المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما مفهوم اللغزية للكاتب الروسي غوغول



نهاد عبد الستار رشيد
12/11/2006, 03:05 AM
( ما مفهوم اللغزية في عالم غوغول )


ما من شك أن نيقولاي غوغول أحد أبرز أئمة النص السردي وفن القص، وأكثر القامات الإبداعية سموا في مدارات الأدب الإنساني.

أن يسمى أو يوصف نيقولاي غوغول باللغز فذلك لم يكن محض مصادفة بل كان مؤسسا على تجليات حياته وإبداعاته، ناهيك عن أن اللغزية ذاتها تجسدت بالمآل الذي صار إليه غوغول بعد رحيله، إضافة إلى شهرته البراقة منقطعة النظير.

وإلى ذلك فإن بنية غوغول النفسية وتداعيات عالمه الروحي عكست مفهوم اللغزية هذا. فقد بعث غوغول الطفل في مرحلة دراسته الابتدائية رسالة إلى أمه كتب فيها يقول إن الأطفال ممن حوله يعتبرونه شخصا غريبا، ويذهب بعضهم إلى تسميته لغزا.

وكتب نيقولاي غوغول في هذه الرسالة الموجهة إلى أمه ما يلي:

"يعتبرني الجميع غريبا، لغزا لم يستطع أحدهم فك رموزه. لك أن تسمينني كيفما تشائين. ولكن، ثقي أن المشاعر النبيلة تملأ دائما كياني، وصدقي أنني سأبقى طول عمري نصيرا للخير.

ونصرة الخير هذه حفزت غوغول إلى التفكير جديا بممارسة مهنة الحقوقي لمساعدة المظلومين خاصة وأنه انشغل بفكرة العمل في مجال القضاء والتشريع. وكتب غوغول يقول: لقد رأيت أن العمل في هذا الميدان سيكون الأقرب إلى نفسي.. إن جور القضاء والتعاسات الكثيرة في عالمنا تمزق قلبي أكثر من أي شيء.

لكن غوغول لم يستطع مزاولة أي نشاط في هذا المجال، فما أن أنهى المدرسة حتى أصبح يشتغل موظفا في مدينة سان بطرسبورغ. وما أن انغمس في مهنة التعليم حيث عمل مدرسا في معاهد المدينة ثم في جامعتها حتى خاب أمله في ممارسة إي نوع من الخدمة في مؤسسات الدولة.

هذا كله يتلاشى شيئا فشيئا مع انعكاف غوغول على ممارسة مهنة الأدب وخاصة مع بدء حيازة كتاباته الأولى على اهتمام كبير في الأوساط الثقافية الأدبية.

وعجت الصحف بانتقادات الصحفيين الساخرة حين نشر غوغول قصيدته العاطفية الأولى "هانزكير خيلفارتيد" عام 1829 باسم مستعار: ف. ألوف.. لكن باكورة قصصه "أمسيات قرب ضيعة ديكانكا لاقت نجاحا كبيرا لكونها جسدت حالة مواءمة مبدعة بين العالمين الروسي والأوكراني، وتجلت فيها عمق معرفة الكاتب بالثقافة الأوكرانية الفلكلورية. وتفتحت موهبة غوغول على فن جديد يتمثل في السرد بلغة عذبة وبأسلوب يمزج بين الفكاهية والخيال.

وهذه المجموعة من القصص – رفعت غوغول إلى مصاف كتاب روسيا الكبار حتى أن بوشكين نفسه أعرب عن إعجابه الشديد بها. ثم جاءت مسرحية "المفتش" لتعزز لغزية الكاتب بعمق.

أقيم أول عرض لـ"المفتش" عام 1836 في المسرح الإمبراطوري بمدينة سان بطرسبورغ. وهي مسرحية ساخرة تتعرض بالنقد المتهكم للموظفين غير الشرفاء المعتاشين على الاختلاس والرشوة. وطالما أسقطت المسرحية الأقنعة عن الوجوه الإقطاعية فقد تعرضت للنقد اللاذع إلى حد أن أن إعمال غوغول منعت من النشر لفترة طويلة فاضطر لمغادرة سان بطرسبورغ متوجها إلى إيطاليا حيث قضى سنوات عديدة.

في مسرحية "المفتش" يعري غوغول معاصريه ويكتشف عن أعماق محيطه، فيصور العوالم الداخلية لموظفين شباب بسطاء تخيل لهم أنهم عباقرة. وإليكم محتواها بإيجاز..

