فايزة شرف الدين
27/10/2007, 01:04 PM
الذَّنَب القاتل :
كانت الغرفة شديدة الظلام ، بعدما أسدلت عليها ستائر سوداء كثيفة ، وكان السرير خاويا ومرتبا ، لم يلمسه أو ينام عليه "عزيز" ، وفي صوان الملابس الكبير قبع هو داخله ساكنا لا يتحرك ، ولبث في هذا المكان الضيق عدة ساعات ، وتناهي لأذني "سكينة" بعد فترة سكون طويلة صوت باب حجرة "عزيز" ، وهو يفتح ، ومع ذلك لم تخرج من حجرتها بعد أن أغلقتها بإحكام ، فقد كانت تحذر الخطر المحدق ، والموت المؤكد الذي قد يتربص بها أو بأي مخلوق إذا اقترب من "عزيز" بعد خروجه مباشرة من مكمنه في الظلام ، فهو يكون في أشد حالات الهياج والخطر وعدم السيطرة علي نفسه في تلك اللحظات ، ولبثت قابعة في حجرتها قبل أن تفتح حجرتها وتبرحها متوجهة إلي حجرته المفتوحة ، فاستقبلها بترحاب وحرارة وهو يقول :
ـ أهلا يا ماما ، لقد افتقدتك كثيرا .
اندفع إليها وضمها بين ذراعيه بحنان بالغ ، وكان عمره قد بلغ السابعة عشر عاما ، وأصبح شديد الشبه بالدكتور "عزام" سواء في الطول والحجم ، حتي الطباع لم يسلم منها ، وبدأت شعيرات بيضاء تطل من شعره الأشقر ، لكنها لم تكن بالكثرة كما في شعر الآخر ، ولولا هذا الاختلاف الضئيل جدا لكانا متطابقين تماما . ابتسمت "سكينة" وهي تتطلع إليه ، ولاحظت أن الشعيرات البيضاء التي لمعت في رأسه هي في نفس المواضع من شعر الدكتور "عزام" .. فقالت :
ـ لقد أصبحت شديد الشبه بوالدك بشكل يثير الدهشة !!
قال غير مبال:
ـ لم أشعر يوما أنه والدي ، ومن العجيب حقا أنني ابنه !! ولولا الشبه الشديد بيني وبينه لقلت أنني لقيط .
صاحت "سكينة" توبخه :
ـ لا أحب أن أسمع منك هذا الكلام .
ثم أضافت آمرة :
-هيا الآن كي نستذكر معا .
لاح عليه الضيق والملل وهو يقول :
ـ لم يعد هناك شيء لأتعلمه ، فقد قرأت واستوعبت تماما كل الكتب التي ألفها الدكتور "عزام" ، وأيضا المراجع والكتب في علوم الطب والهندسة الوراثية ، وأريد أن أقرأ المزيد غير هذه الكتب .
صمت لحظات ، ثم أضاف وهو ينظر إليها ليري وقع كلماته علي وجهها
ـ أريد أن التحق بالجامعة ، وبقسم الهندسة الوراثية بالذات .
امتقع وجهها ، وصدمتها كلماته غير المتوقعة ، فازدردت ريقها واسترجعت أنفاسها اللاهثة ، ثم صرخت في هلع :
ـ لا ، لا يمكن أن تبتعد عن هذا المكان .
ثم قالت متلعثمة :
- أقصد ، أقصد بعيدا عني .
أمسك يدها برفق ، وقال مستعطفا :
ـ لم تتركوا لي خيارا لأذهب إلي المدرسة مثل باقي الأولاد ، والآن أريد أن التحق بالجامعة .
انتفض جسدها كريشة في مهب الريح ، وصرخت مرتعبة :
ـ لا يمكن ، هذا مستحيل .
قال وهو يبتسم بسخرية ليمتص انفعالات أمه المتوترة :
ـ إنني لم أجد من يزيد عني علما لكي أتلقن منه العلم ، حتي الدكتور "عزام" نفسه .
