المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الرابع والأخير من قصة سأعود ثانية ( محاولة لكي يظهر النص )



إبراهيم محمد إبراهيم
04/10/2007, 08:25 AM
سأعود ثانية
واجده تبسم
نقلها عن الأردية
د . إبراهيم محمد إبراهيم

نظر الملاك وهو في غاية الضيق إلى الرجل صاحب الإزار الذي كان يجلس محدّقاً في قائمة الأسعار . نظر الملاك في دهشة وسأل العامل في المطعم :
· كم سعر المخ والكوارع هنا يا أخي ؟.
أجابه العامل في غير مبالاة وهو يعد النقود الفكة في يده :
· روبية وخمس وعشرون بيسة .
· كيف هذا يا أخي ، لقد أكلنا نفس الطعام في هذا المطعم قبل عدة شهور بنصف روبية !.
رد عليه العامل بلا مبالاة :
· نعم ، نعم ، الآن حكم الشعب للشعب ، لقد أصبح سعر البنزين ثلاث عشرة روبية ، والعدس المسوس أربع روبيات للكيلو ، وكان الكيلو منه قبل ذلك بروبيتين ، بينما كان سعر البنزين ثمان روبيات . والآن لا تظهر مزيداً من الذكاء أكثر من هذا ، واترك المقاعد سريعاً ، فهذا وقت عمل .
نظر الملاك إلى العامل ، ودفع الفاتورة في صمت ورحلا ، وأثناء مرورهما من أحد أسواق هذه المدينة الكبيرة وقعت عيناهما على منظر محبط ومخجل في نفس الوقت ، فقد وقفت أمامهما امرأة متسولة ، وفكت أزرار بلوزتها عارضة عليهما ثمار شبابها التي لا تقدر بثمن . قالت للملاك :
· فقط نصف روبية يا بيه ، وبلا فصال .
هب الملاك واقفاً ، وأدار وجهه بعيداً عنها . أما صاحب الإزار فكان كهلاً ، ولهذا لم تخاطبه المرأة بكلمة ، واستدارت ووقفت أمام الملاك من جديد قائلة :
· انظر يا بيه ، أطفالي جوعى ، سأدعو لك ، ماذا أفعل يا بيه ، ألا ترى كم استشرى الغلاء ، لقد كنا في عذاب قبل هذا الغلاء ، والآن أصبحنا لا نملك شيئاً . انظر يا بيه ، الرجل الذي كان يسكن بجواري قتل زوجته أولاً بالسم، ثم سقى أولاده منه ، وبعدها شرب هو أيضاً السم ، وماتوا جميعاً ، ولكنه رجل ، وعنده من الشجاعة ما يجعله يقدم على هذا ، لكني امرأة ، ولا أستطيع أن أرى طفلاً ميتاً .
عندئذ ألقى الملاك بكل ما كان في يده من نقود أمام المرأة ، ثم اختفى هو وصاحب الإزار في غمضة عين ، وبعدها اتجها إلى مدينة أخرى ليلتقطا أنفاسهما ، فقد كان لون وجهيهما مصفراً من شدة الحزن والأسف ، وعندئذ قال الملاك لصاحب الإزار :
· يا أخي ، ماذا كان يضر الإله لو احتفظ بدموعي أنا الآخر عنده .
وأراد الملاك أن يدخل قدراً من السرور إلى قلب صاحب الإزار عندما رآه صامتاً فقال :
· هيا بنا نذهب إلى مكان جديد .
وفي الطريق وقع نظر الملاك على تمثال حول عنقه عقد من الأحذية والشباشب ، فتوقف مكانه ، ونظر إلى صاحب الإزار بقدر من الحيرة قائلاً :
· إن هذا يبدو تمثالاً لك ، ولكن من ذلك التعس الذي لفّ حول عنق رجل طيب مثلك هذه الأحذية والشباشب !. صحيح ، ليس لهذا الشعب نظير ، ولكن يا صديقي ، هذه حركة لا يفعلها عامة الناس ، لا بد أن الذي قام بها أحد المسئولين .
