المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباب الثالث من كتاب مقالات بطرس



إبراهيم محمد إبراهيم
04/10/2007, 07:53 AM
الكلاب
سألت أساتذة علم الحيوان ، واستشرت المنجمين ، وأرهقت ذهني في القراءة والمطالعة ، لكني لم أستطع أبداً أن أفهم ما هي فائدة الكلاب ؟!. خذ البقرة كمثال : إنها تعطينا اللبن ، وخذ الشاة أيضاً : إنها تعطينا الحليب ... والروث كذلك !!! . لكن ماذا تفعل الكلاب ؟!... ستقول بأن الكلب حيوان وفيّ ... يا سيدي ، إذا كان الوفاء يعني أن يبدأ الكلب في النباح في السابعة مساءً ، ويواصـل نباحه بلا توقف حتى السادسة صباحاً ، فنحن ، " مقطوعي الذيل " أفضل بالتأكيد .
بالأمس فقط انتعـش مـزاج أحـد الكلاب في الحادية عشرة ليلاً ، فترنم " بمصرع " مقفى ، وبعد دقائق قليلة ردّ عليه كلب من " الفيللا " المقابلة بـ " مصرع " أكمل به " مطلع " (1) الغزلية . في تلك الأثناء يا سيدي استشاط أحد الكلاب المخضرمين غضباً ، فخرج من مخبئه في فرن حلواني ، وأكمل على مضض الغزلية عن آخرها ، وعندئذ رفع أحد الكلاب من ذوي الحس المرهف عقيرته بالثناء والتشجيع من ناحية الشمال الشرقي ... ثم لا تسأل بعد ذلك عن احتدام هذه الأمسية الشعرية ومدى إثارتها وشدتها ... لقد ألقى فيها بعض الكلاب بغزليتين من قافية واحدة ، والبعض الآخر ألقى بثلاث غزليات من ذات القافية ، والبعض الآخر ارتجل عدة قصائد ودون إعداد مسبق ... واشتعلت الأمسية ولم تهدأ .
فتحت النافذة ، وناديت فيهم : نقطة نظام ... نقطة نظام ... ولكن في مثل هذه الأمسيات لا يعيرُ أحدٌ ما يقـوله رئيس الجلسة اهتماماً . والآن ، هل من أحد يسألهم : يا حضرات ، إن كان ولا بد من عقد مثل هذه الأمسيات ، فلماذا لا تجتمعون على شاطئ النهر في الهواء الطلق ، وتمارسون هواياتكم ؟!.
والحقيقة أن كلابنا المحلية " البلدي " تتسم بقدر كبير من سوء الأدب ، فأكثرهم متعصّب للوطن والقومية بحيث أنه يطلق العنان لنباحه فور وقوع عينيه على " جاكيت وبنطال " ، على أيـة حال هذا أمر يستحق التقدير إلى حد ما ، فدعك من الحديث عنه ، إذ أن هناك أمراً آخر ، فقد اتفق لي أن زرت أصحاب الفيللات مرات عديدة حاملاً في يدي سلال الفواكه والورود ... قسماً يا سيدي ، إني رأيت من الأدب والذوق في كلابهم ما جعلني أهيم إعجاباً بهم ، فعندما دخلنا من بوابة الفيللا أطلق الكلب صيحة " بخ " خفيفة وهو في مكانه في الشرفة ، ثم أغلق فمه وهبّ واقفاً ، فلما تقدمنا ناحيته تقدم هو الآخر بضع خطوات ، وأطلق صيحة أخرى بصوت رقيق تملؤه البراءة ، فكأنـه يقوم بالحراسة ، ويعزف الموسيقى في نفس الوقت ... بينما كلابنا لا تجد في نباحها لحناً أو نغمة ، ولا أول لها من آخر ، ولا حتى ملامح واضحة ... مجرد نباح متواصل ... هذه الكلاب الجامحة تطلق الصيحة تلو الأخرى ، فلا تراعي الوقت المناسب ، ولا المكان المناسب ... لا يهمها سوى استعراض حناجرها ، وكل غرورها مبني على أن الموسيقار المشهور " تان سين " (2) قد ولد في هذا البلد .
