المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكايات مخزن شارع 44



محمد صباح الحواصلي
11/11/2006, 09:12 PM
قصتان من مجموعة "حكايات مخزن شارع 44"

محمد صباح الحواصلي

يجب أن نتقبل ذلك... لا خيار لنا

مع دفعه الباب نفذت رائحة المطر المشبعة بالشمس. تابعت زبيدة الحبشية آثار قدميه الموحلتين على أرض المخزن النظيفة اللامعة, قال لها:
- مطر في تموز! هذا جنون.
- إنها واشنطن.
ثم نقدها دولارا:
- أربعة أرباع من فضلك.
اسند ظهره على باب المخزن الزجاجي ثم دفعه بمؤخرته خارجا وهو يقول:
- على أية حال فأنا أحب هذا الطقس.
أجابته:
- يجب أن تحبه.. لا خيار لك.
وضعت زبيدة مثلث (أحذر الأرض مبتلة) وبهمة مسحت طبعات قدميه الموحلتين وهي تكلم نفسها. يحصل معها هذا في أوقات الضيق والضغط. يحصل مع الكثيرين كما تحب أن تبرر لنفسها ولغيرها دائما, وتقول بصوت مسموع, "يجب أن نتقبل ذلك.. لا خيار لنا." أمسكت نفسها عندما رأته ينظر إليها من خلف الزجاج. "يا إلهي.. لابد أنه رآني وأنا أكلم نفسي." ابتسم لها وسماعة الهاتف في يده. "إذن رآني وأنا أكلم نفسي."
ثم بغتة أصبح موصولا مع صوت أتاه عبر سماعة الهاتف. ضغط على ربع الدولار الأول لينزلق ويحدث رنينا في جوف الآلة.
تقدم الوقت على هواه.. متقلبا, متجهما, مبهما, سادرا, يرمي ألوانه بانفعال وعبث. يجعل الفضاء تارة فضيا, وتارة يصبغه بلون الرماد, وأحيانا يحلو له أن يكون بلون الدم, ينثر التماعات براقة كالشرر, يحرض المطر كي يعنف, فيهيج التراب الظامئ باعثا نشوته من باطن الأرض لتسكن الأمكنة والفضاء والأنوف.
للمطر صوت أصبح أليفا لأذني زبيدة. تتقبله بحب كما تحذره. تدفعه بعيدا عن مساحة تفكيرها, تشغل نفسها عنه, تتجاهل صوت ضرباته على الزجاج وأرض مواقف السيارات الإسفلتية, لكنها عندما تجده مهيمنا عليها بإصرار تصغي إليه وهو يتبدل بين النقر الهين إلى الضرب العنيف, إلى الانهمار الجنوني الذي يحجب كل شيء عن الرؤية. تتقبله دائما, فلا خيار لنا. وعندما تشرق الشمس من خلف الغيوم الماطرة ترفع رأسها إلى الفضاء وكأنها تتوقع نتيجة هذا التلاقي الغاضب.