ولم تبد على وجه صاحب الإزار حيرة أو أسف ، وتحرك الملاك فتحرك صاحب الإزار أيضاً ، ووصلا إلى قرية يتم فيها حرق أحد عشر رجلاً في وقت واحد ، فسأل الملاك واحداً من أهل القرية :
· هل مات هؤلاء الرجال جميعاً بمرض ما يا أخي ؟.
أجاب القروي قائلاً :
· ليس المرض ، ولكنه الفقر ، وإن كنت تعتبره مرضاً فذاك لك ، فهو مرض معد ، ونحن المنبوذين ، أليس كذلك .
ثم انفجر الرجل ضاحكاً ، وبدا هذا الرجل الضاحك مخيفاً أمام نيران مشتعلة تحترق فيها جثث أحد عشر رجلاً في آن واحد . واستدار الملاك على الفور ، وأمسك بيد صاحب الإزار ، ثم طارا إلى مدينة أخرى . وفي الطريق شاهدا طفلين ينتقيان أشياء من أكوام القمامة،وكل منهما يتشاجر مع الآخر ويحاول اختطاف ما معه ، ولأن الملاك وصاحب الإزار لم يكونا يحتاجان إلى نقود كثيرة لذا لم يحتفظ الملاك معه بنقود أكثر مما يحتاجانه في عام واحد ، ومع ذلك فقد كان معه ما يكفي للترفيه عن النفس بشراء الجرائد . وفي صباح ذلك اليوم اشترى الملاك الجرائد وأخذ يقرأها ، وعندئذ توجه إلى صاحب الإزار قائلاً :
· لماذا كل هذه اللجان الكثيرة ، يا أخي ، إن كان هؤلاء يشكلون كل هذه اللجان للتحقيقات فلماذا لا يشكلون أولاً لجنة لمحاسبة أنفسهم !.
ولم يعلق صاحب الإزار بشيء ، والحقيقة أن صمت صاحب الإزار كان أكثر شيء يؤلم الملاك ، فقد كان الملاك يعرف أنه بقدر ما يبقى هذا صامتاً بقدر ما يتناقص عمره ويعيش في حزن وألم.كان أحياناً يقول لنفسه : لم يحسن الإله صنعاً حين احتفظ بدموع هذا الرجل وإحساسه بالتعاطف مع الآخرين عنده ، وكان يحاول بشتى الطرق أن يضحك صاحب الإزار ويسرّي عنه ، ولكن من يدري ، ربما احتجز الإله ضحكته أيضاً عنده . في ذلك اليوم خرج العاملون في أحد مصانع النسيج في مظاهرة ضد الغلاء ، وكانوا يهتفون مطالبين بزيادة أجورهم ، وكالعادة كان أصحاب المصنع يعتذرون بحجة معاناتهم وعدم استطاعتهم . أمسك الملاك بيد صاحب الإزار واختفى عن أنظار الناس ، ووصلا إلى فيلا صاحب المصنع . قال الملاك ساخراً :
· يا سلام ، لقد ذكرتني هذه الفيلات بالجنة ، يا أخي ، لقد شيد الناس الجنة في دنياهم ، فكيف يشعرون بالسعادة إذاً عندما يدخلون الجنة !. انظر إلى حمامات السباحة تلك ، الفتيات يسبحن بها جنباً إلى جنب مع الأسماك ، والجدران مرصعة بالذهب والفضة ، والأرض مفروشة بالسجاد ، والخدم من الفتيان والفتيات يقدمون للضيوف كئوساً مليئة بالخمر ، اللعنة !.
وواصل الملاك حديثه في غضب قائلاً :
· انظر إلى أي مدى يتم إنفاق الأموال في غير وجوهها،والعمال خارج هذا المكان لا يجدون ما يقتاتون به.إنك على حق يا صاحب الإزار،لقد كان موقفك من الإله موقفاً صحيحاً حين قلت إنك لن تأكل ملء بطنك،ولن تلبس ملابس كاملة ما لم يجد شعبك هنا ما يملأون به بطونهم الخاوية،ويكسون به أبدانهم العارية .
ولما رأى الملاك صمت صاحب الإزار أمسك بيده وغادرا الفيلا قائلاً :
· تعالى نشاهد بيت أحد العمال الذين يعملون تحت إمرة صاحب المصنع هذا .
تمتم صاحب الإزار في قلبه :
· لا حظّ لعبادك البؤساء في الدنيا ولا في الآخرة .