كانت "سكينة" تدرك تماما أن "عزيز" لم يجاف الحقيقة ، وأنه لم يبالغ في مقولته هذه ، فقد كان شغوفا مثل الدكتور "عزام" بهذا العلم ووصل إلي ذروة المعرفة فيه ، حتي أنها تكاد أن تشك في أنه يعرف كيفية مجيئه إلي هذه الحياة ، ولكنه مثل الدكتور "عزام" يحوطه الغموض ، ولا يعبر عن مكنون قلبه وما يحتوي كيانه من مشاعر وأحاسيس .
استأذنها "عزيز" ليتريض في الحديقة ، وفيما هو يهم بالخروج من باب الطابق الأول قابل الدكتور "عزام" ، فأصبحا وجها لوجه ، وكانا يتجنبان بشدة أن يتلاقيا في مكان واحد ، فقد انتابهما معا شعور مشترك من النفور والبغض البالغ ، فقد كان الدكتور"عزام" يري في نسخته سوءاته وعيوبه ، وعندما يطالعه وجهه الذي أصبح شكله تماما بعد أن اكتمل نضجه ، وكان بمثابة مرآة داخلية تفضح مشاعره وماضيه ، الذي طالما أحاطه الغموض .
كان يري وجهه الحقيقي البشع في هذا المخلوق ، شعر بالندم لانتظاره هذه السنين حتي كبر هذا النسخ ، وكان يجب أن يتخلص منه وهو لا يزال طفلا ، ولكن فضوله العلمي كان له بالمرصاد ، فقد كان ينتظر ماذا ستستقر عليه نسخته ومدي نجاحه ؟ والآن عليه أن ينتهز الفرصة السانحة للخلاص منه و"سكينة" ليختفيا عن ناظريه ومن الحياة إلي الأبد ، وإلا سيلحق اسمه اللامع الذي ذاع صيته في الآفاق العار علي يد هذا المخلوق بعد أن يفتضح أمره .
الغريب في الأمر أن "عزيزا" بادله هواجسه وأفكاره الجهنمية ، فأصبح نسخا أيضا لمشاعره ، تفتق في ذهنه ما يمكن أن يكونه إذا تخلص من هذا الرجل الذي يبغضه منذ كان صغيرا .
بدأ "عزيز" يشتاق للخروج إلي الحياة التي نفي عنها في هذه الفيلا المنعزلة ، كان متأكدا أن أمه سوف تنهاه عن الخروج متعللة الحجج ، وكان ثمة شيء غامض يدفعه إلي حب الخروج في الليل .
بالفعل استطاع أن يتسلل عند انتصاف الليل من الفيلا ، مشي عبر الحديقة الواسعة حتي وصل إلي السور المحيط بالفيلا ، فتسلق إحدى الأشجار العالية حتي استطاع أن يكون بمحاذاة السور ، فربط حبلا كان يحمله في جذع الشجرة القوي ، وتركه متدليا خارج السور ، ثم امتطاه وأخذ في الهبوط إلي خارج الأسوار، مشي عبر الطريق الجانبي القفر ، وكان الليل حالكا إلا من النجوم الخافتة التي ألقت ضوءها الكالح عندما وصل إلي الطريق .
كان ثمة سيارات قليلة تمرق في الطريق ، ووقف يلوح للسيارات العابرة ، وبعد وقت وقفت سيارة مصدرة صوتا منفرا بعد أن أعملت فراملها بقوة علي الطريق الإسفلتي ، وسمع من داخلها صوتا يقول بخشونة :
ـ هيا اركب بسرعة .
ألقي نفسه في الكرسي الخلفي للسيارة ، وكان يجلس في مقدمتها شابان ، كانا يضحكان بصخب شديد ، وسأله أحدهما :
ـ إلي أين أنت ذاهب ؟
أجاب "عزيز" في بساطة :
ـ إلي المكان الذي ستذهبان إليه .
صاح الشاب الذي يقود السيارة بسخرية:
ـ إننا ذاهبان إلي الشيطان .
