المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشاعر و الماجن و التابع



ليلى رابح
27/10/2007, 02:10 PM
الشاعر و الماجن و التابع


يحكى أن جلالة الملكة الـلغـة الأم عزمت على تزويج ابنتها الأميــــــرة " كلمة " بمن يحفظها ، و يصونها و يرفع شأنها و يعلّي مراتبها أينما كانت . و شاع الخبر سريعا في كل أرجاء المملكة ، فكان أول المسارعين لخطبتها شاعر و ماجن و تابع. كل منهم يدّعي ودّها و الرغبة في وصالها ، و يرسم لها معالم حياة ملؤها السعادة و الحب و التضحية لأجلها .

احتارت الكلمة في اختيار أحدهم ، فكلهم كانوا يجيدون التوّود إليها و لأمها و كلّهم يحلفون بعشقها ، لكن اللغة الأم كانت قد حسمت أمرها باعتبارها أعلم بمصلحة ابنتها لكنها مع ذلك استشارتها في إخضاع خطّابها لتجربة قاسية مريرة ، تختبر فيها حبّهم للكلمة و كيفية صونهم لها و استماتتهم في الدفاع عنها .
جمعت اللغة الأم الشاعر و الماجن و التابع و طرحت عليهم فكرة الاختبار حتى تتأكد من ولائهم لها ، و تحــملّهم المشاّق لأجل ابنتها . و طلبت من ثلاثتهم السفر في رحلة تدوم ثلاثة أشهر ليــس لهم فيها من زاد غير بعــض الماء و القوت ، و تركت لهم حرية التعبير بجمــيع أدواتها من القواعد و الصرف و النحو و أبنائها من الحروف و التعابير وكل أنواع الجناس و السجع و التضاد و الترادف حتى ترى ما يكون صنيعهم بها .

كانت التجربة قاسية و صعبة ، لكن السفر على حدّ زعم اللغة كان في كل الأزمان ، رغم مشقته متعة في حدّ ذاته و أفضل اختبار يكرم فيه المرء أو يهان ، فالاغتراب و البعد يظهر شيّم المرء كما يختبر قوة جلده و صبره على المحـــــان و الشدائد .

لم يكن بوسع الشاعر و التابع و الماجن رفض الاختبار ولم يكن لهم من بدّ سوى القبول و الخضوع لامتحان الملكة من أجل اعتلاء عرش اللغة و الظفر بالكلمة عروسا .

مضى الشاعر و التابع و الماجن ، و ليس معهم سوى بعض الماء اليسير، ساروا معا طويلا حتى كلّت أقدامهم ، لكن الشاعر مع ذلك ظلّ سعيدا بسيره في الطبيعة ، يحاكي أشجارها و أزهارها، فتتمايل الأغصان بين يديه و تحنو عليه الأوراق ، فيستظل بها .

واصلوا سيرهم إلى أن بلغوا أرضا قاحلة جدباء و قد أنهكهم التعب و العطش ، تضايق الماجن و التابع و ندما في سرّهما على قبول هذا الامتحان العسير، تساءلا ماذا بوسعهما أن يصنعا بأدوات اللغة و تعابيرها في هذه الأرض القاحلة ، الجدبة ، و بأي شيء ستنفعهم الكلمة و قد تقطّعت بهم الأنفاس .

ظلّ الشاعر يعاتب الشمس و يستجدي غوث السماء و هو يتضرع إلى الله بالدعاء و الصلاة و يستخدم من كلمات الرجاء ما يتوسّل به لحبّات المطر حتى إذا ما جنّ الليل و هم نيام في أحد الكهوف ، انشّقت السماء عن غيمة مدّرة فتساقط المطر غزيرا ، تضايق الماجن و التابع من صوت المطر الذي أيقظهما و أيقظ معهما إحساسهما بوجع الجوع ، .كانت حياة الماجن لا تحلو سوى في مجالس الأنـــس و بيوت السمر و لم لا القصور ، يغازل النساء و يترشف النبيذ المحلّى بوجودهن و المعتّق بطول مكوثهن ، و ظلّ يلعن لحظة قبوله الخضوع لهذا الاختبار المهين أمّا التابع فكان يرتجف تحت المطر و يبكي القصور و ديار الأغنياء الذين يتشدّق بمديحهم .أما الشاعر فكانت سعادته لا توصف و راح يراقص زخات المطر متنعما ببركة الله شاكرا استجابته لدعائه.