انتبه الملاك ، ونظر إلى صاحب الإزار الذي كانت شفتاه مطبقتين لا تتحركان ، لكنه مع ذلك سمع منه استغاثة مضطر . خرّ الملاك أمام صاحب الإزار تأثراً وقال له :
· هل كنت تقول شيئاً ؟.
رفع صاحب الإزار رأسه في عجز ونظر إلى الملاك . وشعر الملاك عندئذ بقدر من الخجل حين رآه صامتاً إلى هذا الحد وقال :
· ربما تحولت آهتك في قلبك إلى صوت ينشد : " لا حظّ لعبادك البؤساء في هذه الدنيا ، ولا حتى في تلك الدنيا " .
ثم قال الملاك مخاطباً نفسه :
· هيا بنا ، واستجمع كل ما قدر عليك من أوقات عصيبة ، فأنت الذي طلبت من الإله هذه الحياة .
كان يوم الاثنين الرابع من يوليو عام 1977م يوماً حزيناً ، لقد شاهدا العجز والبؤس والفشل مجسداً في شكل بيت متهالك من الظلم أن يطلق عليه اسم بيت ، على بابه ستارة عبارة عن خرقة من الخيش الممزق ، وعدة أواني قذرة ملقاة على الأرض في غير ترتيب ، وساري معلق متسخ به آلاف الثقوب . لقد عجزت تلك اليد التي ألبست الهند كلها الحرير والنايلون عن أن تعد لنفسها كفناً . لم يكن في هذا البيت سوى امرأة بائسة هي زوجة العامل الذي ربما خرج لأمر ما ، وكان في البيت أيضاً طفل ضعيف نحيف هزيل برئ لا يتعدى عمره ثلاث سنوات ، كان يتضور جوعاً ، ويضرب بأقدامه في الأرض طالباً الطعام .
نادى الملاك من خارج البيت :
· هل نستطيع الدخول يا أخي ؟.
أزاحت المرأة الستارة قائلة :
· لقد ذهب زوجي في عمل ما .
ولكنها حين رأت أمامها كهلاً بائساً ، ورجلاً متعباً أفسحت لهما الطريق قائلة :
· لكن تفضلا ، إدخلا لتناول الطعام والشراب .
صاح الطفل في غضب :
· يا كاذبة ، ليس لديك طعام لي ، فمن أين تقدمين لهما طعاماً .
ارتسمت ابتسامة حزينة على وجه الأم ، وأجلست الرجلين على سرير متهالك ، وقالت بصوت أكثر تهالكاً :
· أرجو ألا تغضبا من كلام الطفل .
قال الملاك :
· لا بأ س ، فهو لم يقل شيئاً يغضبنا .
· اجلسا ، سأحضر الماء حالاً .
انتبه الملاك إلى النظرة التي رمق بها صاحب الإزار الطفل الصغير ، كانت مشاعر التعاطف والحب والمواساة تتعانق معاً في عيون صاحب الإزار ، لكنه لم ينطق بشيء ، ولما جاءت المرأة بالماء بكى الطفل ثانية :
· اعطني خبزاً وعدساً .
فقالت الأم :
· من أين ؟ لم نكن نأكل سوى العدس ، وأصبح هو الآخر بأربع روبيات ، ولا تسأل عن الخضروات ، فماذا نأكل ، وكيف نعيش ! . كان لديّ حفنة عدس وضعتها في قدر مليء بالماء على الموقد إلى أن يعود زوجي من المصنع فنعيش عليه طيلة اليوم .
ولم يقل أحد شيء بعدها . ابتسمت المرأة ابتسامة مصطنعة بها مجاملة ، ولم يضحك معها أحد أو يجاملها بضحكة مثلها ، ثم واصلت المرأة الحديث من نفسها :
· إن طفلي يغضب كثيراً من طبخ العدس هذا الذي يقل فيه العدس ويزيد فيه الماء،ولكن ماذا يستطيع أن يفعل بغضبه!.إنه يظل يبكي حتى يغلبه النوم فينام،بل ويبكي وهو نائم أيضاً ، وأحياناً يمضي اليوم واليومان الكاملان على هذا الحال ، وأبكي أنا أيضاً معه ، وخاصة حين يضرب بيده على بطنه ويشير إليها قائلاً : يا أمي ، هنا نار يا أمي ، اعطني شيئاً آكله . عندئذ أود من كل قلبي لو أشعلت النار في العالم كله ، ولكن ...
