هدى الخطيب
09/10/2007, 08:23 PM
أحبّت كل ما يكتبه، بدأت تنتظر ملهوفة صدور المجلات والصحف التي يكتب بها شهور قبل أن تعرف أي شيء عنه، شاهدته أوّل مرة على الطريق، لكزتها زميلتها قائلة: " انظري هناك، هذا نـور الدين الـخطيب، شاعر وأديب فلسطيني" ، بدا لها شاب طويل القامة مهيب الطلعة شديد الوسامة، واسترسلت زميلتها بالثرثرة: " فارس أحلام الصبايا يقال أنّ نصف بنات البلد واقعات بغرامه و أنّ فلانة فعلت كذا و كذا و و. . .".
في المرّة الثانية رأته من على المنبر و هو يلقي قصائده أو كما أحسّت يرتلها بصوته العذب، و ما أن غصّت القاعة بالتصفيق حتى وجدت الصبايا من حوله تحلقن كما يتحلق السوار بالمعصم، تذكرت ثرثرة زميلتها و خرجت.
في المرّة الثالثة وجدته أمامها عند الباب، تسمرت عيناه في عينيها لحظات بدت لها طويلة جداً و أحسّت بتيار كهربائي ممتع يربط ما بين عينيه و كيانها، سرعان ما أخفض رأسه وسألها بصوت مهذب: " الشيخ عمر موجود؟ ".
أخبرها فيما بعد أنه ومنذ تلك اللحظة وقع أسير جمال عينيها الواسعتين و غمّازات خديها.
لا تدري كيف تسارعت الأحداث حتّى وجدت نفسها خطيبة فارس القلم، وفارس أحلام الصبايا فارس لها وحدها! حبها الأول و الأخير قدرها و خلاصة عمرها،
قال لها: " أنت الثالثة بالترتيب في قائمة الأحبّة، حيفـا الأولى و الأغلى و أميّ الثانية و أنت الثالثة "
لم تكن تدرك حين تزوجا أنّ باستطاعة القلب حمل كل هذا الكم من الحب والعشق، دنياها كلّها عيناه الحزينتان بسياجهما المخملية، و بشفتيه، حبُ يشي بالقداسة و الوله، كانت تنظر إلى يديه التي تبدو مثل أيد الناس بكف و خمسة أصابع،إلاّ في عينيها العاشقتين يداه كان بها سر! سحر!، و هو أيضاً لم يكن أقل حباً لها، كان رجلاً خلق ليحِب و يُحَب، وكان حتماً مختلف. . .
كان جريحاً ينزف عصارة قلبه وروحه عبر فكره و قلمه منذ أن امتدت يد الغدر والإجرام و سرقت وطنه و مدينته ومنزله، طفولته وأحلامه، وتواطأ العالم بأسره مع أكبر و أقذر جريمة في التاريخ المعاصر، يُسرق وطن و تاريخ و يعطى لعصابات من القتلة و أسافل المجرمين جمعوهم من شتى أصقاع الأرض!!!
احترمت جراحه و شاركته آلام نكبته، بكت معه و آمنت بقضيته . . .
كان يحلو لها في سويعات الصفاء أن تغني له: " نـور العيون يا شاغلني" و يردّ عليها بأغنية : " كلّ الحكاية عيون بهـية "، في البداية أرقها و قضّ مضجعها تحلّق النساء من حوله و ملاحقة بعضهن له، قال لها: " اخترتك أنت بقلبي و عقلي شريكة لحياتي و أم أولادي و أضاف أنا صاحب مبدأ و قضية سامية ولا أسمح لنفسي بالانزلاق في الإثم و الخيانة، أنا إنسان و شاعر يطربني الإطراء والإعجاب ليس إلاّ"، اطمأنت وتأكدت مع الأيام أنه أديب حقيقي بنفسه و روحه و سلوكه و أكبر في عمق إنسانيته من أن تغار عليه.
أنجبت له بنت و بعد ست سنوات أنجبت الثانية، كان يقول لها:" ينتابني إحساس أنّ عمري قصير و لا أريد المزيد من الأيتام!" ومع هذا فرح بالطفلة الثانية جداً فلم ترى هدية له أجمل من أن تسميها على اسم والدته(نجلاء).
كان يستيقظ باكرا يحتسي معها قهوة الصباح على الشرفة ويلاعب طفلتيه هـدى و نجلاء وقبل أن يذهب إلى المكتب يمرّ بمنزل والدته يتناول إفطاره معها.
