المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القصة القصيرة جدا .. مقدمة وإشارات



طلعت سقيرق
10/10/2007, 12:45 AM
هل استطاعت القصة القصيرة جداً ، بعد أن مرّ ما مرّ من سنوات ، أن تفرض وجودها كفن قائم بحدّ ذاته ؟؟ أم أنها ما زالت بحاجة إلى الشعر أو القصة أو سواهما ، كحامل ومرجعية ؟؟ وهل يستطيع هذا الفن أن يقول ببنية وتعريف خاصين به ؟؟ ..
أفترض بداية أنّ العام 1970 ((1)) كان الزمن الحاضن لانطلاق القصة القصيرة جداً . وهذا الافتراض يعني أول ما يعني ، أنّ هناك أعواماً كثيرة مرت على البداية ، لنكون أمام أرضية يستدعي امتدادها الطويل ، وجود ركائز ونصوص وتعريفات وآراء ، تعطي هذا الفن قدرته على الظهور والثبات والرسوخ .. لكن التحديق الطويل في الناتج ، يقول إن ذلك لم يحدث .. فما هي الأسباب ؟؟..
لن نبتعد كثيراً في بناء افتراضات أو ما يشبه الافتراضات . إذ من الواضح الجلي ، أنّ القصة القصيرة جداً ، كانت تسير بهدوء وروية وأناة ، دون أن تثير الجدل أو النقاش وحتى المعارضة . مما جعلها أقرب ما تكون إلى الوليد الذي آثر أن تمتدّ بعض سنوات عمره في الظل ، وما أن خرج هذا الوليد إلى النور والعلن بقوة ، بعد أن كبر واكتمل نضوجه ، حتى أخذ يثير الأسئلة والإشارات . وهي الأسئلة التي جاءت متأخرة بعض الشيء ..
كما أنّ القصة القصيرة جداً لم تطرح نفسها كبديل للقصة القصيرة ، أو لأي نوع آخر .. مما جعلها بعيدة عن هجوم أصحاب هذا النوع أو ذاك .. ومن يدقق في الهجوم على قصيدة التفعيلة ، أو قصيدة النثر ، لا يستطيع إلا أن يجد السبب في أن كلّ واحدة كانت تطرح نفسها كبديل لسابقتها .. قصيدة التفعيلة ، أرادت أن تحل مكان القصيدة العمودية .. وقصيدة النثر بدل التفعيلة ، أو بدل العمودية والتفعيلة معا ..
إلى جانب ذلك ، كانت القصة القصيرة جداً ، عند كلّ كاتب من كتابها ((2)) ، على هامش نوع آخر رئيسي بالنسبة لهذا الكاتب . فكاتب القصة القصيرة جداً ، شاعر ، أو قاص ، أو روائي ،في الأساس ..وتأتي القصة القصيرة جداً تابعة أو على هامش النوع الرئيسي. ولم نجد كاتباً يتفرغ للقصة القصيرة جداً ((3)) دون سواها ، لتكون محور كتابته . وإن كنّا نشير إلى أنّ الشاعر محمود علي السعيد قد أعطى هذا الفن جزءاً كبيراً من اهتمامه كتابة ونشراً ، فكانت القصة القصيرة جداً تسير عنده إلى جانب الشعر ، لا على هامشه ..


لكن ماذا عن الأسئلة المطروحة ، وعن إجاباتها ؟؟..
علينا أن نشير بثقة تامة إلى استقلالية فن القصة القصيرة جداً بعيداً عن أي خلط أو محاولة لإدخاله في معطف الشعر أو القصة وسواهما. فالفن هنا ذو شخصية مستقلة متكاملة الملامح والأبعاد . وقد استطاع الزمن الذي مرّ ، أن يظهر هذه الاستقلالية ويعطيها هويتها وبصمتها . فكانت القصة القصيرة جداً ، جنسا أدبيا قائماً بذاته ، مستقلاً بملامحه ، غنياً بسيرورته .. والأهم ، أنّ هذا الجنس فرض وجوده بقوة، فما عاد بحاجة إلى نقاش في هذا المجال ، لأنّ أي سؤال حول شرعية الوجود ، لا يكون مع موجود أصيل حاضر بقوة . وتبقى مسألة التعريف والتوصيف والتحديد ، هي الأهم ، كون الداخلين في صلب هذه المسألة ، يدورون في أكثر الأحيان حول الظاهر ، ولا يتناولون الفن كفن .. وإذا كانت هناك قلة قد أعطت التعريف والتوصيف حقه ، فإنّ الأمر ما زال بحاجة إلى نقاش ..
