين إلى أدوات يضرب بهـــا عرض الحائط ، وفي الحالتين نحن أمام علم ، ومن ثم : هل العلم هو الثابت الذي لا يتحول ، أم أنه المتحول الذي لا يَثْبُت ؟.
بنفس المنطق ننتقل إلى موضوع الدراسة الأدبية ، فقد يلتزم الدارس شكليًّا أثناء سيره في دراسة عمل أدبي أو نقده، وهو يعي أن عمله يتعلق ضمنياً بضرورة تنظيم أفكاره بجانب وعيه بالنص المنقود ، ومن ثم سيقوم بتأطير عمله في إطار ينظم علاقتة بالنص ، وسيختار أيّاً من الطرق التي عليه أن يتجه فيها للوصول إلى أغوار النص ، وما الذي يمكنه استخلاصه من هذه السياحة الجمالية ... لكنما هل سيظل ـ رغم هذا التنظيم ـ مدعياً بأن ما قاله علم ، ليكون الشكل حكماً على المضمون؟ ... أو بعبارة أخرى استدعاء المضمون العلمي لشكل علمي منظَّم يتناسب معه ... في هذا الإطار يمكنني أن أدَّعى أنني عالم ، لا لشيء إلا لأنني أستطيع تنظيم أفكاري ، وسيكون ادعائي شكليًّا ؛ لأن ما سأقوله في إطار هذا الشكل سيظل موضع جدل حول موضوعيته . وسيظل السؤال مطروحاً : هل ما قلته علم لأنني قرأت الأدب باستقامة تتفق مع الطرق العلمية المتبعة أكاديمياً، أم لأنني حقيقة قلت علماً ؟!
في هذا الإطار نفسه يمكننا أن نعيد السؤال من جديد : ما الذي نقصده بعلمية النقد الأدبي في ضوء الخرافة الأكاديمية التي تدَّعى أن النقد علم دون أن تحدد هل هو علم من حيث الإجراءات أو الممارسات الشكلية وفق أطر محددة أم لأنه يتناول حقيقة موضوعات علمية ، أم لأنه أحكامه وتفسيراته وتعليلاته و شروحاته علمية ، أم لأنه يتبنى نظرية أدبية ما تتمسح هي الأخرى في الموضوعية ؟ .
وعودة إلى التساؤل : ما المنهج ؟
المنهج كما أعيه ، وكما وعاه الدكتور صلاح فضل في كتابه " المذاهب الأدبية " هو الطريقة التي تتم بها معالجة القضايا الأدبية ، والنظر في مظاهر الإبداع الأدبي بأشكاله المختلفة باستخدام أدوات منهجية تتعلق بهذه الطريقة . ولعل هذا الاستخدام يتم في ثلاثة مستويات . الأول : " النظرية الأدبية " إذ إن كل منهج لابد له من نظرية أدبية . الثاني : مجموعة السبل والإجراءات التي يتخذها أصحاب أية نظرية لتحليل الأعمال الأدبية ، والبرهنة على توافق القوانين الداخلية والخارجية لها . الثالث : مستوى الجهاز الاصطلاحي المتداول في إطار النظرية .
هذه هي ـ إذن ـ المستويات أو الأطراف الثلاثة : ( النظرية الأدبية ـ السبل والإجراءات ـ المصطلح ) التي تمثل منظومة متكاملة تبدأ من الإطار الشامل (النظرية ) وتنتهي إلى التقنية المتداولة التي يستعملها أصحاب المنهج في ممارساتهم العملية. لكنما ونحن نعى ذلك .. ألا يجب أن نسأل أنفسنا ما علاقة ذلك بعلمية النقد الأدبي ؟ وقبل أن أجيب أتوجه وجهة أخرى لأسأل : ـ ما الأدب ؟
ـ ما الأدب ؟ :
اعتقد أنه سؤال مشروع أن نبدأ بتعريف الأدب باعتباره مادة الدرس النقدي الأدبي ، غير أنى لا أظن أن ثمة إجابة محددة ـ علمية على نحوٍ ما ـ يمكن أن تكون مرجعاً تاريخيًا ثابتاً للحكم على أدبية أي نص أو لتحديد ماهية الأدب .
بالطبع يمكنني أن أُعرِّف الأدب على طريقة عشاق الفيزياء الكلاسيكية أو فيزياء نيوتن عندما قالوا إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين ، إلى أن جاء أينشتـــين وضرب بهذا الكلام عرض الحائط ، متخيلاً أنه سينظر إلى الأرض من الفضاء ، فإذا هو يرى سطح الأرض بيضاوياً ومن ثم فكل الخطوط فوق سطحها تبدو محدبة أو محنية، ومن ثم يصعب أن نرسم على سطحها خطاً مستقيماً حتى وإن كان أقصر مسافة بين نقطتين .
والمسألة على هذا نسبية ، فالشخص ( س) يرى أن المسافة بين النقطتين أ ، ب على سطح الأرض مستقيمة لأنه يعيش على سطح الأرض والشخص (ص) لا يرى نفس المسافة مستقيمة لأنه ينظر إلى الأرض من المريخ . وقد يكون التعريف قريباً من الصحة لو قلنا إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين في الفراغ . ولكن لأننا لا نعيش في الفراغ . والطبيعة برمتها تأبى الفراغ لذلك نحن مضطرون لتقبل الخطأ العلمي طالما أنه يتفق مع ما ائتلفنا معه .
ثمة ثوابت كثيرة يمكن أن يصدقها العقل لفترة حتى يكتشف عدم دقتها ، تماماً مثلما نقول مع نظريات الأدب كافة إن الأدب هو الاستخدامات المخصوصة للغة ، " ووفقاً لهذه المقولة يكون الأدب نوعاً من الكتابة يمثل ـ كما يقول الناقد الروسي رومان ياكوبسون ـ عنفاً منظماً يُمارس على لغة الحديث العادي " (2) وربما إلى هذا ذهب أيضاً . أ. وارين وهـ . ويليك في كتابهما " نظرية الأدب " عندما تعرضا للإجابة عن السؤال : ما الذي يُعَدُّ أدباً ، وما الذي لا يُعَدّ كذلك ؟ في محاولة لتحديد مادة البحث الأدبي ، فأي منهج نقدي للأدب ينطلق من فرضية أساسية تتصور أن هذا المدروس أدب ؛ لذلك قالا : " إن أبسط وسيلة لحل المسألة هي في تمييز الاستعمال الخاص للغة في الأدب " لكن هذا الثابت يمكن أن ينهار تماماً لو تساءلنا : مخصوص أو خاص بالنسبة لمن ؟ فما يراه شخص استخداماً مخصوصاً للغة قد لا يراه آخر كذلك ، بل قد يراه مبتذلاً أو شائعاً أو مألوفاً أو مأنوساً أو مبتذلاً أو مستهلكاً أو ما شابه ذلك من نعوت، ومن ثم سينزع عن النص أدببته ، ويرتاح إلى قناعاته ، ويتركنا نضرب أخماساً في أسداس ، فقد اتفقا على تعريف الأدب واختلفا حول أدبية النص ، شأن فى ذلك شأن الشكلانيين الروس الذين اتفقوا على تعريف الأدب واختلفوا حول "الأدبية " لكأنهما اتفقا إذن على تعريف الأدب في الفراغ ، ويظل التعريف مقبولاً حتى يقتربا من النص. ولكي يتفقا على أدبية النص لابد لأحدهما أن يتقبل خطأ علمياً في وجهة نظر الآخر.
ثمة تعريف سلبي للغة الأدب بأنها ضد علمية . هذا التعريف أيضاً يظل مُشْكِلاً ؛ فاللغة العلمية لغة نفعية تسعى إلى توصيل معانٍ محددة ، ومن ثم فهي قاطعة ، وتخاطب العقل بطريقة مباشرة ، وعلى العكس من ذلك فإن لغة الأدب لا تسعى إلى توصيل معانٍ محددة ، ومن ثم فهي ضد النفعية ، ولا تخاطب العقل ، وإنما تخاطب الوجدان بطريقة غير مباشرة ، وبناءً هذا التعريف يكون الأدب قابلاً للتعريف وفقاً لكونه خيالياً أو تخيلياً ، وليس صادقاً حرفياً ، ولغته تحمل بعداً تحتياً يخفي كثيراً من المعاني التي لا يُتَوصل إليها مباشرة .
وهكذا قادنا التعريف السلبي للأدب إلى تعريف إيجابي ، بيد أن هذا التعريف لو صَحًّ فإنني ـ وفق ما به ـ سأقرأ ما هو مكتوب على تذكرة الباص " الأتوبيس" من أرقام وحروف ورسوم مجموعة في إطار مستطيلي على أنه أدب . سأنظر إلى هذا التشكيل على أنه عنف منظم ضد لغة الكلام العادي .