لا شك أن علاقاتنا بالكلاب ظلت دائماً متوترة مشدودة ، لكني أقسم لك أننا في مثل هذه الظروف لم نتجاهلها عن عمد أبداً ... ربما تعتبر هذا نوعاً من الغرور ، لكن يشـهد الله أنني لم أستطع أن أرفع يدي على أي كلب حتى يومنا هذا ، وقد أشار عليّ كثير من الأصدقاء أنني لا بد أن أحتفظ معي في الليل بعصا أو " نبوت " أدفع به البلاء عن نفسي ، لكني لا أريد أن أخلق عداءً بين وبين أحد بلا مبرر ، فبمجرد أن تنبح الكلاب تغلب عليّ أصالتي حتى أنك لو رأيتني في ذلك الوقت لظننتني جباناً ، وربما تظن عندئذ أيضاً أن الجفاف يصيب حلقي ... صحيح أنني لو حاولت في مثل هذه الظروف أن أغني فلن تخرج من حلقي سوى الحشرجة ... ولو أن لك مثل مزاجي وطبعي لرأيت أنك في هذا الوقت ستنسى حتى " آية الكرسي " ، وربمـا رددت بدلاً منها " دعاء القنوت " .
ذات مرة تصادف أن كنت عائداً من المسرح حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، وفي يدي عصا أطوّح بها في الهواء ، وكنت أردد إحدى أغاني المسرحية لأثبّتها في ذهني ... ولأنني لم أكن أتذكّر كلمات الأغنية - وما زلت مبتدئاً في هذا المجال – فقد اكتفيت بالتصفير ، حتى إذا كان بها بعض " النشاز " ظنّ من يسمعها أنها موسيقى إنجليزية .
في تلك الأثناء عطفت على أحد المنحنيات ، فوجدت أمامي " شاة " مربوطة ، ولك أن تتخيل أن هذه " الشاة " بدت أمام عيني " كلباً " ... ظننتها كلباً ... وفي ضخامة الماعز ، أي كلب إلى أقصى حد ... فتورمت يداي وقدماي ، وتباطأت حركة العصا في يدي شيئاً فشيئاً حتى توقفت في الهواء تماماً عند زاوية غير مشجعة ... وارتعشت صفارتي الموسيقية حتى صمتت ... ولكن وضـع فمي الذي يصـفّر – للحق – لم يطرأ على شكله المخروطي أي تغيير ... وكأن هناك نغمة لا تزال تخرج منه ، ولكن بغير صوت !!!... وهناك موضوع طبيّ بحت فحواه أنه في مثل هذه الظروف لا ينبغي أن تقلق إن تصبّبت عرقاً حتى وإن كنت في فصل الشتاء ، لأن هذا العرق سيجف فيما بعد !!!.
ولأنني محتاط بطبعي ، فلم يحدث لي أبداً أن جرّبت عضّة كلب ، بمعنى أنه لم يعضّني كلب حتى يومنا هذا ، ولو حدث – لا قدّر الله – مثل هذا لكان نعيي الآن هو الذي يطبع بدلاً من هذه الحكاية كلهـا ، ولصـار بيت الشعر الذي سيكتب موضّحاً تاريخ وفاتي (3) بمثابة دعاء يقول : " فلينبُت من طينة هذا الكلب عُشبٌ لا يفنى " ، ولكن :
لمن أحكي عن كلب الطريق ، إنه مصيبة عظمى
فما كنت أكره الموت لو كان يأتيني دفعة واحدة
وطالما وُجدت الكلاب في هذا العالم ، ولا تزال مُصرّة على النباح ، فتأكد أن إحدى قدميْنا في القبر دائماً . وللعلم فإن نباح الكلاب له أصول ونظام عجيب ، فهو من ناحية كالمرض المُعدي ، ومن ناحية أخرى يصيب صغارها وكبارها على السواء ، فلو أن أحد الكلاب الضخمة القوية أراد أن يُثبت وجوده ويحافظ على مكانته ، فأطلق " بعض الهوهوات " ، وجدتنا نحن أيضاً – شئنا أم أبينا – نقول : زدنا يا أخي زدنا !!!.
