المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الثورة الهندية (1274هـ / 1857م )



هاني السعيد
09/10/2007, 08:35 AM
اختلف المؤرخون في أسباب الثورة الهندية وتعددت رؤاهم حولها ، وذكر بعضهم أسباباً كثيرة يضيق بها هذا المقام ، غير أن ما يعنينا هنا هي تلك الأسباب التي خلخلت كيان المجتمع الهندي وامتدت بذاتها أو بآثارها إلي الأجيال التالية . لذا نورد فيما يلي أهمها :

أولاً : تصاعد الهيمنة البريطانية

لم تكن ثورة التحرير (1857م) وليدة لحظتها ، بل كانت نتيجة طبيعية ، إن لم تكن حتمية ، لكل عوامل الضعف التي دبت في أوصال الدولة المغولية في شبه القارة الهندية وما اقترن بها من تصاعد النفوذ البريطاني وتوغله في أدق شئون البلاد بعد وفاة اورنكزيب ٭ سنة (1707م) .

هكذا وعلى امتداد قرن ونصف واصل البريطانيون تسللهم إلى شئون الحكم واستيلاءهم على الولايات الهندية واحدة تلو الأخرى استكمالا لما بدؤوه منذ إنشاء شركة الهند الشرقية ٭٭، ولكن يمكن القول أن انتصار البريطانيين في حرب بلاسي سنة (1757م) هو البداية الحقيقية للتواجد البريطاني في شبه القارة الهندية المفروض بالقوة العسكرية ٭ ؛ فقد أدى إلى " وضع مساحات واسعة تحت سيطرتهم للمرة الأولى ، وخلال بضع سنوات٭٭ صارت البنغال وبيهار وأوريسا والسواحل الشرقية خاضعة للبريطانيين . أما الخطوة الكبيرة التالية فقد تمت بعد حوالي أربعين سنة في مطلع القرن التاسع عشر . وهى الخطوة التي أوصلتهم إلى مشارف دلهي. وجرت عملية التقدم الكبرى الثالثة بعد الهزيمة الأخيرة للماراهتا عام 1818م [استولت الشركة أيضا على السند سنة(1259 هـ /1843 م )] ؛ كما أن الخطوة الرابعة عام 1849 بعد حروب السيخ أكملت الصورة " ( ) ؛ فقد ضمت الشركة إقليمي البنجاب وكشمير في ذلك العام ، " ثم أنهت الشركة حكم الأسرة الحاكمة في [ولاية] أودهـ وأعلنت ضمها رسميا[في العام] (1272هـ /1856م)"( ) .

وقد " ذكر المؤرخ الهندي رميش دت (Ramesh Dutt) أنه في عهد اللورد دلهوزي ((Lord Dalhosie انضمت المناطق واحدة تلو الأخرى تحت سيطرة شركة الهند الشرقية متخطِّيةً بذلك جميع المعاهدات والقوانين ، فتغيَّرت نظرة الناس إلي هذه الشركة وفطنوا إلى أهدافها التوسعية ورغبتها في فتح الهند وضمِّها إلى الإمبراطورية البريطانية " (( .


ثانياً : تدمير الاقتصاد الهندي

بدأ تدهور الاقتصاد الهندي مع بدايات القرن الثامن عشر الميلادي نظرا للحروب المتتالية المقترنة بعمليات السلب والنهب التي عانت منها الدولة المغولية آنذاك ، وما اتسم به خلفاء اورنكزيب من الإسراف والبذخ المفرط الذي بلغ حد السفه أحيانا . غير أنه مع نهايات ذلك القرن وانتقال السلطة الفعلية للعديد من الولايات – كما ذكرنا آنفاً - إلى شركة الهند الشرقية توالت عمليات " النهب المباشر التي اتخذت تدريجياً شكل الاستغلال المقنن الذي كان ، رغم عدم وضوحه الصارخ ، أسوأ في واقع الأمر.

إن أشكال الفساد والنذالة والرشوة والعنف والشره إلى المال لدى هذه الأجيال الأولى من الحكم البريطاني في الهند هي أمور تفوق الخيال والتصور " ( ) . ويحدثنا المؤرخان الإنجليزيان اللذان أرخا للهند إدوارد ثومبسون و ج . ت . غاريت أن " شرهاً للذهب لا مثيل له أحكم قبضته ... على العقل الإنجليزي . فالبنغال ٭ لم تعد تعرف معنى الهدوء مرة ثانية إلا بعد أن نزف دمها كله " ، ويقول إدوارد ثومبسون إن ذلك لم يكن محصوراً بالبنغال " فالإنسان يتذكر التاريخ المبكر للهند البريطانية الذي يشكل رقماً قياسياً من حيث تحقيق الابتزاز في أقصر وقت ممكن " ( ) .