وتتمالك المرأة نفسها ، وتنتبه إلى وجود الضيوف ، فترسم على وجهها ابتسامة ، ولكن ولأول مرة ينفجر صاحب الإزار باكياً ، ويصرخ قائلاً :
· لا ، لا ، لا .
انزعج الملاك بشدة ، ونظر إلى صاحب الإزار الذي كانت عيناه تذرفان الدموع بغزارة . إن كنوز المواساة والمحبة والدموع التي انتزعها الإله من صاحب الإزار واحتفظ بها عنده كانت كله في الحقيقة محفوظة لدى صاحب الإزار في قلبه وعينيه ، وهذه هي الثروة التي لم يستطع الإله أن يحرم الإنسان منها . وعندما رأى الطفل هذا العجوز صاحب الإزار يبكي نهض مسرعاً وألقى بنفسه في حجره ، ونسي بكاءه ، وأخذ يسأله :
· لماذا تبكي يا سيدي الطيب ، هل أنت جائع مثلي ؟!.
· نعم يا صغيري،أنا أيضاً جائع،وأنت الذي ستخلصني من هذا الجوع.أنت يا صغيري جائع للخبز،أما أنا فجائع للسعادة،ليس اليوم فقط،ولكن منذ سنوات،وأنت يا صغيري،أنت الذي ستخلصني من هذا الجوع .
سأل الطفل في حيرة :
· ما اسمك يا سيدي ؟!.
تردد الرجل وهو يجيبه قائلاً : اسمي ... اسمي موهن داس كرم تشاند غاندي
فغر الملاك فاهه في حيرة ودهشة ، أما المرأة فكانت تبكي بشدة من السعادة ، وكأنها أوشكت على الجنون . قالت :
· يا سيدي،ما أسعدني إذ شرّفت كوخي،لكن كم أنا تعيسة يا سيدي إذ لا أستطيع أن أقدم لك طعاماً، لقد كنت أكذب من أجل الطفل،والآن سأخبرك بالحقيقة،ليس في الإناء سوى الماء الذي أخدع به طفلي .
وصرخ الرجل صرخة يملؤها الألم ، ثم أنزل الطفل من حجره ، وبسرعة شديدة انقض على المسدس المعلق على جانب الملاك ، وأطلق على نفسه ست طلقات في الصدر وعلى مرأى من الجميع ، وتقدم الملاك وأمسك بالرجل وهويسقط مردداً اسم الإله . أمسك الملاك الرجل بكلتا يديه ، ثم تمتم قائلاً :
· تذكروا أيها الناس ، لقد قتلتموه في المرة الأولى ، وفي هذه المرة قتل هو نفسه بعدما رأى هذا الحال .
وانحنى الملاك على وجه الرجل الطيب الذي كان وهو يلفظ أنفاسه ينظر إلى الطفل نظرات يملؤها الأمل ، بينما لسان حاله يقول للطفل :
· يا مصباح أملي ... سأعود إلى هذه الدنيا ثانية على أمل أن لا أرى الدمع في عين ، وأنت وليس غيرك الذي يستطيع تحقيق أملي هذا ، فإنك صورة حية لغد جميل يملؤه الأمل .
وأخذ الطفل يهز الرجل قائلاً :
· يا سيدي ، يا سيدي ، لا ترحل قبل أن تأكل الطعام ، العدس على وشك النضوج .
وكان المكان الذي وضع الطفل يده الصغيرة عليه من جسم الرجل هو قلبه الذي كان ينزف دماً ، فيحيل الأرض إلى مروج ورياض . وحين حمل الملاك بكلتا يديه الرجل واختفى عن الأنظار تدريجياً أمسكت الأم بيد طفلها الصغير البرئ وهي تبكي وتقول :
· يا صغيري ، اكتب اليوم على جبين الزمان بأصابعك المخضبة بدماء القلب ، اكتب أن حلم سيدك الغالي لا بد أن يتحقق ، ذلك الحلم الذي لم يكتمل إلى اليوم .

