المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباب الثاني من مقالات بطرس ( عندما استيقظت أمس مبكراً )



إبراهيم محمد إبراهيم
01/10/2007, 09:41 AM
عندما استيقظت بالأمس مبكراً
" إذا حان أجل ابن آوى فرّ إلى المدينة " العمار " (1) ، ولسوء حظي أنني قلت لجـاري في سكـن المدينة الجامعيـة " لاله كربا شنكر جي برهمجارى " (2) ذات مـرة هكذا وبدون قصد : يا سيد لاله ، الامتحانات تقترب ، وأنت رجل " قوّام الليل " ، فلو سمحت ، أيقظني أنا أيضاً .
وكأن السيد " لاله " كان يتحيّن الفرصة لكي يكسب " ثواباً " بهذا الأمر ، إذ أنه في اليوم التالي مباشرة ، وبمجرد أن استيقظ ، بدأ باسم إلهه (3) في دق بابي بشدّة . ظننت لبرهة أنني أحلم ، فلماذا القلق من الآن ؟!. وماذا سأفعل إن استيقظت الآن ؟!. لكن حدّة الطّرق كانت تزداد بانتظام ، وحين بدأت جدران الحجرة الخشبية يا سيـدي تهـتز وترتعـد ، وارتعد معها الكوب الموضوع على " القلّة " كأنه يعزف لحناً ، وأخذت النتيجة المعلقة على الحائط تتمايل مثل بندول الساعة ، عندئذ كان لا بدّ أن أنهض ، ومع ذلك فقد كان الطّرق مستمراً على الباب . لقد استيقظت أنا ، وربما استيقظت كذلك روح آبائي وأجدادي وحظّي النائم بسبب هذا الطّرق ، فرددت عليه :
 حسن ، حسن ، أشكرك ، لقد استيقظت ، حسن ، أشكرك كثيراً .
ولم يصل صوتي إلى سمع صاحبنا ... ما هذه المصيبة يا إلهي !... هذا الرجل يوقظ النائمين أم يُحيي الموتى ؟!. ... لقد كان سيدنا " عيسى " عليه السلام لا يزيد على قوله " قُم " لمجرد الأخذ بالأسباب ، فإذا عاد " الميّت " حيّاً فبها ونعمت ، وإلاّ تركه . وهل كان عليه أن يطارد الموتى بالعصا ، أو يطلق عليهم المدافع ؟!... والآن كيف يتسنّى لي إذاً أن أنهض وأفتح مزلاج الباب ؟!. لقد كان عليّ قبل النهـوض أن أُطمئن قلبي وأُرضيه إلى درجة لا يُدركها إلاّ أصحاب الذوق الرفيع !!.
وفي النهاية عندما أشعلت المصباح ، ورأى صاحبنا ضوءه بالداخل ، أوقف الهجوم ، ولكن عندما نظرت يا سيدي من الشباك ناحية السماء ، وجدت النجوم لا تزال تتلألأ ، فقلت لنفسي :
 اليوم سأعرف كيف تشرق الشمس ؟!. وعندما استدرت ونظرت من الشباك ومنافذ الضوء " المناور " في حجرتي ، ولم ألمس أية علامة من تلك التي أخبرني بها أجدادي للصبح الكاذب ، اعتراني بعض القلق ، فلعلّ الشمس أصابها بعض الخسوف !!. وعندما لم أستوعب الأمر ناديت على جاري :
 يا سيد لاله ، يا سيد لاله ...
فجاءني الجواب :
 هيه ...
قلت :
 ما الذي يحدث اليوم ؟!. أليست السماء مظلمة قليلاً ؟!.
فقال :
 وماذا تتوقع غير ذلك ؟!. ... أو تشرق الشمس في الثالثة ليلاً ؟!.
كدت أفقد حواسي عندما سمعت " الساعة الثالثة ليلاً " ، فسألته منتفضاً :
 ماذا قلت ؟!. الساعة الثالثة !!.
قال :
 ليست الثالثـة بالضبط ، ربما سبع ، أو سبع دقائق ونصف بعد الثالثة .