القصة القصيرة جداً .. والتعريف :
أميل هنا إلى قول القاص حسين المناصرة معرفاً : " يمكن تعريف القصة القصيرة جداً على أساس أنها بضعة أسطر تشكل نصاً سردياً مكثفاً " .. وميلي إلى هذا التعريف ، نابع من كونه الأشمل والأكثر اختصاراً .. وأرى من جهتي ، أن : " القصة القصيرة جداً ، هي القصة التي تقدم الحدث والحبكة والشخصيات في سطور قليلة ".
وظني أن التحديد واجب في مداخلة فن القصة القصيرة جداً ، إذ لا يقبل بأي حال أن يقال في الحجم ، إنه قد يصل إلى عدة صفحات. فمن غير المعقول ، أن نقول (( قصة )) و ((قصيرة جداً )) ثم نفتح المجال ، لتكون هذه القصة في صفحات ، وكأننا نعيدها مباشرة إلى التطابق التام مع القصة القصيرة . فهناك كما نعلم ، قصص قصيرة ، في صفحتين ، فكيف نفرّق بين هذه وتلك ؟؟. أليس الأجدى أن نحدد ونضبط ، بدل أن نترك الحبل على الغارب،وكأننا لا نعرف ماذا نفعل أو نقول أمام هذا الجنس أو النوع ، معلنين إمكانية وصف كلّ نص وإن طال، بأنه قصة قصيرة جداً ؟؟..
قد تكون القصة القصيرة جداً في سطر أو سطرين ، وتمتدّ لتكون في صفحة أو لنقل في مئتي كلمة على الأكثر .. وهذا لا يعني على الإطلاق أن نقيس أو نعدّ الكلمات . كما لا يعني القبول ، بتحويل التكثيف والاختصار ، إلى لعبة فنية ، لا تمتّ إلى القص بصلة ، فمهما اختصرنا، علينا أن نبقي على القص . إذ لا توجد قصة قصيرة جداً دون فن القص والحكاية . وإذا زادت الكلمات عن مئتي كلمة ، فهذا لا يعني أنّ القيامة قامت ، إذ بضع كلمات تغني الفن وتبنيه لن تخرج بالنص عن كينونة القصة القصيرة جداً .. لكن لا يجوز أن نتجاوز الصفحة الواحدة، لنقول بصفحتين أو صفحات .. ومن جهتي ، وتبقى المسألة شخصية ، أميل إلى أن تكون القصة القصيرة جداً في سطور قليلة قدر المستطاع ، مع المحافظة على روح القص ..
بعد هذا التعريف أو التوصيف ، لابدّ أن يبرز سؤال عن سمات القصة القصيرة جداً .. والسؤال هنا يحاول أن يداخل الصفات العامة التي تمسّ البنية الفنية لهذه القصة .. فماذا نقول في هذا ؟؟ ((4))
قد أجد أنّ التركيز والتكثيف والإيجاز والصور السريعة والإيحاء والإدهاش ، والاختيار الذكي الثر للمقدمة والنهاية ، من أهم صفات القصة القصيرة جداً . وظني أنّ الوصف يجب أن يكون مختصراً أشدّ الاختصار ، وأنّ الشخصيات يجب أن تحضر بكثافة وقوة ، وأنّ الحدث يجب أن يكون متحركا غنيا نابضاً على الأغلب . وفي كلّ الأحوال ، على القصة القصيرة جداً أن تترك أثراً ودهشة ومغزى ورعشة إعجاب ..
القصة القصيرة جداً فن حديث :
أشير هنا إلى ضرورة الانتباه إلى كون القصة القصيرة جداً ، نوعا أو جنسا قائماً بذاته ، لا يعود كما يرى البعض إلى الحكمة أو المثل الشعبي أو الأقوال الشعبية وما شابه . إذ من غير المجدي أن نحاول إعادة كلّ شيء إلى التراث ، أو أن نقول بأنّ أدبنا قد عرف هذا الفنّ من قبل . إذ التعريف واضح ، ولا داعي بأي حال ، لتحميل التراث فوق ما يحتمل . والخلط حسب ظني ، نابع من غياب مفهوم القصة القصيرة جداً . إذ كيف نرى في المثل قصة قصيرة جداً ((5)) ، مع علمنا أنّ المثل بعيد عن القص بمعناه الفني الذي نعرفه الآن كلّ البعد .. ولا داعي لأنّ نلف وندور هنا ، لنقول إنّ المثل جاء بعد حادثة ، ثم نروي الحادثة أو قصة المثل ، لنثبت أننا نملك قصصاً قصيرة جداً في تراثنا . فلن تنقص قيمة التراث ، ولن يتأثر ، إذا كان لم يعرف فناً ، هو في الأصل فن حديث..
