المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : آخر قراء الأردية ( من القصص الأردي )



إبراهيم محمد إبراهيم
22/10/2007, 11:44 AM
آخر قراء الأردية
مجتبى حسين

عندما انتهى عام 2000م احتفل الناس معبرين عن فرحتهم بانتهاء القرن العشرين بسلام ودخولهم القرن الواحد والعشرين ، ولم يفت شعراء الأردية وأدباؤها المشاركة في هذا الاحتفالات ، وكيف لا يشاركون فيها وهم دائماً في مقدمة كل احتفال سباقون إليه ، فإذا ما تزوج رجل أتحفوه بقصيدة خاصة (1) يشاركونه بها في زواجه حتى وإن لم يكونوا يعرفون هذا الرجل . ولم نر شعراء في أية لغة أخرى يهيمون فرحاً بزواج غيرهم مثلما يفعل شعراء الأردية ، ونحن على يقين من أن تدفق مشاعرهم في قصائد الزواج هذه يكون أكثر من تدفق مشاعر المدعوين في الزواج ، بل وتتميز هذه القصائد بالبعد عن التكلف والتصنع فتبدو طبيعية للغاية على عكس احتفالات الزواج نفسها . على أية حال الزواج هو الزواج ، والإنسان الذي يتميز بسعة الصدر هو الذي يفرح بزواج الآخرين ، لكننا رأينا بعض كبار شعراء الأردية يجرون من الأشعار أنهاراً في مناسبات مثل مناسبة دخول أحد الأطفال من غير أطفالهم إلى المكتب لأول مرة (2) . الحقيقة أنك لن تجد استخداماً للأدب في غير محله في أية لغة أخرى مثلما هو الحال في اللغة الأردية .
المهم أن شعراء الأردية وأدباءها أعدوا كماً هائلاً من القصائد العصماء احتفالاً بقدوم القرن الواحد والعشرين ، وأخذوا يلقونها على بعضهم البعض في ترنم متمايلين في وجد وطرب ، فقام شاعر من أوسطهم واقترح عليهم قائلاً :
· ينبغي علينا أن نحتفل بقدوم القرن الواحد والعشرين أمام قرائنا وفي حضورهم .
ورغم أن الاقتراح كان معقولاً بالفعل إلا أنه جاء في وقت غير معقول تماماً ، فأحنى شعراء الأردية وأدباؤها رؤوسهم إلى آباطهم ناظرين هنا وهناك بحثاً عن قارئ لهم(3) ، ولما لم يجدوا قالوا :
· هذا ليس بالأمر الصعب ، فطالما أننا نقدم إبداعاً رفيع المستوى فلا بد أن يكون لنا قارئ في مكان ما هنا أو هناك،لا بد أن يكون هناك من يقرأ إبداعاتنا هذه ، وسوف نعثر على هذا القارئ في أسرع وقت ممكن .
وأخذ الأدباء والشعراء يبحثون عن قارئ الأردية كل في منطقته ، وفي الطريق سألوا أحد المارة :
· من فضلك يا أخي ، هل أنت قارئ للأردية ؟.
أجاب الرجل :
· ماذا تقصدون بالقارئ يا سادة ؟!.
· قارئ ، قارئ ، يعني الذي يقرأ .
· أو ، آي سي : Oh , I see
وأضاف الرجل : عن أي قرن تتحدثون ، سمعنا أنه كانت هناك لغة ما في القرن العشرين تسمى اللغة الأردية ، وكان جدي من شعراء تلك اللغة ، وعندما حضرته المنية عهد بشعره الذي لم يكن قد طبع حتى تلك اللحظة إلى والدي قائلاً :
· يا بني ، احتفظ بهذا الشعر وحافظ عليه ، فلقد أودعته دماء كبدي .
وهكذا ظل كبد جدي هذا عندي حتى العام الماضي فقط إلى أن باعته زوجتي في ( الروبابيكيا ) ، واعتبرت بهذا أنني حصلت على حقوق التأليف والنشر لهذا الشعر ، وإلا لو بقي عندي لعدة أيام أخر لقضت عليه العثّة ولم أستفد منه بشيء .