قلت :
* أيها التعس ، يا شرطيّ السماء (4) ، يا قليل الأدب ، هل قلت لك أيقظني صباحاً ، أم قلت لك لا تدعني أنام مطلقاً ؟!. هل من الشرف إيقاظي في الثالثة قبل الفجر ؟!!. أتظنّني أعمل في تنظيم مرور القطارات ؟!. (5) لو كنت أستطيع الاستيقاظ هكذا في الثالثة صباحاً لكنت الآن من المقربين إلى جدّي !!. أيها الأحمق ، هل أستطيع أن أبقى حيّاً إذا استيقظت في الثالثة ؟!. ... نحن أبناء أمراء ، وهذا ليس مزاحاً (6) ... لا حول ولا قوة إلاّ بالله .
كان قلبي يودّ أن أتخلّى عندئذ عن المسالمة وعدم العنف ، لكني مع ذلك قلت لنفسي : إن أحداً لم يُوكل إليّ مُهمّة إصلاح البشر ، عليّ أن أهتم بنفسي وفقط . ثم أطفأت المصباح ، واستلقيت مرة أخرى في فراشي وأنا أتمتم غاضباً ، ثم استيقظت باطمئنان حسب العادة في العاشرة صباحاً كما يفعل باقي خلق الله ، وغسلت وجهي حتى الثانية عشرة ، ثم تناولت الشاي في الرابعة عصراً ، وخرجت بعدها للتّنزّه ... وفي المساء عدت إلى المدينة الجامعية . كنت أشعر بطبيعـة الحال بفـورة الشباب ، وزاد فيها وقت المساء الرومانسي والنسيم العليل ... كل ذلك جعل طبيعتي أكثر انتعاشاً وبهجةً ، ودخلت حجرتي وأنا أتغنّى قائلاً :
إن كان هناك من يُقبّل خصلات المحبوب فهو نحن ...
وفي تلك الأثناء جاءني صوت جاري يناديني :
 يا سيد .
كنت في ذلك الوقت أخذت في إصدار أصوات موسيقية بأصابعي (7) اندماجاً مع الأغنيـة ، وتوقفت أصابعي حيث كانت ، وبدأت أنصت إلى الصوت الذي كان يقول :
 أتغنّي سيادتك ؟!!... " مُشدّداً على لفظ سيادتك " .
قلت :
 ومن أنا يا سيدي حتى أغنّي . على أية حال ، أي خدمة ؟!.
فقال :
 الحقيقة ... إن غناءك يزعجني .
عندئذ يا سيدي ماتت على الفور تلك الروح الموسيقية التي شعرت بها بداخلي . قلت لنفسي : أنظـر أيها الخبيث ، هكذا يُذاكر من يريد . ولجأت إلى الله داعياً إياه : إلهي ، أنا الآخر على وشك أن أكون من بين من يُذاكرون بانتظام ، ساعدني ، وامنحني العزيمة .
مسحت دموعي ، واستجمعت همّتي ، وجلست إلى المنضدة . ضغطت على أسناني ، وحللت رابطة عنقي ، وشمّرت ساعدي ... لكني لم أفهم : ماذا يجب عليّ أن أفعل ؟!. كانت أمامي كومة من الكتب الحمراء والخضراء والصفراء وكل الألوان ... ماذا أقرأ منها ؟!. وقرّرت أن أقوم أولاً بترتيب الكتب فوق المنضدة ، فهذه هي الخطوة الأولى للاستذكار المنظّم ... ووضعت الكتب ذات الحجم الكبير في جانب ... ورصصت الكتب ذات الحجم الأصغر في صفّ منفصل طبقاً لحجمها ... ثم دوّنت في ورقة عدد صفحات كل كتاب ، وجمعتها معاً ، وبعدها قمت بحساب عدد الأيام المتبقية حتى الخامس عشر من أبريل (8) ، وقسّمت عدد الصفحات على عدد الأيام ، فكانت النتيجة أنّ عليّ أن أقرأ خمسمائة وخمسين صفحة يومياً ... لم أدع مظاهر الخوف أو القلق تبـدو على قسمـات وجهي ، وتأسفت قليلاً في نفسي : ولم لا أستيقظ فعلاً في الثالثة صباحاً ؟!!. ... لكني لُمت نفسي على هذا التفكير بعدما تمعنت في الجانب الطبّي لقلّة النوم ... وفي النهاية توصّلتُ إلى نتيجة مفادها أنه من العبث الاستيقاظ في الثالثـة صبـاحاً ، ومن المعقـول جداً أن أستيقظ في الخامسة ... السادسة ... في السابعة تقريباً ... ففي هذه الحالة ستبقى الصحة على ما يرام ، وسأستعد كذلك للامتحان بانتظام ... ونضرب عصفورين بحجر واحد (9) .