ضربة عنيفة جاء صوتها من مكانه حيث يقف وسماعة الهاتف على أذنه. تنظر زبيدة إليه من خلف الزجاج. يضرب بقبضته ثانية على الجدار القريب من جهاز الهاتف صارخا:
- لا.. لا.. لا..
تصيخ زبيدة السمع بفضول قطة. باتجاهه تنظر, وصوته يعلو فيما هو متكوما
على الأرض, وسماعة الهاتف على أذنه, مغمورا بأشعة الشمس التي ماوجت صفحة الفضاء بين الضياء وألوان الظلال.
- "لا.. لا.. عليك اللعنة. أتسمعين.. عليك اللعنة.. يا ابنة الحرام.."
تخطو زبيدة نحو الزجاج. قليلا تميل برأسها لكي تراه. المطر يوقع صوته عنيفا على الأرض.. مطر جياش بالترقب والحذر, متجهم ككل شيء ينوء بعبء هذه الغابة المسكونة في غرب ولاية واشنطن. تتداخل خيوط الشمس بصوته الغاضب الحزين. تتحسس شفتاه ملوحة الحزن السائل من عينيه. وبصوت غاضب لكنه أمسى أكثر ميلا للاستسلام والبكاء يصرخ:
- أريدك.. أتفهمين. أنا بحاجة إليك كما كنت دائما بحاجة إليك. أتفهمين.. عليك اللعنة كيف تفعلين ذلك.. كيف تفعلين!
يترنح صراخه بعيدا ليعود منقضا دون رحمة:
- لم تفكري بي.. لم تفكري بطفلتنا.. لقد قتلتني.. عليك اللعنة.
تراه زبيدة يسير بعيدا عن صندوق الهاتف.. تراه وقد أصبح مغسولا بالمطر, بالتماعات الشمس البراقة. دون هدى يسير.. يترنح..يضرب بقبضته على مقدمه سيارة. يروح وكأنه لا يروح, ويجيء وكأنه لا يجيء. وعلى نحو مباغت تراه وهو يندفع نحو باب المخزن. تركض زبيدة من خلف الزجاج.
(واااغ) هكذا يأتي صوت منبه الدخول من الجهة الأخرى للمخزن. يضرب بقبضته على الطاولة قرب صندوق الحاسب. تطالعه عينا زبيدة المترقبتين المستسلمتين.
- لقد فعلتها الخنزيرة.. يركبها الآن رجل غيري.. الآن في هذه اللحظات.
- من هي؟
- زوجتي.
- وهل تعيش معها.
- عدنا إلى بعض منذ أسابيع على نية أن نبقى معا على الأقل من أجل طفلتنا.
لقد فعلتها الخنزيرة.. يركبها الآن رجل في بيتي.
- وكيف عرفت؟
- قالت لي ذلك وقالت إنها آسفة لا تريدني. هكذا بكل بساطة قالت إنها لا
تريدني, وإنها مع رجل آخر الآن. تصوري قالت إنها آسفة لا تريدني, وإنها تحبه.
- آوه.. هذا شيء مؤسف.
ذم عينيه وقال وهو يتوعد بقبضته:
- الانتقام.. شيء من الانتقام.
- لا تتهور.
- شيء قليل من الانتقام يكفي لتدميرها.. فقط شيء قليل.
يدفع الباب خارجا بعنف.. (واااغ) ثم يرتد الباب بطيئا حتى ينطبق أوتوماتيكيا ببرود واحكام تماما ككل النهايات التي تلتهم كل شيء في هذه الغابة المأهولة.
رأته يكلم نفسه وهو يخطو وقد غسله المطر المنهمر. قالت بخليط من الأسى والبهجة وبصوت مسموع:
- تماما كلهم يفعلون ذلك.. يجب أن نتقبل ذلك, لا خيار لنا.