و في الصباح ، سار ثلاثتهم حتى بلغوا واحة قد فاض ماؤها من مطر البارحة ، و ربت نخلتها معانقة السماء شامخة ، حاول التابع صعود النخلة يستجدي ثمارها لكنه لم يفلح ، حاول الماجن استمالتها فلم تعطه إلى أن جاء الشاعر و استظل بها و قبّلها و سألها عن حالها و هو يناديها يا عمتنا النخلة و راح ينشد فيها أشعارا رائعة و ما أن هزّ جذعها إليه حتى تساقط عليه رطبها جنيّا ، أكل الشاعر من ثمارها وأطعم غريميه و هما متعجبين من أمره و أمرها، شرب ثلاثتهم من نهر الواحة ما أطفئوا به ظمأهم و ملئوا به قرابهم .
كانت اللغة الأم ترقب حالهم و تأتيها رسلها من الكلمات و العبارات بأخبارهم في اللحظة ذاتها التي يستخدمونها فيها .

اشتاق الماجن لساعات السمر و اللهو و المجون و تحرّق بشوق للقصور العامرة بالجواري و الدور الآهلة بالنساء. أما التابع فقد جفّ حلقه و تعبت قدماه و اشتاق للفراش الوثير الناعم و السير تابعا في حاشية الملوك .
أما الشاعر ، فكان مستأنسا بجمال البرّية ، فارسا شجاعا لا يخشى وحوش الغاب المفترسة فقد تعلّم الرماية و المبارزة و القتال قبل أن يتعلم الكلام.
سار ثلاثتهم إلى أن آنس الماجن نارا على بعد يسير منهم، تهلّل وجهه فرحا ، تقدم ثلاثتهم من النار فوجدوا مضارب قبيلة و وجدوا عند مشارفها حراسا أشدّاء. توّجس الماجن و التابع خيفة بينما أقدم الشاعر على مخاطبتهم و طلب عونهم .
قام حراس القبيلة بتفتيشهم فما وجدوا معهم سلاحا و لم يجدوا معهم إلا زادا يسيرا. مضوا بهم إلى رئيس القبيلة و ما أن رأى التابع رئيس القبيلة حتى جرت في عروقه الدماء و انبعثت فيها الحياة ، لم يجد التابع بلاطا يتمسّح به فاكتفى بالتمسّح بزرابي الخيمة العريضة و أنشد من قصائد المدح ما شــاء ، و رّنت الكلمة في مسمع رئيس القبيلة فاهتزت نفسه فرحا و فخرا و طربا ، ممّا حمله على إجزال العطاء له و لصاحبيه . وطاب مقام ثلاثتهم في القبيلة ينعمون بما تفضلّت عليهم كلمة التابع ، فكان أن فاز التابع بهذه الجولـــة ، و كانت اللغة ترقب استخدام التابع للكلمة و صمت الشاعر و الماجن .

و في أحد الأيام ، و بينما كان الماجن يتجول في أرجاء القبيلة لمح ثلاث من فتياتها، يضاهي جمال إحداهن الأخرى فتبعهن و هو مذهول و راح يتلصّص عليهن و هن عند العين يتراشقن بمياه الغدير و يغسلن أطــرافهن و يملأن القــراب و الجرار.
و راح الماجن ينشد من شعر الغزل ما فاق العفيف منه بكثير فقد وصف دقائق أنوثتهن و هو منتش مسحور ، حتى سمعه أحد رجال القبيلة الذي ثارت ثائرته فقاده الى رئيس القبيلة مذموما محسورا ، و التفتت النسوة إليه فرمينه بالحجارة ، اشتد غضب رئيس القبيلة ، وكاد أن يقطع رأسه ، إذ لم يرع الماجن حق الضيافة . تردّدت صيحات و صرخات الماجــــــن بطلب العفـــو و الصفح الى أن بلغت مسمع التابع و الشاعر اللّذان أسرعا لتفقد الأمر و رؤية غريمهم الماجن .

فإذا به وسط الساحة و قد أشهر فرسان القبيلة سيوفهم في وجهه و كاد عنقه يتدحرج بينهم ، أسرع التابع بالتملّق لرئيس القبيلة لاتقاء غضبه ، فرح الماجن بغوث التابع له ، و ظن أنه جاء ليخلّصه فإذا به ينشد مؤيدا رئيس القبيلة فيما يحكم به و لو كان بقتل الماجن ، فقد رأى التابع في ذلك تخلّصا من غريمه الماجن الذي ينافسه في الظفر بالكلمة و اعتلاء عرش اللغة .