لقد كنت أعرف أنه عليّ أن أنام مبكراً إن كنت سأستيقظ مبكراً ، وقد تناولت عشـائي خـارج المدينـة الجامعيـة ، ثم أخـذت طريقي إلى فراش نومي ... وفي طريقي إلى الفراش خطر لي أن أخبر السيد " لاله " حتى يوقظني صباحاً . صحيح أن قوة إرادتي لا محدودة ، وأنني أستطيع الاستيقاظ حين أريد ، ولكن ما المانع في إخباره ؟!... ناديت على استحياء وخوف :
 يا سيد لاله ...
فجاءني ردُّه كمن يقذف بحجر :
 نعم .
ازداد خـوفي وخجلي ، إذ بدا لي أن السيد " لاله " غاضب بعض الشيء . طلبت إليه بتلجلج قائلاً :
* يا سيد لاله ، أعتذر لإتعابك صباح اليوم ، وأنا ممنون لك ، فلو تكرمت غداً في السادسة صباحاً ... أقصد ... عندما تدقّ السادسة ...
ولم يأت ردٌّ . فقلت ثانية :
 عندما تدقّ السادسة ... تسمعني حضرتك ؟!.
 اصمت .
 سيد لاله !!.
وجاء ردّ " لاله " بصوت يرعد :
 سمعت ... سمعت ... سوف أوقظك في السادسة ...
وأخذ يردّد :
 ثلاثة " جاما " زائد أربع " ألفا " زائد ....
أجبته :
 حـ ... حـ ... حسن جداً ... هذا كل ما في الأمر .
اللهم لا تجعلنا في حاجة إلى أحد سواك .
كان السيد " لاله " رجلاً شريفاً ، ولهذا فقد أمطر بابي باللكمات في السادسة صباح اليوم التالي كما وعد أن يفعل . لقد كان إيقاظه لي مجرد وسيلة ، وإلاّ فقد كنت أنا نفسي في انتظار انتهاء الحلم الذي أراه فأستيقظ من فوري ، حتى إن لم يوقظني هـو ، فإنني كنت سأستيـقظ بنفسي في غضـون دقائق قليلة ... على أية حال وجدت أنه من الواجب عليّ أن أقدّم له جزيل شكري ، وقد عبّر هو عن قبوله شكري هذا بإيقافه وابل الطّرق على الباب .