" ومع أن الكلب في ذلك الوقت لا بد أن يكون مُقيّداً بسلسلة " ، لكن هذا التّعس لا يتوقف عن النباح ، رغم أنه لا يبلغ من العمر سوى أيام معدودة ، ولا يزيد وزنه عن عدة جرامات ... صوت دقيق ، ورئة دقيقة ، ومع ذلك فإنه ينبح بقوة تجعل رعشة صوته تصل حتى ذيله ... وفوق هذا فهو يقف أمام السيارات المارة ، وينبح وكأنه سيوقفها !!. فلو كنت أنا مثلاً أقود سيارة في مثل هذه الحالة ، فإن يدي قطعاً ستتوقف عن القيادة ، ولذا فكثيراً ما تصدمهم السيارات وتقتلهم .
وأكبر اعتراض لي على نباح الكلاب هو أن أصواتهم تشلّ جميع قوى التفكير لدى الإنسان ، وخاصـة عندما تخـرج مجموعـة منهم فجـأة من تحت " دكّة " أمام أحد الدكاكين إلى الشارع لتؤدي دورها في التنبيه والإزعاج ... من منّا عندئذ يظل عقله كما هو ؟!. في هذه الحالة يضطر الشخص إلى الانتباه والالتفات إلى كل منها واحداً تلو الآخر ، وبانتظام ... إضافة إلى ما يثيرونه من ضجيج من جانب ، وصرخات اعتراضنا – تحت الشفاه – من جانب ، والحركات والسكنات العشوائية – الحركات من الكلاب والسّكنات منّا نحن – من جانب آخر . فكيـف إذاً يعمـل العقل في مثل هذه الظروف ؟!. ولا أدري ما هو التصرف الذي سيقرّره عندها ؟!. على أية حال كان هذا الظّلم السّافر من الكلاب مذموماً لديّ دائماً ، فلو أن واحداً منها تقدم إلينا – كمُمثّل عنهم – بذوق قائلاً : الطريق مغلق يا سيدي ، فإني أقسم لك أننا عندئذ سوف نتراجع بلا مناقشة ، وهذا ليس أمراً جديداً ، فقد قضيـنا ليال عديدة قبـلاً نتحسّس الشوارع بناءً على طلب من الكلاب !!. لكن أن تتحدّانا جماعتُهم هكذا بالإجماع ، فهذا أمرٌ غايةٌ في الخسّة ، ورجائي من القراء إن كان في حجراتهم الآن كلبٌ عزيزٌ عليهم ، أن لا يقرءوا هذا المقال بصوت مرتفع ، فأنا لا أريد أن أجرح أحداً .