يصل شاب إلى مدينة روسية نائية قادما من سان بطرسبورغ. وتستقبله السلطات المحلية بوصفه مفتشا إذ كانت تنتظر بالفعل قدوم المفتش الذي كان يتوجب عليه أن يحل في المدينة.

ويصبح هذا الشاب مرغوبا فيه لدرج ة لا تطاق. وتفتح الأوساط المخملية أمامه الأبواب الموصدة على من سواه حتى يسمح له بمغازلة زوجة وابنة حاكم المدينة.

ويستغل الشاب حماقة الإقطاعيين ورضاعة نفوس الموظفين الذين استقبلوه كمفتش. ولكن يرسل قبل سفره خطابا إلى صديق له يكشف فيه حمق أهل المدينة. وما أن يفتح مدير البريد الرسالة ويقرأ ما فيها حتى يذهب إلى حاكم المدينة وينذره بالفجيعة.

ويأخذ الموظفون يتصارعون فيما بينهم بعد أن ينكشف أمر الشاب – المفتش – ويبدؤون بتبادل الاتهامات لكن القضية برمتها تحسم بشكل نهائي لدى دخول الخادم الذي يعلن أن المفتش المنتظر قد حل فعلا في المدينة..

يتبنى غوغول في أعماله القصصية والروائية والمسرحية منهج تصوير وتحليل الواقع الاجتماعي مبتعدا عن الرومانسية التي كانت سائدة آنذاك في الأدب الروسي. فقد استطاع خلافا لمعاصريه من الكتاب أن يكتب عن الحياة المعاصرة ويجعل من بسطاء عصره أبطالا.

هذا ما نراه جليا في قصته "المعطف"، وتحديدا في شخصية بطلها أكاكي أكاكييفيتش. وأثرت قصة المعطف أساليب القص الفني في الأدب الروسي والعالمي وأثرت فيه إلى حد أن دستويفسكي قال عنها: إننا خرجنا جميعا من "معطف" غوغول..

وتبدأ القصة بأن صديق أكاكي أكاكييفيتش ينصحه بشراء معطف لأن منظره بمعطفه الباهت غير لائق. وأكاكي أكاكييفيتش عجوز وحيد لا تجد السعادة في بيته وحياته مكانا لها. ويفكر أكاكي أكاكييفيتش في خياطة المعطف الجديد بضعة أشهر. وأخيرا يشتري قماشا لخياطة المعطف. ويصبح انتظار خروج المعطف من آلة الخياطة بالنسبة إليه سعادة كبيرة لا توصف. وحين خرج المعطف، وخرج أكاكي أكاكييفيتش إلى عمله بالمعطف الجديد وبدأ زملاؤه يمدحون المعطف، غمرته السعادة، وأصبحت للحياة نكهة جديدة لم يعهدها.

وتملأ السعادة نفس أكاكي أكاكييفيتش حين يدعوه رئيسه إلى بيته للاحتفال بالمعطف الجديد. لكن سعادة الرجل تقتل على أيدي سارقين تعرضوا له في الطريق واغتصبوا منه معطفه الجديد.

وبعد إلحاح على رؤسائه ورجال البوليس من أجل استرجاع المعطف الجديد المسروق، وبعد أن تيقن أكاكي أكاكييفيتش أنهم لن يرجعوا إليه سعادته (أي معطفه المسروق) فهم أنه لم يعد لازما وأنه أصبح مدعاة للسخرية، ولم تستطع روحه تحمل هذه الإهانات فمات..

أصبحت قصة "معطف" مثالا فنيا كشف أيضا عن سر ولغز شخصية غوغول الإبداعية التي أذهلت القارئ بروحها الإنسانية وتعاطفها الحاد مع هموم الإنسان البسيط الكادح ومحنه.

لكن روايته الخالدة "الأنفس الميتة" عززت هذه اللغزية، مما دفع الناقد غيرتسين للقول: "لقد زلزلت رواية "الأنفس الميتة" روسيا كلها.

وقد اقترح بوشكين على صديقه غوغول فكرة كتابة هذه الرواية لكن لغز جزئها الثاني مات مع الكاتب الذي رحل في الرابع من آذار (مارس) عام 1852. فقد أحرق غوغول مخطوطته عام 1945 لعدم رضاه عنه وبتأثير من أحد رجال الدين المتطرفين.