فايزة شرف الدين
27/10/2007, 12:33 PM
نسخة الدكتور "عزام" :
كان صراخها يتصاعد وهي تتأوه من الألم الرهيب ، الذي ينتابها علي أوقات منتظمة ، ثم أصبحت لا تطيقه بعد أن توالي هذا الألم سريعا دون أخذ هدنة من الوقت . صاح الدكتور "عزام" بها :
ـ تحملي فسوف أعطيك حقنة مخدر ، ولن تشعري بألم الولادة .
صرخت "سكينة" وهي تلوح بيديها :
ـ لا ، لا أريد مخدرا ، ولكن أريد شيئا ليسرع من عملية الولادة.
اقترب منها الدكتور "أسعد" ورشق حقنة في جسدها ، وبعد فترة قصيرة جاءت اللحظة الحاسمة التي طال انتظارها ، فصاح الدكتور "عزام" بمساعده :
ـ سنبدأ في توليدها الآن .
كان الأخير يتصبب عرقا ، وقد شعر بانفعال غامر، فبعد قليل سيولد نسخة هذا الرجل الواقف أمامه ثابت الجأش ، لا ترتسم علي وجهه أي انفعالات ، وهو يساعد في إخراجه إلي هذه الدنيا ؛ هتف في نفسه قائلا : يا له من رجل غريب الأطوار لا قلب له !
كان الدكتور "عزام" يغسل يديه في وعاء بعناية ، واستفاق الدكتور "أسعد" علي صراخه ، وهو يصيح فيه :
ـ ناولني المشرط بسرعة .
حاول مستميتا إخراج هذا الجنين العنيد إلي الوجود ، وصاح مرة أخري عندما بدأت توترات رحمها تهدأ :
ـ سوف نحتاج إلي حقنة أخري .
بعد الحقنة الثانية أصبح ألمها لا يطاق ، وأخذ رحمها يدفع الجنين ويلفظه إلي الوجود . صاح الدكتور "عزام" بانفعال للمرة الأولي ، وهو يتلقفه بين راحتيه :
ـ لقد نجحنا .
تعالي صراخ الوليد وهو يحرك يديه في عصبية ، وأخذ الدكتور "عزام" يتفرس فيه بحرص بالغ ، وتيقن أنه نسخته بشعره الأشقر ، وعينيه الرماديتين المائلتين إلي اللون الأزرق ، ثم قلبه علي ظهره ، وهو يمعن النظر في كل أنحاء جسده ، وعندما انفلتت عينيه إلي أسفل ظهره راعه شيء غريب !! فقد لاحظ وجود ندبة كبيرة سوداء خشنة بها نتوء صغير لامع ، هتف وهو يلتفت إلي الدكتور "أسعد" ثم إلي الندبة وهو يشير إليها بسبابته
ـ انظر إلي هذه الندبة الغريبة ، إنني لا أمتلك مثلها في هذا الجزء من جسمي .
ارتسمت علامات القلق البالغ علي وجه الدكتور "أسعد" ، ومع ذلك حاول أن يسيطر علي توتره ، متصنعا الهدوء ، وهو يقول في ثبات :
ـ لعل مورثات القوة الحيوانية ساعدت في ظهور هذه الندبة .
صاح الدكتور "عزام" وهو يقطب ما بين حاجبيه :
ـ أشك أنها تؤثر علي الشكل الجسدي للنسخة ، فهذه المورثات تظهر في عضلاته ، وتعطيه قوة غير عادية فقط .
زم الدكتور "أسعد" شفتيه ولم ينبس بكلمة ، فقد انهالت إلي فكره ريب وشكوك لم يستطع البوح بها .
أما "سكينة" فقد تملكها شعور فياض دافئ غمرها بحب لهذا الوليد الذي لا ينتمي إليها ، ولم يرث من صفاتها أي شيء ، وهو مع ذلك قطعة منها والشهور التسعة التي قضاها في رحمها لينمو ويكبر ، كانت كفيلة بخلق هذا الإحساس الغامر بالأمومة ، وخافت أن يدرك الدكتور "عزام" الخطأ الرهيب الذي وقعت فيه عند استنبات الجنين ، فيكون مصيرها والطفل الانتقام الرهيب من هذا الرجل عديم القلب والرحمة ، فقد كان يتفرس في الطفل كتجربة من تجاربه التي يقوم بها في المختبر ، ولم يبد عليه أي مشاعر حنان لهذا الكائن الصغير الذي يشبهه في كل شيء إلا هذه الندبة الغريبة .