لقد خلق الله في كل أمة مجموعة من الصالحين ، والكلاب أيضاً ليست مستثناة من هذه القاعدة ، فلا بد أنك صادفت ذات مرة كلباً طيباً ... مثل هذا الكلب تبدو على جسده آثار الطيبة (4) ، وتراه عندما يمشي يبدو في غاية التواضع والمسكنـة ، وكأن حمـل الأوزار والذنوب يمنعه من رفع رأسه إلى أعلى ، وترى ذيله ملتصقاً ببطنه في الغالب ، ويستلقي في نهر الطريق مُغلقاً عينيه في حالة من التفكير العميق أشبه ما يكون بالفلاسفة والزّهاد ، وتمتد شجرة نسبه إلى فلاسفة الكلاب القدامى ... فإذا جاءت سيارة ، وأطلق سائقها آلة التنبيه بقدر المستطاع ... حتى وإن طرق بيديه على كل أجزاء السيارة ، وطلب من المارّة تنبيهه ، ونادى هو بنفسه عليـه مرّات عديدة ، فإن الكلب لا يفعل أكثر من وضع رأسه على الأرض ، وفتح عينيه الحمراوين ، وكأنهما في حالة من السُكر ، ثم يُلقي نظرة على ما يدور حوله ، ثم يُغمض عينيه ثانية . فإذا لسعه أحد بكرباج ، نهض حضرته بكل تؤدة واطمئنان ، ثم استلقى مرة أخرى على بُعد ياردة من مكانه الأول ، ويواصل أفكاره من حيث انقطع حبلُها . فإذا كان القادم صاحب دراجة ، ونبهـه بجرسها ، فإنه يفهم أنها مجرد " دراجة " ، وإفساح الطريق لمثل هذا " الشيء التافه " لا يتناسب مع عظمة الزهد والدروشة .
هذا الكلب نفسه عند الليل تراه يمُدّ ذيله اليابس الدقيق في الشارع قدر المستطاع ، والهدف هنا ليس أكثر من مجرد اختبار لعباد الله الصالحين !!. فإن حدث ووطئت قدمُك ذيله بطريق الخطأ ، فإنه عندئذ يبدأ معك تحقيقاً بلهجـة شديدة الغضب : " أ تُضـايق الدراويش يا ولد !!... ألا ترى أننا معشر الزّهاد نجلس هنا ؟!. " . وعلى أثر دعاء هذا " الزاهد " يُصاب الجسم برعشة ، وتظل ترى في النوم حلماً يتكرر ليال عديدة ، فحواه أن عدداً من الكلاب لا حصر له يتعلق بساقك ، ولا يسمح لك بالمرور ، فإذا استيقظت وجدت قدميك " محشورتين " في إحدى زوايا السرير .
أتمنّى لـو يُنعـم الله عليّ لفـترة ما بنعمـة النباح بصوت عال ، وبنعمة " العضّ " بقوة !!. فأنا لا تنقصني الرغبة الشديدة في الانتقام من الكلاب ، وتدريجياً ستصل هذه الكلاب جميعاً إلى المستشفيات للعلاج . يقول أحد الشعراء :
لا تخشى يا " عرفي " من صخب الرّقباء
فإن نباح الكلاب لا يمنع رزق الفقراء
هذا هو الشعر الذي يناقض الفطرة ، ويُعدُّ وصمة عار على جبين آسيا ، وهناك مثل بالإنجليزية معناه " الكلاب التي تنبح لا تعُض " (5) ، فليكُن ، ولكن من يستطيع التّنبّؤ بالوقت الذي يتوقّف فيه الكلب عن النباح ويبدأ في العضّ !!!.
هوامش
1 - المصرع كما نعرف هو الشطر الواحد من البيت الشعري ، والمطلع في الغزلية الأردية هو البيت الأول من الغزلية بشرط أن يتحد الشطران قافية ورديفاً .
2 - تان سين كان موسيقياً مشهوراً في عهد السلطان المغولي " جلال الدين أكبر : 1556م – 1605م " ، وصار اسمه يستخدم الآن كناية عن المغني البارع . انظر : فيروز اللغات اردو – اردو ص 339 .
3 - جرت العادة في الآداب الشرقية ( فارسي – أردو – تركي ) أن يُؤرّخ لوفاة الشخصيات البارزة ببيت أو مصرع شعري إذا ما تمّ حسابه بطريقة " الجُمّل " عُرف تاريخ الوفاة ، وهذا هو ما يشير إليه الكاتب .
4 - في الأصل " بتسيا " وهي تعني الإرهـاق من كثرة العبـادة ، ولكني فضلت الترجمة بلفظ " الطيبة " حتى لا يأتي لفظ " العبادة " صفة للكلب ، وهو ما لم أستسغه .
