المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباب الأول من كتاب (تلاش) للأديب الباكستاني ممتاز مفتي



إبراهيم محمد إبراهيم
23/10/2007, 08:22 AM
الباب الأول
عاطفة الاحترام
كم هو محزن أن يصل عمري إلى ثمانية وثمانين عاماً ولم أستطع حتى اليوم أن أفهم ما معنى المسلم . سألت علماء الدين ، وطالعت الكتب الإسلامية ، ولكن بلا فائدة ، فالعلماء يعقّدون الأمر أكثر مما هو عليه ، والكتب تغرقك في الفلسفة .
· كلا ، كلا ، أنا مسلم .
· الحمد لله ، أنا مسلم .
· لقد نشأت في بيت مسلم .
· وأنا منذ خمسة وأربعين عاماً مواطن في هذا البلد الذي يمثل جمهورية إسلامية طبقاً للدستور .
ومع كل هذا فإنني لم أستطع حتى اليوم أن أفهم ما معنى المسلم .
صدقني ، أنا شخص مثقف ، ورأيت مسلمين من دول عديدة ، تقابلت معهم ، وسمعت منهم دروساً ومحاضرات عن الإسلام ، وبالرغم من هذا فإنني إلى اليوم لم أستطع أن أفهم ما معنى المسلم .
الكتب الإسلامية :
من خصائص الكتب الإسلامية أنها لا تكتب للمبتدئين أمثالي ، وإنما تكتب للعلماء ، أو للقراء الغارقين في العاطفة . ففي الكتب الدينية ألفاظ ومصطلحات علمية ضخمة ، وقضايا فقهية كبيرة ؛ فيها المراقبات والمجاهدات والذكر والأذكار وغيرها مما لا يفهمه رجل عادي مثلي .
ولا أفشي سراً إن قلت لك أنه بالرغم من وجود أشياء كثيرة في الخطب الدينية ؛ ففيها الحماس ، والعاطفة ، والأسلوب الخطابي ، والشعارات ، لكنها تخلو من التأثير !!. فيها الأدلة ، لكن لا أعرف لماذا هي هكذا غير مقنعة !! . ولكن ما يحدث هو أن أحداً لا يقتنع في موضوع ما بالأدلّة . ما أكثر الندوات والسيمينارات في أيامنا هذه ؛ الخطباء والمتحدثون يخطبون .. يلقون خطباً قوية ، والسامعون يتثاءبون . تحتوي الخطبة على شكل خاص بها ، وعلى الانفعال والتظاهر ، ومحاولة التأثير على الآخرين قسراً ، ومثل هذا الكلام لا يمكن أن يدخل إلى القلب .
خطب أئمة المساجد والوعاظ تكون معدّة سابقاً ، محفوظة عن ظهر قلب .. مسرحية تؤدى عن طريق الشفاه فقط ، وليس للقلب دور فيها . وكيف تؤثر هذه الخطب فيمن يسمعها إن لم يكن للقلب دور بها . رأيت الناس في اجتماعات التبليغ يجلسون في جماعات متعددة (1) ، والخطب تلقى ، خطب نارية ، ونوافير العواطف تفور ، والرذاذ يتطاير ، والهتافات ترتفع ، والحماس على أشده ، حتى يبدو وكأن هناك حرباً تدور رحاها .. مهرجان كبير ، به كل شيء ، ولا يخلو إلاّ من التبليغ . رأيت في مهرجان التبليغ هذا عشرات المكتبات الصغيرة المليئة بالكتب الإسلامية . أخذت أقلّب بعض الكتب في واحدة من هذه المكتبات ، وسألت صاحبها عن سعر أحدها ، فقال صاحب المكتبة :
· ستون روبية (2) .
أصابتني دهشة كبرى ، إذ أن تكلفة جمع وطبع مثل هذا الكتاب الضخم لا يمكن أن تقلّ بحال من الأحوال عن مائة وخمسين روبية . سألت صاحب المكتبة مندهشاً :
· بهذا السعر البسيط ؟!!!. إن سعر الكتب العلمية والأدبية أضعاف هذا السعر !!.
