المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفصل الحادي عشر من رواية الرجل العقرب



فايزة شرف الدين
27/10/2007, 03:01 PM
اشتعال الحب :
استفاق "عزيز" من أثر المخدر ، وكانت عيناه مغمضتان نصف إغماضة ، ولم يتذكر شيئا مما حدث في بداية الأمر ، وأخذ يقلب عينيه في المكان في حيرة ، ثم بدأ يستعيد أفكاره رويدا رويدا ، عندما صوب عينيه تجاه المسوخ ، وأدرك ما حدث عندما رآها تتقاذف عظاما آدمية ، فابتسم بسخرية وصاح في نفسه شامتا:
ـ هذه ما تبقي منك يا دكتور "عزام" !!
قام وهو يترنح وصعد في السلالم المؤدية إلي المعمل ، ودلف إلي حجرة النوم الملحقة بالمعمل وبات المتبقي من الليل فيها حتي منتصف النهار التالي .
لبث "عزيز" في المعمل عدة أيام ، استكمل فيها التجارب الموجودة بالمختبر ، والتي كان يقوم بها الدكتور "عزام" ، وتيقن من كفاءته أنه مهيأ لانتحال شخصية الدكتور "عزام" .
عندما عاد إلي الفيلا ، واستقبله الخادم ، وهو يصيح بفرح وترحاب :
ـ حمدا لله علي سلامتك يا دكتور "عزام"
ابتسم بتهكم ، ونظر من ركن عينيه للرجل ، فقد أدرك أن أحدا لن يشك في أمره ، وأن الخادم الذي قضي مع الدكتور "عزام" ولبث معه عمرا مديدا ، ثم رباه هو أيضا منذ كان صغيرا ، لم يعرفه وظنه سيده ، مع أنه كان متواطئا معه في مؤامرة قتله وأمه .
أما الدكتور "أسعد" وكان قد قرأ عنه في مذكرات الدكتور "عزام" فمع أنه شارك في تخليقه وحضر ولادته ، فهو لم يره أبدا في الفيلا ، ولا يتذكر أنه قد رآه إلا عندما كان يرقب الدكتور "عزام" وعلل عدم تردده علي الفيلا بعد ولادته بأن الأول كان يحتفظ بأمر نسخته سرا ، ويحوطها بالكتمان والغموض ، حتي عن أقرب مساعديه ، وربما هذا يعود لنية الدكتور "عزام" علي التخلص منه سريعا هو وأمه ، ولكن هذا القرار تمهل فيه بعد ذلك لظروف ما ، قد يكون منها إرضاء غروره وتيقنه من نجاح تجربته .
بدأ "عزيز" يدرس موقف الدكتور "أسعد" من جميع الوجوه ، فلديه أسباب قوية تجعله يخشى هذا الرجل ، فهو علي يقين بأنه يعرف سره الرهيب ، ويعلم بأمر وجوده و" سكينة" في الفيلا ، بالإضافة إلي أنه الرجل المقرب إلي الدكتور "عزام" ، وأقل خطأ منه قد يوقع في قلبه الشك والريبة ، فعليه أن يكون حذرا معه .
أخذت المشاعر المتضاربة تعتمل في صدر "عزيز" ، فعندما نظر حوله في الفيلا ومشي في أرجائها ، ووجدها خاوية إلا من الخادم داخلته طمأنينة وارتياح ، فليس هناك من يزعجه أو يرقب تصرفاته ، فدائما كان ينتابه قلق شديد عندما كان يستشعر نظرات أمه وهي تحدجه وترقبه من بعيد أو عن كثب ، وفي نفس الوقت كان شعورا من الرثاء والحزن يعتريه عندما يتذكرها ، ويتتابع شريط حياتها أمام عينيه .. ثم نهايتها الرهيبة بين يديه . داخله شعور أنه سوف يحيا حياته الحقيقية ، والتي هي امتداد طبيعي لحياة الدكتور "عزام" ، وليس نسخته التي تعيش في الظلام بعيدا عن الشهرة والمجد وقد حصد الرجل هذا كله في حياته .