أعود إلى صلب البحث في كينونة القصة القصيرة جداً ، فأرى أنّ من حق البعض أن يسأل: أليس اشتراط كلمات قليلة لا تزيد عن الصفحة للقصة القصيرة جداً ، قد يقتل حرية الفنان في بناء حدث متماسك والوصول به إلى الأفضل ؟؟..
أقول ببساطة ، وما المانع أن يكتب الكاتب قصة قصيرة دون " جداً " ، إذا كان مصراً على الإطالة . فكاتب القصة القصيرة جداً يجب أن يلتزم بشرطها الأساس ، وهو التكثيف والإيجاز والتركيز . ويمكن أن أورد هنا قصة للقاص مروان المصري من مجموعته ((أحلام عامل المطبعة )) بعنوان (( تجربة )) تقول : (( فتح باب القفص ، فارتعش العصفور ، وخرج للتحري .. بعد بضع جولات ، جاع، فبحث عن قفصه )) .. وقصة من مجموعتي ((الخيمة)) بعنوان (( الفاعل )) تقول : (( اصطفّ الطلاب .. دخلوا بنظام .. جلسوا على مقاعدهم بهدوء .. قال المعلم : درسنا اليوم عن الفاعل .. من منكم يعرف الفاعل .. ؟ رفع أحد الطلاب إصبعه .. وقف .. تثاءب .. قال : الفاعل هو ذلك الذي لم يعد موجوداً بيننا .. ضحك الطلاب وبكى المعلم .. )) ..
فالقصتان تحافظان على مشروعية كون هذا الفن مختصراً مختزلاً . إلى جانب ذلك ، يعبر كلّ نصّ عن معنى التطابق مع كون هذا الفن فناً حديثاً يبتعد عن أي مرجعية تراثية . وقد اخترت النصين ، رغم الاختلاف بينهما ، من حيث البناء والرمز والتكثيف وما إلى ذلك . لأرى إلى قدرة كاتب القصة القصيرة جداً على الحركة والتحرك في مساحة واسعة لا تلزمه بأي قيد ، كما يظن عند التوقف عند حرفية التعريف أو التوصيف .
يلاحظ أنّ قصة تجربة توجز وتختصر إلى أبعد حد .. بينما تبني قصة (( الفاعل )) حدثاً وتطيل أكثر من الأولى .. لكن في القصتين ، هناك التزام بفنية القصة القصيرة جداً ، وقدرة على البناء المؤثر الذي يقول الكثير في كلمات قليلة . فالالتزام لم يحرم أياً من القصتين من قدرتهما على الوصول والإدهاش والمحافظة على البعد الجمالي .
ولنا هنا أن نطيل في السرد إذا شئنا عندما نمدّ في هذه القصة أو تلك .. لكن هل سنضيف جديداً ؟؟ لا أظن .. لأن ما يجب أن يقال قد قيل ، ولا داعي لأي إضافة ، لأنّ كلّ إضافة تعني مقتلاً في البناء وجمالياته ..
النص .. والبناء المحكم :
وللتوغل أكثر في مفهوم القصة القصيرة جداً ، أذكر قصة (( السكين )) من مجموعتي التي حملت عنوان هذه القصة (( السكين )) والتي تقول : (( على صاحب هذه السكين أن يتقدم خطوتين . وتقدّم الجميع خطوتين .. صرخ الضابط خائفاً : قلت صاحب السكين فقط،ارجعوا إلى الخلف . ورجعوا إلى الخلف خطوتين . حاول أن يكون هادئاً بارداً كلوح ثلج. قال وهو يحرك يديه وقدمه ورأسه: ( من كانت معه هذه السكين البارحة فعليه أن يتقدم خطوتين ) . تقدم الجميع خطوتين . صاح حتى كاد حلقه يخرج من بين أسنانه : ( قلت صاحب السكين .. صاحب السكين يا أولاد الـ .. ) ثم عاد لوحاً من ثلج وقال : ( على صاحب هذه السكين أن يرفع يده) وارتفعت من كلّ واحد يد .. صاح بغضب : ( هل من المعقول أن تكونوا كلكم أصحاب هذه السكين .. هل من المعقول ) ؟.. ارتسمت على الشفاه ابتسامة عريضة . زعق كمن يعاني سكرات الموت : ( أنا لا أدغدغكم .. سأقتل صاحب السكين حتى وإن قتلتكم جميعاً .. والآن على صاحب السكين أن يتقدم خطوتين ) .. وتقدّموا خطوتين .. ثلاث خطوات .. أربع .. ولم يتوقفوا .. ظلوا يتقدمون .. صاح .. لم يتوقفوا .. أمر الجنود بإطلاق الرصاص وتراجع وهم يتقدمون .. ارتسمت تحت خطواتهم بقع من دم ، وهم يتقدمون .. زعق الضابط .. زعق الجنود .. زعق الرصاص .. وما زالوا يتقدمون .. ويتقدمون .. )) ..