فقال صاحب المكتبة مبتسماً :
· إن سعر الكتب الإسلامية يكون منخفضاً ، وذلك لأن الكتب الإسلامية تجد لها رواجاً كبيراً في باكستـان ، ولهذا تطبع على نطاق واسع ، فتكون تكلفتها قليلة وهامش الربح فيها أيضاً قليل .
ثم سألني صاحب المكتبة :
· ما هو الكتاب الذي تريد أن تشتريه ؟.
· أريد أن أشتري كتاباً يشرح بأسلوب بسيط ما معنى المسلم !!.
نظر صاحب المكتبة إليّ مندهشاً وقال :
· ألست مسلماً ؟!.
أجبته في جدية :
· بلى ، أنا مسلم والحمد لله .
فقال :
· أتمزح إذاً ؟!.
قلت :
· أنا مسلم بالميلاد ، مسلم بالقول .
فضحك وقال :
· من نطق الشهادتين فهو مسلم .
قلت :
· نعم ، وأنا أيضاً نطقت الشهادتين ، وأنا أيضاً مسلم ، لكني أريد أن أعرف ما معنى المسلم !!.
قال :
· اقرأ كتباً عن الإسلام .
قلت :
· قرأت كتباً عن الإسلام ، قرأت كتباً كثيرة ، وربما يكون هذا هو الذي أربكني ، ومع ذلك فإن الكتب شيء ، والمسلم شيء آخر .
كتب التراجم :
قال :
· حسناً ، فاقرأ كتب التراجم إذاً .
· كتب التراجم !. ماذا تكون كتب التراجم هذه ؟!.
· هي كتب تتحدث عن حياة المتصوفة والمشايخ .
· أهي عن سيرة حياتهم ؟!.
· نعم نعم . إنها عن سيرة حياتهم .
وانفتحت نافذة أمل في ذهني ، ولكن بعد أن قرأت بعض كتب التراجم أصابني إحباط شديد ، فكلها متشابهة ، أظهر ما فيها ثلاثة أشياء : أولها أن الشيخ موضوع الترجمة يكون محاطاً بهالة سميكة من التعظيم والتبجيل لدرجة تختفي معها ملامح البشرية فيه . إنه لا يبدو بشراً ، كأنه مخلوق مختلف ، مخلوق بين البشر والملائكة . إنني أكنّ احتراماً كبيراً للمتصوفة والأولياء ، ذلك لأنهم من عظماء البشر ، والإنسان العظيم هو الذي يكون إنساناً ، وذا شخصية رفيعة وسلوك راق . الحق أقول لك إني أعتقد أن المسلم ما هو إلاّ سلوك ينتج عن العمل بأحكام الله تعالى .
أما في كتب التراجم فإنك لا تجد شيئاً عن السلوك الرفيع لصاحب الترجمة ، كل ما فيها كرامات فقط ، كرامات لا نهاية لها ، كأنه ساحر . تجد في هذه الكتب محاولات مستميتة لتقديم صاحب الترجمة كأنه مخلوق فوق البشر ، وحسب علمي لا يوجد في الإسلام شخص فوق البشر ، ولا مجال لوجوده أصـلاً ، إذ أن درجة البشرية في الإسلام درجة رفيعة ، والأنبياء كانوا من البشر ، وكانت عظمة النبي صلى الله عليه وسلم في أنه كان إنساناً عظيماً ، وهذه حقيقة يعترف بها غير المسلم أيضاً .
في كتب التراجم تجد أنقاضاً ضخمة من الاحترام ، نصف الكتب مليء بالألقاب والتجليات .. احترام في احترام .
الاحترام :
أيها السادة ! أدعو الله ألاّ يصير أحد منكم محترماً !!!. إذ يقول الحكماء : الاحترام جدار يحول بين المحترم ومن يحترمه لا يسمح بالتقارب بينهما ، وذلك لأنه يولّد الخوف ، والخوف ليس عاطفة إيجابية ، وإنما عاطفة سلبية ، والاحترام يقلّل من فرص الحب المتبادل .
