الجزء الثالث من قصو سأعود ثانية ( محاولة لكي يظهر النص )

[إبراهيم محمد إبراهيم]

سأعود ثانية
واجده تبسم
نقلها عن الأردية
د . إبراهيم محمد إبراهيم

وهكذا تم إنزال الملاك والرجل صاحب الإزار إلى الأرض في حالة هي إلى الحلم أقرب . خاطب الملاك الرجل صاحب الإزار في رقة قائلاً :
· يا أخي،كيف ستتدبر الأمر هنا إذا ظللت هكذا شارد الذهن،إنه فضل من الإله أن أعطاني قوة تجعلني أدخل القلوب عن طريق العيون وأعرف ما بداخلها ، لكني أقول لك شيئاً،إن القلب يستريح إذا " فضفض " عن نفسه بالكلام .
نظر صاحب الإزار إلى الملاك نظرة ممتنة ، ثم واصل الملاك حديثه قائلاً :
· أتعرف!.إن الإله مسرور منك للغاية،ولهذا فقد منّ عليك بثلاثة أشياء أولها أنك إذا كنت في مكان ما وأردت أن تختفي عن عيون أحد وألاّ يراك،فإنك تستطيع أن تختفي عن عيونه فعلاً،وأنا كما تعلم ملاك، وأستطيع الاختفاء،ولكننا نستطيع أن نرى بعضنا البعض،وأن يشعر كل منا بالآخر في حالة الاختفاء هذه أيضاً. أما الأمر الثاني فهو أنك تستطيع أن تطير إلى حيث تريد في غمضة عين،وقد أنعم الله عليك بهذه النعمة لأن فترة سنة واحدة قليلة للغاية،وسيضيع أكثر من نصف وقتك في التنقل ما بين القطارات والأتوبيسات والتاكسيات.أما الأمر الثالث وهو أهمها جميعاً فهو أنه تمّ انتزاع عاطفة الحب والرحمة والرقة والتعاطف من قلبك،لأنك بالأصل رجل رقيق القلب،وحالة بلادك ستجعلك في بكاء دائم،ولهذا انتزعت الدموع من عينيك، والمحبة من قلبك،والرقة من عواطفك،وهذه يا حبيبي أعظم نعم الإله عليك،فأنت الآن تستطيع أن تمر بسلام من كل المواقف،وتتحمل كل العواطف،لكنك لن تستطيع أن تبكي لآلام بني الإنسان رغم كونك إنساناً،وإلاّ فإنك ستتألم كثيراً،والإله لا يريد لك مزيداً من الألم .
صوّب الرجل صاحب الإزار أنظاره إلى الملاك ، فأدار الملاك وجهه إلى الناحية الأخرى في خوف : كم من الجراح كامنة في هذه النظرات ، ووقف الاثنان في مكان تمتد فيه الحقول إلى أبعد حد ، والمحاريث تسير في هذه الحقول تجرّها الثيران والإنسان معاً . نظر الملاك إلى صاحب الإزار قائلاً :
· إنك لا تتحدث إليّ ، ولكن لا بأس ، فأنا أستطيع أن أفهم ما يدور بالقلب . كنت تريد أن تتطلع على أحوال الفلاحين وحقولهم ، أليس كذلك ؟. ها هي أمامك ، انظر ، هذا الفلاح مات ثوره ، ولهذا فإنه يسقي الحقل بنفسه ، يسقيه مع الماء من دمائه ، وقد علّق ولديه الاثنين في المحراث حتى لا يضايقهم صاحب الأرض عندما يطلب منه سداد ديونه ، ولا يقتص من بناته الشابات في حالة عدم السداد .
وخرجت آهة ساخنة من فم صاحب الإزار ، والآن أصبحا يسيران عبر طريق ترابي باتجاه إحدى القرى :
· أنا أعرف أنك تريد أن تمشي على قدميك لترى كل شيء عن قرب وتتعرف عليه ، ولهذا فإني لا أطير بك رغم أننا نستطيع الطيران إن أردنا .
ووصلا قرية من قرى المنبوذين ، حيث كان أحد الأطفال يصرّ في عناد على أمه قائلاً :
· أنا أيضاً سأذهب إلى المدرسة ، سأتعلم أنا أيضاً ، سأعلق حقيبة في كتفي أنا أيضاً مثل ابن العمدة .
احتضنت الأم ابنها ، وكانت عيناها تدمعان ، وفي ركن من البيت زعق والد الطفل قائلاً :
· يا ابن الحرام ، كيف جاء في ذهنك أن تدخل المدرسة مثل أولاد " الكبار " .
ثم أمسك بطفله ، وجذبه إليه بشدة ، وصفعه على وجهه صفعتين ، ثم قال :
· وإذا دخلت أنت المدرسة فمن يكنس بين العمدة وينظفه ، ومن ينظف دورات مياههم وحماماتهم ، أبوك ؟!.
أدار صاحب الإزار وجهه ، وأمسك بقوة بيد الملاك .فقال الملاك بلهجة رقيقة :
· فهمت ، فهمت ، إنك لا تستطيع أن ترى هذا المنظر أكثر من ذلك ، هيا بنا .
وبعد ذلك كانا يقفان في الجزء المخصص للرجال في دوار العمدة ، ولم يكن أحد يراهما ، ولهذا كانا يستطيعان رؤية أي شيء وكل شيء . كانت هناك فتاة شابة شعثاء غبراء يتم تجريدها من ملابسها قطعة قطعة . العمدة هو الذي كان يجردها من ملابسها قطعة قطعة ، ويمتدح جسدها عضواً عضواً . كان هذا الإقطاعي العجوز ينظر إلى جسد الفتاة الشابة نظرات جائعة متحسساً كل تفاصيله ، ولكي يجنّب الملاك الرجل صاحب الإزار رؤية ما سوف يحدث خلال دقائق ، طار به من المكان .
والآن أصبحا يقفان وسط مدينة كبيرة هامة ، حيث كان هناك طابور طويل من الناس يقفون أمام منفذ من منافذ التموين ، وكل واحد منهم ينتظر دوره ، ويحمل في يده حقيبة خالية مثل بطنه ، وقد بدا الإرهاق والضعف الشديد على كل منهم . وفجأة ظهر رجلان في زيهما الكاكي يحمل كل منهما في يده عصا يلوح بها ، وأشبعا هذان الناس ضرباً بعصيهما حتى تفرقوا . وفي الأمام أقبلت سيارة فخمة نزل منها شاب يضع نظارة على عينيه ، ويلبس قميصاً وسروالاً أبيض ، ومعه مجموعة من الحاشية والحرس ، ثم اتجه هذا الشاب إلى منصة نصبت له ، وأخذ يخطب في الناس قائلاً :
· الأمور ليست بمثل هذا السوء الذي توصف به،ثم إننا هنا لخدمتكم،ونحن في سبيل خدمتكم هذه نخرج في قيظ الشمس لنتفقد أحوالكم،ونقف على أوضاعكم،ونفكر فيما فيه خيركم،والحكومة في طريقها إلى تركيب مواسير المياه في قراكم،فالماء يملأ البطون سريعاً،وللماء فوائد لا حصر لها،فالنظافة التي هي أهم شيء في الحياة لا تكون إلا بالماء،المهم أن تحرصوا على أن لا تنشروا القذارة،لأنكم بقدر ما تكونون قذرين بقدر ما تنتشر بينكم الأمراض،ولأننا نخدمكم بصدق فإننا نؤكد لكم أننا لا نريد أن تموت جماهيرنا بالقذارة والأمراض، واحرصوا كذلك على أن تزرعوا الأشجار أمام بيوتكم ، فإن الأشجار يمكنها تزيين مدينتكم .
ثم استقل هؤلاء سيارة فخمة مكيفة ورحلوا ، وبقي الرجل صاحب الإزار فاغراً فاه مما رأى . عندئذ أمسك الملاك بيد صاحب الإزار قائلاً :
· الآن تعالى بنا نطل على المخزن سريعاً .
لم يكن أحد يستطيع أن يراهما . قرأ صاحب الإزار اللافتة المعلقة على منفذ توزيع التموين " لا يوجد سكر ، لا يوجد أرز ، سيصل الشعير في خلال عدة أيام " . ولما دخلا إلى المنفذ وجداه مليئاً عن آخره بالأجولة الممتلئة بضاعة . أخرج الملاك سكيناً من جانبه وشق بها بطن جوال السكر الذي أخذ يتساقط على الأرض ، ثم شق بطن جوال الأرز ، وجوال الشعير ...
· إنها مليئة بالمقررات الغذائية . هيا بنا إلى مكان آخر .
كان المكان الآخر قصراً منيفاً ، قصراً كبيراً ، يجلس فيه عدة باشوات بملابسهم البيضاء وكروشهم البارزة ، وكانوا يتبادلون الحديث فيما بينهم :
· يجب زيادة أسعار الزيت .
· علينا أن نمنع نزول القمح إلى الأسواق لأيام أخرى .
· لنستبدل خمسة كيلوات من القمح في كل جوال قمح بخمسة كيلوات من الحصى .
· البسكويت " الذهب " سيصل بعد يومين ، ولذا يجب أن نفرغ المخزن السفلي " البدروم " من أجولة القمح التي تكاد تفسد ، ونرسلها إلى منافذ التموين ، ونجهز المكان لصناديق الذهب .
عندئذ قال الملاك لصاحب الإزار :
· هيا ، سآخذك إلى مدارس الأطفال ، ألست تريد رؤيتها ؟.
ونظر صاحب الإزار إلى الملاك نظرات بها اضطرار ، ولم يقل شيئاً ، وعلى الفور وصلا إلى فناء مدرسة ، حيث تناهى إلى الآذان صوت الصغار من بعيد وهم يرددون " الهند بلدنا أجمل من العالم كله " (4) .
كانوا أطفالاً أنهكهم الجوع الواضح على وجوههم،وأساتذة هزمهم الواقع ، الأساتذة يلبسون شورتات ممزقة ، والأطفال يلبسون ملابس لا علاقة لها بالملابس . جاء المسئولون عن المدرسة ، وأخذوا يوزعون الماء واللبن على الأطفال الذين كادوا يطيرون فرحاً ، فمدوا أكفهم المتسخة حيث تسلموا بها بعض حبات الفول السوداني وقطع الخبز الجاف " التوست " . " الهند وطننا أحسن من العالم كله " . ووضع أحدهم بعض حبات الفول السوداني في يد الرجل صاحب الإزار ، بينما كان الآخر يتمتم قائلاً :
· كيف يسمحون للمتسولين بالدخول إلى المدرسة ، هؤلاء التعساء .
كان الملاك يبدو بملابسه رجلاً عادياً ، ولذا لم يلفت نظر أحد إليه . ربما اعتقدوا أنه واحد من المدرسين . وخرج الاثنان من المدرسة ، واتجها إلى مدينة أخرى . وفي مكان ما توقف الاثنان ، حيث كان البوليس منتشراً في المكان ، ربما كان موكب أحد المسئولين الكبار في الطريق . همس أحد الموجودين إلى زميله قائلاً :
· هذا التعس يجعل الشاحنات تعمل مجاناً لنقل أكبر عدد من الناس لسماع خطبته ، ويخفي عن الدنيا حقيقته .
· اصمت أيها التعس ، فلو سمع البوليس ما تقول لدخلت السجن ، وستكون في حالة يرثى لها .
وأخذت الشاحنات تصل إلى المكان محملة بالبشر،وأعلن صوت ناعم من خلال الميكروفون على المنصة قائلاً :
· إن الناس لا يفهموننا ، أمامنا مشاكل كثيرة ، لكننا لا نستطيع حل هذه المشاكل بالسحر ، إننا نتمنى أن يعيش شعبنا وجماهيرنا في رفاهية ، وهذا هو ما نسعى إليه ، ولهذا نفتتح كل يوم مصانع جديدة ، ونبني كل يوم مساكن للفقراء ، ونوزع الأرض الزراعية على الفلاحين المعدمين.لماذا كل هذا !. لكي تعيشوا في رفاهية ، ومع ذلك فإن هناك بعض الناس الذين يضللونكم ويخدعونكم،ويجب عليكم أن تحذروا من أمثال هؤلاء ، وأن تساعدوننا في تنفيذ برامج القضاء على الفقر ، فنحن لا نستطيع تحقيق شيء بدونكم ، والآن قولوا معي بصوت عال ثلاث مراث : تحيا الهند . قولوا . أشكركم .
وأقبل سيل من المتطوعين،فدفعوا الاثنين"الرجل صاحب الإزار والملاك" عدة ياردات إلى الخلف ، عندئذ أخرج الملاك مسدساً من تحت ملابسه . نظر الرجل صاحب الإزار في دهشة إلى الملاك الذي ابتسم قائلاً :
· لقد أخذت هذا المسدس معي عند خروجنا من الجنة لوقت الحاجة،فهو ينفع في وقت مثل هذا،فأنا ملاك أغضب بشدة،ربما سمعتني في بعض الأحيان أحتدّ على الإله نفسه،والإله يكرمني ويسامحني ، فإن ضايقك أحد فسأفرغ هذا في جسده ، إنك لست أمانة عندي فقط ، إنك أمانة الإله ، وهدية الجنة .
ونظر الملاك بحب وثقة إلى صاحب الإزار،ثم أخفى المسدس بين طيات ملابسه ثانية،وواصلا سيرهما لعدة أيام،وكانت الأمور في هذه الأيام تتغير أمام أعينهما،وازداد الرجل صاحب الإزار نحولاً عما كان عليه،ولم يبق منه غير نصفه،لقد أصبح عبارة عن كومة من العظام،وحيثما حلّ تكوّم جالساً،وكان الملاك يواسيه قائلاً :
· ما هذا يا صديقي،هل تعبت من الآن.لقد خرجنا في رحلة لمدة عام كامل.اسمع،لا يجب أن تحبط وتحزن هكذا،لقد أحسن الإله عندما احتفظ بدموعك عنده،وإلا كنت سقطت ميتاً من البكاء،ومع ذلك فليس هناك ما يسوء إلى هذا الحد.انظر،إن الأمور تتغير بسرعة،والانتخابات على الأبواب،فإن أحسن شعبك اختيار الحكومة الجديدة بعقلانية مثلما نسمع أنا وأنت كل يوم،فسوف تتحسن أحوالهم إلى حد ما،بل سوف تتحسن إلى حد كبير،وعندئذ ستلبس في الجنة كل يوم بذلة كاملة،وتتناول الفطور والغداء والعشاء الفاخر .
وابتسم الملاك على أمل أن يبتسم صاحب الإزار هو الآخر،ولكن شفتيه كانت كأنهما ملتصقتان ببعضهما.وجاء شهر مارس من عام 1977م بأحداثه الانتخابية الثورية ، وانتهى شهر مارس ، ولا يزال الملاك وصاحب الإزار يواصلان رحلتهما . كان هناك حماس شديد يبدو في وجوه الناس ، وسعادة أشد تعلو هذه الوجوه . كانت الأيام القادمة تحمل في طياتها ظلالاً ذهبية ، ولكن ... ذات يوم قال الملاك في قلق :
· يا أخي ، يبدو أن ريما رجعت لعادتها القديمة !؟
رفع صاحب الإزار عينيه ونظر في صمت إلى الملاك .
· لقد أنعم عليّ الإله بطاقة أستطيع بها أن أعرف ما يدور بقلبك ، يبدو أن قلبك ليس سعيداً .
ثم أحنى الملاك رأسه في حالة من الندم وقال :
· أصدقك القول ، إن قلبي أنا الآخر ليس سعيداً .
وقرّب الملاك فمه من أذن صاحب الإزار قائلاً :
· لماذا يا أخي ضاعت كل الوعود والآمال والخطب النارية التي ألقيت قبل 15 مارس 1977م في الهواء ، وأصبحت كأنها لم تكن !!.
كان صاحب الإزار يجلس ممسكاً رأسه بكلتا يديه ، فقال له الملاك :
· لقد عرفت منذ عدة أيام من خلال علمي وحكمتي أن قلبك مطمئن وسعيد بكل ما يحدث ، على اعتبار أنه ربما حان الوقت لكي تزول وصمات العار وينقشع الظلام الذي يسود البلاد منذ سنوات ، وربما يستطيع الحكم الجديد أن يحقق إنجازاً ، ولكن ..
ثم توقف الملاك قليلاً وكأنه يفكر في شيء ما ، ثم قال :
· لقد احتفظ الإله بدموعك عنده،لكنه لم يأخذ منك لسانك.لماذا لا تتكلم؟حتى متى سأظل أكلم نفسي
وقطع الملاك قطعة من القش وأخذ يقضمها بأسنانه قائلاً :
· لم يمض من الفترة المحددة للرحلة سوى ستة أشهر حتى الآن ، كيف ستقضي عاماً كاملاً ؟!. هه ، هيا بنا نتجول بين أحداث العهد الجديد للحكومة الجديدة ، هه ، هيا بنا .
ثم أضاف بقدر من التردد :
· يا صديقي ، لقد تغيرت الحكومة ، ولكن ماذا تغير فيها !!. إنها مجرد وجوه جديدة ركبّت على الأجساد القديمة،وما عدا ذلك فإن كل شيء يبدو كما كان،نفس الحقول ، نفس المحاصيل ، نفس الشوارع ، نفس الحارات ، نفس الفوارق بين الكبار والصغار ، نفس الفقر ، نفس الآلام ، لم يتغير شيء يا أخي !.
وظل الملاك ينظر إلى صاحب الإزار بخوف مع كل خطوة يخطوانها وهو يقول لنفسه :
· ربما لم يحسن الإله صنعاً حين احتفظ بدموع هذا الرجل عنده ، فربما لو بكى لخفف عن نفسه .
ثم أقبل الملاك على الرجل صاحب الإزار قائلاً :
· هيا يا أخي ، هيا بنا نأكل شيئاً ، ونستعيد نشاطنا من جديد ، ثم نواصل سيرنا .
وجلس الملاك على مقعد أمام مطعم مزدحم ، ونادى على الجرسون :
· هات طبقي مخ ، وطبقي كوارع .
أحضر الجرسون كوبي ماء قذرين ، وطبقي مخ بارد قديم ، وكارعين يابسين ليس عليهما لحم ، ووضع كل هذا أمامهما . عندئذ ثارت ثائرة الملاك فقال :
· هل هذا لنا ؟! .
· وهل شرفتنا أنت من السماء حتى نطبخ لك مخاً وكوارع طازجة !!.
الهوامش :
4 - هذا هو المصرع الأول من منظومة للعلامة إقبال بعنوان النشيد الوطني لأطفال الهند ، وقد اتخذت منها الهند لفترة نشيداً وطنياً لها .

[إبراهيم محمد إبراهيم]

سأعود ثانية
واجده تبسم
نقلها عن الأردية
د . إبراهيم محمد إبراهيم

وهكذا تم إنزال الملاك والرجل صاحب الإزار إلى الأرض في حالة هي إلى الحلم أقرب . خاطب الملاك الرجل صاحب الإزار في رقة قائلاً :
· يا أخي،كيف ستتدبر الأمر هنا إذا ظللت هكذا شارد الذهن،إنه فضل من الإله أن أعطاني قوة تجعلني أدخل القلوب عن طريق العيون وأعرف ما بداخلها ، لكني أقول لك شيئاً،إن القلب يستريح إذا " فضفض " عن نفسه بالكلام .
نظر صاحب الإزار إلى الملاك نظرة ممتنة ، ثم واصل الملاك حديثه قائلاً :
· أتعرف!.إن الإله مسرور منك للغاية،ولهذا فقد منّ عليك بثلاثة أشياء أولها أنك إذا كنت في مكان ما وأردت أن تختفي عن عيون أحد وألاّ يراك،فإنك تستطيع أن تختفي عن عيونه فعلاً،وأنا كما تعلم ملاك، وأستطيع الاختفاء،ولكننا نستطيع أن نرى بعضنا البعض،وأن يشعر كل منا بالآخر في حالة الاختفاء هذه أيضاً. أما الأمر الثاني فهو أنك تستطيع أن تطير إلى حيث تريد في غمضة عين،وقد أنعم الله عليك بهذه النعمة لأن فترة سنة واحدة قليلة للغاية،وسيضيع أكثر من نصف وقتك في التنقل ما بين القطارات والأتوبيسات والتاكسيات.أما الأمر الثالث وهو أهمها جميعاً فهو أنه تمّ انتزاع عاطفة الحب والرحمة والرقة والتعاطف من قلبك،لأنك بالأصل رجل رقيق القلب،وحالة بلادك ستجعلك في بكاء دائم،ولهذا انتزعت الدموع من عينيك، والمحبة من قلبك،والرقة من عواطفك،وهذه يا حبيبي أعظم نعم الإله عليك،فأنت الآن تستطيع أن تمر بسلام من كل المواقف،وتتحمل كل العواطف،لكنك لن تستطيع أن تبكي لآلام بني الإنسان رغم كونك إنساناً،وإلاّ فإنك ستتألم كثيراً،والإله لا يريد لك مزيداً من الألم .
صوّب الرجل صاحب الإزار أنظاره إلى الملاك ، فأدار الملاك وجهه إلى الناحية الأخرى في خوف : كم من الجراح كامنة في هذه النظرات ، ووقف الاثنان في مكان تمتد فيه الحقول إلى أبعد حد ، والمحاريث تسير في هذه الحقول تجرّها الثيران والإنسان معاً . نظر الملاك إلى صاحب الإزار قائلاً :
· إنك لا تتحدث إليّ ، ولكن لا بأس ، فأنا أستطيع أن أفهم ما يدور بالقلب . كنت تريد أن تتطلع على أحوال الفلاحين وحقولهم ، أليس كذلك ؟. ها هي أمامك ، انظر ، هذا الفلاح مات ثوره ، ولهذا فإنه يسقي الحقل بنفسه ، يسقيه مع الماء من دمائه ، وقد علّق ولديه الاثنين في المحراث حتى لا يضايقهم صاحب الأرض عندما يطلب منه سداد ديونه ، ولا يقتص من بناته الشابات في حالة عدم السداد .
وخرجت آهة ساخنة من فم صاحب الإزار ، والآن أصبحا يسيران عبر طريق ترابي باتجاه إحدى القرى :
· أنا أعرف أنك تريد أن تمشي على قدميك لترى كل شيء عن قرب وتتعرف عليه ، ولهذا فإني لا أطير بك رغم أننا نستطيع الطيران إن أردنا .
ووصلا قرية من قرى المنبوذين ، حيث كان أحد الأطفال يصرّ في عناد على أمه قائلاً :
· أنا أيضاً سأذهب إلى المدرسة ، سأتعلم أنا أيضاً ، سأعلق حقيبة في كتفي أنا أيضاً مثل ابن العمدة .
احتضنت الأم ابنها ، وكانت عيناها تدمعان ، وفي ركن من البيت زعق والد الطفل قائلاً :
· يا ابن الحرام ، كيف جاء في ذهنك أن تدخل المدرسة مثل أولاد " الكبار " .
ثم أمسك بطفله ، وجذبه إليه بشدة ، وصفعه على وجهه صفعتين ، ثم قال :
· وإذا دخلت أنت المدرسة فمن يكنس بين العمدة وينظفه ، ومن ينظف دورات مياههم وحماماتهم ، أبوك ؟!.
أدار صاحب الإزار وجهه ، وأمسك بقوة بيد الملاك .فقال الملاك بلهجة رقيقة :
· فهمت ، فهمت ، إنك لا تستطيع أن ترى هذا المنظر أكثر من ذلك ، هيا بنا .
وبعد ذلك كانا يقفان في الجزء المخصص للرجال في دوار العمدة ، ولم يكن أحد يراهما ، ولهذا كانا يستطيعان رؤية أي شيء وكل شيء . كانت هناك فتاة شابة شعثاء غبراء يتم تجريدها من ملابسها قطعة قطعة . العمدة هو الذي كان يجردها من ملابسها قطعة قطعة ، ويمتدح جسدها عضواً عضواً . كان هذا الإقطاعي العجوز ينظر إلى جسد الفتاة الشابة نظرات جائعة متحسساً كل تفاصيله ، ولكي يجنّب الملاك الرجل صاحب الإزار رؤية ما سوف يحدث خلال دقائق ، طار به من المكان .
والآن أصبحا يقفان وسط مدينة كبيرة هامة ، حيث كان هناك طابور طويل من الناس يقفون أمام منفذ من منافذ التموين ، وكل واحد منهم ينتظر دوره ، ويحمل في يده حقيبة خالية مثل بطنه ، وقد بدا الإرهاق والضعف الشديد على كل منهم . وفجأة ظهر رجلان في زيهما الكاكي يحمل كل منهما في يده عصا يلوح بها ، وأشبعا هذان الناس ضرباً بعصيهما حتى تفرقوا . وفي الأمام أقبلت سيارة فخمة نزل منها شاب يضع نظارة على عينيه ، ويلبس قميصاً وسروالاً أبيض ، ومعه مجموعة من الحاشية والحرس ، ثم اتجه هذا الشاب إلى منصة نصبت له ، وأخذ يخطب في الناس قائلاً :
· الأمور ليست بمثل هذا السوء الذي توصف به،ثم إننا هنا لخدمتكم،ونحن في سبيل خدمتكم هذه نخرج في قيظ الشمس لنتفقد أحوالكم،ونقف على أوضاعكم،ونفكر فيما فيه خيركم،والحكومة في طريقها إلى تركيب مواسير المياه في قراكم،فالماء يملأ البطون سريعاً،وللماء فوائد لا حصر لها،فالنظافة التي هي أهم شيء في الحياة لا تكون إلا بالماء،المهم أن تحرصوا على أن لا تنشروا القذارة،لأنكم بقدر ما تكونون قذرين بقدر ما تنتشر بينكم الأمراض،ولأننا نخدمكم بصدق فإننا نؤكد لكم أننا لا نريد أن تموت جماهيرنا بالقذارة والأمراض، واحرصوا كذلك على أن تزرعوا الأشجار أمام بيوتكم ، فإن الأشجار يمكنها تزيين مدينتكم .
ثم استقل هؤلاء سيارة فخمة مكيفة ورحلوا ، وبقي الرجل صاحب الإزار فاغراً فاه مما رأى . عندئذ أمسك الملاك بيد صاحب الإزار قائلاً :
· الآن تعالى بنا نطل على المخزن سريعاً .
لم يكن أحد يستطيع أن يراهما . قرأ صاحب الإزار اللافتة المعلقة على منفذ توزيع التموين " لا يوجد سكر ، لا يوجد أرز ، سيصل الشعير في خلال عدة أيام " . ولما دخلا إلى المنفذ وجداه مليئاً عن آخره بالأجولة الممتلئة بضاعة . أخرج الملاك سكيناً من جانبه وشق بها بطن جوال السكر الذي أخذ يتساقط على الأرض ، ثم شق بطن جوال الأرز ، وجوال الشعير ...
· إنها مليئة بالمقررات الغذائية . هيا بنا إلى مكان آخر .
كان المكان الآخر قصراً منيفاً ، قصراً كبيراً ، يجلس فيه عدة باشوات بملابسهم البيضاء وكروشهم البارزة ، وكانوا يتبادلون الحديث فيما بينهم :
· يجب زيادة أسعار الزيت .
· علينا أن نمنع نزول القمح إلى الأسواق لأيام أخرى .
· لنستبدل خمسة كيلوات من القمح في كل جوال قمح بخمسة كيلوات من الحصى .
· البسكويت " الذهب " سيصل بعد يومين ، ولذا يجب أن نفرغ المخزن السفلي " البدروم " من أجولة القمح التي تكاد تفسد ، ونرسلها إلى منافذ التموين ، ونجهز المكان لصناديق الذهب .
عندئذ قال الملاك لصاحب الإزار :
· هيا ، سآخذك إلى مدارس الأطفال ، ألست تريد رؤيتها ؟.
ونظر صاحب الإزار إلى الملاك نظرات بها اضطرار ، ولم يقل شيئاً ، وعلى الفور وصلا إلى فناء مدرسة ، حيث تناهى إلى الآذان صوت الصغار من بعيد وهم يرددون " الهند بلدنا أجمل من العالم كله " (4) .
كانوا أطفالاً أنهكهم الجوع الواضح على وجوههم،وأساتذة هزمهم الواقع ، الأساتذة يلبسون شورتات ممزقة ، والأطفال يلبسون ملابس لا علاقة لها بالملابس . جاء المسئولون عن المدرسة ، وأخذوا يوزعون الماء واللبن على الأطفال الذين كادوا يطيرون فرحاً ، فمدوا أكفهم المتسخة حيث تسلموا بها بعض حبات الفول السوداني وقطع الخبز الجاف " التوست " . " الهند وطننا أحسن من العالم كله " . ووضع أحدهم بعض حبات الفول السوداني في يد الرجل صاحب الإزار ، بينما كان الآخر يتمتم قائلاً :
· كيف يسمحون للمتسولين بالدخول إلى المدرسة ، هؤلاء التعساء .
كان الملاك يبدو بملابسه رجلاً عادياً ، ولذا لم يلفت نظر أحد إليه . ربما اعتقدوا أنه واحد من المدرسين . وخرج الاثنان من المدرسة ، واتجها إلى مدينة أخرى . وفي مكان ما توقف الاثنان ، حيث كان البوليس منتشراً في المكان ، ربما كان موكب أحد المسئولين الكبار في الطريق . همس أحد الموجودين إلى زميله قائلاً :
· هذا التعس يجعل الشاحنات تعمل مجاناً لنقل أكبر عدد من الناس لسماع خطبته ، ويخفي عن الدنيا حقيقته .
· اصمت أيها التعس ، فلو سمع البوليس ما تقول لدخلت السجن ، وستكون في حالة يرثى لها .
وأخذت الشاحنات تصل إلى المكان محملة بالبشر،وأعلن صوت ناعم من خلال الميكروفون على المنصة قائلاً :
· إن الناس لا يفهموننا ، أمامنا مشاكل كثيرة ، لكننا لا نستطيع حل هذه المشاكل بالسحر ، إننا نتمنى أن يعيش شعبنا وجماهيرنا في رفاهية ، وهذا هو ما نسعى إليه ، ولهذا نفتتح كل يوم مصانع جديدة ، ونبني كل يوم مساكن للفقراء ، ونوزع الأرض الزراعية على الفلاحين المعدمين.لماذا كل هذا !. لكي تعيشوا في رفاهية ، ومع ذلك فإن هناك بعض الناس الذين يضللونكم ويخدعونكم،ويجب عليكم أن تحذروا من أمثال هؤلاء ، وأن تساعدوننا في تنفيذ برامج القضاء على الفقر ، فنحن لا نستطيع تحقيق شيء بدونكم ، والآن قولوا معي بصوت عال ثلاث مراث : تحيا الهند . قولوا . أشكركم .
وأقبل سيل من المتطوعين،فدفعوا الاثنين"الرجل صاحب الإزار والملاك" عدة ياردات إلى الخلف ، عندئذ أخرج الملاك مسدساً من تحت ملابسه . نظر الرجل صاحب الإزار في دهشة إلى الملاك الذي ابتسم قائلاً :
· لقد أخذت هذا المسدس معي عند خروجنا من الجنة لوقت الحاجة،فهو ينفع في وقت مثل هذا،فأنا ملاك أغضب بشدة،ربما سمعتني في بعض الأحيان أحتدّ على الإله نفسه،والإله يكرمني ويسامحني ، فإن ضايقك أحد فسأفرغ هذا في جسده ، إنك لست أمانة عندي فقط ، إنك أمانة الإله ، وهدية الجنة .
ونظر الملاك بحب وثقة إلى صاحب الإزار،ثم أخفى المسدس بين طيات ملابسه ثانية،وواصلا سيرهما لعدة أيام،وكانت الأمور في هذه الأيام تتغير أمام أعينهما،وازداد الرجل صاحب الإزار نحولاً عما كان عليه،ولم يبق منه غير نصفه،لقد أصبح عبارة عن كومة من العظام،وحيثما حلّ تكوّم جالساً،وكان الملاك يواسيه قائلاً :
· ما هذا يا صديقي،هل تعبت من الآن.لقد خرجنا في رحلة لمدة عام كامل.اسمع،لا يجب أن تحبط وتحزن هكذا،لقد أحسن الإله عندما احتفظ بدموعك عنده،وإلا كنت سقطت ميتاً من البكاء،ومع ذلك فليس هناك ما يسوء إلى هذا الحد.انظر،إن الأمور تتغير بسرعة،والانتخابات على الأبواب،فإن أحسن شعبك اختيار الحكومة الجديدة بعقلانية مثلما نسمع أنا وأنت كل يوم،فسوف تتحسن أحوالهم إلى حد ما،بل سوف تتحسن إلى حد كبير،وعندئذ ستلبس في الجنة كل يوم بذلة كاملة،وتتناول الفطور والغداء والعشاء الفاخر .