هتف "عزيز" بإصرار:
ـ وهو كذلك .
دخل ثلاثتهم أحد الملاهي الليلية ، وكان صوت موسيقي راقصة تصدح في المكان ، اختلط بها صوت تصفيق وصرخات ماجنة ، ومن حين إلي آخر كان يتصاعد صوت تقارع الكئوس .
جلسوا حول منضدة ، وبدأ الشابان في احتساء الخمر ، وقدم أحدهما الخمر "لعزيز" وقال له آمرا :
ـ اشرب هذا الكأس .
تناول "عزيز" الكأس ، وألقاه في جوفه جرعة واحدة ، فنظر إليه الاثنان في استغراب ودهشة غامرة ، بينما كانت الراقصة تتمايل مع أنغام الموسيقي ، التصقت عيناها بمنضدتهم ، فغمز أحد الشابين لها فلم تلق بالا له ، وداخله غيظ وحنق عندما أدرك أنها ترمق عزيزا .
بعد أن انتهت من فقرتها ، ألقت ثوبا خفيفا علي جسدها ، واتجهت صوب "عزيز" ، والتصقت به في دلال ، وهي تقول :
ـ شرفت يا أستاذ ؟
قال "عزيز" وهو يبتسم " :
ـ "عزيز"
فقالت وهي تجذبه من يديه ، وتصيح بالشابين :
ـ هيا إلي اللعب .
مشت عبر الموائد المتراصة وهي تتمايل بنشوة علي كتف "عزيز" ، ومن وارءهما الشابان ، وقد شعرا بالحقد والحسد يملآن قلبيهما ؛ لإعجاب الراقصة لهذا الشاب الغامض دونهما ، ووصلوا إلي سلم في أقصي الملهي ، وصعدوا فيه ، ثم مشوا عبر مكان متسع أنيق مضاء بأضواء متعددة باهرة ، يقف في نهايته رجلان ضخمان تنحيا جانبا عندما أقبلوا عليهما ، ودلف الأربعة من الباب ذي المرايا الملونة ، كان المكان مكتظا ، ويبدو أن العيون قد انتبهت إلي المائدة الخضراء ، ونشوة اللعب ألهبت حرارته المشاعر والحواس ، وكانت رائحة العرق والعطر الممزوج برائحة الخمر تعبق المكان .
اتجه الشابان إلي المائدة الخضراء ، بينما جذبت الراقصة "عزيزا" من ذراعه ، وصاحت فيه بصوت منغم هازل :
ـ هيا يا حبيبي إلي الإثارة والحياة اللذيذة .
صاح وهو يتلفت حوله بتردد :
ـ لكني لا أعرف اللعب .
صاحت وهي تشير إلي المائدة والناس الذين اكتظوا حولها :
ـ افعل كما يفعلون .
وقف "عزيز" يرقب اللاعبين برهة من الزمن ، وبذكائه المتوقد استطاع أن يدرك ويفهم اللعبة ، فأخرج من جيب سترته فئة العشرين جنيها التي كان يملكها وقامر بها ، وكان الحظ حليفه ، ثم قامر بالمبالغ التي ربحها مرات عديدة ، وفي كل مرة يزداد ربحه ويتضاعف حتي أصبح لديه ثروة كبيرة .
وضعت الفتاة الحسناء التي تدير اللعب أوراق البنكنوت في كيس أنيق ، وحمل "عزيز" ثروته في يد ، بينما اتكأت الراقصة علي كتفه ، والتف ذراعه حولها ، واصطحبته خارج الملهي إلي سيارتها المنزوية في الشارع الجانبي للملهي .
صاحت في "عزيز" وهي تفتح باب سيارتها ، ثم تلقي نفسها وراء مقودها :
ـ هيا ، اركب .
استوي "عزيز" بجانبها وتساءل :
ـ إلي أين ؟
غمزت له بإحدى عينيها ، وابتسمت في نعومة ، وانسدل شعرها الطويل عليه ، وقالت وهي تميل برأسها علي كتفه:
ـ إلي بيتي طبعا يا حبيب قلبي .