5 - الإشارة إلى المثل الإنجليزي : BARKING DOGS SELDOM BITE

إبراهيم محمد إبراهيم
04/10/2007, 07:53 AM
الكلاب
سألت أساتذة علم الحيوان ، واستشرت المنجمين ، وأرهقت ذهني في القراءة والمطالعة ، لكني لم أستطع أبداً أن أفهم ما هي فائدة الكلاب ؟!. خذ البقرة كمثال : إنها تعطينا اللبن ، وخذ الشاة أيضاً : إنها تعطينا الحليب ... والروث كذلك !!! . لكن ماذا تفعل الكلاب ؟!... ستقول بأن الكلب حيوان وفيّ ... يا سيدي ، إذا كان الوفاء يعني أن يبدأ الكلب في النباح في السابعة مساءً ، ويواصـل نباحه بلا توقف حتى السادسة صباحاً ، فنحن ، " مقطوعي الذيل " أفضل بالتأكيد .
بالأمس فقط انتعـش مـزاج أحـد الكلاب في الحادية عشرة ليلاً ، فترنم " بمصرع " مقفى ، وبعد دقائق قليلة ردّ عليه كلب من " الفيللا " المقابلة بـ " مصرع " أكمل به " مطلع " (1) الغزلية . في تلك الأثناء يا سيدي استشاط أحد الكلاب المخضرمين غضباً ، فخرج من مخبئه في فرن حلواني ، وأكمل على مضض الغزلية عن آخرها ، وعندئذ رفع أحد الكلاب من ذوي الحس المرهف عقيرته بالثناء والتشجيع من ناحية الشمال الشرقي ... ثم لا تسأل بعد ذلك عن احتدام هذه الأمسية الشعرية ومدى إثارتها وشدتها ... لقد ألقى فيها بعض الكلاب بغزليتين من قافية واحدة ، والبعض الآخر ألقى بثلاث غزليات من ذات القافية ، والبعض الآخر ارتجل عدة قصائد ودون إعداد مسبق ... واشتعلت الأمسية ولم تهدأ .
فتحت النافذة ، وناديت فيهم : نقطة نظام ... نقطة نظام ... ولكن في مثل هذه الأمسيات لا يعيرُ أحدٌ ما يقـوله رئيس الجلسة اهتماماً . والآن ، هل من أحد يسألهم : يا حضرات ، إن كان ولا بد من عقد مثل هذه الأمسيات ، فلماذا لا تجتمعون على شاطئ النهر في الهواء الطلق ، وتمارسون هواياتكم ؟!.
والحقيقة أن كلابنا المحلية " البلدي " تتسم بقدر كبير من سوء الأدب ، فأكثرهم متعصّب للوطن والقومية بحيث أنه يطلق العنان لنباحه فور وقوع عينيه على " جاكيت وبنطال " ، على أيـة حال هذا أمر يستحق التقدير إلى حد ما ، فدعك من الحديث عنه ، إذ أن هناك أمراً آخر ، فقد اتفق لي أن زرت أصحاب الفيللات مرات عديدة حاملاً في يدي سلال الفواكه والورود ... قسماً يا سيدي ، إني رأيت من الأدب والذوق في كلابهم ما جعلني أهيم إعجاباً بهم ، فعندما دخلنا من بوابة الفيللا أطلق الكلب صيحة " بخ " خفيفة وهو في مكانه في الشرفة ، ثم أغلق فمه وهبّ واقفاً ، فلما تقدمنا ناحيته تقدم هو الآخر بضع خطوات ، وأطلق صيحة أخرى بصوت رقيق تملؤه البراءة ، فكأنـه يقوم بالحراسة ، ويعزف الموسيقى في نفس الوقت ... بينما كلابنا لا تجد في نباحها لحناً أو نغمة ، ولا أول لها من آخر ، ولا حتى ملامح واضحة ... مجرد نباح متواصل ... هذه الكلاب الجامحة تطلق الصيحة تلو الأخرى ، فلا تراعي الوقت المناسب ، ولا المكان المناسب ... لا يهمها سوى استعراض حناجرها ، وكل غرورها مبني على أن الموسيقار المشهور " تان سين " (2) قد ولد في هذا البلد .