والحقيقة أن الأحداث التي وقعت بعد ذلك تحتاج إلى وقفة ، إذ تختلف الروايات بشأنها إلى حدّ ما ... أياً كان الأمر ، فقد كنت على يقين – وأستطيع أن أقسم على هذا – أنني فتحت عينيّ " مستيقظاً " ، وأذكر كذلك أنني كأيّ مسلم طيب صادق قرأت الشهادتين أيضاً ، وأذكر كذلك أنني قبـل أن أنهض من نومي تململت في سريري بعض الشيء على سبيل التمهيد والاستعداد ، ثم لا أذكر بعد ذلك شيئاً ... ربما أبعدت اللحاف من على جسمي ... وربما دفنت فيه رأسي ... أو ربما أنني سعلت ... أو ... يعلم الله ... بدأت في الشخير ... على أية حال الأمر المؤكد في هـذا الخصـوص هو أنني كنت متيقظـاً تماماً في العاشرة ، ولكن فيما بين إيقاظ السيد " لاله " لي في السادسة ، وبين العاشـرة ، هل كنت أذاكـر ؟!... أم كنت نائمـاً ؟!... الله أعلـم ... كلاّ ... أظن أنني كنت أذاكر ، أو ربما كنت نائماً ... على أية حال هذه قضيـة نفسيـة ليسـت من تخصصي ، ولا من تخصصك كذلك !!... من يدري ... ربمـا أيقظني السيد " لاله " في العاشرة ... أو أن الساعة السادسة قد دقّت متأخرة في ذلك اليوم !!... هذا من شئون الله ، ولا نملك – أنا وأنت – التدخل فيه ... لكني ظللت طيـلة اليـوم أشك بداخلي بأن التقصير كان منّي أنا ... ولاحظ إلى أي مدى وصلت أمانتي ... إذ لمجرد هذا الشك ظللت أشعـر بتأنيب ضمـيري من الصبـاح وحتى المساء ، وظللت ألوم نفسي على هذا ... لكني تحدثت مع السيد " لاله " بكل بشاشة ، وشكرته كثيراً ، وحتى لا أُثبّط معنوياته طمأنته إلى أقصى حد بأنني بفضل إيقاظه لي استفدت كثيراً من وقت الصباح الجميل المنعش ، وإلاّ كان من الممكن أن أستيقظ اليوم كذلك في العاشرة مثل باقي الأيام !!...
* كم يكون الذهن صاف يا سيد " لاله " وقت الصباح ... يا أخي ، سبحـان اللـه الـذي خلــق هـذا الشيء العجيب الذي نسميـه " الصبـح " ، ولـو كان " الصبـح " يأتـي وقـت المسـاء بدلاً من وقت الصباح لمضى النهار كله في أسوأ حال .
أثنى السيد " لاله " على جمال تعبيري وسحر بياني ، ثم سألني :
 هل أوقظك في السادسة صباحاً كل يوم ؟!!.
قلت :
 نعم ، نعم ، بالتأكيد ، هل هذا الأمر يحتاج إلى سؤال ؟!!.
وفي المساء انتقيت كتابين وضعتهما سوياً على أحد جوانب المنضـدة لأطالعهما في صباح اليوم التالي ، وسحبت الكرسي بالقرب من السرير ، وعلّقت البالطو والتلفيحة " الكوفية " على ظهر الكرسي ، كما وضعت الطاقية والقفازات بالقرب منها ، ووضعت علبة الكبريت تحت الوسادة ، وقرأت آية الكرسي ثلاث مرات ، واستغرقت في نومي بعدما عقدت آمالاً طيبة في قلبي .
وفي الصباح التالي استيقظت على جناح السرعـة مع أول طرقـة للسيد " لاله " على الباب ، وبكل بشاشة وبهجة أخرجت رأسي من أحد جوانب اللحـاف ، وألقيت عليه تحية الصباح ، وسعلت سعلة قوية ، فاطمأن السيد " لاله " ، وعاد من حيث جاء .
واقع الأمر أنني أُعجبت بعزيمتي وقوة إرادتي ، فقد استيقظت اليوم فوراً ودون إبطاء . قلت لقلبي :
 اسمع يا قلبي ، إن الاستيقاظ في الصباح الباكر أمر بسيط للغاية ، وقد كنت أخاف منه بلا مبرر .
فقال قلبي :
 صدقت ، فقد كنت ترتعد من هذا الأمر بغير سبب وجيه .
قلت :
* صدقت يا أخي ، فإذا لم أسمح للكسل والفتور أن يقرباني لما كان أياً منهما يستطيع أن يخلّ بنظام حياتي ، في مدينة " لاهور " ألوف من الناس كسالى غافلين عن الدنيا وما فيها ، يغطّون في نوم عميق هذه الساعة ، أمـا أنا فمستيقظ بكل هـدوء ورضـا نفس من أجـل أداء فرائضي . يا أخي كم أشعر بسعادة بالغة ...
وبدأ البرد يلسع أرنبة أنفي ، فأرخيت اللحاف عليه قليلاً ...
وأخذت أفكر ...