لكن رئيس القبيلة الذي ثارت حمّيته ، كان شديد الغضب و التذمر و لم يلق بالا لكلمة التابع ، لكن الشاعر تقدّم منه و ترجّاه في دخول خيمته ، حتى إذا جلسا وزال بعض غضبه أنشد مذكرا بشيم الـــــكـــبار و خصال العفو عنـــــد المقدرة و التغاضي عن صغائر الأمور و بسط يد الإحسان للمسيء حتى يعتدل و يتوب.
كان الشاعر صادقا و قد رأف بحال الماجن الذي غلبته شهوته و ســار منقادا وراءها ، تأثر رئيس القبيلة بإنشاد الشاعر و أعجب بسـلاسة كلــماته و عمـــقها و صدقها و ووقعها على نفسه، فقد استثارت فيه شيم الكرام ، فكان منه أن خلىّ سبيل الماجن و طرده من القبيلة صاغرا ذليلا ، لكنه حكم بإهدار دمه إن رآه ثانية عند مشارف القبيلة ، و كان حكم رئيس القبيلة عدلا .
و تمكن ثلاثتهم من الخلاص بفضل حكمة الشاعر و معروفه ، و اللغة الأم تسجّل كل ذلك في غفلة منهم .
شكر الماجن الشاعر على موقفه و استاء كثيرا من التابع الذي باعه في أول فرصة سنحت له ، فلم يخاطب لسانه ، لسان الماجن طوال الطريق .

سار ثلاثتهم طويلا ، طويلا ، حتى أقبلوا على دخول بلدة كبيرة قد برزت حصونها و قصورها من بعيد .

كان التابع مبتهجا غاية البهجة ، عند مرأى القصور ففيها حياته و معاشه ، ذيلا يتبع السلاطين و الأمراء و ظلا لا يفارق أصحاب الجاه و المال و النفوذ فمعهم صلاحه و بقاؤه .
و لقد كان سروره يضاهي سرور الماجــــن الذي راح يتخــــيّل مجــــــالس الطرب و الأنس مع الجواري الحسان التي تعج حجرات القصور بهن. أما الشاعر فقد أعجب بالحصـون العالية و عمارة القــصور و الأزقة و الشوارع و بارك في سره العقول التي صمّمتها و الأيادي التي بنتها.و ذهل لمرآى جنود أشداء أقوياء و سأل الله أن يكونوا عونا لبـسط الحق و العدل و الخير في أرجاء البلدة و ما جاورها .
لكن ما أن دخل ثلاثتهم البلدة حتى رأوا أزقتها خالية إلا من بعض الــمارّة و رأوا أبوابها و دكاكينها تكاد تكون موصدة كلها إلا من بضع حوانيت . ازدادت حيرتهم و هم يرون الجنود يطوفون من حـين لآخر بيــن الشوارع و الأزقة ، مدججين بالسيوف و الرماح .

اقترب الشاعر من أحد الشيوخ فسأله عن قلة حركة الناس في هذه البلدة الكبيرة . و سرّ كثرة الجنود ، نصحه الشيخ بمغادرة البلدة سريعا إن لم تكن لهم فيها حاجة ملّحة ، فسلطانها جائر ، ظالم ، لا يرحم فقيرا و لا ضعيفا و لا يحنو على مسكين ، يستعبد رجالها و يستحي نساؤهم و يقتل أبناءهم و في ذلك بلاء شديد .
سمع أحد الحراس همس الشيخ للـــشاعر فنادى أصحابه ، فارتعد التــابع و الماجن و همّا بالفرار من البلدة. لكن الحرس و الجنود كانوا قد حاصروهم من كل جانب. و قام أحدهم بركل الشيخ الضعيف. حاول الشاعر أن يذود عنه، لكن عبثا ... فقد لفظ انفاسه بعد أن أوسعه الحراس ضربا . صرخ الشاعر في وجه الجنود و صعق بكلمة الحق فاهتز عرش اللغة ثم ما لبث ان سكن .
قاد الحراس ثلاثتهم إلى المعتقل و عرضوهم بعد مضي سبعة أيام على رئيس الجند الذي عزم على التحقيق معهم فقد حسبهم من الجواسيس .