ومع بداية " الثورة الصناعية " في أوربا بصدارة إنجلترا عام 1770م ، ازداد دوران آلات الصناعة هناك فازداد نهمها بالتالي للمواد الخام ، كما أن مجموعة الاختراعات التي تمت في إنجلترا آنذاك كانت تحتاج بطبيعة الحال إلى سيولة مالية كبيرة وقوة اقتصادية ضخمة تقوم على تنفيذها وترويجها ، فكان نهب الهند هو الطريق الأمثل لتطور بريطانيا العظمى .

وفي سبيل ذلك أيضا حولت شركة الهند الشرقية نشاطها من شركة تصدير للمنتجات الهندية إلى شركة استيراد لمنتجات إنجلترا الصناعية الحديثة ، " فانهارت صناعة النسيج الهندية مما أثر على أعداد كبيرة من النسَّاجين والحرفيين . .... وحطمت [هذه العملية] صناعات قديمة أخرى ... مثل بناء السفن والتعدين ومختلف الحرف الزجاجية والورقية وغيرها "( ) ، ذلك لأن الشركة " فرضت ضرائب باهظة على هذه المنتجات حتى تعطى الفرصة لرواج الصناعة الإنجليزية ، ولم تكتف بذلك بل حاربت هذه الصناعات في موطنها حتى تحولت كبرى المدن الصناعية في الهند إلى قرى صغيرة " ( ) .

ولكن " سرعان ما انتقلت الأزمة في الصناعة إلى الأرض لتصبح أزمة دائمة في الزراعة . فالحيازات صارت أصغر فأصغر وسارت عمليات التمزيق والتجزئة حتى وصلت إلى درجات سخيفة وخيالية . زاد عبء القروض الزراعية وانتقلت ملكية الأرض إلى المرابين والدائنين . تضاعف عدد العاملين الزراعيين الذين لا يملكون أرضاً بالملايين " ( ) .

فقد أجبرت الشركة أرباب الحرف والصناعات الهندية على أن يعانوا الأمرّين ، فمهاراتهم القديمة - التي كانوا يستمدون منها وجودهم – صارت بلا جدوى ، وفى الوقت ذاته لم يجدوا الفرصة لتعلم الصناعة الجديدة ، حيث دأبت الشركة على وقف وتجميد الاقتصاد الهندي بإجهاض أية محاولة لتطوير الصناعة . فاضطروا إلى اللجوء للزراعة ، التي كانت تتلقى هي الأخرى ضربات قاصمة من منظومة الاستراتيجيات الفاسدة التي انتهجتها الشركة ، ومن ثم تحولوا – بفضل الإمبريالية البريطانية - من فئة منتجة إلى فئة مستهلكة عاطلة تمثل عبئاً كبيرا على اقتصاد البلاد ، فازداد الفقر ، وانتشرت البطالة وانهار مستوى المعيشة إلى أسوأ ما يكون .

ثالثاً : سوء معاملة البريطانيين للهنود

ظلت الهند مستأثرة بشرقيتها البحتة ، وتباهت بأنها مهد الفلسفة الروحانية . عشق أهلها طبيعتها الخلابة فتباينت عقائدهم بتباين ألوانها ووديانها ، وعلى اختلاف لغاتهم وأجناسهم ظلوا جميعاً يميلون إلى الخيال وإضفاء القداسة على كل الأشياء وفي مقدمتها العادات والتقاليد والضوابط الاجتماعية المتوارثة .

فوجئ هذا الشعب الحالم بسلطة غربية - ذات مرجعيات وانتماءات حضارية مختلفة تماماً – تفرض هيمنتها على مقدراته ، ولا تكتف بسلب أراضيه بل تسخر من معتقداته وقناعاته الخاصة وتحتقر أسلوبه في التعامل مع الحياة ، ولم تحاول هذه السلطة البريطانية الصاعدة – باستثناء بعض المحاولات الفردية – التواصل مع طبيعة الشعب الهندي .

" فكانت روح التمرد والثورة تنمو وخصوصاً بين صفوف الزعماء الإقطاعيين وأتباعهم . حتى بين صفوف الجماهير كان عدم الرضا والشعور العنيف المعادي للبريطانيين منتشرين انتشاراً واسعاً . فالطبقات العليا كانت تستاء ازاء السلوك المهين والمتعالي للأجانب ، كما أن الشعب كان يعانى بصورة عامة من جشع موظفي شركة الهند الشرقية وجهلهم ، الذين كانوا يتجاهلون عاداتهم القديمة ولا يلقون بالاً لما يفكر به أهل البلاد . .................................................. ........................
ومنذ عام 1817 قال السيد توماس مونرو في رسالة له إلى الحاكم العام اللورد هيستنغر بعد الإشارة إلى محاسن الحكم البريطاني ما يلي :
" ولكن هذه الفضائل ذات ثمن باهظ . إنها مقابل التضحية بالاستقلال والشخصية الوطنية وكل ما يجعل الشعب محترماً ..... لذا فان عاقبة غزو الهند بالأسلحة البريطانية ستكون متجسدة في انحطاط الشعب كله بدلاً من رفعه إلى أعلى . ربما لا يوجد مثال عن أي غزو عزل السكان المحليين بهذا الشكل الكامل عن أية مشاركة في حكم بلادهم كما فعل البريطانيون في الهند."