هذا النص هو الأطول في مجموعتي (( السكين )) التي صدرت في العام 1987م وقد كتب الدكتور سمر روحي الفيصل عنها / صوت فلسطين ـ العدد 284 ـ أيلول 1991ـ / محللاً : (( هذه القصة قصة " موقف " يتسم بتناقض طرفيه . وقد بنى طلعت سقيرق قصته بناء درامياً ((6)) استناداً إلى هذين الطرفين المتناقضين . وليس التناقض بين الطرفين جديداً في القصة العربية، وإنما هو قديم فيها وفي الرواية والمسرح وإن لم يوجه النقاد عناية كافية له أثناء تحليلهم النصوص القصصية والروائية والمسرحية .. وأعتقد أن طلعت سقيرق عدل تعديلاً جذرياً في هذا البناء بحيث يتمكن من توظيفه في قصته القصيرة جداً . ولولا هذا التعديل لما كان قادراً على تقديم هذا النص الجميل الممتع . لنقل إذن إن هناك طرفين متناقضين في القصة ، الأول هو مجموعة رجال مقاومين قبض عليهم لأنّ أحدهم حمل سكيناً أو استعملها ، والثاني هو ضابط يمثل الحاكم الخائف من أن يحمل الناس سكاكين ، وقد أراد معرفة الشخص الذي كان يحمل السكين البارحة من بين الرجال الذين مثلوا أمامه .
أما التعديل الذي أدخله طلعت سقيرق على البناء المعتمد على طرفين متناقضين ، فهو جعل الطرف الأول صامتاً لا يتكلم ، والطرف الثاني يتكلم وحده . وبذلك حجب عن النص الحوار الخارجي بين الطرفين المتناقضين ، لأن القصة القصيرة جداً لا تستطيع استيعاب الحوار الخارجي ، وهو عادة وسيلة القاص أو الروائي أو المسرحي إلى توضيح التناقض بين الطرفين ، ولم يكتف طلعت بذلك ، وإنما راح يجعل رد الفريق الأول إشارة وحركة فحسب ، مع ملاحظة شيء مهم جداً هو أن الإشارة ، كالحركة جماعية وليست فردية . فإذا طلب الضابط من صاحب السكين رفع يده رفع الرجال كلهم أيديهم ، وإذا طلب منه أن يتقدم خطوة تقدموا جميعاً .
نتج عن هذا التعديل أمران هما أساس البناء الدرامي لقصة السكين . الأول هو تدرج الضابط من الانفعال بموقف الرجال إلى الغضب منه ، ثم إلى فقدان السيطرة على أعصابه وأمره الجنود بإطلاق الرصاص . والثاني تدرج موقف الرجال من الانصياع الجماعي إلى أوامر الضابط إلى الفعل الجماعي الذي يخرق حدود الأمر . ففي بداية النص ووسطه طلب الضابط من الرجل الذي حمل السكين البارحة أن يرفع يده أو يرجع خطوة إلى الوراء أو يتقدم خطوة إلى الأمام ، وكان الرجال يتقيدون بالأمر بشكل جماعي فيرفعون أيديهم أو يتقدمون أو يتراجعون خطوة ، لكنهم في نهاية النص خرقوا التقيد بالأمر واستمروا يتقدمون دون توقف . ويبدو بناء القصة هنا واضحاً، فكلما تدرج موقف الضابط سلباً تدرج موقف الرجال إيجاباً . هو يغضب وهم يزدادون تضامناً وجرأة ، حتى انتهى ((الموقف )) بانتصارهم على الرغم من أن الجنود أطلقوا عليهم الرصاص وسالت دماؤهم .. ذلك أن الضابط تراجع أمام تقدمهم ، وهذا هو الإيحاء الفني الكبير في النص .. إنه التضامن ، أو قل: الوحدة ، وحدة الموقف ليتحقق الهدف الواحد . ولو تذكرنا الآن ترميز القصة : الضابط = إسرائيل .. الرجال = الانتفاضة ، لاتسع الإيحاء وبدا النص أكثر عمقاً تبعاً لبنائه المتين المحكم .