قالت وهي تمد ذراعيها :
ـ اعطني الطفل يا دكتور ليرتدي ملابسه .
ثم التفت إلي الدكتور "أسعد" ، وقالت وهي تشير إلي صوان صغير:
- افتح الدرج السفلي وناولني ملابسه .
أخذت تلبسه بحرص ، وعندما انتهت قربته من ثديها لترضعه ، فصاح الدكتور "عزام" بضيق :
ـ هل سترضعينه ؟
هتفت "سكينة" وقد نشب في عينيها بريق لامع وهي تقول في إصرار :
ـ نعم سأرضعه حتي يكون جزءا مني فأكون أمه بالفعل .
حاول الدكتور "أسعد" تخفيف التوتر ، فصاح مغيرا دفة الموضوع :
ـ ما الاسم الذي سنطلقه علي هذا الطفل ؟
قالت "سكينة" دون تردد :
ـ سأسميه "عزيزا" .
ابتسم الدكتور "أسعد" للدكتور"عزام" وهتف وهو يومئ برأسه :
ـ أعتقد أن اسمه مناسب .
لم يعقب الدكتور "عزام" علي الاسم ، وجذب الدكتور "أسعد" من ذراعه ، وخرجا من الحجرة تاركين "سكينة" وحدها مع الوليد.
مرت الشهور و"عزيز" ينمو بشكل مناسب ومرضي ، وكان الدكتور "عزام" يتابع حركاته وتصرفاته ويدون ملاحظاته ، وكان كثيرا ما ينتابه شعور غريب بالنفور من هذا الطفل الصغير ، وكان هذا الشعور يتعاظم ، ويصل إلي ذروته ، وهو يراه وقد اختبأ في أحد الأركان المظلمة ، وقبع فيه دون حراك لفترات طويلة ، ولا يخرج من مكمنه إلا لتناول طعامه ، أيضا بعض عاداته السيئة الأخرى كانت تثير حنقه وغيظه عليه ، مثل مصه لإصبعه ، أو التفرس والنظر إلي الأشياء بفضول شديد ، وولعه بالعبث بالأشياء دون تمييز .
شعر الدكتور "عزام" بنفور من طفولته هو ، فلا شك أن هذا الطفل يقوم بنفس السلوك الذي كان يقوم به وهو صغير ، وأخذ هذا النفور في التزايد يوما بعد يوم ، كلما نما الطفل وكبر واشتد الشبه بينهما في الشكل والعادات والإيماءات ، ثم بدأ اهتمامه يفتر ويقل ، وانصرف عنه إلي بحوثه العلمية الجديدة وأنشطته الأخرى .
أما "سكينة" فرضيت بحياتها ، وقنعت بحياتها بعيدا عن مستقبلها وطموحها العلمي في الجامعة ومعمل الأبحاث ، فقد أخذت في الاهتمام بتربية "عزيز" الذي ملأ حياتها ، وحاولت أن تتناسى الجرح الذي نتأ بواسطة الدكتور "عزام" بنفوره الشديد في بداية الأمر بعد ولادة "عزيز" بفترة قليلة ، ثم تجاهلها بشكل تام كأنما ليس لها وجود . تيقنت أن الدكتور "عزام" أجاد تمثيل دوره حتي يتأكد من نجاح تجربته ، وبالرغم من ذلك فقد أصبحت جزءا هاما في هذه الفيلا وسيدتها دون منازع .