كان رئيس الجند في جلسة سمر و مجون حينما أدخل عليه الحرس الشاعـر و الماجن و التابع . و لكن ما أن رأى التابــع رئيس الجند حتى تمسّح بثيابه و أنشد له ما يطيب له مسمعه و خاطره ،أعجب رئيس الجند بإنشاد التابع ، لكنه أعجب أكثر بإنشاد الماجن الذي راح يتفنن في التغزل بجواريه و يحسن وصفهن . ضحك رئيس الحرس من هذين و عزم على اتخاذهما نديمين له . بينما راح يسأل الشاعر عمّا يحسنه من الكلام ، لكن الشاعر ثارت ثائرته فهجاه و هجا صاحبيه فما كان مصيره إلا العودة وراء قضبان السجن الرهيب حيث العذاب الأليم .

و ذاع صيت التابع و الماجن في القصر حتى بلغ مسامع حاجب السلطان الذي أمر بإحضارهما ، فأنشد التابع في مجلس السلطان ما يطيب له خاطره و ينتشي له مسمعه و كان للماجن حظ أوفر في مجالس متعة السلطان و أنسه ، لكنه مع ذلك حرص على عدم التعرض لخاصة خاصته من النساء فلم ينس انه شارف على الموت عندما تحرّش بنساء القبيلة .

و عاش التابع و الماجن و قد امتهنا الكلمة و استخدماها أسوأ استخدام.

و في إحدى جلسات السلطان سأل الماجن و التابع عن سرّ تجمعهما و عن صاحبهما الشاعر فأخبراه ما كان منه في كل رحلتهما ، أعجب السلطان في سرّه بالشاعر و أمر بالإتيان به فإن هو أرضخه تعزّز سلطانه و ضمن انصياع الكل له ، سيّما بعد موقف الشاعر في سوق البلدة بعد مقتل الشيخ و ازدياد حنق الناس للسلطان أكثر فأكثر .

وقف الشاعر بين يدي السلطان فذكرّه بشيم الكبار و خصال العظماء ، كما فعل مع رئيس القبيلة ثم شكا له حال رعيته المظلومة الضعيفة و عبث جـنوده بهم و جورهم لهم ، لكن السلطان رأى في شجاعة الشاعر و فصاحة لسانه تطاولا عليه فضربه بكأسه و أمر بسجنه و تعذيبه مدى الحياة .
ۥحبس الشاعر طويلا و ظلّت الكلمة حبيسة ما دام الشاعر محبوسا ، تنتظر تحرّر حبيبها الشاعر و حريتها ، لم يغفل الشاعر عن محبوبته الكلمة ، فراح ينشد قصائده ليل نهار ، يحكي فيها المعاناة و الألم و الظلم و القسوة و يردّد معاني الرجولة و الشجاعة و الإقدام و المواجهة .
كان حارس الشاعر شديد الإعجاب بقصائده ينشدها دونما أن يفقهها حـــقا و يردّدها على أهله حتى صار أهله يردّدونها على أهل البلدة إلى أن شاعت بين الرعية بأسرها ، و قد كانت قصائده مفعمة بالروح الأبية ، ترفض الــــظلم و الظــــالمين و ترددت كلمة الحق في كل أرجاء البلــدة ، و اهتز عرش اللغة مجددا و لم يسكن أبدا هذه المرّة . و انتفض الشعب و ثار ضد السلطان الجائر و حرّروا الشاعر من سجنه و ظفر بالكلمة زوجة و اعتلى عرش اللغة ، لأنه بقي وفيا مخلصا للكلمة التي استحقها دونا عن التابــــع و الماجن .

ليلى رابح
27/10/2007, 02:10 PM
الشاعر و الماجن و التابع


يحكى أن جلالة الملكة الـلغـة الأم عزمت على تزويج ابنتها الأميــــــرة " كلمة " بمن يحفظها ، و يصونها و يرفع شأنها و يعلّي مراتبها أينما كانت . و شاع الخبر سريعا في كل أرجاء المملكة ، فكان أول المسارعين لخطبتها شاعر و ماجن و تابع. كل منهم يدّعي ودّها و الرغبة في وصالها ، و يرسم لها معالم حياة ملؤها السعادة و الحب و التضحية لأجلها .