إبراهيم محمد إبراهيم
04/10/2007, 08:25 AM
سأعود ثانية
واجده تبسم
نقلها عن الأردية
د . إبراهيم محمد إبراهيم

نظر الملاك وهو في غاية الضيق إلى الرجل صاحب الإزار الذي كان يجلس محدّقاً في قائمة الأسعار . نظر الملاك في دهشة وسأل العامل في المطعم :
· كم سعر المخ والكوارع هنا يا أخي ؟.
أجابه العامل في غير مبالاة وهو يعد النقود الفكة في يده :
· روبية وخمس وعشرون بيسة .
· كيف هذا يا أخي ، لقد أكلنا نفس الطعام في هذا المطعم قبل عدة شهور بنصف روبية !.
رد عليه العامل بلا مبالاة :
· نعم ، نعم ، الآن حكم الشعب للشعب ، لقد أصبح سعر البنزين ثلاث عشرة روبية ، والعدس المسوس أربع روبيات للكيلو ، وكان الكيلو منه قبل ذلك بروبيتين ، بينما كان سعر البنزين ثمان روبيات . والآن لا تظهر مزيداً من الذكاء أكثر من هذا ، واترك المقاعد سريعاً ، فهذا وقت عمل .
نظر الملاك إلى العامل ، ودفع الفاتورة في صمت ورحلا ، وأثناء مرورهما من أحد أسواق هذه المدينة الكبيرة وقعت عيناهما على منظر محبط ومخجل في نفس الوقت ، فقد وقفت أمامهما امرأة متسولة ، وفكت أزرار بلوزتها عارضة عليهما ثمار شبابها التي لا تقدر بثمن . قالت للملاك :
· فقط نصف روبية يا بيه ، وبلا فصال .
هب الملاك واقفاً ، وأدار وجهه بعيداً عنها . أما صاحب الإزار فكان كهلاً ، ولهذا لم تخاطبه المرأة بكلمة ، واستدارت ووقفت أمام الملاك من جديد قائلة :
· انظر يا بيه ، أطفالي جوعى ، سأدعو لك ، ماذا أفعل يا بيه ، ألا ترى كم استشرى الغلاء ، لقد كنا في عذاب قبل هذا الغلاء ، والآن أصبحنا لا نملك شيئاً . انظر يا بيه ، الرجل الذي كان يسكن بجواري قتل زوجته أولاً بالسم، ثم سقى أولاده منه ، وبعدها شرب هو أيضاً السم ، وماتوا جميعاً ، ولكنه رجل ، وعنده من الشجاعة ما يجعله يقدم على هذا ، لكني امرأة ، ولا أستطيع أن أرى طفلاً ميتاً .
عندئذ ألقى الملاك بكل ما كان في يده من نقود أمام المرأة ، ثم اختفى هو وصاحب الإزار في غمضة عين ، وبعدها اتجها إلى مدينة أخرى ليلتقطا أنفاسهما ، فقد كان لون وجهيهما مصفراً من شدة الحزن والأسف ، وعندئذ قال الملاك لصاحب الإزار :
· يا أخي ، ماذا كان يضر الإله لو احتفظ بدموعي أنا الآخر عنده .
وأراد الملاك أن يدخل قدراً من السرور إلى قلب صاحب الإزار عندما رآه صامتاً فقال :
· هيا بنا نذهب إلى مكان جديد .
وفي الطريق وقع نظر الملاك على تمثال حول عنقه عقد من الأحذية والشباشب ، فتوقف مكانه ، ونظر إلى صاحب الإزار بقدر من الحيرة قائلاً :
· إن هذا يبدو تمثالاً لك ، ولكن من ذلك التعس الذي لفّ حول عنق رجل طيب مثلك هذه الأحذية والشباشب !. صحيح ، ليس لهذا الشعب نظير ، ولكن يا صديقي ، هذه حركة لا يفعلها عامة الناس ، لا بد أن الذي قام بها أحد المسئولين .
ولم تبد على وجه صاحب الإزار حيرة أو أسف ، وتحرك الملاك فتحرك صاحب الإزار أيضاً ، ووصلا إلى قرية يتم فيها حرق أحد عشر رجلاً في وقت واحد ، فسأل الملاك واحداً من أهل القرية :
· هل مات هؤلاء الرجال جميعاً بمرض ما يا أخي ؟.