خذ على سبيل المثال علاقة الأب بابنه . الواجب على الابن أن يحترم الأب ، ولهذا لا يستطيع أي منهما التقارب مع الآخر . ما أحسن ما قال حكيم : إن رأيت شخصين جالسين معاً ، وليس لدى أحدهما ما يقوله للآخر ، فاعلم أنهما ابن وأبوه .
إلى هذا الحد : قرب من حيث العلاقة ، وبعد من حيث السلوك !! وهذا من كرامات الاحترام ، ولا أدري لماذا يتحول الأب إلى محترم ويبتعد الأبناء عنه !!!. وكانت نتيجة هذا البعد أن تولّدت عاطفة الخوف من الأب وسوء الظن به ، وبسبب هذا النوع من علاقة الحب نواجه اليوم مشكلة الفجوة والتباعد بين الأجيال ، فإذا انتقدت شباب هذه الأيام قالوا لك : إن الذنب كله ذنب " الكبار " ، إنهم لم يربّوننا بطريقة صحيحة ، لقد احتقرنا " الكبار " ، ولم يسمحوا لنا بأن نفتح أفواهنا ، ونصبوا في قلوبنا شباكاً من الخوف .
" الصغار " صادقون ؛ حقيقة نحن لم نسمح لهم بالكلام ، وكلما أرادوا قول شيء أسكتناهم قائلين : صه ! أتتجرأون على الكلام أمام " الكبار " ؟!!.
بعض الناس يقولون أن اللعبة كلها تقوم بها الأمهات ، فشهوة التملّك لدى الأم شديدة وقوية لدرجة أنها لا تريد للأطفال أن يقتربوا من الأب ، ذلك لأنهم إذا اقتربوا منه سيبتعدون عن الأم ، ولهذا فهي تتبع طريقة تجعل الأطفال يخافون الأب ... لا يقتربون منه .
الأم في مجتمعنا تظل تخيف الأطفال من أبيهم فتقول لهم محذّرة إياهم :
· لا لا لا ، لا تفعل هذا يا بني ، لو عرف أبوك به سيضربك !! .
· سأخبر أباك أنك كذبت في ذلك اليوم .
· اصمت ، أبوك قادم .
ومثل هذه الجمل والتعبيرات شائعة في بيوتنا ... ويعتقد الأطفال أن الكذب ليس عيباً ، المهم ألاّ يعرف به الأب . يتصايحون ويصرخون ويعاندون ويثيرون الفساد أمام الأم كلما أرادوا ، ولكن ليس أمام الأب ، وتكون النتيجة أن يعتقد الأطفال أن كل شيء على ما يرام ، وأن أباهم هو العقبة الكبرى في طريقهم .
تظل الأم تحذّر الأطفال ، وتذكّرهم بأنه يجب احترام الأب ، لكن لا تقول لهم أبداً احترموني ، أو خافوا مني . إنها تخلق لنفسها في قلوب الأطفال عاطفة الحب ، وللأب عاطفة الخوف .
ألّف أحد كتّاب الفكاهة الغربيين كتاباً بعنوان " هم وأنا " ، واندهشت لمسمّى الكتاب ، يا إلهي ، ما هذا الكتاب ؟!. وما موضوعه ؟!. فلما قرأته عرفت أنه عن البيت . يقول المؤلف إن البيت ليس وحدة واحدة ، وإنما يضم وحدتين : الأولى تضم الأم والأطفال ، والثانية تضم الأب وحده : " هم وأنا " .
هذا التفريق يكون بسبب الاحترام ، تظل الأم تخيف الأطفال من أبيهم ، ويعتقد الأب أنه يتم احترامه ، وأنه يتربّع على عرش " سيد البيت " ، وتظل عاطفـة " الوقار المصطنع " هذه لديه تجد ما يشبعها في هذا ، ولكنه لا يشعر أن عاطفة الاحترام والتوقير والتبجيل هذه تنخر في جذور المحبة دون أن يدري .
القرآن الكريم :
أيها الأصدقاء : إن الأب مخلوق في غاية السذاجة والبراءة ، هل تعلمون يا أصدقائي من أكثر الناس الذين يقع عليهم الظلم في مجتمعنا ؟!. إنهم اثنان : الحماة والأب . صحيح أن الأم هي نبع المحبة ، وأنها تضحي بأغلى ما تملك من أجل ابنها ، لكنها في الوقت نفسه تعتقد أن ابنها هذا ملكاً لها هي ، ولها هي فقط ، وليس لأحد آخر أي حق في الحصول عليه أو مشاركتها فيه ، ولهذا عندما تأتي زوجة الابن إلى البيت لا تكون الأم على استعداد لأن تشاركها زوجة الابن في ابنها ، وتشعر بأن هذه الزوجة خصم لها ، وتستيقظ بداخلها عاطفة الغيرة والحسد ، وتتحيّن الفرصة تلو الأخرى لتصبّ ظلمها على زوجة الابن بسبب وبغير سبب ، وتحطم بذلك حياة ابنها الزوجية .
أما الأب فهو غير مستعد على الإطلاق لأن يمنح ابنه حق المساواة ، حتى وإن كبر الابن وبلغ ، فإن الأب لن يمنحه وضع " فرد " . إنه يعتقد في قرارة نفسه أن هذا الابن قطعة منه ، ولد من قطرة من ماء مهين منه هو ، وهو طفل لا خبرة له ، ساذج أحمق .
والأب يريد لابنه أن يصير مثله ، ويسير على نهجه ، لا يريد للابن أن يعيش عصره ، و " الكبار " جميعاً ينظرون إلى كل عصر جديد باحتقار ، ويعتقدون أن الجيل الجديد جيل ضال ، وليس هناك أب على استعداد لأن يمنح ابنه درجة المساواة ، إنه على استعداد للتضحية بكل شيء لهذا الابن ، لكنه لن يضحي من أجله بأفكاره .
وما الحرج في أن أقول لك أنني لم أستطع قراءة القرآن الكريم حتى اليوم بسبب عاطفة الاحترام لدى زوجتي . لقد بلغت من العمر ثمانية وثمانين عاماً ، لكني إلى اليوم لم أستطع أن أعرف ما هي الرسالة التي أرسلها الله لبني الإنسان !!. لا بدّ أنك سوف تضحك مما أقول ، لكني أقول لك إنني تعرّفت على الله عام 1955م ، ومنذ ذلك الحين صـرنا " صديقين " ، ولا تزال هذه " الصداقة " قائمة حتى يومنا هذا ، وكلما أتيحت لي فرصة الاختلاء بنفسي وجدته يجلس في صمت بالقرب مني ، فأبثّـه آلامي وأحزاني ، وهو يسمعني في صمت ، ويمنحني عطاءاً لا حدود له ، ويظل يرفع من معنوياتي ، وبالرغم من " صداقتي " هذه مع الله ، لكني إلى اليوم لا أعرف ما هي الرسالة التي أرسلها الله إلى العباد ، وما هي الأحكام التي أمر بها ، وذلك لأني إلى اليوم لم أقرأ القرآن .
أؤكد لك أنني أؤمن من كل قلبي أن القـرآن وحي منزّل ، وأعـرف – بل إنني على يقين – من أنه لا يوجد في الدنيا كلها دين أفضل من الإسلام ، ولديّ إيمان كامل بأن علماء الدنيا كلهم ومفكّريها وحكماءها في القرن الحادي والعشرين سيتأكدون من هذه الحقيقة ، وسيعترفون بأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يناسب العصر الحاضر ، وبالرغم من ذلك فإنني إلى اليوم لم أدرس القرآن الكريم بسبب عاطفة الاحترام لدى زوجتي .. لم أستطع أن أدرسه !!.
زوجتي سيدة صالحة ، مواظبة على الصلاة ، وإن حدث وفاتتها صلاة ظلّت طيلة اليوم تشعر بأسف وندم ، كما أنها مواظبة على قراءة القرآن بلا انقطاع ، لا بهدف فهمه ، وإنما بهدف الحصول على الثواب . وعاطفة احترام القرآن الكريم في قلبها قوية للغاية ، لذل فهي تلفّ المصحف في حافظة مصنوعة من قطعة من الحرير ، لا ، ليست قطعة واحدة ، وإنما عدة قطع ، وبعد ذلك تضع المصحف فوق أعلى رفّ في الدولاب ، فإذا وضعه أحد فوق الرّف الأوسط مثلاً اعتبرت ذلك منافياً تماماً للاحترام ، وإذا وضعت أنا المصحف على المنضدة فإنها تغضب قائلة : المنضدة ليست مكاناً طاهراً إلى هذا الحد حتى تضع عليه المصحف !.
كم أودّ أن أضع المصحف تحت الوسادة ، وأقرأه كل ليلة قبل النوم ، مثل الكتاب الذي يقرأه الإنسان قبل النوم ثم يضعه تحت الوسادة ، وكلما أتيح لي وقت فراغ استلقيت على السرير وقرأت فيه .. قراءة ليست بترتيب السّور والصفحات التي توقفت عندها آخر مرة ، وإنما أقرأ فيه من حيث أفتحه كل مرة .
إن الشباب والفتيات عادة ما يضعون دواوين الشعر تحت وسائدهم ، وكلما وجدوا وقتاً فارغاً فتحوا الديوان ، وهاموا في عالم الرومانسية . أما الجادون من الناس فإنهم يتخذون من أقوال المشاهير كتاباً " قبل النوم " .
كم أودّ أن أجعل من المصحف كتاباً " قبل النوم " ، لأنني أعتبره كتـاب علم وحكمة ، وأريد أن أقرأ القرآن قائماً وجالساً ومستلقياً ، لكن ماذا أفعل مع زوجتي وهي لا تسمح لي بذلك .
الجنة :
ربما تردّ عليّ قائلاً : يا سيدي ، أنت تحكمك زوجتك !! (3) . لقد أصبت ، فأنا بالفعل أطيع أوامر زوجتي ، بل إني أحـمد الله أني كذلك . ذات مـرة سألني صـديقي " قدرت الله شهاب " (4) :
· يا سيد مفتي ! ألا تريد أن تعيش في الجنة ؟!!. قلت : أتقصد الجنة التي تجري فيها أنهار اللبن ، وطعامها الفـاكهة ، والحـور ذوات العيـون الجميلة فيها تقوم على راحة الرجال ؟!!. أنا لست مقتنعاً بهذه الجنة ، لا أستطيع أن أدرك معناها ، ذلك لأنني أعتقد أنه لا يمكن أن يكون للراحة وجود حيث لا توجد الآلام (5) ، فالألم والراحة ليسا شيئين منفصلين ، وإنما هما وجهان لعملة واحدة .
فقال شهاب :
· كلا ، أنا لا أقصد تلك الجنة التي تتحدث عنها .
· ماذا تقصد إذاً ؟!.
· أقصد جنة هذه الدنيا ، ألا تريد أن تعيش في الجنة وأنت في هذه الدنيا ؟!!.
· بالتأكيد أريد .
قال :
· إنها وصفة بسيطة للغاية .
قلت :
· وما هي ؟!.
قال :
· أن تردّ على كل ما تقوله زوجتك بـ " نعم " و " حاضر " .
وهكذا فأنا أعيش في الجنة منذ ثماني سنوات ، وليتني عرفت هذه الوصفة السحرية من قبل ، لكنت نجوت من الحياة لسنوات طوال في جهنم ! .
زوجتي أميّة لا تقرأ ولا تكتب ، ولكنها تعتقد أنها تعرف أكثر مني في أمور الدنيا ، وإن شئت الحق فإنها تعتقد أنني لا أفقه في أمور الدنيا شيئاً ، لم تتفق أبداً مع شيء قلته ، بل إنها ضدي في مسألة الكتابة والتأليف على خط مستقيم ، ودائماً ما تقول لي : لماذا تفسد آخرتك بكتابة قصص خيالية كاذبة ؟!!!. ذات مرة أراد محرر جريدة " نوائـ وقت : صوت العصر " (6) أن يجري معنا لقاءاً صحفياً ، واقترح قائلاً : نجري اللقاء مع الزوج والزوجة . ووافقت . وحين جاء دور زوجتي في اللقاء انتقدتني بشدة ، فسألها الصحفي : يا سيدتي ! أليست في زوجك صفـة طيبة ؟!!. قالت زوجتي : ولماذا أخفي عنك مثل هذه الصفة إن وجدت فيه ؟!!.
في مثل هذا الجو عشت ما مضى من عمري ، وليت الأمر توقف عند مسألة المصحف فقط ، وإنما تشدّد زوجتي على أن لا يوضع أيّ كتاب أو جريدة على الأرض أو على الفراش ، إذ قد تكون بها آية قرآنية ، ولم تبق أمامي إلاّ طريقة واحدة لقراءة القرآن ، وهي أن أبحث عن نسخة منه لا تضم النص العربي ، وإنما الترجمة فقط ، ولقد بحثت عن مثل هذه النسخة ، لكني لم أوفّق في الحصول عليها إلى الآن .
لي صديق يدعى " محمد طفيل " ، إنسان مثقف ، طاف بالدنيا كلها ، وهو رجل صناعة ، ويؤيد الأفكار العصرية ، وعاشق للقرآن الكريم ، وليس لحياته سوى هدف واحد هو أن يركّز أنظار الناس على القرآن بحيث يقرأون القرآن ، ويفكّرون بالقرآن ، ويحيون بالقرآن ، ولهذا فهو يوزّع المصاحف والكتب المؤلّفة عنه بين الناس مجاناً . ذات مرة حضر إلى بيتي - ولم أكن موجوداً عندها ، كما أنني لم أكن قد تعرّفت عليه بعد - وترك عدّة نسخ فاخرة من الصحف ، وعندما عدت إلى البيت أدهشني الأمر كثيراً ، فمن ذلك الشخص الذي ترك لي كتباً بآلاف الروبيات ، وعندما قابلته للمرة الأولى بعد ذلك سألته :
· لماذا تعطيني هذه النّسخ الفاخرة من المصحف ؟!.
قال :
· لقد قرأت مؤلفاتك ، وكتاباتك مؤثرة ، والشباب يقرأون لك ، وأظن أن الله تعالى قد أنعم عليك بنعمة البيان والوصول إلى القارئ ، وقد أعطيتك هذه النسخ لعلّك تستفيد منها وتتحدث في كتاباتك عن مقاصد القرآن .
فلما سمعت ما قال أسقط في يدي . قلت :
· يا سيد طفيل ! أنا لم أنل قسطاً من التعليم الديني ، بل إنني جاهل تماماً في هذا المجال ، ولست متمكناً من اللغة إلى الحدّ الذي تظنه .
وارتبكت زوجتي عندما رأت هذه المصاحف الضخمة ، وقالت :
· من أين لي بأغلفة من الحرير تكفي كل هذه المصاحف ، وأين أضعها . الدواليب مليئة بـ " الأدب " (7) . أرجوك مشكوراً أن تعيدها إليه .
سادتي ! اعلموا أن كل هذا يحدث بسبب عاطفة الاحترام والتبجيل . إن عاطفة الاحترام والتبجيل هذه عنيفة لدينا لدرجة أنها :
· لم تدعنا نقرأ القرآن .
· لم تسمح بحب الآباء .
· لم تبق على مشايخ الصوفية في صورة البشر .
إن عاطفة الاحترام والتبجيل لدينا تشبه إلى حدّ كبير موجة التعاطف التي اجتاحت الشعب الإنجليزي ذات مرة عندما عرف أن العلماء يقومون بتشريح الضفادع من أجل أبحاثهم العلمية . احتج الناس على هذا الفعل الظالم ، واجتمع وفد من الشعب مع العلماء ، وحذّروهم ألاّ يظلموا الحيوانات ، وشرح العلماء لوفد الشعب كيف أنهم يقومون بهذا لخدمة بني الإنسان ، لكن أعضاء الوفد ردّوا بأنه من الممكن خدمة بني الإنسان بطرق أخرى ، ولم يقتنع العلماء ، ولم يرجعوا عن تشريح الضفادع . وازدادت موجة التعاطف لدى الناس ، فاختبأوا خلف المعامل ، وترصدوا العلماء ، فإذا ما رأوا أحدهم انقضّوا عليه ، وهكذا بدأ الناس " المنتشون تعاطفاً " في قتل العلماء . وبنفس الطريقة سجن المسلمون " المنتشون احتراماً وتبجيلاً " القرآن الكريم في الأغلفـة الحريرية ، وحرموا المسلمين من قراءته . لقد جعلوا من القرآن " صنماً " ، وأغلقوا عليه الدواليب .
سادتي ! ما أقوى عاطفة الاحترام والتبجيل وما أشد تجبّرها ، وأنا على يقين من أن أيدينا لو وصلت إلى الله تعالى لعطّرتـه بالمسـك والكافـور ، وأشعلت حـوله البخـور ، ثم جعلت منه " صنماً " ، وزيّنت به أعلى رفّ من أرفف الدواليب .
من فترة ليست بعيدة كنت مسافراً بالقطار ، وكنا في رمضان ، وكان الجو صيفاً ، والوقت وقت الظهيرة ، وراكب مسنّ هزيل ينام على " الشبكة " المخصصة لذلك في العربة (8) ، ولا يكفّ عن التأوّه والأنين . كان من الواضح تماماً أنه مريض ، وكان معه شاب صغير يجلس معنا على المقاعد أسفل الشبكة . كان هذا الشاب يقف بين الحين والآخر ليسأل المريض إن كان يحتاج شيئاً . وانتابت المريض هذا نوبة من السعال المتواصل ، وتصادف أن كان القطار يقف في إحدى المحطات ، فنزل الشاب من القطار واشترى للمريض زجاجة مياه غازيـة " كوكا كولا " ليشربها ، فإذا برجلين محترمين من الركاب يعترضان طريقه . قال أحدهما :
· إنك تنتهك حرمة الشهر المبارك يا بنيّ .
وقال الآخر :
· لن نسمح لك بذلك !!.
وعليه رجوت الراكبين المحترمين قائلاً :
· إن المريض يعاني بشدة من السعال ، من فضلكما اسمحا له أن يسقيه .
فنظرا إليّ باحتقار شديد والعنف يبدو عليهما ، وأصابني الخوف منهما . قال أحدهما :
· إن كان لا بدّ أن يسقيه " الكوكا كولا " فليأخذه إلى عربة أخرى ، لكننا لن نسمح بانتهاك حرمة الشهر الكريم في هذه العربة .
لم تكن عاطفة الاحترام لدى الراكبين عشوائية أو ساذجة ، ولم تكن على سبيل التظاهر ، حتى اعتقدت لبرهة أنهما ربما يكونان أكثر مني إسلاماً .
ثم تذكرت واقعة " الاستشهاد " ، والتي حدثت قبل تقسيم شبه القارة الهندو باكستانية (9) حين كان الإنجليز يحكموننا . كان الجو إذ ذاك صيفاً ، والوقت ليلاً ، وأحد " السادة " الإنجليز ينام تحت " ناموسية " نصبها في حديقة بيته الخلفية . في ذلك الوقت خرج"الغفير"وكان مسلماً من"البتهان"(10) في دورة حول المكان،فرأى الإنجليزي ينام ورجلاه ممددتان باتجاه القبلة.هزّ"الغفير" الرجل الإنجليزي قائلاً :
· يا سيدي ! لا تمدّ رجليك في هذا الاتـجاه ، فهو اتجاه قبلتنا . ولم يستوعب الإنجليزي الأمر ، ولهذا لم يهتم بما قاله " الغفير " ، ووضع رأسه على الوسادة ونام ثانية . وبعد قليل خرج " الغفير " في دورة ثانية ، فرأى الإنجليزي ينام ممدداً رجليه باتجاه القبلة ، فأيقظه ثانية . عندئذ استشاط الإنجليزي غضباً ، وأغلظ للغفير القول ، ثم تمدد ونام . ولم يتحمل الغفير هذه الإهانة ، فجاء بـ " بلطة " ، وقطع رأس الإنجليزي . وقدّم " الغفير " للمحاكمة ، وفي المحكمة اعترف " الغفير " بما فعل قائلاً :
· لقد حذّرناه مرتين أن لا يمدّ رجليه تجاه قبلتنا ، ففي ذلك انتهاك لحرمتها ، لكنه لم يمتثل ، فقطعنا رأسه .
وحكم على " الغفير " بالإعدام ، وخرج أهل البلدة عن بكرة أبيهم ، وأعلنوا أن إعدام " الغفير " شنقاً ليس موتاً ، وإنما " استشهاد " ، وبنوا ضريحاً على قبره ، ونصبوا على الضريح لافتـة " الشهيد " ، وهكذا بدأت مجـالس الذكر تعقد عند الضريح ، وأقاموا له الموالد !!.لقد كنت أفكّر وأنا مستلق بالليل:ربما يكون هذا"الغفير"أكثر مني إسلاماً.ربما يكون الإسلام هو العاطفة .
وبدت اهتزازة في صورة مكة المعظمة المعلقة على الحائط ، وخرج " هو " من الصورة ، وجلس أمامي على الأريكة .
صرخت قائلاً :
· أخبرني يا من تعلم أسرار القلوب ! من هو المسلم ؟!.
وبدت على وجهه ابتسامة .... ابتسامة يملؤها الاستغناء .
الهوامش
1 - الإشارة إلى الاجتماعات الكبيرة التي تعقدها جماعة التبليغ والدعوة في باكستان ، وخاصة الاجتماع السنوي الكبير الذي يعقد في نوفمبر من كل عام في المقر الرئيسي لجماعة التبليغ بمدينة ( رايوند ) بباكستان حيث يحضر هذا الاجتماع ما يقرب من مليونين - وقد يزيدون - من المسلمين من مختلف أنحاء العالم ، ويستمر هذا الاجتماع ثلاثة أيام ، ويختتم بدعاء جماعي يؤمن فيه الحاضرون على دعاء الإمام .
2 - ما يعادل ستة جنيهات مصرية تقريباً .
3 - في الأصل الأردي استخدم الكاتب مصطلح " رن مريد " ، وهو مصطلح بالبنجابية يقابله بالأردية " زن مريد " ، وكلاهما بمعنى واحد ومدلول متطابق ، وهو ما أثبتناه في الترجمة .
4 - قدرت الله شهاب واحد من أدباء الأردية الكبار في القرن العشرين ، وتولى مناصب سياسية حساسة ، وهو يميل إلى التصوف ، ومن أشهر ما كتب " شهاب نامه " التي تعد شهادة على العصر الذي عاشه قدرت الله شهاب ، بالإضافة إلى مكانتها الأدبية .
5 - هذا منطق الحياة الدنيا ، وللآخرة منطقها وقانونها المختلف فهي كما روي عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : شهدت من النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى ، ثم قال في آخر حديثه : فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " ( البخاري 6 : 230 ) ، ولهذا فإننا لا نستطيع أن نقيّم الحياة الآخرة بمعايير الحياة الدنيا .
6- جريدة يومية كبيرة واسعة الإنتشار تصدر باللغة الأردية من عدة مدن كبرى في باكستان في وقت واحد .
7 - قالتها الزوجة بقدر من السخرية .
8 - تشبه الشبكة أو الرف الموجود في عربات القطار في بلادنا والمخصص لوضع الحقائب فوقه ، ولكنه أعرض منه ، وهو لديهم مخصص لمن يريد أن يتمدد فوقه ليستريح قليلاً من عناء السفر الطويل الذي يستغرق أحيناً عشرين ساعة أو يزيد في القطارات العادية .
9 - كان تقسيم شبه القارة الهندو باكستانية إلى دولتي " باكستان " و " الهند " في أغسطس من عام 1947م ، إذ قامت باكستان في الرابع عشر من أغسطس عام 1947م ، واستقلت الهند في الخامس عشر من أغسطس عام 1947م .
10 - البتهان قوم يسكنون مناطق مختلفة من شبه القارة الهندو باكستانية ، ويتميزون بقدر من السذاجة والشدة وسلامة النية .