شقت السيارة شوارع القاهرة الساكنة الهادئة في هذا الوقت من الليل ، وكانت قطرات الندى الرطب تتساقط بخفة علي زجاج السيارة الأمامي ، فأعملت فيهما المساحتين الأماميتين ، فأخذتا تتحركان في رتابة ، وصنعتا نصف دائرة شفافة وسط غبش الندى الرقيق .
توقفت السيارة أمام عمارة فخمة بأحد الشوارع الكبيرة شديدة الهدوء ، وكانت الأضواء الخافتة المنبعثة من أعمدة النور المتطاولة تزيد من رهبة الشارع الممتد . هبط الاثنان من السيارة واتجها إلي العمارة ، وما أن اختفيا داخل المصعد ، حتي توقفت سيارة بالقرب من سيارة الراقصة .
دخل "عزيز" بصحبة الراقصة إلي شقتها ، وكانت في غاية الاتساع والأناقة ، دفعته بنعومة إلي حجرة نومها ، وكان يقبع فيها سرير دائري مفروش بملاءة حريرية وردية اللون ، ضغطت المرأة بسبابتها علي زر الكهرباء فغمر المكان ضوء وردي مثير ، وأخذت تخلع ملابسها القليلة قطعة قطعة ، وجذبته ناحيتها وبدأت في نزع ملابسه ، والتحم جسداهما ، وبعد لحظات بدأ ذنب يمتد من خلف "عزيز أسفل ظهره وكان في نهايته نتوءات حادة كالأسنان ، وأخذ هذا الذنب يصفق الهواء بقوة ، وعندما لمحته المرأة فتحت عينيها علي آخرهما رعبا ، وحاولت أن تدفع "عزيز" بعيدا عنها ، وهي تصرخ صرخات مكتومة ، فأرغمتها قوته القاهرة وألصقتها مكانها ، وتجمد جسدها وقد ارتسم علي وجهها علامات فزع مروع ، والذنب الرهيب يقترب منها قاصفا الهواء ، ويهوي علي عنقها مطبقا عليه ، فأخذ جسدها ينتفض بعنف ، ثم ما لبث أن تراخي وهوت علي فراشها خامدة الأنفاس .
وثب إلي أرض الغرفة ، وذنبه الممتد يتلوى خلفه بغضب ، وفجأة اقتحم أحد الشابين اللذين كانا معه الحجرة ، وهو يصوب مسدسه ، وصرخ بتهكم وسخرية :
ـ اعطني النقود يا أحمق .
لم يلاحظ الشاب الذنب المختفي وراء صاحبه ، وصاح وهو يلوح بمسدسه تجاه كيس النقود الموضوع فوق منضدة صغيرة :
ـ هات الكيس ، وتقدم ببطء .
تناول "عزيز" الكيس وتقدم في بطء ، ومد ذراعه ليعطيه له ، وفي نفس الوقت وفي لمح البصر ، امتد الذنب المرعب حول الرجل ، وأطبق علي عنقه فسرى السم الزعاف في جسده ، وأخذ يدور حول نفسه في اضطراب متألم ، ليهوي جثة هامدة فوق السجادة الفخمة .
سمع "عزيز" بأذنيه المرهفتين صوت أقدام تتقدم بحرص إلي الحجرة ، فالتقط المسدس ، ووقف متربصا خلف الباب المنفرج قليلا ، عندما أقبل الآخر ، لم ير الذنب القاتل ، وهو يمتد نحوه ليطبق عليه أيضا ، ويخر صريعا بجوار زميله .