مشاغله وهموم قضية وطنه السليب لم تلغي تفاصيل حبه و حنانه و وقته،خفة ظلّه وروح النكتة لديه...
حلم جميل كانت الحياة معه ، والأحلام دائماً عمرها قصير!
ذات مساء أخذ كفيها بين يديه و قال لها: " خائف عليك و على البنات أحسّ بالموت يطوف بي هل هو الإحساس بدنو الأجل؟" قالت: " بل الوهم والحزن الدفين في روحك الشفّافة"، ومع هذا أصرّت أن تذهب معه إلى الطبيب و أصرّت على تخطيط القلب، قال له الطبيب: " قلبك مثل الحديد و ستعيش مئة سنة! ".
الرابع من آذار في ذلك الصباح المظلم بكت الرضيعة كثيراً ، دخلت عليها وجدته يحملها بين ذراعيه و يخاطبها: "لا تبكي الآن أيتها اليتيمة ما زال أمامك الكثير من الدموع التي سأعجز عن حمايتك منها" غفت على زنده وضعها في سريرها، تنهد ثمّ التفت إليها و قال لها: " مسكينة أنت و سيئة الحظ كنت أتمنى إسعادك و اليتيمتين ثمّ أشعل لفافة أخذ منها نفساً واحدا وقال آخر جملة: " بهية أنا انتهيت" رفع سبابته بالشهادة ونام إلى الأبد............
كابوس! حقيقة! مزاح سمج! نـــــــــور؟!
لا نـور! انطفأ النور والرضيعة تبكي...
غاب في صباح العمر غاب نـور البيت وانقضّت عواميده
انطفأ وجه الشمس و النجوم وأشرق زمن الجراح و الدموع . . .
لطالما تساءلت ما بينهما كان لقاء أم وداع؟! و حلما كان أو سراب ؟! و هل كان نـور إلاّ جرح وطن في ملامح رجل؟!!
في الثامنة و العشرين وجدت نفسها وحيدة مع طفلتين، لا أب و لا أخ و لا زوج.
رحل حب العمر ونور العيون، فجيعتها مريرة، أصيبت على أثر الصدمة بمرض السكّر، لولا طفلتيهما لاستسلمت لما يشبه الموت.
أحضرت مربيتها و عادت لسلك التعليم،و درست في دورات إضافية اللغة الفرنسية لتعليم المعلمين وحتّى الفخار والصدف لتزيد من دخلها، تعلمت الخياطة و التطريز أيضاً لتخيط أجمل الملابس لبناتها ( حتى لا ترتديان ملابس اليتم الكئيبة)، لن أنسى ثوب الطاووس الذي سهرت عليه شهرين لتجعل من ثوبي مفاجأة الحفل و قبلة الأنظار في فرح أحد الأقارب!
علّمتني كيف أحبّ فلسطين و أعيش همّ القضية، قالت لي ذات يومٍ: " ليس كل الشهداء يموتون بالمذابح و الرصاص والدك مات شهيد حبّ حيفا و ترابها و جرح فلسطين و بنصل الغدر الذي لم يحتمله"
وفي كلّ هذا، كنت أصحو على نحيبها في الليل، أقف خلف الباب أسمعها تناديه وتناجيه وتغني له: " نـور العيون يا شاغلني"!
لم يتركوها طويلاً في حالها، الأقارب والمعارف والصديقات، (ابنة عائلة محافظة لا يصح أن تبقى بلا زوج)، بقيت على هذه الحال تعاني منهم و من قائمة عرسانهم التي لا نهاية لها، تبكي و تقول: " لن يأخذ أحد مكان نـور" و يقولوا : "مصلحتك و مصلحة البنات وسمعة العائلة الخ" إلى يوم فاض بها أحضرت القرآن و أقسمت عليه أنها و مهما فعلوا لن تتزوج بعد نـور ! و ستبقى هكذا حتّى تلقاه زوجة في الجنّة!.
تعيش الآن في آخر بقاع الأرض مريضة بعد أن هدّتها الهموم، لا تعترض و لا تضيق حتى بالألم، صابرة محتسبة راضية بقضاء الله. . .