واشنطن 2 آب 1993

ظهيرة اليوم التالي


وظهر الصباح مصطحبا معه هذه المرة شمسا دافئة غابت لأيام حتى تلهفت المخلوقات لإطلالتها. قوس قزح بان عند الأفق الشمالي فوق حقل اليقطين, وقد هدأت حركة مئات العصافير التي حلا لها أن تغفو فوق أسلاك الكهرباء العالية. نظر طلال قدري إليها وقد خلدت لدفء انتظرته طويلا مع تلك الأبقار في المرعى الفسيح الذي يقع على يمين الطريق الهابط من حي "فدرل ويه". خفف طلال من سرعة السيارة عندما رأى, عن بعد, قضيب القطار الفوسفوري يهبط رويدا ليسد الطريق, فيما بدأت الأضواء الحمراء تتناوب في الاشتعال والانطفاء وقد صدر من مكان ما صوت "كليك.. كليك.. كليك.." لتنبيه السائقين. سره أن سيارته كانت الأولى.. دائما كان يسره ذلك لينعم برؤية القطار بقاطراته التي تكاد لا تنتهي وهي تمر أمامه, مستدعية ذلك الشوق المبهم الذي يثيره عبور القطار في نفسه.. وما أن اقترب القطار من الشارع حتى أطلق صفارته المدوية التي تسمعها المنازل البعيدة حيث مكان سكنه خلف الهضبة, وعلى أثرها انتفضت العصافير من هدأتها وتناثرت وتباعدت وكأنها على موعد مع من يوقظها من نعيم الراحة والكسل, فدنت تلتقط رزقها من سبخات المياه التي خلفتها ليلة أمس الماطرة في مواقع متناثرة من المرعي, وحطت عصافير أخرى على الأبقار تقتات مما استقر على ظهورها من فضلات اثر تمرغها في الوحل حاكة أجسادها بمياهه المنعشة.
هو ذا صباح آخر متقلب. يطل دائما من وراء حجاب الظلام برداء جديد, وألوان جديده, وحكايات جديدة, ويسحب معه الشمس الهائلة, يمررها من فوق تنوعات الغيوم البليدة, والسعي البشري بما فيه من خير وشر وخطيئة. هكذا دائما هو الصباح يطل متغيرا عبر مدار واحد ثابت عمره ملايين السنين, ولا يقارب مشارف الهجيرة حتى يفقد قدرته المؤثرة المتجددة في تشكيل نهار جديد.
سار بسيارته وكان صوت القطار يفارق المكان رويدا رويدا حتى بات من الممكن لطلال أن يسمع صوت طرش المياه تحت عجلات سيارته. دخل طريق "أبرن" العام وبدا المخزن على مبعدة منتظرا قدومه بفارغ الصبر, ليستلم نوبته من زبيدة الحبشية الذي قضت شطر الليل كله وردحا من الصباح الباكر.
فتح باب المخزن.. فظهر صوت منبه فتح الباب.. "واااغ" وأطل مع الصوت رأس زبيدة النحاسي بملامحه الدقيقة الجميلة من خلف باب المستودع.
- صباح الخير.. زبيدة.
- صباح الخير طلال.
ثم اختفى رأسها خلف الباب, وعاد مع اختفائه صوت مغراف ينغرز في قطع
الثلج, وتعبئته في أكياس بلاستيكية سألها:
- هل من مفاجآت ليلة أمس؟
أجابت زبيدة:
- كان مساء موحشا.. خال حتى من الزبائن, والأمطار كانت غزيرة.
وضع طلال كتابا كان بيده قرب مسدس زبيدة تحت آله المحاسبة. وقد اقتربت
زبيدة منه وهي تخلع قفاز الثلج السميك قائلة:
- هل اترك لك المسدس؟
- لا يا حلوه اكفنا شره.. لقد عملت كل هذه الأيام والليالي في هذا المكان
دون أن أتعرض لاعتداء..
- وان تعرضت لاعتداء ماذا ستفعل؟
- سأعمل بوصية الشرطة.. سأعطيه ما يريد ليرحل عني.
- هذا استسلام..
- بل حكمة.. لو كل واحد منا أراد أن يحمل السلاح لا صبحنا غابة.
- نحن في غابة فعلا..
- هذا وجه من وجوه الواقع هنا, الوجه الآخر حديقة غناء.
ضحكت زبيدة وقالت وهي تهز رأسها تأكيدا لحكمتها هي في ضرورة حملها
للسلاح:
- أما أنا يا طلال فقد تعرضت للاعتداء أكثر من مرة.
- بإمكانك أن تستخدمي بخاخ (ميس) للدفاع عن نفسك دون الحاجة بان
تقتلي الطرف الآخر..
- هكذا أمريكا.. أما أنا أو الآخر. ومادام يريد الاعتداء علي فلا جرم في قتله.. والقانون معي.
الحديث بينهما دائما متقلب كطقس غرب ولاية واشنطن, يمتد عبر الدقائق التي تستعد خلالها زبيدة متلهفة للرحيل وتسليم طلال الغلة ليبدأ يوما طويلا سيمتد حتى منتصف الليل. نظر طلال إليها وهي تدس المسدس في حقيبتها, وقد بدا له كبيرا غير متناسب مع قبضة يدها الصغيرة وحجم جسمها الذي يكاد أن يدرجها مع قصار القامة لولا أن شاء الله أن يعطيها بضعة سنتمترات طولا بالإضافة إلى كعب حذائها.
- انه كبير.. لما لا تقتني مسدسا نسائيا صغير الحجم؟
جذبت حقيبتها وعلقتها على كتفها ورمت طلال بنظرة ما منهية الحديث وفي
عينيها ابتسامة راضية متعبة. خرجت من خلف طاولة آله المحاسبة تميس بأنوثة أفريقية وصوت نعل حذائها ينبئ عن خفة وزنها ورشاقتها, وعندما وصلت باب المخزن استدارت ودفعته بعقيرتها الإفريقية.. فظهر صوت المنبه (وااااغ) ثم قالت "أحبه كبيرا.." وفيما هي تمد لسانها مداعبة طلال حطت يد على كتفها فانتفضت كقطة مذعورة .. تراجعت اليد وعلت ضحكة كهفية محقونة بالسعال.
- هل أرعبتك؟ قال صاحب الصوت الكهفي.
- أنت لا ترعبني أيها (اليانكي), أنت فقط فاجأتني.
تركها الزبون وضحكه ما يزال يفرقع. وقف عند طاولة المحاسبة.. انه "بل"
الذي يدخل دائما وفي فمه حكاية:
- ما بال الناس لا تجد خلاصها إلا بالقتل..
سأله طلال بفضول:
- هل من جديد؟
- جريمة حصلت ليلة أمس في "ابرن". زوج شاب يقتل زوجته وعشيقها ثم
يقتل نفسه.. وترك طفلته ذات السنتين تبكي وتسرح فوق دمائهم.
- آووه.. هذا مؤسف..
- هذا حمق.. لا شيء يساوي أن تنهي حياتك, وليذهب الجميع إلى الجحيم.
كور الزبون قبضة يده وسعل في جوفها وقال بصوت مخنوق محتقن:
- اعطني ثلاث علب مالبوريو لايت وان هاندرد.
وطلت الشمس من خلف غيوم باردة وشملت المكان والدنيا من حوله بدفء
محرض لذيذ.

سياتل 12 أيار 2004