وربما استطعنا ، هنا ، تذكر التكثيف ، لكننا مضطرون قبل ذلك إلى ملاحظة شيء يؤدي إليه ، هو أن طلعت ذكر الضابط والجنود مرتين في النص . والمرتان متشابهتان : ذكر في الأولى الضابط وحده ثم الجنود وحدهم ، وفي الثاني جمع بين الضابط والجنود . وليس ذلك شيئاً عابراً ، وإنما هو شيء لغوي خدم النص . ذلك أنّ ذكر الضابط تم ، أول مرة ، في بداية النص ، ثم راحت الإشارة إليه تتم بضمير الغائب ، وقبل نهاية النص تم ذكر الجنود حين أمرهم الضابط بإطلاق الرصاص . أما جمع الضابط والجنود في جملتين متواليتين فقد تم في نهاية النص بشكل واحد ينم عن رعب هذين الطرفين ، هذا الشكل هو : ( زعق الضابط.. زعق الجنود ) . لقد تساويا في الرعب فما عاد بينهما سيد ومسود . وإذا ذكرنا التكثيف هنا سألنا أنفسنا عن إمكانية حذف كلمة الضابط أو كلمة الجنود مرة من النص اكتفاء بورودها مرة أخرى . من الواضح أننا لا نستطيع ذلك إذا رغبنا في المحافظة على تماسك النص وإيحائه ، مما يشير إلى أن التكثيف في النموذج الذي قدمه طلعت ليس شكلياً تابعاً لعدد الكلمات فحسب ، وإنما هو مضموني قبل ذلك ، نابع من الموقف الذي تريد القصة التعبير عنه ، وفي ذلك فليتنافس القاصون )) ..
تحليل الدكتور الناقد سمر روحي الفيصل لنص (( السكين )) يقدّم الكثير من المحاور التي تفيد في فهم بنية القصة القصيرة جداً . وظني أنّ الدكتور سمر ، كان أول من درس القصة القصيرة جداً بتوسع في مقالات عدة . وجاء كتاب (( القصة القصيرة جداً )) للقاص أحمد جاسم الحسين في العام 1997 م في دمشق ، كأول كتاب في هذا المجال على حدّ علمي .. وطبيعي أنّ هناك دراسات كثيرة ، وآراء ، ونقاشات ، قد داخلت القصة القصيرة جداً ، وتحدثت عنها ، قبل المقالات والكتاب المذكورين . إذ لا يمكن وضع نقطة نهائية في هذا المجال ..
تعدد في الآراء .. تنوع في ا لتحديد :
يمكن أن نأخذ هنا عدداً من الآراء التي داخلت فن القصة القصيرة جداً ، لنرى إلى أي حد تطابقت أو اختلفت مع ما ذهبنا إليه .. وإذا كان التطابق يعني نوعاً من الوصول إلى مفهوم موحد ، فإن الاختلاف يصبّ في اتجاه إيجاد أرضية دائمة الحركة ، وقابلة لاستقبال الجديد ، في مفهوم القصة القصيرة جداً ..((7))
ترى القاصة أميمة الناصر في النظر للقصة القصيرة جداً أنّ اللغة تجيء (( لتكونني ، لم تعد جامحة بغباء ، أو عنيفة بحمق ، أضحت هادئة ، تطرق أسئلتها الإنسانية والوجودية بهدوء ، هدوء من يعرف الجواب )) و (( بات السؤال خاطفاً ، وكذلك الجواب . اختزلت اللغة نفسها ، تساقط الكثير من الفائض وما بقي في النص تشبع بفضاءاته وألوانه ، هكذا أضحت قصصي )) .. وترى الأديبة كوليت خوري أنّ نصوص القصة القصيرة جداً ما هي إلا (( مقطوعات صغيرة .. قد نعتبرها شعراً .. وقد نظنها عبراً .. وفي أيامنا هذه .. قد نسميها قصصاً قصيرة .. قصيرة قصيرة .. )) بينما تقول الشاعرة والقاصة أنيسة عبود : ((القصة القصيرة جداً نتيجة حتمية لتطور القصة القصيرة ولتحول الحياة اليومية للفرد ، إنها كقصيدة النثر ، وليدة حالة ملحة تعبر عن زمن آت ، سريع مكثف ، لماح وجارح. إنها تشبه القصيدة الومضة . ولكن هذه القصة لم تؤكد وجودها