أخذ "عزيز" يقضي ساعات طويلة في حجرة المكتب في قراءة المراجع العلمية والإعداد للمحاضرات التي سوف يلقيها ، إلى جانب استكمال بعض الأبحاث التي بدأ الدكتور "عزام" في الشروع فيها ولم ينته منها بعد ، وأصبح الطريق أمامه معبدا ، ومع ذلك فقد أصابه توتر عارم عندما تذكر أنه سيكون قريبا من "سارة" ، أحس بدقات قلبه تتتابع ، وهو يتخيل أنفاسها الحارة تلفح وجهه ، وأناملها الرقيقة تداعبه ، فلقد أصبحت له الآن ، ولن يستطيع إنسان أن يأخذها منه .
مرقت السيارة "الرولزرويس" الرمادية من بوابة الجامعة ، وكان بداخلها نسخة الدكتور "عزام" الذي كان يحمل في كيانه طبائع وصفات الدكتور "عزام" ، فهذا قدره الذي لا يستطيع منه فكاكا . والآن انسلخ من جلده القديم ليصبح الدكتور "عزام" نفسه ولم يعد نسخته . تطلع من نافذة السيارة إلي الساعة العريقة القابعة في مكانها منذ سنين طوال وهي تشهد حركة الحياة في تلك الجامعة ، لتكون عليه شاهدة كأستاذ جامعي ، وكان يشعر بالفخر ، وهو يتوقف بالسيارة أمام مبني كلية العلوم ويلجها بأقدام ثابتة ، صعد السلم إلي المكتب ، وبعد لحظات أقبل عليه الدكتور "أسعد" وقد ارتسمت علي وجهه علامات القلق ، وهتف به قائلا :
ـ لقد أصابني القلق الشديد لغيابك طوال هذه الفترة عن الكلية علي غير عادتك ، ولقد فكرت كثيرا أن اطمئن عليك علي الرغم من أنك أمرتني بعد الاتصال بالفيلا هاتفيا ، وأن أنال فترة من الراحة بعيدا عن معمل الأبحاث .
كان يبدو علي "عزيز" آثار شحوب وإرهاق شديدين ، فنظر بعينيه الغائرتين إلي الدكتور "أسعد" ، وقال وهو يبتسم ابتسامة باهتة :
ـ أشكرك علي مشاعرك يا دكتور "أسعد" ، لقد كنت بالفعل مريضا الأيام الماضية ، وأنا الآن في دور النقاهة .
حدجه الدكتور "أسعد" بدهشة ، وقد لاحظ أن عينيه اللتين كانت تشتعلان بالبريق الشبيه باللهب قد انطفأ لمعانهما ، ولمح من ركنيهما انكسارا لم يألفه في نظرة الدكتور "عزام" الملتهبة .
سادت بينهما لحظة صمت ، ثم هتف الدكتور "أسعد" بسرعة :
ـ حمدا لله علي سلامتك يا دكتور .. ثم أضاف بتردد ..
ـ حسب الجدول الزمني الذي وضعته للمشروع الجديد ، فإننا بذلك قد تأخرنا كثيرا ، وعلينا أن نعوض ما فاتنا بأقصى سرعة ممكنة .
أدرك "عزيز" مقصد الدكتور "أسعد" ، فلقد قرأ في أجندة الدكتور "عزام" عن مشروع يهدف إلي إدماج الآلة في مخ الإنسان ، وبرمجة عقله بالكمبيوتر ، وبذلك يكتسب مهارات جديدة ، ومع أنه لم يجد أثرا لهذا المشروع في الملفات الكثيرة الموجودة بحجرة المكتب فقد قال في ثقة :
ـ نعم ، لقد وضعت أفكارا جديدة لهذا المشروع ، وسوف نبحثها معا قبل بدء التجارب .
تنفس الدكتور "أسعد" بارتياح ، وهتف في انفعال :
ـ سيكون لنا السبق العلمي في هذا المضمار .
وبينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث ، تطرق لأذنيهما نقرا رقيقا علي الباب ، فتتابعت دقات قلب "عزيز" بعنف ، فقد تكهن أن يد "سارة" الرقيقة هي التي تلامسه ، واشتم رائحة عطرها قبل أن تدلف الباب .