صحيح أن المصمم لهذا الشكل الاصطلاحي صاغه ورتب مكوناته بهذه الكيفية على صفحة صغيرة بيضاء مستطيلة ؛ لأداء مهمة نفعية هي ضبط العلاقة بين مستخدم الباص والشركة الناقلة ، وبين موظفي الشركة أنفسهم وجهازهم الحسابي و الإداري ... هذا صحيح أن ما هو مكتوب على التذكرة خطاب سائر ينظم العلاقات ، فيما نعتبره دستوراً عاماً . والإشكالية ليست في هذا طالما أنني سأظل أنظر إلى هذا المكتوب في إطاره النفعي ـ لكنما قد تنشأ الإشكالية عندما أتوجه إليه بغرض غير نفعي لأرى فيه انتظام الإنسان المعاصر في مجموعة من الإشارات والرموز والخطوط والأرقام والحروف التي تحدد مسيرته ووجهته ونهاية مشواره ، كما يمكنني أن أرى ما يدل على تداخلات البعد الأفقي في الفكر الإنساني المعاصر ( بالنظر إلى ما هو مكتوب أفقياً ) مع البعد الرأسي ( بالنظر إلى ما هو مكتوب رأسياً ) تلك التداخلات التي تجعل من الصفحة البيضاء ( الحياة / الطبيعة ) سواداً لا يطاق وتحصر قيم الحياة وانطلاقتها وطلاقتها في إطار مستطيلي صارم يدل على التناهي والانغلاق، ويؤطر الأفق الرؤيوي للإنسان المعاصر بزوايا أربعة للمستطيل ، تعطى دلالتها هي الأخرى في الحصار والانغلاق ، وإن كل ذلك دالة في الحالة المأساوية التي يعيشها هذا الإنسان ( بالنظر إلى خارج النص ) مقارنة بالإنسان البدائي الذي عاش حياة سعيدة ؛ إذ كان يركب القرود والحمير والجمال ، وكان إلى حد كبير مكتفياً بنظرة إلى الظل المترامي أمامه ؛ ليعرف وجهته ، أو نظرة إلى الشمس الساطعة فوقه ليقول إنني هاهنا حرُُّ إذ يمكنني أن أثبِّت أوتاد خيمتي هاهنا ، ولم يكن بحالة مضطراً للحصول على تذكرة الباص / النص ، ومن ثم لم يكن خاضعاً لدستور معقد ينظم على نحو ما حالات السفر والإقامة والمبيت والدفع والمواعيد ، أو ـ باختصارـ ينظم له حياته في مجموعة إشارات وحروف ورموز صغيرة منشورة على صفحة صغيرة ، تتحكم في حريته وتجعله خاضعاً لغيره ، فيما يعد كل هذا انتشاراً وتضاؤلاً لمعنى حياتنا العصرية التي تدعى الانضباط ، وإن كان كل ذلك دالة على تأقزم الإنسان العصري رغم إمكانياته وادعاءاته بأنه أكثر انفتاحاً على الحياة . والى هنا سأكتفي ، وسأكون قد قدمت قراءة لما هو مكتوب على تذكرة الباص معتمداً ـ كما يقول الأكاديميون ـ على منهج تكاملي . إذ لم تنسَ القراءة أن توظف السميوطيقا والبنيوية بجانب المنهج التاريخي والنفسي ولم تهمل البلاغة التقليدية في الطريق . ومن ثم فقد جمعت بين الأصالة والمعاصرة ! وإن كنت قد اتكأت على حدوسى الخاصة وتذوقي الشخصي فقد اتكأت على نظرية التلقي ، أو نقد استجابة القارئ !
هل يمكنني أن أقرر بعد هذا أن ما هو مكتوب على تذكرة الباص قصيدة عصرية رائدة ، وإن شئنا حداثية فذة ، أو يمكنني أن أقرر أنني حققت أو أكسبت النص ( ما هو مكتوب على التذكرة) صفات إغرابية لا يستهدفها منتج النص ( الموظف الذي صمم التذكرة بداية ) ، وإن كان من حقي أن أقرر أنني قرأت نصاً ينتمي إلى الأدب الشعبي مجهول المؤلف ، باعتبار أن المصمم الأول للتذكرة مجهولا ، وإن ظل التصميم مملوكاً للشركة الناقلة وهي بدورها مملوكة للشعب ( قطاع عام ) .
على أية حالة يمكنني أن أنتهي إلى أن طريقة القراءة قد أكسبت النص أدبية ، ومن دون أن يهدف كاتبه إلى إنتاج أدب ما ؛ لأعيد ـ إذن ـ التساؤل من جديد – هل يوجد حقيقة ما يمكن أن أسميه أدباً ؟! وعلى نحوٍ ما في معرض إجابته على هذا التساؤل أتى كتاب " تيرى ايجلتون" : " مقدمة في نظرية الأدب " بما يؤكد في النهاية أنه سيضطر إلى وضع كلمتي ( الأدب ـ الأدبي ) حين يستخدمها تحت علامة شطب غير منظورة ليشير إلى أن هذين المصطلحين ليسا صالحين تماماً لكننا لا نملك أفضل منها في الوقت الراهن.
لقد قدم الدكتور شوقي ضيف في كتابه ( البحث الأدبي ) تعريفاً متشعب المداخل والمخارج والاتجاهات للأدب ، وقد نسب ما قاله للذيوع والشيوع والشهرة إذ بدأ: "والأدب ـ كما هو ذائع مشهور ـ " (4) في محاولة منه لتقديم تعريف أكثر شمولية وإحاطة بكلمة ( الأدب ) باعتباره مادة البحث الأدبي ، وباعتباره ذا طبيعة ـ إلى حدٍ كبير ـ مختلفة . ورغم كل ما قدمه د. شوقي ضيف من تعريف يحاول أن يكون مانعاً جامعاً دقيقاً ، إلا أنه كان خلف ذلك يثبت وبشكل آخر عميق أن الأدب لا يزال معنى مراوغاً وملتبساً وعصيًّا على التحديد والتأطير ، ومن ثم فهو ـ علمياً ـ غير موجود ، رغم أننا نراه كما نرى ضوء الشمس ، الفارق الوحيد أننا عندما نرى ضوء الشمس نعرف من خلال خلفياتنا الحياتية وخبراتنا أن هذا الذي نراه هو ضوء الشمس ، أما في حالة الأدب فنحن نعاين ما نحب أن نراه أدباً ، أو ما أسميناه نحن ـ وعلى نحو غير علمي ـ أدباً .
ولنبدأ مع د. شوقي ضيف في تعريفة للأدب ، يقول : " والأدب ـ كما هو ذائع مشهور ـ يُقصد به إلى إثارة الانفعالات في قلوب القراء والسامعين ، ولذلك كان يعتمد على الخيال ، يعتمد عليه في التركيب الكلى لآثاره ، كما يعتمد عليه في عناصره الجزئية " (5) ثم وبعد شرح وتفسير لهذه الجزئية أضاف : " والأديب يؤدى معاني وخواطر وخوالج وأفكاراً ، وهو ما يفرق بينه وبين الموسيقار ، إذ تؤثر فينا الموسيقى مباشرة ، بدون حاجة إلى فهمها، وقد تؤدى ذلك كله ولكننا لا نحتاج إلى معرفة كي نتمتع بها " (6) ثم وبعد شرح وتفسير لهذه الجزئية أضاف : "من أجل ذلك كان الأديب لا يرتبط بحقيقةٍ ، ولا بصدق وكذب ، وليس معنى هذا أن الأدب لا يؤدى حقيقة البتة ، فقد يؤدى بعض الحقائق ، ولكن هذا ليس غايته ، إذ كل ما فيه إنما مشاعر وأحاسيس وعواطف لا تعبر عن حقيقة ولا عن باطل ، ولاعن صدق ولاعن كذب ، وهو ما يفرق بينه وبين العلم " (7)
إلى هنا نتوقف ـ مرحلياً ـ عن الاسترسال مع الدكتور شوقي ضيف في تعريفه للأدب، لنقف معه بشيء من التأمل لهذه الجزئيات التي سقناها لنكتشف إنها انتهت إلى المفارقة مثلما بدأت بالادعاء .