حسن ، حسن ... ما أنسب الوقت الذي استيقظت فيه اليوم !!... لو أني عوّدت نفسي على هـذا الأمر لأمكنني عندئذ أن أصـلّي الفجر وأقرأ القرآن ... فالدين على أية حال هو الأهـم ... وأنا ... لقد كنت أقترب من الإلحاد يوماً بعد يوم ، فلا خوف من الله ولا من الرسول ... وكنت أظن أن الإنسان ينجح في الامتحان بالاجتهاد فقط . لقــد ظـلّ الشاعر المسكين " أكبر " (10) يردّد هذا الكـلام حتى مات ، ولكني لم أتزحزح عن موقفي قيد أنملة ...
أرخيت اللحاف على أذني ...
أما اليوم فقد استيقظت قبل الناس جميعاً ... قبلهم بمراحل ، قبل وقت الكلية بأربع ساعات على الأقل ... عظيم ........ عظيم ... كم يتّصف المسئولون عن الكلية بالكسل ؟!. فمن المؤكد أنه يجب على كل إنسان مجتهد أن يكون مستيقظاً منذ السادسة صباحاً ... ولكن لا أفهم لماذا لا تبدأ الدراسة بالكلية في السابعة صباحاً ...
وأرخيت اللحاف على رأسي ...
الحكاية هي أن المدنيّة الحديثة قد أفسدت كل مُقدّراتنا وإمكانياتنا ، واللهو والعبث يتزايدان يوماً بعد يوم ...
أغلقت عيوني ...
الساعة الآن السادسة ، وهذا يعني أنه يمكن أن أذاكر ثلاث ساعات متواصلة ، والسؤال فقط هو : أيّ كتاب أقرأه أولاً : " شكسبير " أم " وردز ورث " (11) ؟!... أظن أن " شيكسبير " أفضل ، فإن مظاهر عظمة القدرة الإلهية تبدو في مؤلفاته ، وهل هناك أفضل من ذكر الله وقت الصباح ؟!...
ثم رأيت أنه ليس من المنـاسب أن أبدأ يومي بزحـام العواطـف ، فلأقرأ " وردز ورث " ، ففي كتاباته طمأنينة وسكينة للفطرة ، وإمتاع لطيف للعقل والقلب بجمـال الطبيعـة الصامتة . لكن " شيكسبير " ... كلاّ ... أظن أن " وردز ورث " أفضل ... شيكسبير ... هاملت ... لكن وردز ورث ... ماكبيث ... الجنون ... الروضة ... سنجر ... نسيم الربيع ... أسير الهوس ... كشمير ... أنا سلّم المصائب (12) ...
والآن فإن ما حدث " فيما بعد " يُعدّ لغزاً يختص بفلسفة ما وراء الطبيعة ... فعندما أطللت برأسي خارج اللحاف ، ونويت قراءة " وردز ورث " كانت الساعة تدقّ العاشرة ، ولكني لا أعرف السرّ في ذلك !!.
وقابلت السيد " لاله " في قاعة الكلية . بادرني بقوله :
* يا سيد ... لقد ناديت عليك في الصباح مرة أخرى ، ولكنك لم تجبني !!.
قلت وأنا أضحك بصوت مرتفع :
* صحيح يا سيد " لاله " ؟! . لا أتذكر ذلك ... ألم ألقي عليك تحية الصباح ؟!!... لقد كنت مستيقظاً من قبل .
فقال :
 هذا صحيح ... ولكن بعد ذلك ... بعد ذلك في حوالي السابعة سألتك عن تاريخ اليوم ... ولكنك لم تجبني .
نظرت إليه بنظرات كلها تعجب وحيرة ، وكأنه أصابته لوثة !!... ثم أظهـرت الجدّيّة ، وعقدت " تكشيرة " على وجهي ، وتظاهرت بالتفكير العميق ، وظللت هكذا لدقائق قليلة ، ثم ابتسمت قائلاً بأسلوب يملؤه الحب :
 نعم ، نعم ، صحيح ... كنت في ذلك الوقت أ ... أ ... أصلّي .
أصابت الدهشة السيد " لاله " ، وذهب ... أما أنـا فقد أحنيت رأسي بتواضع من الزهد والتقوى ، واتجهت إلى حجرتي .