كانت تشعر بسعادة غامرة وهي تري "عزيز" ينمو ويكبر أمامها ، وأصبحت بمثابة الأم والمعلمة له ، وكان ذكاؤه شديدا فأبدي قدرة عجيبة علي تحصيل وتلقين العلوم كلها ، وكانت علي النقيض من الدكتور "عزام" تجاه تصرفات "عزيز" ؛ فقد كانت تصرفاته الشاذة الغريبة تثير فضولها وتشوقها ، وهي تبحث عنه في الأماكن غير المتوقعة التي كان يختبئ فيها لفترات طويلة ، كانت سكناته وخلجاته وإيماءاته تذكرها دوما بالدكتور "عزام" الذي أحبته من كل قلبها ، ووجدت فيه عوضا عن الحب الضائع أو المستحيل . وفي يوم عندما بلغ الثامنة من عمره ، وكانت ترقبه من نافذة حجرتها المطلة علي الحديقة الواسعة باهتمام كعادتها ، وكان يلهو ويلعب تارة ، ويتفرس في النباتات والحيوانات الصغيرة المنتشرة علي الأرض والمختبئة بين فروع الأشجار، وتارة يجوب أحواض الأزهار يشم عبيرها ، ثم فجأة لمح آلة حادة من تلك التي تستخدم في الحفر وراء إحدى الشجيرات ، فتناولها وجرى بها صوب المبني المنعزل الرطب ، وقد تكاثفت عليه النباتات المتسلقة فغطته تماما .
أخذ يحفر حفرة في الجدار ناثرا التراب الرطب حولها ، حتي تكونت فجوة عميقة أسفله ، أصابتها دهشة غامرة وهي تراه يدخل في تلك الفجوة بقدميه أولا ، ثم يزحف بباقي جسده ويختفي داخلها ، بعد أن أسدل النباتات المتسلقة حولها ، وقبع في الفجوة ساعات طويلة ، كانت خلالها "سكينة" جالسة في مكانها من النافذة لا تبتعد عنها ، وهي تترقب خروجه منها ، ولا زالت الدهشة عالقة بذهنها والحيرة تربك تفكيرها ، ثم بغتة سمعت صوت كلبه الوولف الضخم وهو ينبح ، بعدما فك الخادم قيوده وأطلقه ليمرح مع سيده الصغير ، وأخذ الكلب يتقافز في المكان وهو يمد عنقه ويشم الهواء ، ثم جري ناحية مخبأ "عزيز" وهو ينبح نباحا متواصلا .
بعد فترة شاهدت "عزيزا" وهو يخرج زاحفا من الحفرة ، واستطاعت أن تتبين ـ مع أنه كان بعيدا ولم تكن تراه بوضوح ـ أنه كان خائفا ، فقد كان يلتفت حوله بتردد عندما أقبل عليه الكلب وهو ينبح ، ثم خيل إليها أن شيئا أسود يشبه الذنب امتد من الطفل ، والتف حول عنق الكلب في حركة خاطفة ، فسقط علي الأرض وهو يعوي عواء مؤلما بضع لحظات ، ثم ما لبثت أن ارتخت قوائمه وسقط علي الأرض جثة هامدة ، فتعالت صرخة مكتومة منها ، وقد ارتسم علي وجهها الرعب الفائق ممزوجا بالدهشة التي لم تبرح وجهها منذ ساعات طوال !!
عندما عاد الدكتور "عزام" إلي الفيلا ، وعرف بموت الكلب أخذ يتفحصه في اهتمام وقد أصابته حيرة كبيرة ، عندما تيقن أنه مات من أثر سم زعاف سري في جسده ، وعزي ذلك بعد تفكير إلي وجود ثعابين في الحديقة ، فنادي علي الخادم وأخذ يلوح له ، ويشير في كل الاتجاهات معنفا :
ـ لقد أهملت الحديقة حتي هاجمتها الزواحف السامة ، نظفها فورا وتخلص من الحشائش ، وابحث عن تلك الهوام واقتلها في الحال .
فهم الرجل ما تعنيه إشارات الدكتور "عزام" وقرأ في أسارير وجهه الغضب ، فهتف يقول مدافعا عن نفسه :
ـ إنني يا دكتور اهتم بالحديقة ، ولا أهملها أبدا ، وإنني علي يقين أنه لا توجد زواحف سامة .
أما "سكينة" فقد سمعت الحوار من حجرتها ، وكانت تنصت لكل حركة وكلمة تقال بقلب واجف ، والتزمت الصمت المطبق ، مع أنها كانت هي الأخرى في حيرة من أمر الطفل الذي كان يلعب أمامها ويلهو في براءة ، ولم يظهر عليه أنه قد فعل شيئا يلام عليه !!