كحالة مستقلة ..)).. وتقول القاصة حنان درويش : (( القصة القصيرة جداً تكثيف لأحداث ومواقف وأفعال .. إنها مرآة الومضة، وفيها يستطيع القاص أن يقول الكثير في كلمات قليلة )) وتقول القاصة ندى الدانا : (( القصة القصيرة جداً هي لقطات من الحياة أشبه بالتصوير الفوتوغرافي أو بالمشهد السينمائي . وتتميز بالتكثيف والتركيز واختزال معانٍ كثيرة في أسطر قليلة .. أحياناً تقترب من الحكمة ولا تكونها .. وأحياناً تقترب من الطلقة المصوبة ببراعة .. وبإمكانها التقاط تفاصيل كثيرة من الحياة هامة جداً ، رغم أنها تبدو هامشية .. )) .. وتقول القاصة حكيمة الحربي أن هذا الفن (( يحتاج إلى تركيز من الكاتب وتكثيف الصور والرموز الموحية والحدث )) وأنها تناولت في قصصها (( عمق الألم الإنساني والهم المجتمعي . وعالجتها بموضوعية بأسلوبي الذي عرف عني وهو المزاوجة بين الشعر والسرد بإطار لغوي وصور بيانية ناطقة ذات مدلول على المعنى المراد وبعبارات تنم عن خيال خصب )).
في متابعة الآراء نجد أنّ القاص حسن حميد يقول : (( القصة القصيرة جداً حال إبداعية شبيهة بحال قصيدة النثر من حيث القبول بها أو عدم القبول كجنس أدبي له استقلاليته ونكهته، يضيف للقصة القصيرة كإبداع ، ولا يأخذ منها باعتباره عالة عليها أو متسلقاً على نجاحاتها)).. ويرى القاص اسكندر نعمة : (( أنّ القصة القصيرة جداً ، إما أن تظل قصة قصيرة عادية مكثفة ، أو أن تجنح نحو الخاطرة القصصية . وهي في كلتا الحالتين تبقى شكلاً من أشكال المحاولات التجريبية في إطار القصة القصيرة )) بينما يرى القاص حسين المناصرة أنه (( ما بين مصطلحي القصة القصيرة و ـ النص ـ ولدت القصة القصيرة جداً ، لتكثف ، وتوتر ، وتؤسطر .. وتبهر .. وتحاول أن تعلن أنها النص الأكثر اقتراباً من المتلقي في عالمه الممتلئ بالتقطيعات والتشوهات والتناقضات .. وقد قيل : خير الكلام ما قل ودل..))..
وفي هذا المجال يرى القاص عوض سعود عوض أن (( القصة القصيرة جداً هي ابنة القصة القصيرة أو هي أختها ، وهي شكل جديد لكتابة الحدث يعتمد على التكثيف الفني والدهشة )) ويقول القاص فهد العتيق : (( النص القصصي القصير جداً ، ليس نصاً قصصياً غير مكتمل ، إنه حالة جديدة فرضت نفسها وقدمت لوحات فنية جميلة تقدم نفسها بلغة شاعرية بسيطة ومكثفة وبطرائق تعبير جديدة ومختلفة ذات مضامين وافكار متشظية داخل هذا النص القصصي القصير جداً والموحي باحتمالات دلالات عديدة )) .. أما القاص جبير المليحان فيرى أنها (( كنفس عميق جداً ، ليست حكمة ، ولا لغزاً ، إنها شفافة وعميقة كالشعر وفاجعة مثله ، وبها لوعة وبكاء وحزن ، إنها ألم في القلب : أكبر من الوخز ، وأصغر من عملية جراحية .. )) ويقول القاص عارف العضيله : (( في الغالب لا يمكن أن تتجاوز القصة القصيرة جداً خمسة سطور .. هذا بالكثير .. ويمكن أن تكون سطراً واحداً فقط .. )) ..
نلاحظ أنّ خارطة التعريف واسعة ، وإن كان هناك ما يشبه الاتفاق على القص والتكثيف ، دون الدخول في مفهوم الرمز والإيحاء والإشارة ، وما إلى ذلك . فالقصة القصيرة جداً تبقى في المفهوم الأعم ، قصة تلجأ إلى الاختصار والضغط والتركيز قدر المستطاع .