احتارت الكلمة في اختيار أحدهم ، فكلهم كانوا يجيدون التوّود إليها و لأمها و كلّهم يحلفون بعشقها ، لكن اللغة الأم كانت قد حسمت أمرها باعتبارها أعلم بمصلحة ابنتها لكنها مع ذلك استشارتها في إخضاع خطّابها لتجربة قاسية مريرة ، تختبر فيها حبّهم للكلمة و كيفية صونهم لها و استماتتهم في الدفاع عنها .
جمعت اللغة الأم الشاعر و الماجن و التابع و طرحت عليهم فكرة الاختبار حتى تتأكد من ولائهم لها ، و تحــملّهم المشاّق لأجل ابنتها . و طلبت من ثلاثتهم السفر في رحلة تدوم ثلاثة أشهر ليــس لهم فيها من زاد غير بعــض الماء و القوت ، و تركت لهم حرية التعبير بجمــيع أدواتها من القواعد و الصرف و النحو و أبنائها من الحروف و التعابير وكل أنواع الجناس و السجع و التضاد و الترادف حتى ترى ما يكون صنيعهم بها .

كانت التجربة قاسية و صعبة ، لكن السفر على حدّ زعم اللغة كان في كل الأزمان ، رغم مشقته متعة في حدّ ذاته و أفضل اختبار يكرم فيه المرء أو يهان ، فالاغتراب و البعد يظهر شيّم المرء كما يختبر قوة جلده و صبره على المحـــــان و الشدائد .

لم يكن بوسع الشاعر و التابع و الماجن رفض الاختبار ولم يكن لهم من بدّ سوى القبول و الخضوع لامتحان الملكة من أجل اعتلاء عرش اللغة و الظفر بالكلمة عروسا .

مضى الشاعر و التابع و الماجن ، و ليس معهم سوى بعض الماء اليسير، ساروا معا طويلا حتى كلّت أقدامهم ، لكن الشاعر مع ذلك ظلّ سعيدا بسيره في الطبيعة ، يحاكي أشجارها و أزهارها، فتتمايل الأغصان بين يديه و تحنو عليه الأوراق ، فيستظل بها .

واصلوا سيرهم إلى أن بلغوا أرضا قاحلة جدباء و قد أنهكهم التعب و العطش ، تضايق الماجن و التابع و ندما في سرّهما على قبول هذا الامتحان العسير، تساءلا ماذا بوسعهما أن يصنعا بأدوات اللغة و تعابيرها في هذه الأرض القاحلة ، الجدبة ، و بأي شيء ستنفعهم الكلمة و قد تقطّعت بهم الأنفاس .

ظلّ الشاعر يعاتب الشمس و يستجدي غوث السماء و هو يتضرع إلى الله بالدعاء و الصلاة و يستخدم من كلمات الرجاء ما يتوسّل به لحبّات المطر حتى إذا ما جنّ الليل و هم نيام في أحد الكهوف ، انشّقت السماء عن غيمة مدّرة فتساقط المطر غزيرا ، تضايق الماجن و التابع من صوت المطر الذي أيقظهما و أيقظ معهما إحساسهما بوجع الجوع ، .كانت حياة الماجن لا تحلو سوى في مجالس الأنـــس و بيوت السمر و لم لا القصور ، يغازل النساء و يترشف النبيذ المحلّى بوجودهن و المعتّق بطول مكوثهن ، و ظلّ يلعن لحظة قبوله الخضوع لهذا الاختبار المهين أمّا التابع فكان يرتجف تحت المطر و يبكي القصور و ديار الأغنياء الذين يتشدّق بمديحهم .أما الشاعر فكانت سعادته لا توصف و راح يراقص زخات المطر متنعما ببركة الله شاكرا استجابته لدعائه.

و في الصباح ، سار ثلاثتهم حتى بلغوا واحة قد فاض ماؤها من مطر البارحة ، و ربت نخلتها معانقة السماء شامخة ، حاول التابع صعود النخلة يستجدي ثمارها لكنه لم يفلح ، حاول الماجن استمالتها فلم تعطه إلى أن جاء الشاعر و استظل بها و قبّلها و سألها عن حالها و هو يناديها يا عمتنا النخلة و راح ينشد فيها أشعارا رائعة و ما أن هزّ جذعها إليه حتى تساقط عليه رطبها جنيّا ، أكل الشاعر من ثمارها وأطعم غريميه و هما متعجبين من أمره و أمرها، شرب ثلاثتهم من نهر الواحة ما أطفئوا به ظمأهم و ملئوا به قرابهم .
كانت اللغة الأم ترقب حالهم و تأتيها رسلها من الكلمات و العبارات بأخبارهم في اللحظة ذاتها التي يستخدمونها فيها .