أدخل عليها أحياناً فأجدها ساهمة تنظر عبر النافذة بعيداً إلى السماء
هامسة أغني لها: " نـور العيون يا شاغلني" أمسك بكفها و أتابع: " كل الحكاية عيون بهية "، تبتسم مطمئنة وتضغط قليلاً بيدها الحبيبة على يدي، ونعاود النظر معاً إلى السماء و لسان حالنا يقول:
طال شوقنا يا نـور و وجودك فينا لم يزل أشدّ حضوراً في الوجود. . .
في المرّة الثانية رأته من على المنبر و هو يلقي قصائده أو كما أحسّت يرتلها بصوته العذب، و ما أن غصّت القاعة بالتصفيق حتى وجدت الصبايا من حوله تحلقن كما يتحلق السوار بالمعصم، تذكرت ثرثرة زميلتها و خرجت.
في المرّة الثالثة وجدته أمامها عند الباب، تسمرت عيناه في عينيها لحظات بدت لها طويلة جداً و أحسّت بتيار كهربائي ممتع يربط ما بين عينيه و كيانها، سرعان ما أخفض رأسه وسألها بصوت مهذب: " الشيخ عمر موجود؟ ".
أخبرها فيما بعد أنه ومنذ تلك اللحظة وقع أسير جمال عينيها الواسعتين و غمّازات خديها.
لا تدري كيف تسارعت الأحداث حتّى وجدت نفسها خطيبة فارس القلم، وفارس أحلام الصبايا فارس لها وحدها! حبها الأول و الأخير قدرها و خلاصة عمرها،
قال لها: " أنت الثالثة بالترتيب في قائمة الأحبّة، حيفـا الأولى و الأغلى و أميّ الثانية و أنت الثالثة "
لم تكن تدرك حين تزوجا أنّ باستطاعة القلب حمل كل هذا الكم من الحب والعشق، دنياها كلّها عيناه الحزينتان بسياجهما المخملية، و بشفتيه، حبُ يشي بالقداسة و الوله، كانت تنظر إلى يديه التي تبدو مثل أيد الناس بكف و خمسة أصابع،إلاّ في عينيها العاشقتين يداه كان بها سر! سحر!، و هو أيضاً لم يكن أقل حباً لها، كان رجلاً خلق ليحِب و يُحَب، وكان حتماً مختلف. . .
كان جريحاً ينزف عصارة قلبه وروحه عبر فكره و قلمه منذ أن امتدت يد الغدر والإجرام و سرقت وطنه و مدينته ومنزله، طفولته وأحلامه، وتواطأ العالم بأسره مع أكبر و أقذر جريمة في التاريخ المعاصر، يُسرق وطن و تاريخ و يعطى لعصابات من القتلة و أسافل المجرمين جمعوهم من شتى أصقاع الأرض!!!
احترمت جراحه و شاركته آلام نكبته، بكت معه و آمنت بقضيته . . .
كان يحلو لها في سويعات الصفاء أن تغني له: " نـور العيون يا شاغلني" و يردّ عليها بأغنية : " كلّ الحكاية عيون بهـية "، في البداية أرقها و قضّ مضجعها تحلّق النساء من حوله و ملاحقة بعضهن له، قال لها: " اخترتك أنت بقلبي و عقلي شريكة لحياتي و أم أولادي و أضاف أنا صاحب مبدأ و قضية سامية ولا أسمح لنفسي بالانزلاق في الإثم و الخيانة، أنا إنسان و شاعر يطربني الإطراء والإعجاب ليس إلاّ"، اطمأنت وتأكدت مع الأيام أنه أديب حقيقي بنفسه و روحه و سلوكه و أكبر في عمق إنسانيته من أن تغار عليه.
أنجبت له بنت و بعد ست سنوات أنجبت الثانية، كان يقول لها:" ينتابني إحساس أنّ عمري قصير و لا أريد المزيد من الأيتام!" ومع هذا فرح بالطفلة الثانية جداً فلم ترى هدية له أجمل من أن تسميها على اسم والدته(نجلاء).
كان يستيقظ باكرا يحتسي معها قهوة الصباح على الشرفة ويلاعب طفلتيه هـدى و نجلاء وقبل أن يذهب إلى المكتب يمرّ بمنزل والدته يتناول إفطاره معها.
مشاغله وهموم قضية وطنه السليب لم تلغي تفاصيل حبه و حنانه و وقته،خفة ظلّه وروح النكتة لديه...
حلم جميل كانت الحياة معه ، والأحلام دائماً عمرها قصير!