أما عن المفارقة فإن التعريف جرنا إلى نمط أخلاقي : " الصدق والكذب " للتفريق بين العلم والأدب . وإن كان الدكتور شوقي ضيف قد قرر بعد ذلك أن الصدق والكذب إنما هما نمطان أخلاقيان ولا علاقة للأخلاق بالأدب . وإذا كان الأمر كذلك فكيف نسوغ أن ثمة علاقة بين العلم الأخلاق ؟! لنقول : إن 2+2=4 صادقة ومن ثم فهي أخلاقية بدرجة أكبر من 2+2=5 وإذا كان النمط الأخلاقي يهدف إلى ممارسة الوعظ والتربية الخلقية في المجتمع ومن ثم فلا علاقة له بالأدب أو العلم ، فكيف نجعله في الوقت نفسه هو الفيصل بين العلمي والأدبي ؟! هذه هي المفارقة التي أوقعنا فيها الدكتور شوقي ضيف ، أما عن الادعاء فقد بدأت الفقرة بتعريف الأدبي على أنه الكتابة أو المقولة التخيلية أو تلك التي ليست صادقة حرفياً ، لكن أبسط تأمل فيما يضمه الناس تحت عنوان الأدب ، أو ما تضمه الكتب الأكاديمية تحت مسمى أدب ، أو الكتب المدرسية تحت مسمى نصوص أدبية ـ سيكون كافياً للإيحاء بأن تعريف د. شوقي ضيف للأدب ليس كافياً حتى الآن ؛ فالأدب العربي يضم خطبة لقس بن ساعدة إلى قصيدة لامرئ القيس ، لكنه يتسع فيما بعد لينضم إليه القصص القرآني وألف ليلة وليلة ، ورسالة الغفران للمعرى ، والرسائل والإخوانيات على غرار ما كتب عبد الحميد الكاتب ، ثم لينضم إلى ذلك أخبار العرب التي جمعها الأدباء فيما بعد لاسيما " أبو عبيدة " و التي بقيت لنا مادة غراء في شروح نقائض جرير والفرزدق ، زيادة على كتاب الأغاني للأصفهاني يضاف إلى ذلك الأحاديث النبوية بجانب مآثر علىِّ بن أبى طالب ، ثم ليتسع أكثر لينضم إليه ما كتبه بديع الزمان والحريري من مقامات ، يضاف إلى كل ذلك يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم وبعض مقالاته الأخرى في كتاب " فن الأدب " أو ما كتبه في أواخر حياته من مقالات تحت عنوان " حوار مع الله " ، ثم ليضاف إلى ذلك مقالات يوسف إدريس الصحفية تحت عنوان " مفكرتي " إضافة إلى ذلك ما كتبه طه حسين في حديث الأربعاء.
كل هذه التشكيلة التي أثرت جمعها من غير المحتمل أن تقودنا إلى التمييز بين الحقيقة والخيال ، وليس السبب الوحيد أن التمييز نفسه موضوع شك ، بل لأن التعارض بين الصدق التاريخي ، و الصدق الفني لا ينطبق على الكثير منها ، وكثير منها لا يمكن الحكم عليه إن كان حقيقة أم خيالاً بصورة واضحة ، وكثير منها كُتب على أنه حقيقة وقد يقرأ الآن على أنه خيال ، و العكس صحيح ، و التاريخ الأدبي حافل بالكتابات (الحقيقية ) و إن كان قد استبعد كثيرًا من الكتابات الخيالية ، يكفي ـ كما يقول تيرى ايجلتون ـ أن نعرف أن كلمة "راوية " كانت تستخدم لكل من الأحداث الحقيقية و الخيالية لنقف عند مدى التشويش الذي سنصاب به للفصل بين الحقيقي و الخيالي . و يؤكد تيرى ايجلتون ذلك بقوله : " صحيح أن كثير من الأعمال التي تدرس على أنها أدب في المعاهد الأكاديمية قد أنشئت لكي تُقرأ على أنها أدب ، لكنه صحيح أيضا أن الكثير منها ليس كذلك ، فقد تبدأ قطعة من الكتابة حياتها على أنها تاريخ أو فلسفة ثم توضع في مصاف الأدب ، أو قد تبدأ حياتها على أنها أدب ثم تكتسب قيمتها بسبب دلالتها الأركيولوجية (الأثرية ) . بعض النصوص تولد أدبية ، وبعضها تحقيق الأدبية ، و بعضها نضفي عليه الأدبية ، والتنشئة في هذا الصدد قد تكون راجعة إلى أشياء كثيرة غير الميلاد " .(8)
هل لي بعد كل هذا أن أتساءل : ما الأدب ؟ و قد سبق أن نفيت و جوده ، وأرى أن التساؤل لا يزال مشروعاً أمام محاولات تعريفه .
لا أظن أيضاً أن ما قام به الشكلانيون الروس من استثناء المضمون الأدبي ، والتركيز على دراسة الشكل سيحل المعضلة ؛ " فقد بدأوا ينظرون إلى العمل الأدبي على أنه تجميع اعتباطي "للأدوات "بدرجة أو بأخرى ، في وقت لاحق توصلوا إلى هذه الأدوات على أنها عناصر مترابطة فيما بينها أو " وظائف " ضمن نسق نَصيٍّ كلىَّ ... وكان العامل المشترك بين كل هذه العناصر هو تأثير " الإغراب " أو " نزع الألفة " فالشيء النوعي بالنسبة للغة الأدبية ( ما يميزها عن أشكال الخطابات الأخرى ) هو أنها تشوه اللغة العادية بطرق متنوعة " (9) .
الحقيقة أن المقصود بـ " اللغة العادية " يظل مُشْكِلاً ، هل هي لغة الشارع ، أم لغة الصحافة ، أم لغة التلفاز ، أم لغة المسرح التجاري ، أم لغة الفلاسفة ، أم خطباء المساجد ، أم لغة العمال ، أم ماذا ؟ .
من ناحية أخرى إن صفة الإغراب قد تكون نابعة من الموقف الخارجي الذي يوضع النص في سياقه لا من سياق اللغة نفسها . فمثلاً عبارة من عينة : " إنه عبور مرعب " لو قالها شخص ما وهو يشاهد فيلماً تسجيلياً عن عبور الجنود المصريين لقناة السويس يوم 6 أكتوبر لما تضمن استخدامه اللغة هنا أي صفة إغرابية ، في حين أن نفس العبارة لو قالها طبيب نساء وهو يعاين الجروح والتهتكات التي أحدثها عريس بعروسه ليلة الزفاف لكانت إلى حد كبير إغرابية ، وشعرية تماماً بسبب الحيودات التي أحدثتها الجملة عن اللغة الاعتيادية التي من المفترض أن يقولها طبيب النساء ، ليس هذا فحسب بل لأنها انطوت على بعد استعاري يضع العريس موضع الجندي والفرج موضع قناة السويس والعلاقة الحميمة موضع العلاقة العدائية العنيفة ، أو بالمعنى وضعت المستبعد موضع المفترض ومن ثم فهي مدهشة لكسرها لتوقعاتنا.
إذا كان الأمر هكذا ... وإذا كان الجدال يبدأ من اعتبار الأدب عصياً على التحديد والتعريف ، وينتهي إلى أن الأدب لا وجود له ، فكيف يمكن في هذه الحالة أن توجد (نظرية الأدب ) بدورها؟
ناقد بغير خرافة :
في كتابة " قضايا أدبية عامه" يوضح " إيما نويل فريس" الفارق بين النقد والقراءة : " وبدهي القول أن النقد هو ردة فعل على قراءة ، وفى الغالب هو كتابة عن قراءة " وبهذا المعنى فإن النقد يبدأ بالقراءة التي تعنى التأويل . إذن ليس كل قارئ ناقدًا ولكن يمكن أن يتحول إلى ناقد .
وإذا كانت نظريات النقد الأدبي معنية بتأطير أفكار الناقد وتوجيهها وجهة محددة للوصول إلى نتائج محددة فما شأنها إذن بالقارئ المعنى ُّ بتقديم حصيلة وعيه بالنصوص.
قارئ النصوص ليس معنياً بالعلم إن كان الصيد أمام بيته و لا شيء مما يفعله قريب من الاحتراف. وربما هكذا صرح " مونتانى " ( القارئ النموذجي ) ، كما صوره لنا " فاغيه أوألان " (1868 ـ 1951) :" إن مونتانى مهمل ؛ فهو يتسلى بنسخ قصائد الشعراء والتعليق عليها باسترخاء إلى أن تأخذ عقبة ما بتلابيبه ، عند ذاك يصبح حيوياً وشديداً ، فيدهش ، وينفذ . ومن يقر أ مونتانى يسر معه ، ويشعر باندفاع مفاجئ كاندفاعه " (10) إنه نموذج للقارئ الذي يتحرك بحرية ومرونة تسمحان بتأويلات مختلفة ، ربما أنه لاهتمامه بالسياسة والحكمة والحرية قادر على أن يكون ـ على حد تعبير مترجم كتاب إيما نويل فريس (قضايا أدبية عامة ) ـ " مع التغلبيين هو من بكر ، ومع البكريين هو من تغلب " ، هو نقبض القارئ الأكاديمي المحروم من المتعة والحرية الذي يغلق نفسه وربما يقهرها على استقبال وقراءة نصوص بعينها ، ومن ثم يغلق نفسه عليها لأنها تتعلق بموضوع بحثه المزمع . ولنستمع إلى مونتانى وهو يتحدث عن نفسه : " أتمنى أن أفهم الأشياء تماماً ، ولكنني لا أريد أن أشترى هذا الفهم بسعره الغالي ، فخطتي أن أمضى ما تبقى من عمري في الراحة لا في الجهد ، فلا شيء عندي يستحق أن أتعب رأسي لأجله ، حتى العلم ، مهما غلا ثمنه . لا أبحث في الكتاب إلا عن اللذة التي توفرها تسلية شريفة ، وإذا درست فإنني لا أبحث إلا عن العلم الذي يتناول معرفة الذات ويعلمني كيف أموت جيداً ، وكيف أعيش جيداً " (11) .