اشتاق الماجن لساعات السمر و اللهو و المجون و تحرّق بشوق للقصور العامرة بالجواري و الدور الآهلة بالنساء. أما التابع فقد جفّ حلقه و تعبت قدماه و اشتاق للفراش الوثير الناعم و السير تابعا في حاشية الملوك .
أما الشاعر ، فكان مستأنسا بجمال البرّية ، فارسا شجاعا لا يخشى وحوش الغاب المفترسة فقد تعلّم الرماية و المبارزة و القتال قبل أن يتعلم الكلام.
سار ثلاثتهم إلى أن آنس الماجن نارا على بعد يسير منهم، تهلّل وجهه فرحا ، تقدم ثلاثتهم من النار فوجدوا مضارب قبيلة و وجدوا عند مشارفها حراسا أشدّاء. توّجس الماجن و التابع خيفة بينما أقدم الشاعر على مخاطبتهم و طلب عونهم .
قام حراس القبيلة بتفتيشهم فما وجدوا معهم سلاحا و لم يجدوا معهم إلا زادا يسيرا. مضوا بهم إلى رئيس القبيلة و ما أن رأى التابع رئيس القبيلة حتى جرت في عروقه الدماء و انبعثت فيها الحياة ، لم يجد التابع بلاطا يتمسّح به فاكتفى بالتمسّح بزرابي الخيمة العريضة و أنشد من قصائد المدح ما شــاء ، و رّنت الكلمة في مسمع رئيس القبيلة فاهتزت نفسه فرحا و فخرا و طربا ، ممّا حمله على إجزال العطاء له و لصاحبيه . وطاب مقام ثلاثتهم في القبيلة ينعمون بما تفضلّت عليهم كلمة التابع ، فكان أن فاز التابع بهذه الجولـــة ، و كانت اللغة ترقب استخدام التابع للكلمة و صمت الشاعر و الماجن .

و في أحد الأيام ، و بينما كان الماجن يتجول في أرجاء القبيلة لمح ثلاث من فتياتها، يضاهي جمال إحداهن الأخرى فتبعهن و هو مذهول و راح يتلصّص عليهن و هن عند العين يتراشقن بمياه الغدير و يغسلن أطــرافهن و يملأن القــراب و الجرار.
و راح الماجن ينشد من شعر الغزل ما فاق العفيف منه بكثير فقد وصف دقائق أنوثتهن و هو منتش مسحور ، حتى سمعه أحد رجال القبيلة الذي ثارت ثائرته فقاده الى رئيس القبيلة مذموما محسورا ، و التفتت النسوة إليه فرمينه بالحجارة ، اشتد غضب رئيس القبيلة ، وكاد أن يقطع رأسه ، إذ لم يرع الماجن حق الضيافة . تردّدت صيحات و صرخات الماجــــــن بطلب العفـــو و الصفح الى أن بلغت مسمع التابع و الشاعر اللّذان أسرعا لتفقد الأمر و رؤية غريمهم الماجن .

فإذا به وسط الساحة و قد أشهر فرسان القبيلة سيوفهم في وجهه و كاد عنقه يتدحرج بينهم ، أسرع التابع بالتملّق لرئيس القبيلة لاتقاء غضبه ، فرح الماجن بغوث التابع له ، و ظن أنه جاء ليخلّصه فإذا به ينشد مؤيدا رئيس القبيلة فيما يحكم به و لو كان بقتل الماجن ، فقد رأى التابع في ذلك تخلّصا من غريمه الماجن الذي ينافسه في الظفر بالكلمة و اعتلاء عرش اللغة .