أجاب القروي قائلاً :
· ليس المرض ، ولكنه الفقر ، وإن كنت تعتبره مرضاً فذاك لك ، فهو مرض معد ، ونحن المنبوذين ، أليس كذلك .
ثم انفجر الرجل ضاحكاً ، وبدا هذا الرجل الضاحك مخيفاً أمام نيران مشتعلة تحترق فيها جثث أحد عشر رجلاً في آن واحد . واستدار الملاك على الفور ، وأمسك بيد صاحب الإزار ، ثم طارا إلى مدينة أخرى . وفي الطريق شاهدا طفلين ينتقيان أشياء من أكوام القمامة،وكل منهما يتشاجر مع الآخر ويحاول اختطاف ما معه ، ولأن الملاك وصاحب الإزار لم يكونا يحتاجان إلى نقود كثيرة لذا لم يحتفظ الملاك معه بنقود أكثر مما يحتاجانه في عام واحد ، ومع ذلك فقد كان معه ما يكفي للترفيه عن النفس بشراء الجرائد . وفي صباح ذلك اليوم اشترى الملاك الجرائد وأخذ يقرأها ، وعندئذ توجه إلى صاحب الإزار قائلاً :
· لماذا كل هذه اللجان الكثيرة ، يا أخي ، إن كان هؤلاء يشكلون كل هذه اللجان للتحقيقات فلماذا لا يشكلون أولاً لجنة لمحاسبة أنفسهم !.
ولم يعلق صاحب الإزار بشيء ، والحقيقة أن صمت صاحب الإزار كان أكثر شيء يؤلم الملاك ، فقد كان الملاك يعرف أنه بقدر ما يبقى هذا صامتاً بقدر ما يتناقص عمره ويعيش في حزن وألم.كان أحياناً يقول لنفسه : لم يحسن الإله صنعاً حين احتفظ بدموع هذا الرجل وإحساسه بالتعاطف مع الآخرين عنده ، وكان يحاول بشتى الطرق أن يضحك صاحب الإزار ويسرّي عنه ، ولكن من يدري ، ربما احتجز الإله ضحكته أيضاً عنده . في ذلك اليوم خرج العاملون في أحد مصانع النسيج في مظاهرة ضد الغلاء ، وكانوا يهتفون مطالبين بزيادة أجورهم ، وكالعادة كان أصحاب المصنع يعتذرون بحجة معاناتهم وعدم استطاعتهم . أمسك الملاك بيد صاحب الإزار واختفى عن أنظار الناس ، ووصلا إلى فيلا صاحب المصنع . قال الملاك ساخراً :
· يا سلام ، لقد ذكرتني هذه الفيلات بالجنة ، يا أخي ، لقد شيد الناس الجنة في دنياهم ، فكيف يشعرون بالسعادة إذاً عندما يدخلون الجنة !. انظر إلى حمامات السباحة تلك ، الفتيات يسبحن بها جنباً إلى جنب مع الأسماك ، والجدران مرصعة بالذهب والفضة ، والأرض مفروشة بالسجاد ، والخدم من الفتيان والفتيات يقدمون للضيوف كئوساً مليئة بالخمر ، اللعنة !.
وواصل الملاك حديثه في غضب قائلاً :
· انظر إلى أي مدى يتم إنفاق الأموال في غير وجوهها،والعمال خارج هذا المكان لا يجدون ما يقتاتون به.إنك على حق يا صاحب الإزار،لقد كان موقفك من الإله موقفاً صحيحاً حين قلت إنك لن تأكل ملء بطنك،ولن تلبس ملابس كاملة ما لم يجد شعبك هنا ما يملأون به بطونهم الخاوية،ويكسون به أبدانهم العارية .
ولما رأى الملاك صمت صاحب الإزار أمسك بيده وغادرا الفيلا قائلاً :
· تعالى نشاهد بيت أحد العمال الذين يعملون تحت إمرة صاحب المصنع هذا .
تمتم صاحب الإزار في قلبه :
· لا حظّ لعبادك البؤساء في الدنيا ولا في الآخرة .