ثم سألوا لصّاً :
· وأنت يا أخي ، هل تقرأ الأردية ؟.
فأجاب اللص :
· يا أخي ، الأردية لغة الشرفاء فما علاقتنا بها،وخاصة أنها لا تفيد في فتح قفل إو إحداث نقب في جدار .
ثم سألوا تاجراً :
· وأنت يا معلم ، هل تقرأ الأردية ؟.
فقال التاجر :
· اسمع يا أخي ، نحن رجال الأعمال لا نتاجر في بضاعة خاسرة ، فنحن لا نعرف غير لغة الأرباح ، ولو كانت الأردية تدرّ علينا ربحاً ولو ضئيلاً لتعلمناها .
وسألوا شخصاً آخر :
· وأنت يا سيدي ، هل تعرف الأردية ؟.
فأجاب :
· أما أنا فلا أعرفها ، إلا أنني أحتفظ في بيتي ببغاء يعرف الأردية جيداً ، فإذا تفضلتم عندي في البيت فإنه سيستقبلكم قائلاً : شكراً،تحياتي،تفضلوا،ما أسعدنا(4) ،وسينشد هذا البيت :
· لقد شرفتم بيتنا ، ما أعظم قدرة الله ،
فتارة ننظر بإجلال إليكم ، وتارة ننظر إلى بيتنا إجلالاً .
· سبحان الله ، الببغاء عندك يتذوق الشعر الأردي إذاً ، وهل أنت الذي علمته هذا الشعر ؟.
· أنا لا أعرف ما يكون الشعر ، والحكاية هي أن جدي كان عنده ببغاء ، وكان هذا الببغاء يعرف هذه الأردية التي تتحدثون عنها ، وبعد ذلك تعلمت منه كل الببغاوات التي احتفظنا بها ، وبالتالي انتقلت هذه اللغة بين الببغاوات جيلاً بعد جيل .
· ولماذا لم تتعلمها أنت ؟.
· لا أعتقد أنه من الضروري تعلّم لغة الطيور !.
وسألوا شخصاً آخر :
· هل تعرف الأردية ؟.
فقال :
· كنت أريد أن أتعلم الأردية بالفعل ، لكني عرفت أن اللغة الأردية لغة حلوة المذاق ، وأنا رجل مريض بالسكر ، ومنعني الأطباء من الأشياء الحلوة ، ولهذا لا أقترب من الأردية .
ولما يئس الشعراء والأدباء من أن يجدوا لهم قارئاً بين عامة الناس ذهبوا إلى ابن أحد النقاد المعروفين ممن توفاهم الله ، وقالوا له :
· يا أخي ، كان والدك المحترم أحد أساتذة الأردية وأحد نقادها ، وكان يترأس إحدى الجمعيات التي تأسست للحفاظ على الأردية ، ولا بد أنك تعرف الأردية .
فقال ابن الناقد :
· يا أخي،لماذا تؤذون روح والدي؟.صحيح أنه كان من نقاد الأردية،لكنه كان كذلك لأنه لم يكن يعرف لغة غيرها،وإلا فمن يكتب نقداً في هذه اللغة؟!.أما موضوع الجمعية هذا فماذا أقول لك!.إن البطن لعينة،والجوع كافر،والإنسان منا يضطر إلى عمل أشياء كثيرة لكي يعيش حياة كريمة،والحمد لله أن أبي كان يرأس جمعية ولم يكن نشالاً،ولو لم يرأس هذه الجمعية لما استطاع أن ينفق بهذا البذخ على زواج أخواتي الثلاث.
فسألوا ابن الناقد :
· ألم يعلمك والدك الأردية ؟.
فأجابهم :
· لقد كان أبي يعلّم الأردية لأبناء الآخرين،أما أبناءه فكيف تتصور أن يوقع بهم مثل هذا الظلم.لقد أرسلني للتعليم في إنجلترا لينقذني من هذه اللغة.لقد كان والدي بعيد النظر جداً، فقد كان يخدم الأردية بطريقة لا تؤذي أسرته حتى وإن قضت على الأردية نفسها،وكانت النتيجة أن أصبحت أسرتنا اليوم تتطور من أحسن إلى أحسن،بينما حال الأردية كما ترى .