ذات مساء أخذ كفيها بين يديه و قال لها: " خائف عليك و على البنات أحسّ بالموت يطوف بي هل هو الإحساس بدنو الأجل؟" قالت: " بل الوهم والحزن الدفين في روحك الشفّافة"، ومع هذا أصرّت أن تذهب معه إلى الطبيب و أصرّت على تخطيط القلب، قال له الطبيب: " قلبك مثل الحديد و ستعيش مئة سنة! ".
الرابع من آذار في ذلك الصباح المظلم بكت الرضيعة كثيراً ، دخلت عليها وجدته يحملها بين ذراعيه و يخاطبها: "لا تبكي الآن أيتها اليتيمة ما زال أمامك الكثير من الدموع التي سأعجز عن حمايتك منها" غفت على زنده وضعها في سريرها، تنهد ثمّ التفت إليها و قال لها: " مسكينة أنت و سيئة الحظ كنت أتمنى إسعادك و اليتيمتين ثمّ أشعل لفافة أخذ منها نفساً واحدا وقال آخر جملة: " بهية أنا انتهيت" رفع سبابته بالشهادة ونام إلى الأبد............
كابوس! حقيقة! مزاح سمج! نـــــــــور؟!
لا نـور! انطفأ النور والرضيعة تبكي...
غاب في صباح العمر غاب نـور البيت وانقضّت عواميده
انطفأ وجه الشمس و النجوم وأشرق زمن الجراح و الدموع . . .
لطالما تساءلت ما بينهما كان لقاء أم وداع؟! و حلما كان أو سراب ؟! و هل كان نـور إلاّ جرح وطن في ملامح رجل؟!!
في الثامنة و العشرين وجدت نفسها وحيدة مع طفلتين، لا أب و لا أخ و لا زوج.
رحل حب العمر ونور العيون، فجيعتها مريرة، أصيبت على أثر الصدمة بمرض السكّر، لولا طفلتيهما لاستسلمت لما يشبه الموت.
أحضرت مربيتها و عادت لسلك التعليم،و درست في دورات إضافية اللغة الفرنسية لتعليم المعلمين وحتّى الفخار والصدف لتزيد من دخلها، تعلمت الخياطة و التطريز أيضاً لتخيط أجمل الملابس لبناتها ( حتى لا ترتديان ملابس اليتم الكئيبة)، لن أنسى ثوب الطاووس الذي سهرت عليه شهرين لتجعل من ثوبي مفاجأة الحفل و قبلة الأنظار في فرح أحد الأقارب!
علّمتني كيف أحبّ فلسطين و أعيش همّ القضية، قالت لي ذات يومٍ: " ليس كل الشهداء يموتون بالمذابح و الرصاص والدك مات شهيد حبّ حيفا و ترابها و جرح فلسطين و بنصل الغدر الذي لم يحتمله"
وفي كلّ هذا، كنت أصحو على نحيبها في الليل، أقف خلف الباب أسمعها تناديه وتناجيه وتغني له: " نـور العيون يا شاغلني"!
لم يتركوها طويلاً في حالها، الأقارب والمعارف والصديقات، (ابنة عائلة محافظة لا يصح أن تبقى بلا زوج)، بقيت على هذه الحال تعاني منهم و من قائمة عرسانهم التي لا نهاية لها، تبكي و تقول: " لن يأخذ أحد مكان نـور" و يقولوا : "مصلحتك و مصلحة البنات وسمعة العائلة الخ" إلى يوم فاض بها أحضرت القرآن و أقسمت عليه أنها و مهما فعلوا لن تتزوج بعد نـور ! و ستبقى هكذا حتّى تلقاه زوجة في الجنّة!.
تعيش الآن في آخر بقاع الأرض مريضة بعد أن هدّتها الهموم، لا تعترض و لا تضيق حتى بالألم، صابرة محتسبة راضية بقضاء الله. . .
أدخل عليها أحياناً فأجدها ساهمة تنظر عبر النافذة بعيداً إلى السماء
هامسة أغني لها: " نـور العيون يا شاغلني" أمسك بكفها و أتابع: " كل الحكاية عيون بهية "، تبتسم مطمئنة وتضغط قليلاً بيدها الحبيبة على يدي، ونعاود النظر معاً إلى السماء و لسان حالنا يقول:
طال شوقنا يا نـور و وجودك فينا لم يزل أشدّ حضوراً في الوجود. . .