ومنذ تلك اللحظة أصبح برنامجي اليومي كالتالي :
الاستيقاظ الأول : في السادسة صباحاً .... الاستيقاظ الثاني : في العاشرة صباحاً .
فإذا نادى عليّ السيد " لاله " فيما بينهما كان العذر هو ... الصلاة !!.
عندما كان المغفور له قلبي ميداناً للأماني والطموحات كنت أتمنى أن تتسلّل أشعة الشمس الأولى إلى شعري الأسود المموّج ، وينشر عبق الورود والانتعاش في الحجرة ، وأيدي جميلة تداعب بأصابعها الرقيقة أوتار قيثارة ، وصوت جميل رقيق حالم يغنّي مبتسماً : " استيقظ يا حبيبي " .
ويتلاشى الضّباب الذهبي للحلم شيئاً فشيئاً في أمواج الموسيقى ، ويُمزّق الاستيقاظ بصمت حجاب الظلام الرقيق مثل اللغز الممتع ، ويشعر الوجه بحرارة نظرة حب واشتياق ، فتتفتح العيون وتتواجه ، وتجعل الابتسامة الساحرة الصباح أكثر إشراقاً ، ثم تغرق في الحياء والخجل مع أغنية تقول : " يُعجبني لونك القمحيّ " ... بينما قدري هو أن نداء : يا سيد ... يا سيد ، وقرع الباب يملأ أسماعي ، ثم بعد أربع ساعات تدقّ ساعة الجامعة في كل أنسجة عقلي معلنة العاشرة ... وخلال هذه الساعات الأربع تبدو لي أصوات تحطّم آنية اللبن والطعـام والشراب ، وغلق الأبواب ، وتنظيف الكتب ، وسحب الكراسي وجرّها ، وأصوات المضمضة والغرغرة بالأدوية ، وأصوات السعال والكُحّة وكأنها ألحان وأنغام عفوية ... وعليك أن تتخيّل مدى الأنغام التي تصدرها مثل هذه القيثارات :
يتراءى الموت أمام عينيّ
عندما أنظر إلى الطبيعة من حولي
هوامش
1 - يقابل ذلك ما نقوله نحن في العربية " إذا جاء القدر عمي البصر " .
2 - الجار هنا ليس مسلماً ، وإنمّا هندوسيّاً .
3 - في الأصل ( إيشور ) ، وتعني " إله الهندوس " ، وقد آثرت ترجمتها بـ " إله " لتشير إلى اختلاف الدين بين الصديقين ، المتكلم و " لاله جي " . أنظر قاموس فيروز اللغات اردو – اردو – صـ 145 .
4 - في الأصل " خدائي فوج دار " وتعني " عسكري إلهي " ، ويُقصد بها من يُنصّب من نفسه وصياً لتنفيذ أوامر الله.
5 - المقصود هو ما نطلق عليه في عاميتنا " أشرجي " وهو الرجل المختص بإشارات القطارات لينظم مرورها .
6 - يقصد أنه من الأغنياء المرفهين الذين لا يستيقظون مبكراً .
7 - مثلما يفعل الشخص بإصبعه عند سماعه موسيقى تعجبه .
8 - يقصد موعد امتحان نهاية العام .
9 - في الأصل " هم خرما وهم ثواب " مثل بالفارسية يُستعمل في الأردية ، ويعني الاستمتاع بتناول حلوى البلح من جانب ، ومن جانب آخر تحصيل الثواب بتناوله ، بمعنى العمل ذي الفائدة المزدوجة ، وهو ما يمكن أن نقرّب معناه بالمثل الذي ذكرناه . أنظر فيروز اللغات أردو – أردو صـ 1447 .
10 - أكبر إله آبادي ، من شعراء الأردية المشهورين ، ولد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وتوفي عام 1922م ، وكان ينادي بالالتزام بالدين الإسلامي والحذر من الحضارة الغربية ومعطياتها .
11 - أحد شعراء ونقاد الأدب الإنجليزي المشهورين
12 - ينطق بأسماء مختلفة لأعمال أدبية متنوعة كيفما اتفق بينما كان النعاس يغالبه .