إن قارئاً مثل مونتانى صالح لإبداء رأيه في النصوص لا من منطلق قراءته للأدب باستقامة ، ولا من خلال انتظام أفكاره في منهج محدد ، بل من خلال ما ترسخ لديه من وعي بعلم النص ، إن معاقرته الدائمة للنصوص بجانب ثقافته المتنوعة وحيويته الدائمة تؤهله للحكم على النصوص ، ومن ثم فهو إلى حدٍ كبير قادر على ممارسة النقد ، هو قارئ نموذجي تحوَّل إلى ناقد ، وهو صورة للناقد الذي يمارس التفسير الذاتي الشخصي المؤهل للحكم على النصوص ، والنظر فيها ، ومن هذه الناحية هو ناقد ، وإن كان بغير حاجة إلى نظرية نقدية تؤطر له أفكاره في إطار ممنهج ،هو ليس في حاجة إلى هذا لسبب بسيط يتعلق بعدم ادعائه بأن ما يقوله علم ، أو يخضع لصفة العلمية . ودعونا نستمع إلى " فولتير " وهو يدافع عن مونتانى ، أمام من اتهموه بأنه لا يفعل سوى التعليق على القدماء : " أي ظلم صارخ أن نقول إن مونتانى لم يفعل سوى التعليق على القدماء ! إنه يستشهد بهم في الوقت المناسب ، وهذا ما لا يفعله المعلقون ، هو يفكر وهؤلاء السادة لا يفكرون، وهو يدعم أفكاره بأفكار كل الأقدمين الكبار ، ويحكم عليهم ويجادلهم ويحادثهم ، ويحادث قارئه ، ويحادث نفسه ، إنه أصيل دائماً في طريقة تقديم الأشياء ، وواسع الخيال ، ومصور ، وما أحبه فيه أنه يعرف دائماً أن يشك " ( 12 )
وإذا كان الشك يؤدى إلى اليقين ، فهو أصل ، وهو منهج للوصول إلى اليقين ومن ثمَّ فإن المنهجة تتحول عند مونتانى إلى طبع ، وإلى تلقائية ، وليس تخطيطاً إجرائياً خارجياً يظل ينظر إليه في الطريق، وإن كان الأحرى أن يقال إن الشك " نتيجة الفعل النقدي ؛ لأن الحكم ـ بحسب المعنى الاشتقاقي لكلمة نقد ـ يفترض أن نفحص ، أن نسأل ، وأن نهتم ، لهذا لا يمكن أن يقوم النقد من دون قراءة وتأويل " (13 ) إن مونتانى ـ إذن ـ نموذج للقارئ الناقد المتفلِّت من الالتزام الشكلي بفكرة المنهج الخاضع لنظرية نقدية ما ، مثل هذا القارئ الناقد هو في حد ذاته كان أساساً لنظريات أدبية كثيرة تنظر إليه وتحلل عمله والكيفية أو الآلية التي يعمل بها مثل نظريات " التخاطب " و " جماليات التقبل " و " التأثير والاتصال " و " نقد استجابة القارئ " ... الخ
إنه نوع من النقاد المفنين ، الخارجين عن الأطر المكبلة لحرياتهم ، وهم لذلك أقرب إلى الأدب باعتباره فنًا ، وباعتباره وليد الحرية ، ربما لذلك هو معنيٌّ بتقبل النص واستكناه أغواره ، قبل أن يكون معنيًّا بخدمة منهج ما ، أو الإخلاص له ، أوـ كما يقول تيرى ايجلتون ـ هو نوع من النقاد الذين ينفرون من فكرة المنهج برمتها " ويفضلون أن يعملوا بواسطة الومضات والإحساسات الباطنة ، بواسطة الحدس والإدراكات المباغتة " ( 14 )
ومع هذا يجب ألا يؤخذ هذا التبرؤ من المنهج بجدية تامة " لأن الومضات والإحساسات الباطنة التي تعتريه ستعتمد على بنية كامنة من الافتراضات تعادل في عنادها بنية أي بنيوي " (15 ) .
كثير من النقاد يعدلون مونتانى في ثقافتهم الموسوعية ، وفى قدرتهم على الفهم والتحليل للنصوص ، وفى نفورهم من المنهج في الوقت نفسه لكنهم إذ يخجلون أمام سلطة الأكاديمية من إعلان تبرئهم من فكرة المنهج يضطرون إلى الإعلان عن تبنيهم للمنهج التكاملي حيث استضافة النصوص وممارسة النظر إليها من جميع الجوانب مستفيدين من جميع المناهج ، ولا أراهم بذلك إلا فارين من الخرافة إلى خرافة أوسع .
( يُتبع )
عبدالجواد خفاجي
إذا كان هناك ما يُسمَّى بعلمية النقد الأدبي فمن البديهي أن نسأل : بماذا صار النقد علماً ؟ ، فثمة خرافة أكاديمية قديمة ـ على حد تعبير تيري إيجلتون ـ تدَّعى أن النقد علم ، وأنه لكي يكون كذلك يجب أن نكرس له أكبر قدر من المنهجية . والحقيقة أننا ـ ومهما كان ادعاؤنا بأن النقد علم ـ يجب أن نتوقف عند إمكانية أن يكون المنهج النقدي هو سبب علمية النقد. والإشكالية يجب أن تبدأ بالتساؤل : ما المنهج ؟
فالملاحظ أن المفاهيم مختلطة حول هذه الكلمة ، فالبعض يخلط بين المنهج بمعناه اللغوي ( المنهاج ) وبين المنهج بمعناه الاصطلاحي ، والبعض يخلط بين المنهج بمعناه العام ، والمنهج النقدي بمفهومه الخاص ، ومن ثم عندما نقرأ دراسات هؤلاء نستشعر أنهم لا يفرقون بين الطريق المعبَّد الذي ستسير فيه الدراسة ( الخطوات الإجرائية) التي يهتمون بتوصيفها وبين المنهج النقدي . وقد نلتفت إلى تساؤل طرحه د. عبد الله أحمد بن عتو ، وهو على أية حالة نفس تساؤلنا : ـ ما المنهج ؟ وفي الإجابة قال : " إننا ننظر إلى المنهج ليس باعتباره مجرد أسلوب ، أو وسيلة تضبطها خطة وقواعد تيَسِّر السير في البحث عن الحقيقة ، وتساعد على الوصول إلى نتائج معينة ، ولكن ننظر إليه كمنظومة مكتملة بالوعي والرؤيا المشكلين لروح المنهج وكنهه اللامرئي ، وتنتهي بالعناصر اللازمة لتحقيق ذلك الوعي ، وتلك الرؤيا من خلال الكشف والفحص والدرس والتحليل والبرهنة ، للإثبات أو النفي " (1) وإن كان د. عبد الله بن عتو قد اعتمد في إجابته عن السؤال على رأي آخر هو د. عباس الجراري في كتابه " خطاب المنهج " بما يعكس قناعة الاثنين بالإجابة المقدمة إلا أننا لو تأملنا رأيهما للاحظنا أنهما بدءا بنفي ما هو خاطئ من مفاهيم عن المنهج ، وانتهيا إلى تفسير الماء ـ بعد الجهد ـ بالماء .
وما هو خاطئ كرسته الجامعة المعاصرة إذ تضع حدوداً صارمة وهمية في الغالب رغبة منها في ترسيم معالم الدراسات المقدمة لنيل الدرجات العلمية ، وهو أمر لازم وضروري للمتتلمذ حيث لابد من ترسيم الطريق الذي سيسير فيه حتى لا يضل، ومن جهة أخرى يَسهُل على أستاذه المشرف أن يحاسبه على حياده عن الطريق المحدد سلفاً ، وفي رأيي أن ذلك ضروريًا لضبط خطوات الدارس / التلميذ إذ يسير في دراسته ، وهي خطوة استثنائية في حياة التلميذ العلمية قد يجتازها ويتجاوز عنها إذ يمارس عمله النقدي في مراحل حياته التالية ، وقد أصبح محترفاً . فمما لاشك أن قارئ الدراسات الأدبية ليس بحاجة لمعرفة الطريقة أو الطرق التي سار أو سيسير فيها الدارس للوصول إلى " روما " / النص ؛ طالما أن كل الطرق تؤدى إلى روما فما يعنى قارئ الدراسات أن يعاين ـ مع الدارس ـ روما نفسها. ثم .. ما علاقة ذلك الإجراء بالمنهج ؟ ألم أقل إنهم يخلطون بين المنهج والمنهاج ؟! إن أي استراتيجية يمكن أن يستعين الدارس بها ـ ومن دون توصيفها بداية للقارئ ، أو العناية بإثباتها خطاً ـ تظل ضرورية للدارس نفسه لإتمام دراسته الأدبية ، بل لابد أن تكون من ضمن التزاماته الضمنية ... هذه الاستراتيجية يمكن أن تسمى منهاجاً أو سبلاً إجرائية ، وهي شيء مختلف عن المنهج النقدي . وفي رأيي أن هذه السبل الإجرائية لا علاقة لها بكون الدراسة الأدبية المنجزة مكتسِبةً لصفة العلمية أو مجردة منها ، لسبب بسيط يبدو بديهياً : فكل الدراسات الأدبية تسير ـ بشكل علني أو ضمني ـ في إطار استراتيجية ما ، واضحة أو شبه واضحة المعالم ، وهي التي تحدد كيفية سير الناقد / الدارس إجرائياً في دراسته . وبمعاينة أية دراسة سنكتشف كيف تَنقَّل الدارس في دراسته من جزئية إلى أخرى ، وكيف أنه انتقل من الأجزاء إلى الكليات أو العكس ، وكيف أنه استنبط واستنتج ، وكيف حلل هذه الجزئية وعلى أي أساس ، وكيف أنه تساءل ثم أجاب ، أو كيف أنه ابتدأ بالفرضيات وأثبت صحتها أو خطأها وبأي وسيلة تم ذلك وكيف ، وكيف؟ ولاشك أن مثل هذه الإجراءات المتوارثة منذ أرسطو حتى يومنا هذا ، تظل من مكتسبات أي ناقد أو دارس للأدب ، أو أي باحث في المجالات الأدبية وغير الأدبية ، وهي ليست منهجاً أيضاً ، وفي رأيي أن هذه الإجراءات والسبل في حد ذاتها ليست دليلاً على علمية المضمون ، لأنها باختصار شكلية، وقد أكون شكلياً ملتزماً بأصول البحث العلمي في بحثي عن " الخرافة " وكيف أنها تزاحــم العقائد الدينية ـ مثـــلاً ـ ومن دون أن يكون لدىّ تعريف علمي قاطع للخرافة باعتبارها مادة البحث . كذلك لا يمكنني أن أدعى أن ما قلته (مضمون البحث ) علم بالمعنى الدقيق للكلمة لسبب بسيط هو أن مفهوم الخرافة نفسه يظل ملتبسا ويتوقف في جانب كبير منه على ما أعتبره أنا خرافة ، حتى لو استعنت بآراء مئات الفلاسفة والمفكرين والعلماء حول مفهوم الخرافة ، ومن ثم فالجانب الذاتي في البحث سيظل هو المتحكم في جوهر ما قلت ، وليس في شكله ، وعليه فإنني ملتزم شكليًّا بأصول العلمية فيما أقول ، بيد أن ما قلته يدق خازوقاً في العلم نفسه ، ليس لأننا عجزنا منذ البداية عن تحديد معنى الخرافة وحسب ، بل لأننا فوق هذا عاجزون عن تحديد ما نقصده بقولنا " علم " ، فما كانت الفيزياء الكلاسيكية التي قادها نيوتن تدعيه علماً ، تحول عند أينشتين إلى أدوات يضرب بهـــا عرض الحائط ، وفي الحالتين نحن أمام علم ، ومن ثم : هل العلم هو الثابت الذي لا يتحول ، أم أنه المتحول الذي لا يَثْبُت ؟.
بنفس المنطق ننتقل إلى موضوع الدراسة الأدبية ، فقد يلتزم الدارس شكليًّا أثناء سيره في دراسة عمل أدبي أو نقده، وهو يعي أن عمله يتعلق ضمنياً بضرورة تنظيم أفكاره بجانب وعيه بالنص المنقود ، ومن ثم سيقوم بتأطير عمله في إطار ينظم علاقتة بالنص ، وسيختار أيّاً من الطرق التي عليه أن يتجه فيها للوصول إلى أغوار النص ، وما الذي يمكنه استخلاصه من هذه السياحة الجمالية ... لكنما هل سيظل ـ رغم هذا التنظيم ـ مدعياً بأن ما قاله علم ، ليكون الشكل حكماً على المضمون؟ ... أو بعبارة أخرى استدعاء المضمون العلمي لشكل علمي منظَّم يتناسب معه ... في هذا الإطار يمكنني أن أدَّعى أنني عالم ، لا لشيء إلا لأنني أستطيع تنظيم أفكاري ، وسيكون ادعائي شكليًّا ؛ لأن ما سأقوله في إطار هذا الشكل سيظل موضع جدل حول موضوعيته . وسيظل السؤال مطروحاً : هل ما قلته علم لأنني قرأت الأدب باستقامة تتفق مع الطرق العلمية المتبعة أكاديمياً، أم لأنني حقيقة قلت علماً ؟!
في هذا الإطار نفسه يمكننا أن نعيد السؤال من جديد : ما الذي نقصده بعلمية النقد الأدبي في ضوء الخرافة الأكاديمية التي تدَّعى أن النقد علم دون أن تحدد هل هو علم من حيث الإجراءات أو الممارسات الشكلية وفق أطر محددة أم لأنه يتناول حقيقة موضوعات علمية ، أم لأنه أحكامه وتفسيراته وتعليلاته و شروحاته علمية ، أم لأنه يتبنى نظرية أدبية ما تتمسح هي الأخرى في الموضوعية ؟ .
وعودة إلى التساؤل : ما المنهج ؟
المنهج كما أعيه ، وكما وعاه الدكتور صلاح فضل في كتابه " المذاهب الأدبية " هو الطريقة التي تتم بها معالجة القضايا الأدبية ، والنظر في مظاهر الإبداع الأدبي بأشكاله المختلفة باستخدام أدوات منهجية تتعلق بهذه الطريقة . ولعل هذا الاستخدام يتم في ثلاثة مستويات . الأول : " النظرية الأدبية " إذ إن كل منهج لابد له من نظرية أدبية . الثاني : مجموعة السبل والإجراءات التي يتخذها أصحاب أية نظرية لتحليل الأعمال الأدبية ، والبرهنة على توافق القوانين الداخلية والخارجية لها . الثالث : مستوى الجهاز الاصطلاحي المتداول في إطار النظرية .
هذه هي ـ إذن ـ المستويات أو الأطراف الثلاثة : ( النظرية الأدبية ـ السبل والإجراءات ـ المصطلح ) التي تمثل منظومة متكاملة تبدأ من الإطار الشامل (النظرية ) وتنتهي إلى التقنية المتداولة التي يستعملها أصحاب المنهج في ممارساتهم العملية. لكنما ونحن نعى ذلك .. ألا يجب أن نسأل أنفسنا ما علاقة ذلك بعلمية النقد الأدبي ؟ وقبل أن أجيب أتوجه وجهة أخرى لأسأل : ـ ما الأدب ؟
ـ ما الأدب ؟ :
اعتقد أنه سؤال مشروع أن نبدأ بتعريف الأدب باعتباره مادة الدرس النقدي الأدبي ، غير أنى لا أظن أن ثمة إجابة محددة ـ علمية على نحوٍ ما ـ يمكن أن تكون مرجعاً تاريخيًا ثابتاً للحكم على أدبية أي نص أو لتحديد ماهية الأدب .
بالطبع يمكنني أن أُعرِّف الأدب على طريقة عشاق الفيزياء الكلاسيكية أو فيزياء نيوتن عندما قالوا إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين ، إلى أن جاء أينشتـــين وضرب بهذا الكلام عرض الحائط ، متخيلاً أنه سينظر إلى الأرض من الفضاء ، فإذا هو يرى سطح الأرض بيضاوياً ومن ثم فكل الخطوط فوق سطحها تبدو محدبة أو محنية، ومن ثم يصعب أن نرسم على سطحها خطاً مستقيماً حتى وإن كان أقصر مسافة بين نقطتين .
والمسألة على هذا نسبية ، فالشخص ( س) يرى أن المسافة بين النقطتين أ ، ب على سطح الأرض مستقيمة لأنه يعيش على سطح الأرض والشخص (ص) لا يرى نفس المسافة مستقيمة لأنه ينظر إلى الأرض من المريخ . وقد يكون التعريف قريباً من الصحة لو قلنا إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين في الفراغ . ولكن لأننا لا نعيش في الفراغ . والطبيعة برمتها تأبى الفراغ لذلك نحن مضطرون لتقبل الخطأ العلمي طالما أنه يتفق مع ما ائتلفنا معه .
ثمة ثوابت كثيرة يمكن أن يصدقها العقل لفترة حتى يكتشف عدم دقتها ، تماماً مثلما نقول مع نظريات الأدب كافة إن الأدب هو الاستخدامات المخصوصة للغة ، " ووفقاً لهذه المقولة يكون الأدب نوعاً من الكتابة يمثل ـ كما يقول الناقد الروسي رومان ياكوبسون ـ عنفاً منظماً يُمارس على لغة الحديث العادي " (2) وربما إلى هذا ذهب أيضاً . أ. وارين وهـ . ويليك في كتابهما " نظرية الأدب " عندما تعرضا للإجابة عن السؤال : ما الذي يُعَدُّ أدباً ، وما الذي لا يُعَدّ كذلك ؟ في محاولة لتحديد مادة البحث الأدبي ، فأي منهج نقدي للأدب ينطلق من فرضية أساسية تتصور أن هذا المدروس أدب ؛ لذلك قالا : " إن أبسط وسيلة لحل المسألة هي في تمييز الاستعمال الخاص للغة في الأدب " لكن هذا الثابت يمكن أن ينهار تماماً لو تساءلنا : مخصوص أو خاص بالنسبة لمن ؟ فما يراه شخص استخداماً مخصوصاً للغة قد لا يراه آخر كذلك ، بل قد يراه مبتذلاً أو شائعاً أو مألوفاً أو مأنوساً أو مبتذلاً أو مستهلكاً أو ما شابه ذلك من نعوت، ومن ثم سينزع عن النص أدببته ، ويرتاح إلى قناعاته ، ويتركنا نضرب أخماساً في أسداس ، فقد اتفقا على تعريف الأدب واختلفا حول أدبية النص ، شأن فى ذلك شأن الشكلانيين الروس الذين اتفقوا على تعريف الأدب واختلفوا حول "الأدبية " لكأنهما اتفقا إذن على تعريف الأدب في الفراغ ، ويظل التعريف مقبولاً حتى يقتربا من النص. ولكي يتفقا على أدبية النص لابد لأحدهما أن يتقبل خطأ علمياً في وجهة نظر الآخر.
ثمة تعريف سلبي للغة الأدب بأنها ضد علمية . هذا التعريف أيضاً يظل مُشْكِلاً ؛ فاللغة العلمية لغة نفعية تسعى إلى توصيل معانٍ محددة ، ومن ثم فهي قاطعة ، وتخاطب العقل بطريقة مباشرة ، وعلى العكس من ذلك فإن لغة الأدب لا تسعى إلى توصيل معانٍ محددة ، ومن ثم فهي ضد النفعية ، ولا تخاطب العقل ، وإنما تخاطب الوجدان بطريقة غير مباشرة ، وبناءً هذا التعريف يكون الأدب قابلاً للتعريف وفقاً لكونه خيالياً أو تخيلياً ، وليس صادقاً حرفياً ، ولغته تحمل بعداً تحتياً يخفي كثيراً من المعاني التي لا يُتَوصل إليها مباشرة .
وهكذا قادنا التعريف السلبي للأدب إلى تعريف إيجابي ، بيد أن هذا التعريف لو صَحًّ فإنني ـ وفق ما به ـ سأقرأ ما هو مكتوب على تذكرة الباص " الأتوبيس" من أرقام وحروف ورسوم مجموعة في إطار مستطيلي على أنه أدب . سأنظر إلى هذا التشكيل على أنه عنف منظم ضد لغة الكلام العادي .
صحيح أن المصمم لهذا الشكل الاصطلاحي صاغه ورتب مكوناته بهذه الكيفية على صفحة صغيرة بيضاء مستطيلة ؛ لأداء مهمة نفعية هي ضبط العلاقة بين مستخدم الباص والشركة الناقلة ، وبين موظفي الشركة أنفسهم وجهازهم الحسابي و الإداري ... هذا صحيح أن ما هو مكتوب على التذكرة خطاب سائر ينظم العلاقات ، فيما نعتبره دستوراً عاماً . والإشكالية ليست في هذا طالما أنني سأظل أنظر إلى هذا المكتوب في إطاره النفعي ـ لكنما قد تنشأ الإشكالية عندما أتوجه إليه بغرض غير نفعي لأرى فيه انتظام الإنسان المعاصر في مجموعة من الإشارات والرموز والخطوط والأرقام والحروف التي تحدد مسيرته ووجهته ونهاية مشواره ، كما يمكنني أن أرى ما يدل على تداخلات البعد الأفقي في الفكر الإنساني المعاصر ( بالنظر إلى ما هو مكتوب أفقياً ) مع البعد الرأسي ( بالنظر إلى ما هو مكتوب رأسياً ) تلك التداخلات التي تجعل من الصفحة البيضاء ( الحياة / الطبيعة ) سواداً لا يطاق وتحصر قيم الحياة وانطلاقتها وطلاقتها في إطار مستطيلي صارم يدل على التناهي والانغلاق، ويؤطر الأفق الرؤيوي للإنسان المعاصر بزوايا أربعة للمستطيل ، تعطى دلالتها هي الأخرى في الحصار والانغلاق ، وإن كل ذلك دالة في الحالة المأساوية التي يعيشها هذا الإنسان ( بالنظر إلى خارج النص ) مقارنة بالإنسان البدائي الذي عاش حياة سعيدة ؛ إذ كان يركب القرود والحمير والجمال ، وكان إلى حد كبير مكتفياً بنظرة إلى الظل المترامي أمامه ؛ ليعرف وجهته ، أو نظرة إلى الشمس الساطعة فوقه ليقول إنني هاهنا حرُُّ إذ يمكنني أن أثبِّت أوتاد خيمتي هاهنا ، ولم يكن بحالة مضطراً للحصول على تذكرة الباص / النص ، ومن ثم لم يكن خاضعاً لدستور معقد ينظم على نحو ما حالات السفر والإقامة والمبيت والدفع والمواعيد ، أو ـ باختصارـ ينظم له حياته في مجموعة إشارات وحروف ورموز صغيرة منشورة على صفحة صغيرة ، تتحكم في حريته وتجعله خاضعاً لغيره ، فيما يعد كل هذا انتشاراً وتضاؤلاً لمعنى حياتنا العصرية التي تدعى الانضباط ، وإن كان كل ذلك دالة على تأقزم الإنسان العصري رغم إمكانياته وادعاءاته بأنه أكثر انفتاحاً على الحياة . والى هنا سأكتفي ، وسأكون قد قدمت قراءة لما هو مكتوب على تذكرة الباص معتمداً ـ كما يقول الأكاديميون ـ على منهج تكاملي . إذ لم تنسَ القراءة أن توظف السميوطيقا والبنيوية بجانب المنهج التاريخي والنفسي ولم تهمل البلاغة التقليدية في الطريق . ومن ثم فقد جمعت بين الأصالة والمعاصرة ! وإن كنت قد اتكأت على حدوسى الخاصة وتذوقي الشخصي فقد اتكأت على نظرية التلقي ، أو نقد استجابة القارئ !
هل يمكنني أن أقرر بعد هذا أن ما هو مكتوب على تذكرة الباص قصيدة عصرية رائدة ، وإن شئنا حداثية فذة ، أو يمكنني أن أقرر أنني حققت أو أكسبت النص ( ما هو مكتوب على التذكرة) صفات إغرابية لا يستهدفها منتج النص ( الموظف الذي صمم التذكرة بداية ) ، وإن كان من حقي أن أقرر أنني قرأت نصاً ينتمي إلى الأدب الشعبي مجهول المؤلف ، باعتبار أن المصمم الأول للتذكرة مجهولا ، وإن ظل التصميم مملوكاً للشركة الناقلة وهي بدورها مملوكة للشعب ( قطاع عام ) .
على أية حالة يمكنني أن أنتهي إلى أن طريقة القراءة قد أكسبت النص أدبية ، ومن دون أن يهدف كاتبه إلى إنتاج أدب ما ؛ لأعيد ـ إذن ـ التساؤل من جديد – هل يوجد حقيقة ما يمكن أن أسميه أدباً ؟! وعلى نحوٍ ما في معرض إجابته على هذا التساؤل أتى كتاب " تيرى ايجلتون" : " مقدمة في نظرية الأدب " بما يؤكد في النهاية أنه سيضطر إلى وضع كلمتي ( الأدب ـ الأدبي ) حين يستخدمها تحت علامة شطب غير منظورة ليشير إلى أن هذين المصطلحين ليسا صالحين تماماً لكننا لا نملك أفضل منها في الوقت الراهن.
لقد قدم الدكتور شوقي ضيف في كتابه ( البحث الأدبي ) تعريفاً متشعب المداخل والمخارج والاتجاهات للأدب ، وقد نسب ما قاله للذيوع والشيوع والشهرة إذ بدأ: "والأدب ـ كما هو ذائع مشهور ـ " (4) في محاولة منه لتقديم تعريف أكثر شمولية وإحاطة بكلمة ( الأدب ) باعتباره مادة البحث الأدبي ، وباعتباره ذا طبيعة ـ إلى حدٍ كبير ـ مختلفة . ورغم كل ما قدمه د. شوقي ضيف من تعريف يحاول أن يكون مانعاً جامعاً دقيقاً ، إلا أنه كان خلف ذلك يثبت وبشكل آخر عميق أن الأدب لا يزال معنى مراوغاً وملتبساً وعصيًّا على التحديد والتأطير ، ومن ثم فهو ـ علمياً ـ غير موجود ، رغم أننا نراه كما نرى ضوء الشمس ، الفارق الوحيد أننا عندما نرى ضوء الشمس نعرف من خلال خلفياتنا الحياتية وخبراتنا أن هذا الذي نراه هو ضوء الشمس ، أما في حالة الأدب فنحن نعاين ما نحب أن نراه أدباً ، أو ما أسميناه نحن ـ وعلى نحو غير علمي ـ أدباً .
ولنبدأ مع د. شوقي ضيف في تعريفة للأدب ، يقول : " والأدب ـ كما هو ذائع مشهور ـ يُقصد به إلى إثارة الانفعالات في قلوب القراء والسامعين ، ولذلك كان يعتمد على الخيال ، يعتمد عليه في التركيب الكلى لآثاره ، كما يعتمد عليه في عناصره الجزئية " (5) ثم وبعد شرح وتفسير لهذه الجزئية أضاف : " والأديب يؤدى معاني وخواطر وخوالج وأفكاراً ، وهو ما يفرق بينه وبين الموسيقار ، إذ تؤثر فينا الموسيقى مباشرة ، بدون حاجة إلى فهمها، وقد تؤدى ذلك كله ولكننا لا نحتاج إلى معرفة كي نتمتع بها " (6) ثم وبعد شرح وتفسير لهذه الجزئية أضاف : "من أجل ذلك كان الأديب لا يرتبط بحقيقةٍ ، ولا بصدق وكذب ، وليس معنى هذا أن الأدب لا يؤدى حقيقة البتة ، فقد يؤدى بعض الحقائق ، ولكن هذا ليس غايته ، إذ كل ما فيه إنما مشاعر وأحاسيس وعواطف لا تعبر عن حقيقة ولا عن باطل ، ولاعن صدق ولاعن كذب ، وهو ما يفرق بينه وبين العلم " (7)
إلى هنا نتوقف ـ مرحلياً ـ عن الاسترسال مع الدكتور شوقي ضيف في تعريفه للأدب، لنقف معه بشيء من التأمل لهذه الجزئيات التي سقناها لنكتشف إنها انتهت إلى المفارقة مثلما بدأت بالادعاء .
أما عن المفارقة فإن التعريف جرنا إلى نمط أخلاقي : " الصدق والكذب " للتفريق بين العلم والأدب . وإن كان الدكتور شوقي ضيف قد قرر بعد ذلك أن الصدق والكذب إنما هما نمطان أخلاقيان ولا علاقة للأخلاق بالأدب . وإذا كان الأمر كذلك فكيف نسوغ أن ثمة علاقة بين العلم الأخلاق ؟! لنقول : إن 2+2=4 صادقة ومن ثم فهي أخلاقية بدرجة أكبر من 2+2=5 وإذا كان النمط الأخلاقي يهدف إلى ممارسة الوعظ والتربية الخلقية في المجتمع ومن ثم فلا علاقة له بالأدب أو العلم ، فكيف نجعله في الوقت نفسه هو الفيصل بين العلمي والأدبي ؟! هذه هي المفارقة التي أوقعنا فيها الدكتور شوقي ضيف ، أما عن الادعاء فقد بدأت الفقرة بتعريف الأدبي على أنه الكتابة أو المقولة التخيلية أو تلك التي ليست صادقة حرفياً ، لكن أبسط تأمل فيما يضمه الناس تحت عنوان الأدب ، أو ما تضمه الكتب الأكاديمية تحت مسمى أدب ، أو الكتب المدرسية تحت مسمى نصوص أدبية ـ سيكون كافياً للإيحاء بأن تعريف د. شوقي ضيف للأدب ليس كافياً حتى الآن ؛ فالأدب العربي يضم خطبة لقس بن ساعدة إلى قصيدة لامرئ القيس ، لكنه يتسع فيما بعد لينضم إليه القصص القرآني وألف ليلة وليلة ، ورسالة الغفران للمعرى ، والرسائل والإخوانيات على غرار ما كتب عبد الحميد الكاتب ، ثم لينضم إلى ذلك أخبار العرب التي جمعها الأدباء فيما بعد لاسيما " أبو عبيدة " و التي بقيت لنا مادة غراء في شروح نقائض جرير والفرزدق ، زيادة على كتاب الأغاني للأصفهاني يضاف إلى ذلك الأحاديث النبوية بجانب مآثر علىِّ بن أبى طالب ، ثم ليتسع أكثر لينضم إليه ما كتبه بديع الزمان والحريري من مقامات ، يضاف إلى كل ذلك يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم وبعض مقالاته الأخرى في كتاب " فن الأدب " أو ما كتبه في أواخر حياته من مقالات تحت عنوان " حوار مع الله " ، ثم ليضاف إلى ذلك مقالات يوسف إدريس الصحفية تحت عنوان " مفكرتي " إضافة إلى ذلك ما كتبه طه حسين في حديث الأربعاء.
كل هذه التشكيلة التي أثرت جمعها من غير المحتمل أن تقودنا إلى التمييز بين الحقيقة والخيال ، وليس السبب الوحيد أن التمييز نفسه موضوع شك ، بل لأن التعارض بين الصدق التاريخي ، و الصدق الفني لا ينطبق على الكثير منها ، وكثير منها لا يمكن الحكم عليه إن كان حقيقة أم خيالاً بصورة واضحة ، وكثير منها كُتب على أنه حقيقة وقد يقرأ الآن على أنه خيال ، و العكس صحيح ، و التاريخ الأدبي حافل بالكتابات (الحقيقية ) و إن كان قد استبعد كثيرًا من الكتابات الخيالية ، يكفي ـ كما يقول تيرى ايجلتون ـ أن نعرف أن كلمة "راوية " كانت تستخدم لكل من الأحداث الحقيقية و الخيالية لنقف عند مدى التشويش الذي سنصاب به للفصل بين الحقيقي و الخيالي . و يؤكد تيرى ايجلتون ذلك بقوله : " صحيح أن كثير من الأعمال التي تدرس على أنها أدب في المعاهد الأكاديمية قد أنشئت لكي تُقرأ على أنها أدب ، لكنه صحيح أيضا أن الكثير منها ليس كذلك ، فقد تبدأ قطعة من الكتابة حياتها على أنها تاريخ أو فلسفة ثم توضع في مصاف الأدب ، أو قد تبدأ حياتها على أنها أدب ثم تكتسب قيمتها بسبب دلالتها الأركيولوجية (الأثرية ) . بعض النصوص تولد أدبية ، وبعضها تحقيق الأدبية ، و بعضها نضفي عليه الأدبية ، والتنشئة في هذا الصدد قد تكون راجعة إلى أشياء كثيرة غير الميلاد " .(8)
هل لي بعد كل هذا أن أتساءل : ما الأدب ؟ و قد سبق أن نفيت و جوده ، وأرى أن التساؤل لا يزال مشروعاً أمام محاولات تعريفه .
لا أظن أيضاً أن ما قام به الشكلانيون الروس من استثناء المضمون الأدبي ، والتركيز على دراسة الشكل سيحل المعضلة ؛ " فقد بدأوا ينظرون إلى العمل الأدبي على أنه تجميع اعتباطي "للأدوات "بدرجة أو بأخرى ، في وقت لاحق توصلوا إلى هذه الأدوات على أنها عناصر مترابطة فيما بينها أو " وظائف " ضمن نسق نَصيٍّ كلىَّ ... وكان العامل المشترك بين كل هذه العناصر هو تأثير " الإغراب " أو " نزع الألفة " فالشيء النوعي بالنسبة للغة الأدبية ( ما يميزها عن أشكال الخطابات الأخرى ) هو أنها تشوه اللغة العادية بطرق متنوعة " (9) .
الحقيقة أن المقصود بـ " اللغة العادية " يظل مُشْكِلاً ، هل هي لغة الشارع ، أم لغة الصحافة ، أم لغة التلفاز ، أم لغة المسرح التجاري ، أم لغة الفلاسفة ، أم خطباء المساجد ، أم لغة العمال ، أم ماذا ؟ .