بعدما هدأت سورة "عزيز" أخذ الذنب ينكمش ببطء حتي تلاشي ، فارتدي ملابسه ، وتناول مفرشا صغيرا مسح به آثار بصماته ومسح المسدس بعناية ، وجعل صاحبه يقبض عليه بيده اليمني المرتخية الخالية من الحياة ، ثم دسه في جيب سترته ، وتناول كيس النقود ، وخرج متلصصا لا يلوي عن شيء
كانت الغرفة شديدة الظلام ، بعدما أسدلت عليها ستائر سوداء كثيفة ، وكان السرير خاويا ومرتبا ، لم يلمسه أو ينام عليه "عزيز" ، وفي صوان الملابس الكبير قبع هو داخله ساكنا لا يتحرك ، ولبث في هذا المكان الضيق عدة ساعات ، وتناهي لأذني "سكينة" بعد فترة سكون طويلة صوت باب حجرة "عزيز" ، وهو يفتح ، ومع ذلك لم تخرج من حجرتها بعد أن أغلقتها بإحكام ، فقد كانت تحذر الخطر المحدق ، والموت المؤكد الذي قد يتربص بها أو بأي مخلوق إذا اقترب من "عزيز" بعد خروجه مباشرة من مكمنه في الظلام ، فهو يكون في أشد حالات الهياج والخطر وعدم السيطرة علي نفسه في تلك اللحظات ، ولبثت قابعة في حجرتها قبل أن تفتح حجرتها وتبرحها متوجهة إلي حجرته المفتوحة ، فاستقبلها بترحاب وحرارة وهو يقول :
ـ أهلا يا ماما ، لقد افتقدتك كثيرا .
اندفع إليها وضمها بين ذراعيه بحنان بالغ ، وكان عمره قد بلغ السابعة عشر عاما ، وأصبح شديد الشبه بالدكتور "عزام" سواء في الطول والحجم ، حتي الطباع لم يسلم منها ، وبدأت شعيرات بيضاء تطل من شعره الأشقر ، لكنها لم تكن بالكثرة كما في شعر الآخر ، ولولا هذا الاختلاف الضئيل جدا لكانا متطابقين تماما . ابتسمت "سكينة" وهي تتطلع إليه ، ولاحظت أن الشعيرات البيضاء التي لمعت في رأسه هي في نفس المواضع من شعر الدكتور "عزام" .. فقالت :
ـ لقد أصبحت شديد الشبه بوالدك بشكل يثير الدهشة !!
قال غير مبال:
ـ لم أشعر يوما أنه والدي ، ومن العجيب حقا أنني ابنه !! ولولا الشبه الشديد بيني وبينه لقلت أنني لقيط .
صاحت "سكينة" توبخه :
ـ لا أحب أن أسمع منك هذا الكلام .
ثم أضافت آمرة :
-هيا الآن كي نستذكر معا .
لاح عليه الضيق والملل وهو يقول :
ـ لم يعد هناك شيء لأتعلمه ، فقد قرأت واستوعبت تماما كل الكتب التي ألفها الدكتور "عزام" ، وأيضا المراجع والكتب في علوم الطب والهندسة الوراثية ، وأريد أن أقرأ المزيد غير هذه الكتب .
صمت لحظات ، ثم أضاف وهو ينظر إليها ليري وقع كلماته علي وجهها
ـ أريد أن التحق بالجامعة ، وبقسم الهندسة الوراثية بالذات .
امتقع وجهها ، وصدمتها كلماته غير المتوقعة ، فازدردت ريقها واسترجعت أنفاسها اللاهثة ، ثم صرخت في هلع :
ـ لا ، لا يمكن أن تبتعد عن هذا المكان .
ثم قالت متلعثمة :
- أقصد ، أقصد بعيدا عني .
أمسك يدها برفق ، وقال مستعطفا :
ـ لم تتركوا لي خيارا لأذهب إلي المدرسة مثل باقي الأولاد ، والآن أريد أن التحق بالجامعة .
انتفض جسدها كريشة في مهب الريح ، وصرخت مرتعبة :
ـ لا يمكن ، هذا مستحيل .
قال وهو يبتسم بسخرية ليمتص انفعالات أمه المتوترة :
ـ إنني لم أجد من يزيد عني علما لكي أتلقن منه العلم ، حتي الدكتور "عزام" نفسه .