... وقد كتب بعد عام يقول : " عامل الغزاة الأجانب السكان المحليين بالعنف ، وبقسوة كبيرة غالباً ؛ ولكن أحداً لم يسبق له أن عاملهم بمثل هذا الاحتقار الذي نعاملهم نحن به ؛ وما من أحد اعتبر الشعب كله غير جدير بالثقة ، غير أهل للصدق والشرف ، ولا يليق به أن يستخدم إلا حيث لا تستطيع بدونه . يبدو لي أن الحط من قدر وطبيعة شعب وقع تحت سيطرتنا هو أمر ليس فقط بعيداً عن الكرامة بل هو تصرف يفتقر إلى الحنكة السياسية " ( ) .


كان البريطانيون يمارسون هذا التصرف غير الدبلوماسي في ثكنات الجيش بصورة أكثر حدة وفجاجة ، فعلى الرغم من أن جنود الهند كانوا أضعاف نظائرهم من الإنجليز في جيش شركة الهند الشرقية ، وقد أسدوا لها خدمات عسكرية كبرى حين فتحوا بلادهم بأيديهم ، إلا أنهم كانوا يعانون أشد المعاناة من التمييز العنصري بينهم وبين زملائهم الإنجليز .

هكذا إذن كانت المؤشرات كلها تؤكد أن هناك شيئا ما على وشك الانفجار في شبه القارة الهندية ، فبعد أن تراكم الكبت لدى الشعب الهندي من كافة الاتجاهات وتوالت عليه الخسائر المادية والروحية ، كان يترقب شرارة واحدة كي تشعل نيران هذا الكبت المضطرمة بين أحشائه وتحيله انفجاراً ثورياً عارماً.

قيام الثورة

اندلعت الشرارة الأولى للثورة في ثكنات الجيش بعد أن طفح الكيل بالجنود الهنود من سوء معاملة البريطانيين لهم ، لأنهم كانوا يشعرون بالمسئولية إزاء تدهور أحوال البلاد ؛ فعلى الرغم من أن انضمامهم إلى صفوف الجيش البريطاني كان في الأساس جانباً من اضمحلال الدولة المغولية وعدم قدرتها على دفع رواتب الجند ، إلا أن ذلك لم ينف من ضمائر هؤلاء الجنود أنهم كانوا في نهاية الأمر أداة بطش لقوة أجنبية غاشمة في فرض سيطرتها على بلادهم .

وعن ملابسات قيام الثورة يقول تشالمرز جونسون ٭ :
" في [10 مايو ٭ ] عام 1857م عندما صنع البريطانيون أحد أوائل موديلات البندقية (اينفيلد) أُشيع أن الرصاص منقوع بشحم مصنوع من الدهن الحيواني المستخلص من الأبقار والخنازير. والأبقار كما هو معروف مقدسة عند الهندوس والخنازير محرمة علي المسلمين، وكان أحد خصائص ذخائر هذه البندقية هو الحاجة إلي قضم ورقة مطوية علي أحد طرفي الرصاصة قبل استخدامها . وقد انتشرت الروايات بسرعة بين السيبوي ٭ بأن البريطانيين يحاولون تحقيرهم بإجبارهم علي انتهاك محرماتهم الدينية " ( ) .
" كان نتيجة ذلك أن عصى الجنود أوامر القادة الإنجليز في هذا الشأن فأنزل الإنجليز بهؤلاء المتمردين عقاباً قاسياً حيث حكموا على خمسة وثمانين منهم بالسجن عشر سنوات "( ) . فما كان من زملائهم الهنود إلا أن هبوا لنصرتهم والتضامن معهم فقاموا بثورة عارمة في ثكناتهم الاستراتيجية بمدينة ميرت ٭ ، ثم انطلقوا إلي دهلي وهم يبيدون كل من يقابلهم من الإنجليز ، ويحاصرون منازلهم ، وما لبث الشعب أن انضم إليهم بكل طوائفه من المسلمين والهندوس والسيخ والنساء والرجال بغية الثأر من المظالم التي ألحقها بهم الإنجليز وتعلقاً بأهداب الأمل في تغيير الأوضاع التي آلت إليها البلاد ، والتف الثوار حول السلطان المغولي بهادر شاه ظفر فنصبوه زعيماً عليهم رغم كبر سنه ، ثم انتشرت الثورة في مقاطعات عديدة ، فاجتاحت شمال الهند ، وقضت على الكثير من مراكز النفوذ البريطاني حتى كادت تعصف بالوجود الإنجليزي في البلاد ،لدرجة أن"أعلن بعض قواد بريطانيا الكبار أن كل شئ قد انتهى،وأن كل ما بنته بريطانيا قد ضاع،
ولم تستطع بريطانيا استعادة نفوذها إلا عن طريق الخيانة والرشوة " ( ) .