انتبه الملاك ، ونظر إلى صاحب الإزار الذي كانت شفتاه مطبقتين لا تتحركان ، لكنه مع ذلك سمع منه استغاثة مضطر . خرّ الملاك أمام صاحب الإزار تأثراً وقال له :
· هل كنت تقول شيئاً ؟.
رفع صاحب الإزار رأسه في عجز ونظر إلى الملاك . وشعر الملاك عندئذ بقدر من الخجل حين رآه صامتاً إلى هذا الحد وقال :
· ربما تحولت آهتك في قلبك إلى صوت ينشد : " لا حظّ لعبادك البؤساء في هذه الدنيا ، ولا حتى في تلك الدنيا " .
ثم قال الملاك مخاطباً نفسه :
· هيا بنا ، واستجمع كل ما قدر عليك من أوقات عصيبة ، فأنت الذي طلبت من الإله هذه الحياة .
كان يوم الاثنين الرابع من يوليو عام 1977م يوماً حزيناً ، لقد شاهدا العجز والبؤس والفشل مجسداً في شكل بيت متهالك من الظلم أن يطلق عليه اسم بيت ، على بابه ستارة عبارة عن خرقة من الخيش الممزق ، وعدة أواني قذرة ملقاة على الأرض في غير ترتيب ، وساري معلق متسخ به آلاف الثقوب . لقد عجزت تلك اليد التي ألبست الهند كلها الحرير والنايلون عن أن تعد لنفسها كفناً . لم يكن في هذا البيت سوى امرأة بائسة هي زوجة العامل الذي ربما خرج لأمر ما ، وكان في البيت أيضاً طفل ضعيف نحيف هزيل برئ لا يتعدى عمره ثلاث سنوات ، كان يتضور جوعاً ، ويضرب بأقدامه في الأرض طالباً الطعام .
نادى الملاك من خارج البيت :
· هل نستطيع الدخول يا أخي ؟.
أزاحت المرأة الستارة قائلة :
· لقد ذهب زوجي في عمل ما .
ولكنها حين رأت أمامها كهلاً بائساً ، ورجلاً متعباً أفسحت لهما الطريق قائلة :
· لكن تفضلا ، إدخلا لتناول الطعام والشراب .
صاح الطفل في غضب :
· يا كاذبة ، ليس لديك طعام لي ، فمن أين تقدمين لهما طعاماً .
ارتسمت ابتسامة حزينة على وجه الأم ، وأجلست الرجلين على سرير متهالك ، وقالت بصوت أكثر تهالكاً :
· أرجو ألا تغضبا من كلام الطفل .
قال الملاك :
· لا بأ س ، فهو لم يقل شيئاً يغضبنا .
· اجلسا ، سأحضر الماء حالاً .
انتبه الملاك إلى النظرة التي رمق بها صاحب الإزار الطفل الصغير ، كانت مشاعر التعاطف والحب والمواساة تتعانق معاً في عيون صاحب الإزار ، لكنه لم ينطق بشيء ، ولما جاءت المرأة بالماء بكى الطفل ثانية :
· اعطني خبزاً وعدساً .
فقالت الأم :
· من أين ؟ لم نكن نأكل سوى العدس ، وأصبح هو الآخر بأربع روبيات ، ولا تسأل عن الخضروات ، فماذا نأكل ، وكيف نعيش ! . كان لديّ حفنة عدس وضعتها في قدر مليء بالماء على الموقد إلى أن يعود زوجي من المصنع فنعيش عليه طيلة اليوم .
ولم يقل أحد شيء بعدها . ابتسمت المرأة ابتسامة مصطنعة بها مجاملة ، ولم يضحك معها أحد أو يجاملها بضحكة مثلها ، ثم واصلت المرأة الحديث من نفسها :
· إن طفلي يغضب كثيراً من طبخ العدس هذا الذي يقل فيه العدس ويزيد فيه الماء،ولكن ماذا يستطيع أن يفعل بغضبه!.إنه يظل يبكي حتى يغلبه النوم فينام،بل ويبكي وهو نائم أيضاً ، وأحياناً يمضي اليوم واليومان الكاملان على هذا الحال ، وأبكي أنا أيضاً معه ، وخاصة حين يضرب بيده على بطنه ويشير إليها قائلاً : يا أمي ، هنا نار يا أمي ، اعطني شيئاً آكله . عندئذ أود من كل قلبي لو أشعلت النار في العالم كله ، ولكن ...