لكن رئيس القبيلة الذي ثارت حمّيته ، كان شديد الغضب و التذمر و لم يلق بالا لكلمة التابع ، لكن الشاعر تقدّم منه و ترجّاه في دخول خيمته ، حتى إذا جلسا وزال بعض غضبه أنشد مذكرا بشيم الـــــكـــبار و خصال العفو عنـــــد المقدرة و التغاضي عن صغائر الأمور و بسط يد الإحسان للمسيء حتى يعتدل و يتوب.
كان الشاعر صادقا و قد رأف بحال الماجن الذي غلبته شهوته و ســار منقادا وراءها ، تأثر رئيس القبيلة بإنشاد الشاعر و أعجب بسـلاسة كلــماته و عمـــقها و صدقها و ووقعها على نفسه، فقد استثارت فيه شيم الكرام ، فكان منه أن خلىّ سبيل الماجن و طرده من القبيلة صاغرا ذليلا ، لكنه حكم بإهدار دمه إن رآه ثانية عند مشارف القبيلة ، و كان حكم رئيس القبيلة عدلا .
و تمكن ثلاثتهم من الخلاص بفضل حكمة الشاعر و معروفه ، و اللغة الأم تسجّل كل ذلك في غفلة منهم .
شكر الماجن الشاعر على موقفه و استاء كثيرا من التابع الذي باعه في أول فرصة سنحت له ، فلم يخاطب لسانه ، لسان الماجن طوال الطريق .

سار ثلاثتهم طويلا ، طويلا ، حتى أقبلوا على دخول بلدة كبيرة قد برزت حصونها و قصورها من بعيد .

كان التابع مبتهجا غاية البهجة ، عند مرأى القصور ففيها حياته و معاشه ، ذيلا يتبع السلاطين و الأمراء و ظلا لا يفارق أصحاب الجاه و المال و النفوذ فمعهم صلاحه و بقاؤه .
و لقد كان سروره يضاهي سرور الماجــــن الذي راح يتخــــيّل مجــــــالس الطرب و الأنس مع الجواري الحسان التي تعج حجرات القصور بهن. أما الشاعر فقد أعجب بالحصـون العالية و عمارة القــصور و الأزقة و الشوارع و بارك في سره العقول التي صمّمتها و الأيادي التي بنتها.و ذهل لمرآى جنود أشداء أقوياء و سأل الله أن يكونوا عونا لبـسط الحق و العدل و الخير في أرجاء البلدة و ما جاورها .
لكن ما أن دخل ثلاثتهم البلدة حتى رأوا أزقتها خالية إلا من بعض الــمارّة و رأوا أبوابها و دكاكينها تكاد تكون موصدة كلها إلا من بضع حوانيت . ازدادت حيرتهم و هم يرون الجنود يطوفون من حـين لآخر بيــن الشوارع و الأزقة ، مدججين بالسيوف و الرماح .

اقترب الشاعر من أحد الشيوخ فسأله عن قلة حركة الناس في هذه البلدة الكبيرة . و سرّ كثرة الجنود ، نصحه الشيخ بمغادرة البلدة سريعا إن لم تكن لهم فيها حاجة ملّحة ، فسلطانها جائر ، ظالم ، لا يرحم فقيرا و لا ضعيفا و لا يحنو على مسكين ، يستعبد رجالها و يستحي نساؤهم و يقتل أبناءهم و في ذلك بلاء شديد .
سمع أحد الحراس همس الشيخ للـــشاعر فنادى أصحابه ، فارتعد التــابع و الماجن و همّا بالفرار من البلدة. لكن الحرس و الجنود كانوا قد حاصروهم من كل جانب. و قام أحدهم بركل الشيخ الضعيف. حاول الشاعر أن يذود عنه، لكن عبثا ... فقد لفظ انفاسه بعد أن أوسعه الحراس ضربا . صرخ الشاعر في وجه الجنود و صعق بكلمة الحق فاهتز عرش اللغة ثم ما لبث ان سكن .
قاد الحراس ثلاثتهم إلى المعتقل و عرضوهم بعد مضي سبعة أيام على رئيس الجند الذي عزم على التحقيق معهم فقد حسبهم من الجواسيس .

كان رئيس الجند في جلسة سمر و مجون حينما أدخل عليه الحرس الشاعـر و الماجن و التابع . و لكن ما أن رأى التابــع رئيس الجند حتى تمسّح بثيابه و أنشد له ما يطيب له مسمعه و خاطره ،أعجب رئيس الجند بإنشاد التابع ، لكنه أعجب أكثر بإنشاد الماجن الذي راح يتفنن في التغزل بجواريه و يحسن وصفهن . ضحك رئيس الحرس من هذين و عزم على اتخاذهما نديمين له . بينما راح يسأل الشاعر عمّا يحسنه من الكلام ، لكن الشاعر ثارت ثائرته فهجاه و هجا صاحبيه فما كان مصيره إلا العودة وراء قضبان السجن الرهيب حيث العذاب الأليم .