لا شك أن علاقاتنا بالكلاب ظلت دائماً متوترة مشدودة ، لكني أقسم لك أننا في مثل هذه الظروف لم نتجاهلها عن عمد أبداً ... ربما تعتبر هذا نوعاً من الغرور ، لكن يشـهد الله أنني لم أستطع أن أرفع يدي على أي كلب حتى يومنا هذا ، وقد أشار عليّ كثير من الأصدقاء أنني لا بد أن أحتفظ معي في الليل بعصا أو " نبوت " أدفع به البلاء عن نفسي ، لكني لا أريد أن أخلق عداءً بين وبين أحد بلا مبرر ، فبمجرد أن تنبح الكلاب تغلب عليّ أصالتي حتى أنك لو رأيتني في ذلك الوقت لظننتني جباناً ، وربما تظن عندئذ أيضاً أن الجفاف يصيب حلقي ... صحيح أنني لو حاولت في مثل هذه الظروف أن أغني فلن تخرج من حلقي سوى الحشرجة ... ولو أن لك مثل مزاجي وطبعي لرأيت أنك في هذا الوقت ستنسى حتى " آية الكرسي " ، وربمـا رددت بدلاً منها " دعاء القنوت " .
ذات مرة تصادف أن كنت عائداً من المسرح حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، وفي يدي عصا أطوّح بها في الهواء ، وكنت أردد إحدى أغاني المسرحية لأثبّتها في ذهني ... ولأنني لم أكن أتذكّر كلمات الأغنية - وما زلت مبتدئاً في هذا المجال – فقد اكتفيت بالتصفير ، حتى إذا كان بها بعض " النشاز " ظنّ من يسمعها أنها موسيقى إنجليزية .
في تلك الأثناء عطفت على أحد المنحنيات ، فوجدت أمامي " شاة " مربوطة ، ولك أن تتخيل أن هذه " الشاة " بدت أمام عيني " كلباً " ... ظننتها كلباً ... وفي ضخامة الماعز ، أي كلب إلى أقصى حد ... فتورمت يداي وقدماي ، وتباطأت حركة العصا في يدي شيئاً فشيئاً حتى توقفت في الهواء تماماً عند زاوية غير مشجعة ... وارتعشت صفارتي الموسيقية حتى صمتت ... ولكن وضـع فمي الذي يصـفّر – للحق – لم يطرأ على شكله المخروطي أي تغيير ... وكأن هناك نغمة لا تزال تخرج منه ، ولكن بغير صوت !!!... وهناك موضوع طبيّ بحت فحواه أنه في مثل هذه الظروف لا ينبغي أن تقلق إن تصبّبت عرقاً حتى وإن كنت في فصل الشتاء ، لأن هذا العرق سيجف فيما بعد !!!.
ولأنني محتاط بطبعي ، فلم يحدث لي أبداً أن جرّبت عضّة كلب ، بمعنى أنه لم يعضّني كلب حتى يومنا هذا ، ولو حدث – لا قدّر الله – مثل هذا لكان نعيي الآن هو الذي يطبع بدلاً من هذه الحكاية كلهـا ، ولصـار بيت الشعر الذي سيكتب موضّحاً تاريخ وفاتي (3) بمثابة دعاء يقول : " فلينبُت من طينة هذا الكلب عُشبٌ لا يفنى " ، ولكن :
لمن أحكي عن كلب الطريق ، إنه مصيبة عظمى
فما كنت أكره الموت لو كان يأتيني دفعة واحدة
وطالما وُجدت الكلاب في هذا العالم ، ولا تزال مُصرّة على النباح ، فتأكد أن إحدى قدميْنا في القبر دائماً . وللعلم فإن نباح الكلاب له أصول ونظام عجيب ، فهو من ناحية كالمرض المُعدي ، ومن ناحية أخرى يصيب صغارها وكبارها على السواء ، فلو أن أحد الكلاب الضخمة القوية أراد أن يُثبت وجوده ويحافظ على مكانته ، فأطلق " بعض الهوهوات " ، وجدتنا نحن أيضاً – شئنا أم أبينا – نقول : زدنا يا أخي زدنا !!!.
" ومع أن الكلب في ذلك الوقت لا بد أن يكون مُقيّداً بسلسلة " ، لكن هذا التّعس لا يتوقف عن النباح ، رغم أنه لا يبلغ من العمر سوى أيام معدودة ، ولا يزيد وزنه عن عدة جرامات ... صوت دقيق ، ورئة دقيقة ، ومع ذلك فإنه ينبح بقوة تجعل رعشة صوته تصل حتى ذيله ... وفوق هذا فهو يقف أمام السيارات المارة ، وينبح وكأنه سيوقفها !!. فلو كنت أنا مثلاً أقود سيارة في مثل هذه الحالة ، فإن يدي قطعاً ستتوقف عن القيادة ، ولذا فكثيراً ما تصدمهم السيارات وتقتلهم .
وأكبر اعتراض لي على نباح الكلاب هو أن أصواتهم تشلّ جميع قوى التفكير لدى الإنسان ، وخاصـة عندما تخـرج مجموعـة منهم فجـأة من تحت " دكّة " أمام أحد الدكاكين إلى الشارع لتؤدي دورها في التنبيه والإزعاج ... من منّا عندئذ يظل عقله كما هو ؟!. في هذه الحالة يضطر الشخص إلى الانتباه والالتفات إلى كل منها واحداً تلو الآخر ، وبانتظام ... إضافة إلى ما يثيرونه من ضجيج من جانب ، وصرخات اعتراضنا – تحت الشفاه – من جانب ، والحركات والسكنات العشوائية – الحركات من الكلاب والسّكنات منّا نحن – من جانب آخر . فكيـف إذاً يعمـل العقل في مثل هذه الظروف ؟!. ولا أدري ما هو التصرف الذي سيقرّره عندها ؟!. على أية حال كان هذا الظّلم السّافر من الكلاب مذموماً لديّ دائماً ، فلو أن واحداً منها تقدم إلينا – كمُمثّل عنهم – بذوق قائلاً : الطريق مغلق يا سيدي ، فإني أقسم لك أننا عندئذ سوف نتراجع بلا مناقشة ، وهذا ليس أمراً جديداً ، فقد قضيـنا ليال عديدة قبـلاً نتحسّس الشوارع بناءً على طلب من الكلاب !!. لكن أن تتحدّانا جماعتُهم هكذا بالإجماع ، فهذا أمرٌ غايةٌ في الخسّة ، ورجائي من القراء إن كان في حجراتهم الآن كلبٌ عزيزٌ عليهم ، أن لا يقرءوا هذا المقال بصوت مرتفع ، فأنا لا أريد أن أجرح أحداً .
لقد خلق الله في كل أمة مجموعة من الصالحين ، والكلاب أيضاً ليست مستثناة من هذه القاعدة ، فلا بد أنك صادفت ذات مرة كلباً طيباً ... مثل هذا الكلب تبدو على جسده آثار الطيبة (4) ، وتراه عندما يمشي يبدو في غاية التواضع والمسكنـة ، وكأن حمـل الأوزار والذنوب يمنعه من رفع رأسه إلى أعلى ، وترى ذيله ملتصقاً ببطنه في الغالب ، ويستلقي في نهر الطريق مُغلقاً عينيه في حالة من التفكير العميق أشبه ما يكون بالفلاسفة والزّهاد ، وتمتد شجرة نسبه إلى فلاسفة الكلاب القدامى ... فإذا جاءت سيارة ، وأطلق سائقها آلة التنبيه بقدر المستطاع ... حتى وإن طرق بيديه على كل أجزاء السيارة ، وطلب من المارّة تنبيهه ، ونادى هو بنفسه عليـه مرّات عديدة ، فإن الكلب لا يفعل أكثر من وضع رأسه على الأرض ، وفتح عينيه الحمراوين ، وكأنهما في حالة من السُكر ، ثم يُلقي نظرة على ما يدور حوله ، ثم يُغمض عينيه ثانية . فإذا لسعه أحد بكرباج ، نهض حضرته بكل تؤدة واطمئنان ، ثم استلقى مرة أخرى على بُعد ياردة من مكانه الأول ، ويواصل أفكاره من حيث انقطع حبلُها . فإذا كان القادم صاحب دراجة ، ونبهـه بجرسها ، فإنه يفهم أنها مجرد " دراجة " ، وإفساح الطريق لمثل هذا " الشيء التافه " لا يتناسب مع عظمة الزهد والدروشة .