كان صراخها يتصاعد وهي تتأوه من الألم الرهيب ، الذي ينتابها علي أوقات منتظمة ، ثم أصبحت لا تطيقه بعد أن توالي هذا الألم سريعا دون أخذ هدنة من الوقت . صاح الدكتور "عزام" بها :
ـ تحملي فسوف أعطيك حقنة مخدر ، ولن تشعري بألم الولادة .
صرخت "سكينة" وهي تلوح بيديها :
ـ لا ، لا أريد مخدرا ، ولكن أريد شيئا ليسرع من عملية الولادة.
اقترب منها الدكتور "أسعد" ورشق حقنة في جسدها ، وبعد فترة قصيرة جاءت اللحظة الحاسمة التي طال انتظارها ، فصاح الدكتور "عزام" بمساعده :
ـ سنبدأ في توليدها الآن .
كان الأخير يتصبب عرقا ، وقد شعر بانفعال غامر، فبعد قليل سيولد نسخة هذا الرجل الواقف أمامه ثابت الجأش ، لا ترتسم علي وجهه أي انفعالات ، وهو يساعد في إخراجه إلي هذه الدنيا ؛ هتف في نفسه قائلا : يا له من رجل غريب الأطوار لا قلب له !
كان الدكتور "عزام" يغسل يديه في وعاء بعناية ، واستفاق الدكتور "أسعد" علي صراخه ، وهو يصيح فيه :
ـ ناولني المشرط بسرعة .
حاول مستميتا إخراج هذا الجنين العنيد إلي الوجود ، وصاح مرة أخري عندما بدأت توترات رحمها تهدأ :
ـ سوف نحتاج إلي حقنة أخري .
بعد الحقنة الثانية أصبح ألمها لا يطاق ، وأخذ رحمها يدفع الجنين ويلفظه إلي الوجود . صاح الدكتور "عزام" بانفعال للمرة الأولي ، وهو يتلقفه بين راحتيه :
ـ لقد نجحنا .
تعالي صراخ الوليد وهو يحرك يديه في عصبية ، وأخذ الدكتور "عزام" يتفرس فيه بحرص بالغ ، وتيقن أنه نسخته بشعره الأشقر ، وعينيه الرماديتين المائلتين إلي اللون الأزرق ، ثم قلبه علي ظهره ، وهو يمعن النظر في كل أنحاء جسده ، وعندما انفلتت عينيه إلي أسفل ظهره راعه شيء غريب !! فقد لاحظ وجود ندبة كبيرة سوداء خشنة بها نتوء صغير لامع ، هتف وهو يلتفت إلي الدكتور "أسعد" ثم إلي الندبة وهو يشير إليها بسبابته
ـ انظر إلي هذه الندبة الغريبة ، إنني لا أمتلك مثلها في هذا الجزء من جسمي .
ارتسمت علامات القلق البالغ علي وجه الدكتور "أسعد" ، ومع ذلك حاول أن يسيطر علي توتره ، متصنعا الهدوء ، وهو يقول في ثبات :
ـ لعل مورثات القوة الحيوانية ساعدت في ظهور هذه الندبة .
صاح الدكتور "عزام" وهو يقطب ما بين حاجبيه :
ـ أشك أنها تؤثر علي الشكل الجسدي للنسخة ، فهذه المورثات تظهر في عضلاته ، وتعطيه قوة غير عادية فقط .
زم الدكتور "أسعد" شفتيه ولم ينبس بكلمة ، فقد انهالت إلي فكره ريب وشكوك لم يستطع البوح بها .
أما "سكينة" فقد تملكها شعور فياض دافئ غمرها بحب لهذا الوليد الذي لا ينتمي إليها ، ولم يرث من صفاتها أي شيء ، وهو مع ذلك قطعة منها والشهور التسعة التي قضاها في رحمها لينمو ويكبر ، كانت كفيلة بخلق هذا الإحساس الغامر بالأمومة ، وخافت أن يدرك الدكتور "عزام" الخطأ الرهيب الذي وقعت فيه عند استنبات الجنين ، فيكون مصيرها والطفل الانتقام الرهيب من هذا الرجل عديم القلب والرحمة ، فقد كان يتفرس في الطفل كتجربة من تجاربه التي يقوم بها في المختبر ، ولم يبد عليه أي مشاعر حنان لهذا الكائن الصغير الذي يشبهه في كل شيء إلا هذه الندبة الغريبة .