و ذاع صيت التابع و الماجن في القصر حتى بلغ مسامع حاجب السلطان الذي أمر بإحضارهما ، فأنشد التابع في مجلس السلطان ما يطيب له خاطره و ينتشي له مسمعه و كان للماجن حظ أوفر في مجالس متعة السلطان و أنسه ، لكنه مع ذلك حرص على عدم التعرض لخاصة خاصته من النساء فلم ينس انه شارف على الموت عندما تحرّش بنساء القبيلة .

و عاش التابع و الماجن و قد امتهنا الكلمة و استخدماها أسوأ استخدام.

و في إحدى جلسات السلطان سأل الماجن و التابع عن سرّ تجمعهما و عن صاحبهما الشاعر فأخبراه ما كان منه في كل رحلتهما ، أعجب السلطان في سرّه بالشاعر و أمر بالإتيان به فإن هو أرضخه تعزّز سلطانه و ضمن انصياع الكل له ، سيّما بعد موقف الشاعر في سوق البلدة بعد مقتل الشيخ و ازدياد حنق الناس للسلطان أكثر فأكثر .

وقف الشاعر بين يدي السلطان فذكرّه بشيم الكبار و خصال العظماء ، كما فعل مع رئيس القبيلة ثم شكا له حال رعيته المظلومة الضعيفة و عبث جـنوده بهم و جورهم لهم ، لكن السلطان رأى في شجاعة الشاعر و فصاحة لسانه تطاولا عليه فضربه بكأسه و أمر بسجنه و تعذيبه مدى الحياة .
ۥحبس الشاعر طويلا و ظلّت الكلمة حبيسة ما دام الشاعر محبوسا ، تنتظر تحرّر حبيبها الشاعر و حريتها ، لم يغفل الشاعر عن محبوبته الكلمة ، فراح ينشد قصائده ليل نهار ، يحكي فيها المعاناة و الألم و الظلم و القسوة و يردّد معاني الرجولة و الشجاعة و الإقدام و المواجهة .
كان حارس الشاعر شديد الإعجاب بقصائده ينشدها دونما أن يفقهها حـــقا و يردّدها على أهله حتى صار أهله يردّدونها على أهل البلدة إلى أن شاعت بين الرعية بأسرها ، و قد كانت قصائده مفعمة بالروح الأبية ، ترفض الــــظلم و الظــــالمين و ترددت كلمة الحق في كل أرجاء البلــدة ، و اهتز عرش اللغة مجددا و لم يسكن أبدا هذه المرّة . و انتفض الشعب و ثار ضد السلطان الجائر و حرّروا الشاعر من سجنه و ظفر بالكلمة زوجة و اعتلى عرش اللغة ، لأنه بقي وفيا مخلصا للكلمة التي استحقها دونا عن التابــــع و الماجن .

طه خضر
28/10/2007, 06:55 PM
هي الكلمة، ولا شيء غيرها؛ فهي التي تحوي إكسير الحياة وسر الموت، وهي سيف ماض ٍ لا يثلم في يد صاحبه إذا ما صانها وأجاد توظيفها كما ينبغي وفي الوقت الذي ينبغي، ومن قال أن الشعراء والكتاب لا يصلحون لسياسة الناس؟ فلو كان لي من الأمر شيئا لجعلت على رأس كل بلد شاعر!

احترامي وتقديري للفكرة العبقرية والكلمة المحكيّة ببراعة وسهولة ممتنعة ..

ليلى رابح
29/10/2007, 12:32 PM
الأخ الفاضل طه خضر

اشكر لك قرائتك المتأنية
و نصرتك للشعراء
هي الكلمة كحد السيف الصارم
هي الكلمة تعلو بصاحبها لأرقى الدرجات
و قد تدنو به في الدرك الاسفل

قد ثرت لما رايت من امتهان لها
على لسان أشباه الشعراء من قوم تبّع و من أصحاب المجون .
هي دعوة للشاعر الحق ليتبوأ المكانة التي يستحقها و ليصدع بالحق و الخير و الجمال و الحرية .


سعيدة بمداخلتك و تشجيعك لي

تحياتي