أصابت الأدباء والشعراء حالة من القلق عندما رأوا باب النجار مخلّعاً (5) بهذا الشكل ، وعندئذ عقدوا مؤتمراً طارئاً على الفور لبحث هذا الواقع الحرج . قال رئيس المؤتمر في كلمته الافتتاحية بصوت متهدج :
· أيها الأخوة ، إننا نواجه اليوم واقعاً عجيباً ، فلدينا القيثارة ، ولكن بلا ألحان ، ولدينا النيران ، ولكن بلا دخان، ولدينا الورد، ولكن بلا شذى ، ولدينا الأنواء ، ولكن بلا طوفان ، ولدينا البحر ، ولكن بلا ماء ، ولدينا القلب ، ولكن بلا خفقان ، ولدينا الأحزان ، ولكن بلا آهات ...
فقاطعه أحد الحضور قائلاً :
· يا سيدي ، إن ما تقوله الآن شعر ولكنه ليس خطبة ، أرجو أن تقول بوضح : ماذا تريد أن تقول .
قال رئيس المؤتمر :
· أيها الأخوة ، أريد أن أقول إننا ننظم الشعر منذ سنين عديدة ، لكننا اليوم فقط اكتشفنا أنه لا يوجد من يقرأ أشعارنا، ويتمعن في فصاحتها وبلاغتها. إننا منذ سنين عديدة نلقي أشعارنا على مسامع بعضنا البعض، ونسعد بذلك ، لكننا نحتاج إلى قارئ لا يكون هو نفسه شاعراً أو أديباً . كل اللغات الصغيرة في الهند لديها قراؤها ، فإذا كانت هناك لغة لا قراء لها فهي الأردية . علينا أيها السادة أن نبحث فوراً عن قارئ لنا .
وعليه تقدم أحد الأدباء باقتراح قال فيه :
· يجب أن نطالب الحكومة فوراً بأن تعيّن بعض قراء الأردية لقراءة أشعارنا وقصصنا ، ويلتزم هؤلاء القراء بالحضور إلى المكتب يومياً لقراءة أشعارنا وقصصنا لثمان ساعات في اليوم الواحد ، وقد اعتدنا منذ سنوات أن نتجه إلى الحكومة في كل أمر يخص اللغة الأردية ، وها نحن نطبع كتبنا على نفقة معاهد الأردية وأكاديمياتها ، ونحصل على جوائز لهذه الكتب ، فإذا كانت الحكومة قد تكفلت بموضوع نشر الكتب فإنه يصبح من الفرض عليها أن توفر قراءاً لقراءتها أيضاً ، وإذا لم تستجب الحكومة لمطالبنا هذه فسوف نمطرها هجوماً بوابل من القصائد والقصص،وندق أحجارها ونقلبها رأساً على عقب (6) .
عندئذ قال أحد الشعراء :
· أيها الأخوة ، إن الأحجار لا تدق إلا في محاوراتنا اللغوية فقط ، ولهذا يجب أن نبحث بأنفسنا عن قارئنا ، فالقارئ الذي سوف تعينه الحكومة لن يستطيع إعطاء أدبنا حقه ، ولن يكون منصفاً معه ، ويحول إبداعنا إلى مجرد دوسيه من دوسيهات المكاتب .
وبعد مناقشات مستفيضة تقرر نشر إعلان في الجرائد الهندية والإنجليزية بحثاً عن قارئ الأردية، وبطبيعة الحال لم يتطرق إلى الأذهان نشر مثل هذا الإعلان في الجرائد الأردية ، لأنها لا يقرأها سوى شعراء الأردية وأدباؤها . وفي اليوم التالي نشر الإعلان كالتالي :
" أين أنت يا قارئ الأردية !!.
نحن شعراء الأردية وأدباؤها في غاية التأثر والحزن لأنك غضبت منا ورحلت عنا ، رغم أننا لا نعرف متى غضبت ، وإلى أين رحلت . لقد كنا منهمكين في إبداعنا الأدبي لدرجة لم نشعر معها برحيلك . ثم هل هناك من يغضب ويرحل بهذا الشكل . على الأقل كنت تخبرنا قبل رحيلك ، فلم تكن في حاجة إلى الاختفاء هكذا كاللصوص . أياً كان الأمر فنحن متألمون غاية الألم لرحيلك حتى أننا تركنا الطعام حزناً وألماً ، لكن أحداً من شعرائنا لم يستطع كتابة بيت واحد من الشعر بسبب الحزن على فراقك ، فعد إلينا بمجرد أن ترى هذا الإعلان لكي تزهر رياضنا وتثمر ، ولن نلومك على شيء ، وإذا لم تكن تمتلك أجرة العودة فاكتب إلينا ، وسوف نرسل نحن إليك ، ولا تحمل للنقود همّاً ، فإن مبلغاً كبيراً من ميزانية الأكاديمية ينفق هكذا كل عام ، وأنت آخر شمعة للأردية وتاج مفرقها .
ملحوظة : من يدلنا على قارئ الأردية فسوف يحصل على أي جائزة يطلبها من أكاديمية الأردية ، وتقديراً لهذه الخدمة الجليلة سيسجل اسمه في تاريخ الأدب الأردي بحروف من ذهب ، ونحن أصلاً وبحمد الله نستعمل حبراً ذهبياً في كتابة تاريخ الأدب الأردي " .
وبعد نشر الإعلان ولعدة أيام لم يعد قارئ الأردية ، بل ولم يعرف أحد عنه شيئاً ، إلا أنه بعد خمسة أيام جاء خطاب من أحد المخبرين في جزيرة أندمان يقول :
" إن قارئاً للأردية موجود هناك بالفعل ، وينبغي تكتّم الخبر تماماً والإبقاء عليه سراً حتى لا يعلم هذا القارئ بأنكم قادمون لاستعادته ، فهو الآن لا يقرأ الأردية ، وسوف أستمر في مراقبته. برجاء إحضار جائزتي معكم عند حضوركم ، وهي طبقاً للإعلان الذي نشرتموه ستكون حسب طلبي أنا ، تعالوا أولاً لتروا قارءكم ثم سلموني الجائزة بعدها "
وما أن وصل هذا الخطاب إلى الشعراء والأدباء حتى سرت بينهم موجة من الفرح والسرور ، وكيف لا وهم الذين عثروا في نهاية الأمر على قارئ لهم ، وعندئذ قام الشعراء بتنظيف غزلياتهم وإزاحة التراب من فوقها ، أما كتاب القصة فقد أخذوا يلمّعون قصصهم ويجلونها .
ثم تقرر تشكيل وفد من الشعراء والأدباء يتوجه في هدوء إلى جزيرة أندمان لاسترضاء قارئ الأردية وإحضاره . وبالفعل وصل أعضاء وفد الشعراء والأدباء في ليلة من الليالي إلى أرض جزيرة أندمان وهم يحملون على ظهورهم الأدب الأردي المعاصر ، وكان المخبر في انتظارهم ، وفي ظلام الليل تحرك أعضاء الوفد بخطى حثيثة وبغير ضجيج أو صخب حتى وصلوا إلى بيت قارئ الأردية الأخير الذي كان يغط حينذاك في نوم عميق داخل البيت . عندئذ قال المخبر :
· يا إخوتي ، حاصروا البيت من كل اتجاه حتى لا يفلت قارءكم وتضيع جائزتي .
وبالفعل أنزل الشعراء والأدباء الأدب الأردي المعاصر أمام بيت القارئ بطريقة تجعله لا يستطيع الخروج من البيت . وعند الصباح فوجئ القارئ بأنه محاصر بالأدب الأردي وأدبائه ، فصاح من داخل البيت :
· من أنتم ؟. ولماذا جئتم هنا ؟.
قال رئيس الوفد :
· يا قارئ الأردية الأخير، نحن أدباء الأردية وشعراؤها، وقد حضرنا من بعيد إلى أعتابك .
صاح القارئ :
· يا أدباء الأردية وشعراءها، كنت أعلم أنكم ستصلون إلى هنا في يوم من الأيام، ولكن من فضلكم ، أبعدوا الأدب الأردي من أمام الباب حتى أستطيع الخروج إليكم .
وتمّت إزاحة الأدب الأردي ، ففتح القارئ الباب وخرج ، وما أن خرج حتى هرول إليه شاعر وسلم عليه وهو يقول :
· سيدي ، أرجو انتباهك ، إن مطلع غزليتي يقول ..
عندئذ عاد القارئ هارباً إلى داخل البيت على الفور وقال :
· يا إخوتي ، لن أستطيع تحمل هذا الهجوم المفاجئ للأدب ، فأنا لم أسمع الشعر الأردي منذ فترة كبيرة ، ولم يعد لساني معتاداً على عبارات مثل : أعد ثانية ، وسبحان الله ، وغيرها من عبارات الاستحسان والإطراء والمديح والثناء .
وبناءاً عليه قال رئيس الوفد :
· يا قارئنا الحبيب ، نعدك أننا لن نسمعك الشعر في غفلة منك ، إننا نريد أن نقابلك .
وخرج القارئ من البيت ثانية في حالة من الخوف والتردد ، فعانقه رئيس الوفد قائلاً :
· أيها القارئ الحبيب ، لماذا غضبت منا ورحلت عنا ، إنك لا تعرف كم كنا في قلق من أجلك ، ستعود معنا ، وسوف نريحك غاية الراحة،سنظل نكتب لك حكايات العشق والغرام حتى تقرأها وتستمتع بها .
فقال القارئ :
· أيها الأخوة،لقد ظللت أقرأ حكايات العشق والغرام التي تكتبونها لسنوات،ولكني بعد ذلك أصبحت لا أفهمها،وشكوت ذلك إلى بعض الشعراء أيضاً،وقلت لهم إن حكاياتكم هذه أصبحت مستهلكة لدرجة أنني لم أعد أفهمها،فقالوا لي لقد أصبح من الضروري التعبير عن الحزن والكرب الذاتي في الأدب(7) ،فأردت أن أقرأ الشعر،ولكني فوجئت برموز وعلامات في غاية العجب والغرابة (8) ،وأردت أن أقرأ القصة،فقدموا لي القصص النفسية (9) ،وأردت أن أقرأ المنظومات فشعرت بسمّ"الوحدة والغربة"يسري في أوصالي (10) .لقد أجروا عدداً هائلاً من التجارب في الأدب الأردي حتى صار الأدب بمثابة معمل للتحاليل،وكل أديب يريد أن يمنح الأدب منحنى خاصاً،حتى انحنى أدباؤنا وتعرجت أجسادهم،فإذا رأيتهم حسبتهم صديرياً من الصوف وضع في"قلّة"ماء كبيرة لسنوات ثم أخرج منها، ولما غابت"الحكاية"عن القصة،و"الشاعرية"عن الغزلية،شكوت إليكم بنبرة هادئة خافتة،فقلتم إنكم تكتبون الشعر لأنفسكم وليس للقارئ.عندئذ تركت الشعر والأدب في هدوء وصمت منذ خمسة عشر عاماً ورحلت إلى هنا،وهنا تعلمت لغات أخرى،وأنا الآن بخير والحمد لله،وقد علمت بقدومكم الآن أن الشعر الأردي لا يزال ينظم في الهند،ولا تزال القصة تكتب،كم أنكم لا تخجلون !!.
تأوه رئيس الوفد قائلاً :
· أيها القارئ الحبيب ، إن الشعر بالفعل ينظم ، والقصة بالفعل تكتب ، ولكن لا يوجد من يقرأها ، ولهذا جئنا لاصطحابك ، فلتذهب معنا ، ولتطالع الأدب الأردي الذي كتبناه لك في العشرين عاماً الماضية .
عندئذ قال أحد كتاب القصة :
· إقرأ قصصي أولاً ، إنها ليست أكثر من ست مجموعات قصصية .
وقال أحد الشعراء :
· كلا ، إقرأ شعري أولاً ، إنه عشرة دواوين ليس إلاّ .
فقال شاعر آخر :
· اقرأ منظوماتي أولاً ، فهي إلى الآن لم تطبع .
فقال الشاعر الأول :
· كلا ، ستقرأ شعري أنا أولاً .
وتطور النقاش بين الشاعرين واحتد حتى وصل الأمر إلى التشابك بالأيدي ، فاستغل قارئ الأردية هذه الفوضى التي حدثت وفرّ هارباً ، واختفى في لحظات عن الأنظار .
ولم يعرف أحد حتى الآن أين رحل القارئ الأخير للأردية . يقول بعض الناس : لقد مات ، لا بد أنه مات ، فإذا كانت اللغات تموت فليس من المستبعد أن يموت القارئ أيضاً .
ويقول البعض الآخر : إنه لم يمت ، إنه حيّ يرزق ، وسوف يعود إلينا ذات يوم ...
ولا يزال شعراء الأردية وأدباؤها حتى الآن ينتظرون عودته،وينظمون أشعارهم على أمل في رجوعه .


د . إبراهيم محمد إبراهيم
السبت : 15 / 4 / 2006م .
هوامش
1 - الإشارة إلى ما يطلق عليه في الأردية لفظ ( سهرا ) ، وهي في الأصل تطلق على تلك الورود واللآلئ التي تنظم في شكل عقود وتوضع فوق رأس العريس والعروس متدلية فوق وجهيهما . راجع : فيروز اللغات اردو جامع – فيروز سنز – لاهور 1984م – ص 824 . وتطلق كذلك على قصيدة الشعر التي تنظم خصيصاً لهذه المناسبة وهو المقصود هنا .
2 - وهو احتفال بسيط يقيمه أهل الطفل الذي يبلغ سن دخول المكتب لتعلم القرآن .
3 - في الأصل ( بغلين جهانكنا ) ، وهي محاورة تعني ( أن يستحي ، أن يندم ، أن لا يحر جواباً ، أن يصيبه القلق ) ، ( وبغلين ) تعني ( الإبطين ) ، وقد استخدم الكاتب هذا المعنى بشكل ساخر ، فأراد أن يقول إن الشعراء بحثوا أولاً وبالقرب منهم فلم يجدوا قارئاً لهم ، وهو معنى يعتمد على استخدام ألفاظ اللغة استخداماً على غير المألوف ، ومن الصعب ترجمة مثل هذا الاستخدام دون شرح أو توضيح .
4 - وكلها من الألفاظ التي تجري على ألسنة الشعراء في الأمسيات الشعرية التي يعقدونها لكي يلقي كل منهم ما نظم .
5 - في الأصل : عندما رأوا الظلام تحت المصباح ، وهو مثل بالأردية ( جراغ تلــ اندهيرا ) ، ويضرب للشخص الذي يفتقد شيئاً أساسياً ينبغي أن يكون عنده بطبيعة الحال ، كمن ينفق على الآخرين ولا ينفق على نفسه ، أو كالنجار الذي يصلح أبواب الآخرين وبابه متهالك ، وهو ما يعبر عنه المثل العربي العامي ( باب النجار مخلع ) . راجع : فيروز اللغات – ص 524 .
6 - في الأصل محاورة بالأردية هي ( اينت سـ اينت بجانا ) ، وتعني حرفياً أن يدق حجراً بحجر ، ومعناها المستخدم هو أن يحطم ، وأن يقلب الأمر رأساً على عقب . راجع : فيروز اللغات – ص 152 . وقد استخدم الكاتب هذه المحاورة بالمعنى الحرفي لها كنوع من التلاعب بالألفاظ لخلق نوع من الفكاهة الساخرة كما هي عادته في هذه القصة على وجه الخصوص .
7 - إشارة إلى الروايات المغرقة في الرومانسية .
8 - إشارة إلى الإغراق في الرموز الشعرية التي تزيد الشعر غموضاً .
9 - إشارة إلى القصص القصيرة المغرقة في تحليل نفسية شخصياتها بدرجة تفقدها معنى القصة .
10 - إشارة إلى موضوعات ما يسمى بالحداثة ومن بينها الشعور بالوحدة والاغتراب والتي أصبحت " موضة " في النظم الأردي .