المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مدارج البيت العتــــــيق



عبده حقي
28/09/2007, 11:31 PM
مدارج البيت العتيق
ألفاهم قد رتبوا في ليل غيابه اوراق رحيلها... أما هي فقد باتت هناك في منسكها تغسل يديها من مكابدات العمر... متدثرة في استارتها البيضاء المنسوجة بأنامل ملائكة مخفورة..
كانت تحصي ما تبقى من لحظات العمر.
هنا كان يتلمظ رغيف فطام متأخر.. يمزج كأس خطوها الفادح بالدمع الفائر. وعلى جناح الطهر كانت ترمقه وتعلن له بالصمت عن زمن آت سوف يستودعه فيه الإنتظار إلى شرفة الترقب...
كان التردد يستبد به وبها .. يوزعه بين الرغبة في الصد وبين رحيلها الطارئ الى مطافات الخلق المكين،.
على مقربة من السلالم كانت الحقائب تتربص بها وحذاؤها للخطو الكبير يغريها بالرحيل...
الوصايا تتشابك على الشفاه الواجمة.. بريق نظراتها يبلله بدمع التوسلات.. فجأة وجد نفسه متواطئا وحذرا في آن.. تصاريف الدهرهناك .. ذرف ما يكفي على كتفها الوراف.. كان يعبر الى جانبها الشارع الليلي المقفر.. وكانت هي تقتلع آخر الخطوات بتوجس بالغ...
كانت تحدثه وقسمات وجهها كأنه يوشك على البكاء . فجأة صارت الاسارير أخاديد لدمع مداهم.. حين ودعها في الناقلة كان مرة ينقرعلى زجاج الاغاثة ومرة يومئ لها بما يعتصر القلب من رعب خطوها الكبير.
رأى من حوله أطياف متلفعة في دثارالبدء... ساحة محفوفة بأشجار التين والزيتون .. نظرات للدهشة.. واللغط يعلو كلما دنا موعد العناق الاخير.
كان النداء بالاسماء اعلانا ليتمهم المؤجل.
همس له جارقديم ( لاتكثرت بالفراق ، ففي تلك الاكناف للسكينة خيمة بحجم السماء)
كانت أرواح الذين رحلوا مترجلين او على صهوات الفتوحات تتقد في ذاكرتها وتفتح دفتيها على تاريخ مغسول بدم القداسة...
رنا الى الشارع الممتد أمامه في صمت رهيب.. أعمدة النيون عقد متألق على هامة الفجر.. وجدها تعبر هذا الارتداد التاريخي وهو يلوح لها بمديله عبر نافذة الإغاثة ويلاحق كالمخبول طيفها بالنظرة الواجلة.. حين صحا من دوخته الفاها قد مرقت مثل نيزك في أمداء السماء.
في لحظة ما .. خفتت الجلبة.. الفجيعة التي نمجد فيها زمن الفراق.. وصارت بعدها كل المرئيات تهفو الى التمثل بطيفها والبوح بأسمائه المتعددة.
عاد وحيدا يقطع البيداء في ليل الغياب.. وينحث تماثيل لرجال شيدوا جسرا للبيت العتيق.. كان يحيى غربتين: غربته هنا وغربتها هنالك... كيف عن لجسدها الواهن أن يركب هذا الجناح الواثق ويتركه لاستيهامات الارتياب على شرفة الإنتظار...؟
يذكرأنها كانت تنتفض بالهجران خلسة في فجر الاعياد وحين كانوا يستفيقون بعدها يلفون فراشها مقصوص الجناح فيدرعون الدروب ويسائلون ابواب الجارات عنها ثم يعودون وقد أيقنوا أنها قد اقتصت من سياط السقف بمكيدة الهروب...
كانت صورتها تؤاصره.. عمقها الازرق.. بريق نظارتها.. إهاب وجهها الذي تملى فيه معنى الكينونة...
ها هم الليلة جميعهم ينسجون حول طيفها حكايا رائقة ، يرفعون السماعة و يتوسلونها أن تغمرهم بصوتها الرؤوم.
قد مضى شهر ونصف.. ما أقسى أن يمرالعمر إلا شهرا ونصف.. جربوا فيه كل أنواع اليتم ورأوا كل تجليات الفقدان.
ليلة عودتها ، بات مسهدا كان يحصي بالنبض دقائق اللقاء.. فجأة رن الهاتف وأنبأه صوت ما عن موعد هبوط الطائرة . صعد الى السطح ليترقب سريانها .. فرأى الازل.. كل الازل المهيب.. الاسطوري والغامض .. عتمة تطبق على حفافي المدينة.. كان في القلب شئ ما.. مثل لهاث دافئ عبق بأرواح النزول من ملكوت مدارج البيت العتيق... احس أن كل الازل قد نهض من رقاده وتهيأ له أنهم يرتعون خلفها في دروب السماء بأجنحة ملائكة صغيرة .. نورانيات وشفيفات.. يفتشون عن طيفها بين نثار الكواكب والنجوم..
صاروا يترنون بامعان.. هو وحده يداه مشتبكتين خلف ظهره .. يقطع السطح جيئة وذهابا، كأنه أكتشف للتوهذا العالم الملغز بعيني صبي ممسوس بالدهشة الآولى.
فجأة لمح مقصورة مضيئة تخترق الديجور وكاد يهتف للعالم أي أنها نازلة عبر درب الانبياء...
هذا إذا فجر آخر يزحف مسكونا بالأسرار...
انشق صدر السماء عن شعاع أبى إلا أن يترنم معه بالشدو ويرجع بالغناء نشيده الصباحي.
شرعت الاطياف المتعبة تهل عليهم من البوابة العريضة .. فجأة لمحها وشعر برغبة العمر الوحيدة في البكاء.. كانت رافلة في نصاعة المدارج السماوية .. تجر خلفها تعب الوهن والرحيل .. قال في نفسه : ياه ما لوجهها قد صار قمحي الاهاب.. لعله لون البدء الذي ينشده صلصال الخلق .
ضمها الى صدره ..ضمها كثيرا كثيرا و كانت نظراتها هائمة في المرابع الخضراء.. وبيمينها سبحتها المرصعة بخرزات "الفيرونج" وهما يقولان "سبحان الله"..سبحان الله..سبحان الله ..

عبد الحميد الغرباوي
29/09/2007, 07:21 AM
أن تقرأ الشعر في القصة و القصة في الشعر، فهذا لا يتأتى لك إلا في نصوص المبدع عبده حقي.
كاتب يمتلك قدرة مدهشة على جعل المفردات الأصيلة تطاوعه، تعكس ما يعتمل بدواخله من أحاسيس في غير مباشرة أو تقريرية مملة.
إعجابي بأسلوب عبده يوازيه في المقام خوفي من الانزياح الكلي عن فكرة النص و الاكتفاء بتلمض حلاوته فقط.
مودتي

مجدي السماك
29/09/2007, 11:46 AM
اخي الكاتب ..قصة رائعة و كلام رصين و لغة رشيقة
تحياتي لك

ليلى جوهر
04/04/2008, 03:46 AM
مدارج البيت العتيق
ألفاهم قد رتبوا في ليل غيابه اوراق رحيلها... أما هي فقد باتت هناك في منسكها تغسل يديها من مكابدات العمر... متدثرة في استارتها البيضاء المنسوجة بأنامل ملائكة مخفورة..
كانت تحصي ما تبقى من لحظات العمر.
هنا كان يتلمظ رغيف فطام متأخر.. يمزج كأس خطوها الفادح بالدمع الفائر. وعلى جناح الطهر كانت ترمقه وتعلن له بالصمت عن زمن آت سوف يستودعه فيه الإنتظار إلى شرفة الترقب...
كان التردد يستبد به وبها .. يوزعه بين الرغبة في الصد وبين رحيلها الطارئ الى مطافات الخلق المكين،.
على مقربة من السلالم كانت الحقائب تتربص بها وحذاؤها للخطو الكبير يغريها بالرحيل...
الوصايا تتشابك على الشفاه الواجمة.. بريق نظراتها يبلله بدمع التوسلات.. فجأة وجد نفسه متواطئا وحذرا في آن.. تصاريف الدهرهناك .. ذرف ما يكفي على كتفها الوراف.. كان يعبر الى جانبها الشارع الليلي المقفر.. وكانت هي تقتلع آخر الخطوات بتوجس بالغ...
كانت تحدثه وقسمات وجهها كأنه يوشك على البكاء . فجأة صارت الاسارير أخاديد لدمع مداهم.. حين ودعها في الناقلة كان مرة ينقرعلى زجاج الاغاثة ومرة يومئ لها بما يعتصر القلب من رعب خطوها الكبير.
رأى من حوله أطياف متلفعة في دثارالبدء... ساحة محفوفة بأشجار التين والزيتون .. نظرات للدهشة.. واللغط يعلو كلما دنا موعد العناق الاخير.
كان النداء بالاسماء اعلانا ليتمهم المؤجل.
همس له جارقديم ( لاتكثرت بالفراق ، ففي تلك الاكناف للسكينة خيمة بحجم السماء)
كانت أرواح الذين رحلوا مترجلين او على صهوات الفتوحات تتقد في ذاكرتها وتفتح دفتيها على تاريخ مغسول بدم القداسة...
رنا الى الشارع الممتد أمامه في صمت رهيب.. أعمدة النيون عقد متألق على هامة الفجر.. وجدها تعبر هذا الارتداد التاريخي وهو يلوح لها بمديله عبر نافذة الإغاثة ويلاحق كالمخبول طيفها بالنظرة الواجلة.. حين صحا من دوخته الفاها قد مرقت مثل نيزك في أمداء السماء.
في لحظة ما .. خفتت الجلبة.. الفجيعة التي نمجد فيها زمن الفراق.. وصارت بعدها كل المرئيات تهفو الى التمثل بطيفها والبوح بأسمائه المتعددة.
عاد وحيدا يقطع البيداء في ليل الغياب.. وينحث تماثيل لرجال شيدوا جسرا للبيت العتيق.. كان يحيى غربتين: غربته هنا وغربتها هنالك... كيف عن لجسدها الواهن أن يركب هذا الجناح الواثق ويتركه لاستيهامات الارتياب على شرفة الإنتظار...؟
يذكرأنها كانت تنتفض بالهجران خلسة في فجر الاعياد وحين كانوا يستفيقون بعدها يلفون فراشها مقصوص الجناح فيدرعون الدروب ويسائلون ابواب الجارات عنها ثم يعودون وقد أيقنوا أنها قد اقتصت من سياط السقف بمكيدة الهروب...
كانت صورتها تؤاصره.. عمقها الازرق.. بريق نظارتها.. إهاب وجهها الذي تملى فيه معنى الكينونة...
ها هم الليلة جميعهم ينسجون حول طيفها حكايا رائقة ، يرفعون السماعة و يتوسلونها أن تغمرهم بصوتها الرؤوم.
قد مضى شهر ونصف.. ما أقسى أن يمرالعمر إلا شهرا ونصف.. جربوا فيه كل أنواع اليتم ورأوا كل تجليات الفقدان.
ليلة عودتها ، بات مسهدا كان يحصي بالنبض دقائق اللقاء.. فجأة رن الهاتف وأنبأه صوت ما عن موعد هبوط الطائرة . صعد الى السطح ليترقب سريانها .. فرأى الازل.. كل الازل المهيب.. الاسطوري والغامض .. عتمة تطبق على حفافي المدينة.. كان في القلب شئ ما.. مثل لهاث دافئ عبق بأرواح النزول من ملكوت مدارج البيت العتيق... احس أن كل الازل قد نهض من رقاده وتهيأ له أنهم يرتعون خلفها في دروب السماء بأجنحة ملائكة صغيرة .. نورانيات وشفيفات.. يفتشون عن طيفها بين نثار الكواكب والنجوم..
صاروا يترنون بامعان.. هو وحده يداه مشتبكتين خلف ظهره .. يقطع السطح جيئة وذهابا، كأنه أكتشف للتوهذا العالم الملغز بعيني صبي ممسوس بالدهشة الآولى.
فجأة لمح مقصورة مضيئة تخترق الديجور وكاد يهتف للعالم أي أنها نازلة عبر درب الانبياء...
هذا إذا فجر آخر يزحف مسكونا بالأسرار...
انشق صدر السماء عن شعاع أبى إلا أن يترنم معه بالشدو ويرجع بالغناء نشيده الصباحي.
شرعت الاطياف المتعبة تهل عليهم من البوابة العريضة .. فجأة لمحها وشعر برغبة العمر الوحيدة في البكاء.. كانت رافلة في نصاعة المدارج السماوية .. تجر خلفها تعب الوهن والرحيل .. قال في نفسه : ياه ما لوجهها قد صار قمحي الاهاب.. لعله لون البدء الذي ينشده صلصال الخلق .
ضمها الى صدره ..ضمها كثيرا كثيرا و كانت نظراتها هائمة في المرابع الخضراء.. وبيمينها سبحتها المرصعة بخرزات "الفيرونج" وهما يقولان "سبحان الله"..سبحان الله..سبحان الله ..


أخي عبده حقي أسعد الله أوقاتك بكل خير
لا أبالغ أن أخطرتك أني أعدت قرأت قصتك أكثر من مرات فلم أستطع تخطي بفكري ما قرأه بصري عبر النصوص ..

قصة مسكونة بشجن لغربة وحنين بعد رحيل .. تكاد أن تسمعنا نحيب الفراق .... لولا هدأت الليل !
في سرد بليغ مشحون بالذكريات والتمني مغلفة بالروحانية المحببة للنفس !
همس له جارقديم ( لاتكثرت بالفراق ، ففي تلك الاكناف للسكينة خيمة بحجم السماء)
ليلى جوهر

عبده حقي
05/04/2008, 11:52 AM
أستاذي القاص المبدع تعليقك الجميل يشحنني بكثير بسحر النص المفتوح ... إن الكتابة العابرة للأجناس تمنحني أن أقول ما لاأقوله وأعبر من حيث تريد اللغة الشعرية أن تعبر وليس اللغة السردية
وإلى اللقاء

عبده حقي
05/04/2008, 11:54 AM
المبدع مجدي السماك شكرا على تعقيبك الجميل

عبده حقي
05/04/2008, 11:55 AM
الأستاذة ليلى جوهر أسعد الله أوقاتك بكل خير
سعدت كثيرا بتعليقك الجميل وأتمنى أن أقرأ لك عملا ما