كانت "سكينة" تدرك تماما أن "عزيز" لم يجاف الحقيقة ، وأنه لم يبالغ في مقولته هذه ، فقد كان شغوفا مثل الدكتور "عزام" بهذا العلم ووصل إلي ذروة المعرفة فيه ، حتي أنها تكاد أن تشك في أنه يعرف كيفية مجيئه إلي هذه الحياة ، ولكنه مثل الدكتور "عزام" يحوطه الغموض ، ولا يعبر عن مكنون قلبه وما يحتوي كيانه من مشاعر وأحاسيس .
استأذنها "عزيز" ليتريض في الحديقة ، وفيما هو يهم بالخروج من باب الطابق الأول قابل الدكتور "عزام" ، فأصبحا وجها لوجه ، وكانا يتجنبان بشدة أن يتلاقيا في مكان واحد ، فقد انتابهما معا شعور مشترك من النفور والبغض البالغ ، فقد كان الدكتور"عزام" يري في نسخته سوءاته وعيوبه ، وعندما يطالعه وجهه الذي أصبح شكله تماما بعد أن اكتمل نضجه ، وكان بمثابة مرآة داخلية تفضح مشاعره وماضيه ، الذي طالما أحاطه الغموض .
كان يري وجهه الحقيقي البشع في هذا المخلوق ، شعر بالندم لانتظاره هذه السنين حتي كبر هذا النسخ ، وكان يجب أن يتخلص منه وهو لا يزال طفلا ، ولكن فضوله العلمي كان له بالمرصاد ، فقد كان ينتظر ماذا ستستقر عليه نسخته ومدي نجاحه ؟ والآن عليه أن ينتهز الفرصة السانحة للخلاص منه و"سكينة" ليختفيا عن ناظريه ومن الحياة إلي الأبد ، وإلا سيلحق اسمه اللامع الذي ذاع صيته في الآفاق العار علي يد هذا المخلوق بعد أن يفتضح أمره .
الغريب في الأمر أن "عزيزا" بادله هواجسه وأفكاره الجهنمية ، فأصبح نسخا أيضا لمشاعره ، تفتق في ذهنه ما يمكن أن يكونه إذا تخلص من هذا الرجل الذي يبغضه منذ كان صغيرا .
بدأ "عزيز" يشتاق للخروج إلي الحياة التي نفي عنها في هذه الفيلا المنعزلة ، كان متأكدا أن أمه سوف تنهاه عن الخروج متعللة الحجج ، وكان ثمة شيء غامض يدفعه إلي حب الخروج في الليل .
بالفعل استطاع أن يتسلل عند انتصاف الليل من الفيلا ، مشي عبر الحديقة الواسعة حتي وصل إلي السور المحيط بالفيلا ، فتسلق إحدى الأشجار العالية حتي استطاع أن يكون بمحاذاة السور ، فربط حبلا كان يحمله في جذع الشجرة القوي ، وتركه متدليا خارج السور ، ثم امتطاه وأخذ في الهبوط إلي خارج الأسوار، مشي عبر الطريق الجانبي القفر ، وكان الليل حالكا إلا من النجوم الخافتة التي ألقت ضوءها الكالح عندما وصل إلي الطريق .
كان ثمة سيارات قليلة تمرق في الطريق ، ووقف يلوح للسيارات العابرة ، وبعد وقت وقفت سيارة مصدرة صوتا منفرا بعد أن أعملت فراملها بقوة علي الطريق الإسفلتي ، وسمع من داخلها صوتا يقول بخشونة :
ـ هيا اركب بسرعة .
ألقي نفسه في الكرسي الخلفي للسيارة ، وكان يجلس في مقدمتها شابان ، كانا يضحكان بصخب شديد ، وسأله أحدهما :
ـ إلي أين أنت ذاهب ؟
أجاب "عزيز" في بساطة :
ـ إلي المكان الذي ستذهبان إليه .
صاح الشاب الذي يقود السيارة بسخرية:
ـ إننا ذاهبان إلي الشيطان .
هتف "عزيز" بإصرار:
ـ وهو كذلك .