القصة القصيرة جداً .. وكلمة أخيرة ..
لا شيء يعطي القصة القصيرة جداً مشروعيتها ومصداقيتها قدر إخلاص كتابها لها ، وابتعادهم في كتابتها عن أي حشو أو تفصيل أو إسهاب في الكلام . فالقصة القصيرة جداً ، يجب أن تبدأ وتستمر نبضاً وتركيزاً ولمعاناً من العنوان حتى آخر كلمة . وإذا كان الإيجاز مطلباً لا يستغنى عنه ، فإنّ مناقضته في إعطاء القصة القصيرة جداً مشروعية الامتداد في أكثر من صفحة ، يعني مقتلاً لهذا النوع من الفن . إذ يفترض أن تكون القصة القصيرة جداً ، قصيرة جداً حقيقة ، كي تصل إلى التوافق مع التسمية والمصطلح على أقل تقدير ..
وظني أنه لا داعي للأخذ والرد في إعطاء المشروعية أو سحبها لهذا أو ذاك من الكتاب في مجال القصة القصيرة جداً . فالأمزجة لا تكون حكماً في مشروعية الفن ، ولا تعطي جواز سفر . إنّ الحكم على القصة القصيرة جداً ، يجب أن يخضع لمعايير نقدية واضحة ومفهومة ، لا لمعايير مزاجية غائمة وغائبة تحت ستار من الغايات الشخصية ((8)). فالفن فن في كلّ الحالات . والقصة القصيرة جداً ، يمكن أن تعطي المشروعية لمن يفهمها ، وأن تحرم من لا يفهمها هذه المشروعية .. والزمن في النهاية ، هو الحكم .. فلماذا لا نبني هذا الفن الجميل ونعمل على دعمه ورفده ، بدل أن نتصارع عاملين على هدمه دون أن نشعر ؟؟..

هوامش ومرجعيات :
1) يبقى العام 1970 افتراضياً ، إذ قد تكون القصة القصيرة جداً قد بدأت قبله أو بعده بأعوام قليلة ..
2) كثيرون كتبوا القصة القصيرة جداً نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر : محمود علي السعيد ، سليمان سعد الدين ، محمد توفيق السهلي ، سها جلال جودت ، محمد أكرم مباركة ، محمد توفيق الصواف ، شفيق محمد السهلي ، ندى الدانا ، حنان درويش ، طلعت سقيرق ، أحمد جاسم الحسين ، مروان المصري ، حسن حميد ، جمال جنيد ، وليد معماري ، زكريا تامر ، صلاح مفلح أسعد ، أميمة الناصر ، نور عمران ، دلال حاتم ، محمد قرانيا ، محمود شقير ، عبد الله أبو هيف ، محمود موعد ، حسين المناصرة ، حكيمة الحربي ، اسكندر نعمة، عماد نداف، محمد منصور ، عوض سعود عوض ، جبير المليحان ، فهد العتيق ، عارف العضيله ، نبيل جديد ، نضال الصالح ،عدنان كنفاني، نجيب كيالي ، ضياء قصبجي ، محمد ابراهيم الحاج صالح ، يوسف حطيني.. وهذا جزء من كلّ ، مما يعني أنّ القصة القصيرة جداً قد توافر لها عدد كبير من الكتاب ..
3) هناك مصطلحات كثيرة استعملت لتسمية هذا الفن مثل : النكتة القصصية ، القصة الومضة ، القصة الكبسولة ، القصة المكثفة ، القصة الحديثة ، القصة الجديدة . لكن ((القصة القصيرة جداً )) تبقى هي الأكثر حضوراً وإقناعاً كتسمية ومصطلح ..
4) كثيرون كتبوا عن القصة القصيرة جداً منهم : د. سمر روحي الفيصل ، طلعت سقيرق، حسين المناصرة ، محمود علي السعيد ، اسكندر نعمة ، ندى الدانا ، حسن حميد ، وسواهم .. لكن كتاب القاص الناقد أحمد جاسم الحسين (( القصة القصيرة جداً )) 1997 يعتبر الكتاب الأول في هذا المجال ..
5) في اعتقادي يميل أصحاب القول بأنّ القصة القصيرة جداً تعود إلى المثل أو الحكمة ، إلى نسف ركائز هذا الفن وتغييبها . إذ أنّ اختلاط المفاهيم ، يضيع القصة القصيرة جداً ويدخلها في متاهات لا نهاية لها ..