وابتسم الملاك على أمل أن يبتسم صاحب الإزار هو الآخر،ولكن شفتيه كانت كأنهما ملتصقتان ببعضهما.وجاء شهر مارس من عام 1977م بأحداثه الانتخابية الثورية ، وانتهى شهر مارس ، ولا يزال الملاك وصاحب الإزار يواصلان رحلتهما . كان هناك حماس شديد يبدو في وجوه الناس ، وسعادة أشد تعلو هذه الوجوه . كانت الأيام القادمة تحمل في طياتها ظلالاً ذهبية ، ولكن ... ذات يوم قال الملاك في قلق :
· يا أخي ، يبدو أن ريما رجعت لعادتها القديمة !؟
رفع صاحب الإزار عينيه ونظر في صمت إلى الملاك .
· لقد أنعم عليّ الإله بطاقة أستطيع بها أن أعرف ما يدور بقلبك ، يبدو أن قلبك ليس سعيداً .
ثم أحنى الملاك رأسه في حالة من الندم وقال :
· أصدقك القول ، إن قلبي أنا الآخر ليس سعيداً .
وقرّب الملاك فمه من أذن صاحب الإزار قائلاً :
· لماذا يا أخي ضاعت كل الوعود والآمال والخطب النارية التي ألقيت قبل 15 مارس 1977م في الهواء ، وأصبحت كأنها لم تكن !!.
كان صاحب الإزار يجلس ممسكاً رأسه بكلتا يديه ، فقال له الملاك :
· لقد عرفت منذ عدة أيام من خلال علمي وحكمتي أن قلبك مطمئن وسعيد بكل ما يحدث ، على اعتبار أنه ربما حان الوقت لكي تزول وصمات العار وينقشع الظلام الذي يسود البلاد منذ سنوات ، وربما يستطيع الحكم الجديد أن يحقق إنجازاً ، ولكن ..
ثم توقف الملاك قليلاً وكأنه يفكر في شيء ما ، ثم قال :
· لقد احتفظ الإله بدموعك عنده،لكنه لم يأخذ منك لسانك.لماذا لا تتكلم؟حتى متى سأظل أكلم نفسي
وقطع الملاك قطعة من القش وأخذ يقضمها بأسنانه قائلاً :
· لم يمض من الفترة المحددة للرحلة سوى ستة أشهر حتى الآن ، كيف ستقضي عاماً كاملاً ؟!. هه ، هيا بنا نتجول بين أحداث العهد الجديد للحكومة الجديدة ، هه ، هيا بنا .
ثم أضاف بقدر من التردد :
· يا صديقي ، لقد تغيرت الحكومة ، ولكن ماذا تغير فيها !!. إنها مجرد وجوه جديدة ركبّت على الأجساد القديمة،وما عدا ذلك فإن كل شيء يبدو كما كان،نفس الحقول ، نفس المحاصيل ، نفس الشوارع ، نفس الحارات ، نفس الفوارق بين الكبار والصغار ، نفس الفقر ، نفس الآلام ، لم يتغير شيء يا أخي !.
وظل الملاك ينظر إلى صاحب الإزار بخوف مع كل خطوة يخطوانها وهو يقول لنفسه :
· ربما لم يحسن الإله صنعاً حين احتفظ بدموع هذا الرجل عنده ، فربما لو بكى لخفف عن نفسه .
ثم أقبل الملاك على الرجل صاحب الإزار قائلاً :
· هيا يا أخي ، هيا بنا نأكل شيئاً ، ونستعيد نشاطنا من جديد ، ثم نواصل سيرنا .
وجلس الملاك على مقعد أمام مطعم مزدحم ، ونادى على الجرسون :
· هات طبقي مخ ، وطبقي كوارع .
أحضر الجرسون كوبي ماء قذرين ، وطبقي مخ بارد قديم ، وكارعين يابسين ليس عليهما لحم ، ووضع كل هذا أمامهما . عندئذ ثارت ثائرة الملاك فقال :
· هل هذا لنا ؟! .
· وهل شرفتنا أنت من السماء حتى نطبخ لك مخاً وكوارع طازجة !!.
الهوامش :
4 - هذا هو المصرع الأول من منظومة للعلامة إقبال بعنوان النشيد الوطني لأطفال الهند ، وقد اتخذت منها الهند لفترة نشيداً وطنياً لها .