من ناحية أخرى إن صفة الإغراب قد تكون نابعة من الموقف الخارجي الذي يوضع النص في سياقه لا من سياق اللغة نفسها . فمثلاً عبارة من عينة : " إنه عبور مرعب " لو قالها شخص ما وهو يشاهد فيلماً تسجيلياً عن عبور الجنود المصريين لقناة السويس يوم 6 أكتوبر لما تضمن استخدامه اللغة هنا أي صفة إغرابية ، في حين أن نفس العبارة لو قالها طبيب نساء وهو يعاين الجروح والتهتكات التي أحدثها عريس بعروسه ليلة الزفاف لكانت إلى حد كبير إغرابية ، وشعرية تماماً بسبب الحيودات التي أحدثتها الجملة عن اللغة الاعتيادية التي من المفترض أن يقولها طبيب النساء ، ليس هذا فحسب بل لأنها انطوت على بعد استعاري يضع العريس موضع الجندي والفرج موضع قناة السويس والعلاقة الحميمة موضع العلاقة العدائية العنيفة ، أو بالمعنى وضعت المستبعد موضع المفترض ومن ثم فهي مدهشة لكسرها لتوقعاتنا.
إذا كان الأمر هكذا ... وإذا كان الجدال يبدأ من اعتبار الأدب عصياً على التحديد والتعريف ، وينتهي إلى أن الأدب لا وجود له ، فكيف يمكن في هذه الحالة أن توجد (نظرية الأدب ) بدورها؟
ناقد بغير خرافة :
في كتابة " قضايا أدبية عامه" يوضح " إيما نويل فريس" الفارق بين النقد والقراءة : " وبدهي القول أن النقد هو ردة فعل على قراءة ، وفى الغالب هو كتابة عن قراءة " وبهذا المعنى فإن النقد يبدأ بالقراءة التي تعنى التأويل . إذن ليس كل قارئ ناقدًا ولكن يمكن أن يتحول إلى ناقد .
وإذا كانت نظريات النقد الأدبي معنية بتأطير أفكار الناقد وتوجيهها وجهة محددة للوصول إلى نتائج محددة فما شأنها إذن بالقارئ المعنى ُّ بتقديم حصيلة وعيه بالنصوص.
قارئ النصوص ليس معنياً بالعلم إن كان الصيد أمام بيته و لا شيء مما يفعله قريب من الاحتراف. وربما هكذا صرح " مونتانى " ( القارئ النموذجي ) ، كما صوره لنا " فاغيه أوألان " (1868 ـ 1951) :" إن مونتانى مهمل ؛ فهو يتسلى بنسخ قصائد الشعراء والتعليق عليها باسترخاء إلى أن تأخذ عقبة ما بتلابيبه ، عند ذاك يصبح حيوياً وشديداً ، فيدهش ، وينفذ . ومن يقر أ مونتانى يسر معه ، ويشعر باندفاع مفاجئ كاندفاعه " (10) إنه نموذج للقارئ الذي يتحرك بحرية ومرونة تسمحان بتأويلات مختلفة ، ربما أنه لاهتمامه بالسياسة والحكمة والحرية قادر على أن يكون ـ على حد تعبير مترجم كتاب إيما نويل فريس (قضايا أدبية عامة ) ـ " مع التغلبيين هو من بكر ، ومع البكريين هو من تغلب " ، هو نقبض القارئ الأكاديمي المحروم من المتعة والحرية الذي يغلق نفسه وربما يقهرها على استقبال وقراءة نصوص بعينها ، ومن ثم يغلق نفسه عليها لأنها تتعلق بموضوع بحثه المزمع . ولنستمع إلى مونتانى وهو يتحدث عن نفسه : " أتمنى أن أفهم الأشياء تماماً ، ولكنني لا أريد أن أشترى هذا الفهم بسعره الغالي ، فخطتي أن أمضى ما تبقى من عمري في الراحة لا في الجهد ، فلا شيء عندي يستحق أن أتعب رأسي لأجله ، حتى العلم ، مهما غلا ثمنه . لا أبحث في الكتاب إلا عن اللذة التي توفرها تسلية شريفة ، وإذا درست فإنني لا أبحث إلا عن العلم الذي يتناول معرفة الذات ويعلمني كيف أموت جيداً ، وكيف أعيش جيداً " (11) .
إن قارئاً مثل مونتانى صالح لإبداء رأيه في النصوص لا من منطلق قراءته للأدب باستقامة ، ولا من خلال انتظام أفكاره في منهج محدد ، بل من خلال ما ترسخ لديه من وعي بعلم النص ، إن معاقرته الدائمة للنصوص بجانب ثقافته المتنوعة وحيويته الدائمة تؤهله للحكم على النصوص ، ومن ثم فهو إلى حدٍ كبير قادر على ممارسة النقد ، هو قارئ نموذجي تحوَّل إلى ناقد ، وهو صورة للناقد الذي يمارس التفسير الذاتي الشخصي المؤهل للحكم على النصوص ، والنظر فيها ، ومن هذه الناحية هو ناقد ، وإن كان بغير حاجة إلى نظرية نقدية تؤطر له أفكاره في إطار ممنهج ،هو ليس في حاجة إلى هذا لسبب بسيط يتعلق بعدم ادعائه بأن ما يقوله علم ، أو يخضع لصفة العلمية . ودعونا نستمع إلى " فولتير " وهو يدافع عن مونتانى ، أمام من اتهموه بأنه لا يفعل سوى التعليق على القدماء : " أي ظلم صارخ أن نقول إن مونتانى لم يفعل سوى التعليق على القدماء ! إنه يستشهد بهم في الوقت المناسب ، وهذا ما لا يفعله المعلقون ، هو يفكر وهؤلاء السادة لا يفكرون، وهو يدعم أفكاره بأفكار كل الأقدمين الكبار ، ويحكم عليهم ويجادلهم ويحادثهم ، ويحادث قارئه ، ويحادث نفسه ، إنه أصيل دائماً في طريقة تقديم الأشياء ، وواسع الخيال ، ومصور ، وما أحبه فيه أنه يعرف دائماً أن يشك " ( 12 )
وإذا كان الشك يؤدى إلى اليقين ، فهو أصل ، وهو منهج للوصول إلى اليقين ومن ثمَّ فإن المنهجة تتحول عند مونتانى إلى طبع ، وإلى تلقائية ، وليس تخطيطاً إجرائياً خارجياً يظل ينظر إليه في الطريق، وإن كان الأحرى أن يقال إن الشك " نتيجة الفعل النقدي ؛ لأن الحكم ـ بحسب المعنى الاشتقاقي لكلمة نقد ـ يفترض أن نفحص ، أن نسأل ، وأن نهتم ، لهذا لا يمكن أن يقوم النقد من دون قراءة وتأويل " (13 ) إن مونتانى ـ إذن ـ نموذج للقارئ الناقد المتفلِّت من الالتزام الشكلي بفكرة المنهج الخاضع لنظرية نقدية ما ، مثل هذا القارئ الناقد هو في حد ذاته كان أساساً لنظريات أدبية كثيرة تنظر إليه وتحلل عمله والكيفية أو الآلية التي يعمل بها مثل نظريات " التخاطب " و " جماليات التقبل " و " التأثير والاتصال " و " نقد استجابة القارئ " ... الخ
إنه نوع من النقاد المفنين ، الخارجين عن الأطر المكبلة لحرياتهم ، وهم لذلك أقرب إلى الأدب باعتباره فنًا ، وباعتباره وليد الحرية ، ربما لذلك هو معنيٌّ بتقبل النص واستكناه أغواره ، قبل أن يكون معنيًّا بخدمة منهج ما ، أو الإخلاص له ، أوـ كما يقول تيرى ايجلتون ـ هو نوع من النقاد الذين ينفرون من فكرة المنهج برمتها " ويفضلون أن يعملوا بواسطة الومضات والإحساسات الباطنة ، بواسطة الحدس والإدراكات المباغتة " ( 14 )
ومع هذا يجب ألا يؤخذ هذا التبرؤ من المنهج بجدية تامة " لأن الومضات والإحساسات الباطنة التي تعتريه ستعتمد على بنية كامنة من الافتراضات تعادل في عنادها بنية أي بنيوي " (15 ) .
كثير من النقاد يعدلون مونتانى في ثقافتهم الموسوعية ، وفى قدرتهم على الفهم والتحليل للنصوص ، وفى نفورهم من المنهج في الوقت نفسه لكنهم إذ يخجلون أمام سلطة الأكاديمية من إعلان تبرئهم من فكرة المنهج يضطرون إلى الإعلان عن تبنيهم للمنهج التكاملي حيث استضافة النصوص وممارسة النظر إليها من جميع الجوانب مستفيدين من جميع المناهج ، ولا أراهم بذلك إلا فارين من الخرافة إلى خرافة أوسع .
( يُتبع )