قالت وهي تمد ذراعيها :
ـ اعطني الطفل يا دكتور ليرتدي ملابسه .
ثم التفت إلي الدكتور "أسعد" ، وقالت وهي تشير إلي صوان صغير:
- افتح الدرج السفلي وناولني ملابسه .
أخذت تلبسه بحرص ، وعندما انتهت قربته من ثديها لترضعه ، فصاح الدكتور "عزام" بضيق :
ـ هل سترضعينه ؟
هتفت "سكينة" وقد نشب في عينيها بريق لامع وهي تقول في إصرار :
ـ نعم سأرضعه حتي يكون جزءا مني فأكون أمه بالفعل .
حاول الدكتور "أسعد" تخفيف التوتر ، فصاح مغيرا دفة الموضوع :
ـ ما الاسم الذي سنطلقه علي هذا الطفل ؟
قالت "سكينة" دون تردد :
ـ سأسميه "عزيزا" .
ابتسم الدكتور "أسعد" للدكتور"عزام" وهتف وهو يومئ برأسه :
ـ أعتقد أن اسمه مناسب .
لم يعقب الدكتور "عزام" علي الاسم ، وجذب الدكتور "أسعد" من ذراعه ، وخرجا من الحجرة تاركين "سكينة" وحدها مع الوليد.
مرت الشهور و"عزيز" ينمو بشكل مناسب ومرضي ، وكان الدكتور "عزام" يتابع حركاته وتصرفاته ويدون ملاحظاته ، وكان كثيرا ما ينتابه شعور غريب بالنفور من هذا الطفل الصغير ، وكان هذا الشعور يتعاظم ، ويصل إلي ذروته ، وهو يراه وقد اختبأ في أحد الأركان المظلمة ، وقبع فيه دون حراك لفترات طويلة ، ولا يخرج من مكمنه إلا لتناول طعامه ، أيضا بعض عاداته السيئة الأخرى كانت تثير حنقه وغيظه عليه ، مثل مصه لإصبعه ، أو التفرس والنظر إلي الأشياء بفضول شديد ، وولعه بالعبث بالأشياء دون تمييز .
شعر الدكتور "عزام" بنفور من طفولته هو ، فلا شك أن هذا الطفل يقوم بنفس السلوك الذي كان يقوم به وهو صغير ، وأخذ هذا النفور في التزايد يوما بعد يوم ، كلما نما الطفل وكبر واشتد الشبه بينهما في الشكل والعادات والإيماءات ، ثم بدأ اهتمامه يفتر ويقل ، وانصرف عنه إلي بحوثه العلمية الجديدة وأنشطته الأخرى .
أما "سكينة" فرضيت بحياتها ، وقنعت بحياتها بعيدا عن مستقبلها وطموحها العلمي في الجامعة ومعمل الأبحاث ، فقد أخذت في الاهتمام بتربية "عزيز" الذي ملأ حياتها ، وحاولت أن تتناسى الجرح الذي نتأ بواسطة الدكتور "عزام" بنفوره الشديد في بداية الأمر بعد ولادة "عزيز" بفترة قليلة ، ثم تجاهلها بشكل تام كأنما ليس لها وجود . تيقنت أن الدكتور "عزام" أجاد تمثيل دوره حتي يتأكد من نجاح تجربته ، وبالرغم من ذلك فقد أصبحت جزءا هاما في هذه الفيلا وسيدتها دون منازع .
كانت تشعر بسعادة غامرة وهي تري "عزيز" ينمو ويكبر أمامها ، وأصبحت بمثابة الأم والمعلمة له ، وكان ذكاؤه شديدا فأبدي قدرة عجيبة علي تحصيل وتلقين العلوم كلها ، وكانت علي النقيض من الدكتور "عزام" تجاه تصرفات "عزيز" ؛ فقد كانت تصرفاته الشاذة الغريبة تثير فضولها وتشوقها ، وهي تبحث عنه في الأماكن غير المتوقعة التي كان يختبئ فيها لفترات طويلة ، كانت سكناته وخلجاته وإيماءاته تذكرها دوما بالدكتور "عزام" الذي أحبته من كل قلبها ، ووجدت فيه عوضا عن الحب الضائع أو المستحيل . وفي يوم عندما بلغ الثامنة من عمره ، وكانت ترقبه من نافذة حجرتها المطلة علي الحديقة الواسعة باهتمام كعادتها ، وكان يلهو ويلعب تارة ، ويتفرس في النباتات والحيوانات الصغيرة المنتشرة علي الأرض والمختبئة بين فروع الأشجار، وتارة يجوب أحواض الأزهار يشم عبيرها ، ثم فجأة لمح آلة حادة من تلك التي تستخدم في الحفر وراء إحدى الشجيرات ، فتناولها وجرى بها صوب المبني المنعزل الرطب ، وقد تكاثفت عليه النباتات المتسلقة فغطته تماما .
أخذ يحفر حفرة في الجدار ناثرا التراب الرطب حولها ، حتي تكونت فجوة عميقة أسفله ، أصابتها دهشة غامرة وهي تراه يدخل في تلك الفجوة بقدميه أولا ، ثم يزحف بباقي جسده ويختفي داخلها ، بعد أن أسدل النباتات المتسلقة حولها ، وقبع في الفجوة ساعات طويلة ، كانت خلالها "سكينة" جالسة في مكانها من النافذة لا تبتعد عنها ، وهي تترقب خروجه منها ، ولا زالت الدهشة عالقة بذهنها والحيرة تربك تفكيرها ، ثم بغتة سمعت صوت كلبه الوولف الضخم وهو ينبح ، بعدما فك الخادم قيوده وأطلقه ليمرح مع سيده الصغير ، وأخذ الكلب يتقافز في المكان وهو يمد عنقه ويشم الهواء ، ثم جري ناحية مخبأ "عزيز" وهو ينبح نباحا متواصلا .
بعد فترة شاهدت "عزيزا" وهو يخرج زاحفا من الحفرة ، واستطاعت أن تتبين ـ مع أنه كان بعيدا ولم تكن تراه بوضوح ـ أنه كان خائفا ، فقد كان يلتفت حوله بتردد عندما أقبل عليه الكلب وهو ينبح ، ثم خيل إليها أن شيئا أسود يشبه الذنب امتد من الطفل ، والتف حول عنق الكلب في حركة خاطفة ، فسقط علي الأرض وهو يعوي عواء مؤلما بضع لحظات ، ثم ما لبثت أن ارتخت قوائمه وسقط علي الأرض جثة هامدة ، فتعالت صرخة مكتومة منها ، وقد ارتسم علي وجهها الرعب الفائق ممزوجا بالدهشة التي لم تبرح وجهها منذ ساعات طوال !!
عندما عاد الدكتور "عزام" إلي الفيلا ، وعرف بموت الكلب أخذ يتفحصه في اهتمام وقد أصابته حيرة كبيرة ، عندما تيقن أنه مات من أثر سم زعاف سري في جسده ، وعزي ذلك بعد تفكير إلي وجود ثعابين في الحديقة ، فنادي علي الخادم وأخذ يلوح له ، ويشير في كل الاتجاهات معنفا :
ـ لقد أهملت الحديقة حتي هاجمتها الزواحف السامة ، نظفها فورا وتخلص من الحشائش ، وابحث عن تلك الهوام واقتلها في الحال .
فهم الرجل ما تعنيه إشارات الدكتور "عزام" وقرأ في أسارير وجهه الغضب ، فهتف يقول مدافعا عن نفسه :
ـ إنني يا دكتور اهتم بالحديقة ، ولا أهملها أبدا ، وإنني علي يقين أنه لا توجد زواحف سامة .
أما "سكينة" فقد سمعت الحوار من حجرتها ، وكانت تنصت لكل حركة وكلمة تقال بقلب واجف ، والتزمت الصمت المطبق ، مع أنها كانت هي الأخرى في حيرة من أمر الطفل الذي كان يلعب أمامها ويلهو في براءة ، ولم يظهر عليه أنه قد فعل شيئا يلام عليه !!