دخل ثلاثتهم أحد الملاهي الليلية ، وكان صوت موسيقي راقصة تصدح في المكان ، اختلط بها صوت تصفيق وصرخات ماجنة ، ومن حين إلي آخر كان يتصاعد صوت تقارع الكئوس .
جلسوا حول منضدة ، وبدأ الشابان في احتساء الخمر ، وقدم أحدهما الخمر "لعزيز" وقال له آمرا :
ـ اشرب هذا الكأس .
تناول "عزيز" الكأس ، وألقاه في جوفه جرعة واحدة ، فنظر إليه الاثنان في استغراب ودهشة غامرة ، بينما كانت الراقصة تتمايل مع أنغام الموسيقي ، التصقت عيناها بمنضدتهم ، فغمز أحد الشابين لها فلم تلق بالا له ، وداخله غيظ وحنق عندما أدرك أنها ترمق عزيزا .
بعد أن انتهت من فقرتها ، ألقت ثوبا خفيفا علي جسدها ، واتجهت صوب "عزيز" ، والتصقت به في دلال ، وهي تقول :
ـ شرفت يا أستاذ ؟
قال "عزيز" وهو يبتسم " :
ـ "عزيز"
فقالت وهي تجذبه من يديه ، وتصيح بالشابين :
ـ هيا إلي اللعب .
مشت عبر الموائد المتراصة وهي تتمايل بنشوة علي كتف "عزيز" ، ومن وارءهما الشابان ، وقد شعرا بالحقد والحسد يملآن قلبيهما ؛ لإعجاب الراقصة لهذا الشاب الغامض دونهما ، ووصلوا إلي سلم في أقصي الملهي ، وصعدوا فيه ، ثم مشوا عبر مكان متسع أنيق مضاء بأضواء متعددة باهرة ، يقف في نهايته رجلان ضخمان تنحيا جانبا عندما أقبلوا عليهما ، ودلف الأربعة من الباب ذي المرايا الملونة ، كان المكان مكتظا ، ويبدو أن العيون قد انتبهت إلي المائدة الخضراء ، ونشوة اللعب ألهبت حرارته المشاعر والحواس ، وكانت رائحة العرق والعطر الممزوج برائحة الخمر تعبق المكان .
اتجه الشابان إلي المائدة الخضراء ، بينما جذبت الراقصة "عزيزا" من ذراعه ، وصاحت فيه بصوت منغم هازل :
ـ هيا يا حبيبي إلي الإثارة والحياة اللذيذة .
صاح وهو يتلفت حوله بتردد :
ـ لكني لا أعرف اللعب .
صاحت وهي تشير إلي المائدة والناس الذين اكتظوا حولها :
ـ افعل كما يفعلون .
وقف "عزيز" يرقب اللاعبين برهة من الزمن ، وبذكائه المتوقد استطاع أن يدرك ويفهم اللعبة ، فأخرج من جيب سترته فئة العشرين جنيها التي كان يملكها وقامر بها ، وكان الحظ حليفه ، ثم قامر بالمبالغ التي ربحها مرات عديدة ، وفي كل مرة يزداد ربحه ويتضاعف حتي أصبح لديه ثروة كبيرة .
وضعت الفتاة الحسناء التي تدير اللعب أوراق البنكنوت في كيس أنيق ، وحمل "عزيز" ثروته في يد ، بينما اتكأت الراقصة علي كتفه ، والتف ذراعه حولها ، واصطحبته خارج الملهي إلي سيارتها المنزوية في الشارع الجانبي للملهي .
صاحت في "عزيز" وهي تفتح باب سيارتها ، ثم تلقي نفسها وراء مقودها :
ـ هيا ، اركب .
استوي "عزيز" بجانبها وتساءل :
ـ إلي أين ؟
غمزت له بإحدى عينيها ، وابتسمت في نعومة ، وانسدل شعرها الطويل عليه ، وقالت وهي تميل برأسها علي كتفه:
ـ إلي بيتي طبعا يا حبيب قلبي .