6) قليلاً ما تستطيع القصة القصيرة جداً أن تبني بناء درامياً في قدرة الاعتماد على الصراع بين طرفين نقيضين .. واختيار الدكتور سمر روحي الفيصل لهذه القصة اعتمد على ما تحمله من معطيات هذا البناء ..
7) أكثر هذه الآراء جاءت في شهادات عن القصة القصيرة جداً سيضمها كتابي ((القصة القصيرة جداً / نماذج وآراء )) والذي سيصدر قريباً .. وعلي أن أشير هنا إلى أنني لا أتفق مع بعض التعريفات ، لكن لكل رأيه ونظرته ..
8) طبعاً لا أقصد الإساءة لأحد ، لكن من باب أولى أن نتجه إلى نقد القصة القصيرة جداً، لا إلى التجريح والتشكيك والمماحكات ومحاولة التقليل من قيمة هذا الكاتب أو ذاك جراء مواقف شخصية لا علاقة لها بهذا الفن أو بالأدب بشكل عام ..
*نشرت في مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة في دمشق العدد 431آب 1999..

حسام الدين نوالي
14/10/2007, 12:41 AM
السيد طلعت سقيرس،
قضية ق.ق.ج هي في الحقيقة ليست قضية صراع وجودي الآن، بقدر ما هي قضية ملمح فني مميز، فما يميز ها كما جاء في المقال هو عدم طرحها كبديل للقصة القصيرة أو غيرها، لذا فحدة الاختلاف معها أقل بكثير من حدة الاختلاف مع قصيدة النثر مثلا..
والمسألة في رأيي هي مسألة ملامح، ال ق.ق.ج. ما زالت في الغالب تختلط لدى الكثيرين مع "الشذرة" أو "الومضة الشعرية" أو غيرهما من الأجناس الضئيلة الحجم.. وفي اعتقادي إن ما يميز القصة القصيرة جدا عن القصة القصيرة هو الحجم فقط، فيما تظل كل المقومات السردية ضرورة لا تسقط..
تحيتي إليك الأستاذ طلعت، وتقديري كبير لهذا المدخل الجميل الذي صار مع مقالة الأستاذ سعيد أبو نعسة معبرا يمنح الداخلين إلى منتدى القصة القصيرة جدا رؤية أوضح..
مع مودتي

طلعت سقيرق
14/10/2007, 01:23 AM
الأخ الأديب حسام الدين نوالي
من باب أولى أن نخرج " المثل " و" الشذرة " و" الومضة " كما تفضلت من هذا الباب بشكل نهائي لأنها ليست منه ولا تمت إليه ، وليس الاختصار وحده أسّ قصة قصيرة جدا .. أيضا هناك حاجة لمناقشة القصة القصيرة جدا بتوسّع حيث اجترأ الكثيرون على الخوض في مجالها كما اجترأ كثيرون على كتابة قصيدة النثر ظنا منهم أنّ الأمر جدّ سهل ..
وإذا وقفنا عند الحجم فقد أتفق معك ، لكن هناك من يمضون في الحجم طولا ويمهرون كتاباتهم بتسمية القصة القصيرة جدا .. كما ترى فقد حددت الطول بعدد الكلمات وهو عدد تقريبي ، مع أنّ من أصدروا كتبا حولها لم يحددوا جراء وجود نصوص طويلة .. ليتنا ناقش الأمر بتوسع في منتدى القصة القصيرة جدا ..
شكرا لك وسلمت

باسين بلعباس
10/10/2008, 07:36 PM
الاستاذ طلعت
شكرا لك على المجهود البيّن في هذه الدراسة عن القصة القصيرة جدا..
أعتقد أنها كالقصة القصيرة تماما من حيث المكونات وعناصر ها..والاختلاف الوحيد هو الحجم..(جدا )زادت من وصف القصر عن الأولى فقط، بمعنى أقل منها طولا..
لكنها لا تصل الى سطر ، كما هو المعمول به عند الكثير من الذين أسرعوا ..فقاربوها الى الومضة..أو (الفلاش)..اللمحة
كقطعة مأخوذة..معبر عنها بدقة وضغط كبيرين..ليس فيها مفردة إضافية..لا شرح، ولا إجابة عن سؤال..
ولكنها تقول ما تراه وتنصرف..
لك التقدير والمودة:fl: