المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباب الرابع من مقالات بطرس ( الكتاب الأخير في الأردية )



إبراهيم محمد إبراهيم
25/10/2007, 09:29 AM
الكتاب الأخير في الأردية
مأساة الأم :
جلست الأم وقد أخذت طفلها في حجرها ، والأب يمص إبهامه ، ويلتفت هنا وهناك في سعادة ، بينما كان الطفل مُحدّقاً بعينيه كالعادة ، والأم ترمقه بنظرات يملؤها الحب وهي تسأله في محبة عن الموضوعات التالية :
1 – متى يأتي اليوم الذي تتحدث فيه ؟!.
2 – متى تكبر ؟!. اكتب بالتفصيل .
3 – متى تصبح عريساً ؟!. ومتى تأتي بعروسك ؟!. لا داعي للحياء أو الخجل .
4 – متى نصل نحن حدّ الشيخوخة ؟!.
5 – متى تلتحق بوظيفة ؟!.
6 – متى ستأكل أنت بنفسك ؟! ومتى ستطعمنا نحن ؟! وضح إجابتك بالجداول اللازمة
الطفل يضحك ويشير إلى التواريخ المختلفة في التقويم، فيسعد قلب الأم . وعندما يضغط الطفل على شفاهه الصغيرة ويبدأ في البكاء ، تضطرب الأم ويصيبها القلق ، ومهد الطفل معلّق أمامها ، فإذا أرادت أن تأخذه للنوم أطعمته الأفيون ، وأضجعته في المهد ، ثم تأخذه لينام معها ليلاً " وينام الطفل الثاني مع أبيه " ، فإذا استيقظ انتبهت هي من نومها فوراً ، واعتذرت لجيرانها في الحي . فإذا بكى الطفـل بسبب عدم اكتمال نومه قامت المسكينة بدافع من أمومتها ، وأشعلت الموقد لتسخين اللبن له مرة أخرى . وعندما يستيقظ الطفل صباحاً تنهض هي الأخرى معه ، ويكون ذلك عادة في الثالثة ليلاً ، وبالنهار تغسل وجهه ، وتضع الكحل في عينيه ، وتقول له في تحمّل وصبر : " ما هذا الوجه شبيه القمر ........... يا سلام " .
الطعام ينضج بنفسه :
صحيح أن الزوجة جالسة تطبخ الطعام ، وإلاّ فإن هذا في الحقيقة من واجبات الزوج . لقد رتّبت هي كل شيء بسليقة ، ورصّت الأطباق المغسولة فوق الصندوق الخشبي (1) حتى لا يمكن فتحه ، وأطباق الفخار ملقاة هنا وهناك في ناحية ما ، وفي أحدها عدس ، وفي آخر دقيق ، وفي الثالث فئران ، وإبريق الماء وآلة نفخ النار بالقرب منها حتى تشعل النار متى شاءت ، وتطفئها بالماء متى شاءت . لقد أعدّت العجين ، وأنزلت الأرز من على الموقد بعد أن نضج ، ووضعت مكانه إناء العدس .
المهم أن العمل كله قد تمّ وانتهى ، لكنها مع ذلك ظلّت جالسة كما هي ، وعندما يأتي الزوج تحضـر الطعام وتضعه أمامه ، ولم يحدث أبداً أن وضعته خلفه ، لأنها إن لم تفعل هذا يومياً لتجمّعت أمام الزوج أكوام من الأطباق ... وعندما تفرغ من الطبيخ فإنها أحياناً تقضي وقتها في الحياكة ، وأحياناً في الغزل بالمغزل .... ولم لا تفعل وقد تعلمت كل هذه الأمور من " المهاتما غاندي " (2) ، فإن لم تستعمـل يديك وقدميك فسوف " تمرض " وتضطر إلى العلاج .
الغسّال يغسل الملابس اليوم :
إنه يشقى كثيراً ... في المساء يشعل موقده الضخم ، ويظل طيلة النهار بغير عمل . أحياناً يضع لفات " بقجْ " الملابس على الثور ، ويتجه إلى مغسلته (3) ، وأحياناً يغسل الملابس في إحدى قنوات المياه ، وأحياناً في النهر ، حتى لا يكتشف أمره أصحاب الملابس .... البرد يقرصه في الشتاء ، والحر يلفحه في الصيف ، ولذا فهو لا يعمل إلاّ في فصل الربيع ، فيبقى في الماء حتى وقت الظهيرة ... لا بد أنه سيصاب بمرض في رأسه ... ثورُهُ مربوط في ظل شجرة ، وكلبه مستلق عند أشجار " السّنط " ، وعلى الجانب الآخر للنهر سنجاب يهرول هنا وهناك ، والغسال يسلّي نفسه بمشاهدته ومتابعته .
لقد أحضرت زوجة الغسال الطعام ، فواتته الفرصة لوضع الملابس فوق الخشبة التي يستعين بها في الغسيل (4) ، ويتحدث معها قليلاً ... رأى الكلب هذا المنظر فرفع أذنيه إلى أعلى متأهباً ، فزوجة الغسال ستغني الآن ، وسيخرج الغسال من الماء ، وسوف ينخفض مستوى ماء النهر ثانية .
* يا حضرة الغسال ، لماذا تحتفظ بهذا الكلب ؟!.
* عملاً بالمـثل (5) يا سيدي ، وهو في الوقت نفسه حارسنا ... انظـر ، لقد نشـرت ملابس الأغنيـاء في هذا المكان الفسيح لتجف ، ولا يستطيع أحدٌ – بسبب هذا الكلب – الاقتراب منها ، أو الاقتراب من ملابس أولئك الذين يعطونني الملابس ثم لا يستطيعون استعادتها مرة أخرى ...
 عملك رائع يا حضرة الغسال ... تقوم بتنظيف القذارة والأوساخ ، لكنك تجعلنا نسير عرايا .

هوامش
1 - صندوق كبير من الخشب تحفظ فيه الملابس ، وكان يعدّ من الأثاث الذي يعطى للفتاة عند زواجها في ذلك الوقت ، وما أشبهه بالصندوق الخشبي الذي كان يقدّم للفتاة الريفية في مصر عند زواجها في النصف الأول من القرن العشرين ، وهو قريب من وقت كتابة " بطرس " لمقالاته .
2 - المهاتما غاندي : الزعيم الهندي المشهور الذي كافح ضد المستعمر الإنجليزي جنباً إلى جنب مع القائد العظيم مؤسس باكستان " محمد علي جناح " من أجل استقلال شبه القارة الهندو باكستانية . ومن أهم الطرق التي كان يتبعها في كفاحه هذا هو ما يسمى بالاحتجاج السلبي ، بمعنى عدم اللجوء إلى استخدام العنف أو الردّ عليه ، حتى يخجل من يستخدم العنف ، ويعود إلى صوابه . هذا وقد كان غاندي أول زعيم للهند بعد استقلالها عام 1947م ، وهو نفس العام الذي قامت فيه باكستان ، وقد اغتاله متعصب هندوسي بسبب اعتزامه زيارة باكستان عام 194م .
3 - كان الغسال في ذلك الزمن يجمع الملابس ويذهب بها إلى النهر مثلاً ، ويقوم بغمسها في الماء وضربها بقوة على صخرة ، أو يضربها بخشبة كبيرة حتى تصبح نظيفة ، ثم يقوم بنشرها في الأماكن المفتوحة لتجفّ بسرعة . والمقصود بالثور هنا العربة التي يجرها الثور ، هذا إن لم يكن الأمر فعلاً هو استخدام الثور بتحميل الأشياء فوقه كما نفعل نحن في الريف مع الحمار مثلاً .
4 - في الأصل " كهات " ، وهو المكان الذي كان الغسال في العقود الماضية يقوم بغسل الملابس فيه ، ومن مكوّنات هذا المكان حوض به ماء ، وصخرة كبيرة يضرب الملابس المبللة بالماء بها .
5 - المثل الذي يشـير إليـه " بطرس " هو المثـل الأردي : " دهوبى كا كتا نه كهر كا نه كهات كا " ، بمعنى " كلب الغسال لا قرار له .