شقت السيارة شوارع القاهرة الساكنة الهادئة في هذا الوقت من الليل ، وكانت قطرات الندى الرطب تتساقط بخفة علي زجاج السيارة الأمامي ، فأعملت فيهما المساحتين الأماميتين ، فأخذتا تتحركان في رتابة ، وصنعتا نصف دائرة شفافة وسط غبش الندى الرقيق .
توقفت السيارة أمام عمارة فخمة بأحد الشوارع الكبيرة شديدة الهدوء ، وكانت الأضواء الخافتة المنبعثة من أعمدة النور المتطاولة تزيد من رهبة الشارع الممتد . هبط الاثنان من السيارة واتجها إلي العمارة ، وما أن اختفيا داخل المصعد ، حتي توقفت سيارة بالقرب من سيارة الراقصة .
دخل "عزيز" بصحبة الراقصة إلي شقتها ، وكانت في غاية الاتساع والأناقة ، دفعته بنعومة إلي حجرة نومها ، وكان يقبع فيها سرير دائري مفروش بملاءة حريرية وردية اللون ، ضغطت المرأة بسبابتها علي زر الكهرباء فغمر المكان ضوء وردي مثير ، وأخذت تخلع ملابسها القليلة قطعة قطعة ، وجذبته ناحيتها وبدأت في نزع ملابسه ، والتحم جسداهما ، وبعد لحظات بدأ ذنب يمتد من خلف "عزيز أسفل ظهره وكان في نهايته نتوءات حادة كالأسنان ، وأخذ هذا الذنب يصفق الهواء بقوة ، وعندما لمحته المرأة فتحت عينيها علي آخرهما رعبا ، وحاولت أن تدفع "عزيز" بعيدا عنها ، وهي تصرخ صرخات مكتومة ، فأرغمتها قوته القاهرة وألصقتها مكانها ، وتجمد جسدها وقد ارتسم علي وجهها علامات فزع مروع ، والذنب الرهيب يقترب منها قاصفا الهواء ، ويهوي علي عنقها مطبقا عليه ، فأخذ جسدها ينتفض بعنف ، ثم ما لبث أن تراخي وهوت علي فراشها خامدة الأنفاس .
وثب إلي أرض الغرفة ، وذنبه الممتد يتلوى خلفه بغضب ، وفجأة اقتحم أحد الشابين اللذين كانا معه الحجرة ، وهو يصوب مسدسه ، وصرخ بتهكم وسخرية :
ـ اعطني النقود يا أحمق .
لم يلاحظ الشاب الذنب المختفي وراء صاحبه ، وصاح وهو يلوح بمسدسه تجاه كيس النقود الموضوع فوق منضدة صغيرة :
ـ هات الكيس ، وتقدم ببطء .
تناول "عزيز" الكيس وتقدم في بطء ، ومد ذراعه ليعطيه له ، وفي نفس الوقت وفي لمح البصر ، امتد الذنب المرعب حول الرجل ، وأطبق علي عنقه فسرى السم الزعاف في جسده ، وأخذ يدور حول نفسه في اضطراب متألم ، ليهوي جثة هامدة فوق السجادة الفخمة .
سمع "عزيز" بأذنيه المرهفتين صوت أقدام تتقدم بحرص إلي الحجرة ، فالتقط المسدس ، ووقف متربصا خلف الباب المنفرج قليلا ، عندما أقبل الآخر ، لم ير الذنب القاتل ، وهو يمتد نحوه ليطبق عليه أيضا ، ويخر صريعا بجوار زميله .
بعدما هدأت سورة "عزيز" أخذ الذنب ينكمش ببطء حتي تلاشي ، فارتدي ملابسه ، وتناول مفرشا صغيرا مسح به آثار بصماته ومسح المسدس بعناية ، وجعل صاحبه يقبض عليه بيده اليمني المرتخية الخالية من الحياة ، ثم دسه في جيب سترته ، وتناول كيس النقود ، وخرج متلصصا لا يلوي عن شيء