وتتمالك المرأة نفسها ، وتنتبه إلى وجود الضيوف ، فترسم على وجهها ابتسامة ، ولكن ولأول مرة ينفجر صاحب الإزار باكياً ، ويصرخ قائلاً :
· لا ، لا ، لا .
انزعج الملاك بشدة ، ونظر إلى صاحب الإزار الذي كانت عيناه تذرفان الدموع بغزارة . إن كنوز المواساة والمحبة والدموع التي انتزعها الإله من صاحب الإزار واحتفظ بها عنده كانت كله في الحقيقة محفوظة لدى صاحب الإزار في قلبه وعينيه ، وهذه هي الثروة التي لم يستطع الإله أن يحرم الإنسان منها . وعندما رأى الطفل هذا العجوز صاحب الإزار يبكي نهض مسرعاً وألقى بنفسه في حجره ، ونسي بكاءه ، وأخذ يسأله :
· لماذا تبكي يا سيدي الطيب ، هل أنت جائع مثلي ؟!.
· نعم يا صغيري،أنا أيضاً جائع،وأنت الذي ستخلصني من هذا الجوع.أنت يا صغيري جائع للخبز،أما أنا فجائع للسعادة،ليس اليوم فقط،ولكن منذ سنوات،وأنت يا صغيري،أنت الذي ستخلصني من هذا الجوع .
سأل الطفل في حيرة :
· ما اسمك يا سيدي ؟!.
تردد الرجل وهو يجيبه قائلاً : اسمي ... اسمي موهن داس كرم تشاند غاندي
فغر الملاك فاهه في حيرة ودهشة ، أما المرأة فكانت تبكي بشدة من السعادة ، وكأنها أوشكت على الجنون . قالت :
· يا سيدي،ما أسعدني إذ شرّفت كوخي،لكن كم أنا تعيسة يا سيدي إذ لا أستطيع أن أقدم لك طعاماً، لقد كنت أكذب من أجل الطفل،والآن سأخبرك بالحقيقة،ليس في الإناء سوى الماء الذي أخدع به طفلي .
وصرخ الرجل صرخة يملؤها الألم ، ثم أنزل الطفل من حجره ، وبسرعة شديدة انقض على المسدس المعلق على جانب الملاك ، وأطلق على نفسه ست طلقات في الصدر وعلى مرأى من الجميع ، وتقدم الملاك وأمسك بالرجل وهويسقط مردداً اسم الإله . أمسك الملاك الرجل بكلتا يديه ، ثم تمتم قائلاً :
· تذكروا أيها الناس ، لقد قتلتموه في المرة الأولى ، وفي هذه المرة قتل هو نفسه بعدما رأى هذا الحال .
وانحنى الملاك على وجه الرجل الطيب الذي كان وهو يلفظ أنفاسه ينظر إلى الطفل نظرات يملؤها الأمل ، بينما لسان حاله يقول للطفل :
· يا مصباح أملي ... سأعود إلى هذه الدنيا ثانية على أمل أن لا أرى الدمع في عين ، وأنت وليس غيرك الذي يستطيع تحقيق أملي هذا ، فإنك صورة حية لغد جميل يملؤه الأمل .
وأخذ الطفل يهز الرجل قائلاً :
· يا سيدي ، يا سيدي ، لا ترحل قبل أن تأكل الطعام ، العدس على وشك النضوج .
وكان المكان الذي وضع الطفل يده الصغيرة عليه من جسم الرجل هو قلبه الذي كان ينزف دماً ، فيحيل الأرض إلى مروج ورياض . وحين حمل الملاك بكلتا يديه الرجل واختفى عن الأنظار تدريجياً أمسكت الأم بيد طفلها الصغير البرئ وهي تبكي وتقول :
· يا صغيري ، اكتب اليوم على جبين الزمان بأصابعك المخضبة بدماء القلب ، اكتب أن حلم سيدك الغالي لا بد أن يتحقق ، ذلك الحلم الذي لم يكتمل إلى اليوم .