هذا الكلب نفسه عند الليل تراه يمُدّ ذيله اليابس الدقيق في الشارع قدر المستطاع ، والهدف هنا ليس أكثر من مجرد اختبار لعباد الله الصالحين !!. فإن حدث ووطئت قدمُك ذيله بطريق الخطأ ، فإنه عندئذ يبدأ معك تحقيقاً بلهجـة شديدة الغضب : " أ تُضـايق الدراويش يا ولد !!... ألا ترى أننا معشر الزّهاد نجلس هنا ؟!. " . وعلى أثر دعاء هذا " الزاهد " يُصاب الجسم برعشة ، وتظل ترى في النوم حلماً يتكرر ليال عديدة ، فحواه أن عدداً من الكلاب لا حصر له يتعلق بساقك ، ولا يسمح لك بالمرور ، فإذا استيقظت وجدت قدميك " محشورتين " في إحدى زوايا السرير .
أتمنّى لـو يُنعـم الله عليّ لفـترة ما بنعمـة النباح بصوت عال ، وبنعمة " العضّ " بقوة !!. فأنا لا تنقصني الرغبة الشديدة في الانتقام من الكلاب ، وتدريجياً ستصل هذه الكلاب جميعاً إلى المستشفيات للعلاج . يقول أحد الشعراء :
لا تخشى يا " عرفي " من صخب الرّقباء
فإن نباح الكلاب لا يمنع رزق الفقراء
هذا هو الشعر الذي يناقض الفطرة ، ويُعدُّ وصمة عار على جبين آسيا ، وهناك مثل بالإنجليزية معناه " الكلاب التي تنبح لا تعُض " (5) ، فليكُن ، ولكن من يستطيع التّنبّؤ بالوقت الذي يتوقّف فيه الكلب عن النباح ويبدأ في العضّ !!!.
هوامش
1 - المصرع كما نعرف هو الشطر الواحد من البيت الشعري ، والمطلع في الغزلية الأردية هو البيت الأول من الغزلية بشرط أن يتحد الشطران قافية ورديفاً .
2 - تان سين كان موسيقياً مشهوراً في عهد السلطان المغولي " جلال الدين أكبر : 1556م – 1605م " ، وصار اسمه يستخدم الآن كناية عن المغني البارع . انظر : فيروز اللغات اردو – اردو ص 339 .
3 - جرت العادة في الآداب الشرقية ( فارسي – أردو – تركي ) أن يُؤرّخ لوفاة الشخصيات البارزة ببيت أو مصرع شعري إذا ما تمّ حسابه بطريقة " الجُمّل " عُرف تاريخ الوفاة ، وهذا هو ما يشير إليه الكاتب .
4 - في الأصل " بتسيا " وهي تعني الإرهـاق من كثرة العبـادة ، ولكني فضلت الترجمة بلفظ " الطيبة " حتى لا يأتي لفظ " العبادة " صفة للكلب ، وهو ما لم أستسغه .
5 - الإشارة إلى المثل الإنجليزي : BARKING DOGS SELDOM BITE