دخلت "سارة" يسبقها طيفها الرائع ، وتقدمت صوب "عزيز" ، كانت عيناها تحملان لوما وعتابا صامتين وهي تنظر إليه ، ومدت يدها لتلقي التحية ، فقام من مقعده وامتدت يده المرتجفة وعيناه تفضح ولعه الغامر بها ، غمغمت "سارة" :
ـ حمدا لله علي عودتك بالسلامة يا دكتور "عزام" ؟!
احتوت راحته يدها ، وقال وهو يلقف أنفاسه :
ـ سامحيني يا "سارة" ، لقد كنت مريضا طوال هذه المدة .
جزعت جزعا بالغا ، وصاحت :
ـ سلامتك يا دكتور "عزام" .
أدركت "سارة" وجود الدكتور "أسعد" الجالس قبالة المكتب ، فاحمر وجهها ، وقالت بصوت خافت :
ـ أهلا يا دكتور "أسعد" .
شعر الأخير بارتباك ، واختلج وجهه وهو يرد علي تحيتها ، ثم استأذن في الانصراف وهو يتعثر في خطواته . جلست "سارة" في المقعد المقابل لمقعد الدكتور "أسعد" الذي كان يجلس عليه ، وقالت ، وأنفاسها الحارة تلفح وجه "عزيز" :
ـ لماذا لم تتصل بي ، وتخبرني أنك مريض ؟
شعر "عزيز" بأن كل سعادة الدنيا تحيطه ، وأنه لا يريد من الحياة شيئا سوى هذه الفتاة ، فهتف وهو يمد يده ليضعها فوق يدها برفق :
ـ حبيبتي خفت عليك الحزن ، فأنت خلقت لتسعدي .
قالت معترضة وهي ترمقه بقلق :
ـ لا تعاملني مثل الدمية ، فيجب أن أشاركك أحزانك كما أشاركك أفراحك ، ألم نتفق علي هذا من قبل ؟
داخلت "عزيز" غيرة غامرة من هذا الماضي ، ومن الفقيد الذي بادلته "سارة" الحب ، فحاول أن يخفي مشاعره ، فصاح وهو يرفع يدها بين راحتيه :
ـ أنت الحياة نفسها يا"سارة" وأنا بدونك أشعر بالفناء ، فعندما رأيتك لأول مرة أحسست طعما لحياتي الخاوية من كل عاطفة أو حب .
كان "عزيز" لا يبالغ في عواطفه المتدفقة ، فقد ارتسمت علي خلجات وجهه ، فجعل "سارة" تصرخ وهي تغمض عينيها نشوة :
ـ "عزام" أنت اليوم مستحيل !! ثم أضافت وهي ترمقه بإعجاب غامر :
ـ إنني أشعر أنك اليوم مختلف بشكل غريب !
تساءل بلهفة :
ـ إلي الأسوأ ، أم الأفضل يا ترى ؟
صاحت وهي تضحك برقة :
ـ طبعا الأفضل ، فإنني أحب هذه العاطفة القوية التي تشعرني بمدى حبك لي .
تناهي لأذنيهما دقات الساعة العتيقة معلنة العاشرة صباحا ، فهتفت "سارة" وهي تسحب يدها بلطف من راحته :
ـ ميعاد محاضرتك يا دكتوري العزيز .
تقدم "عزيز" بكل ثقة إلي قاعة المحاضرات ، وفي أثناء محاضرته كان يستمد من "سارة" الشجاعة ليواصل شرحه المتدفق ، ورأى في عينيها ورمقاتها إعجابا يتضاعف بأستاذها ، بينما كان الطلبة ينصتون باهتمام بالغ ، فأخذ يصيغ الكلمات ، ويحلل المفاهيم العلمية بشكل رائع خلاب .
بعد انتهاء المحاضرة انتاب الطلبة شغف شديد لاستطلاع هذا العلم الذي سيغير مسار البشرية ، فقام أحدهم وهو يتساءل :
ـ ما رأيك يا دكتور "عزام" في الاستنساخ البشري ؟
غطت سحابة سوداء وجه "عزيز" وشعر بمرارة وغصة في حلقه وهو يقول في أسي :
ـ إن الاستنساخ ما هو إلا نكوص بالبشرية إلي الوراء ، وليس تطورا . الأصل في الحياة هو التطور ، والنسخ ما هو إلا تكرار ممل وليس إضافة ، ثم أفترض أن هناك شخصا ونسخته ، وأحب الاثنان شيئا واحدا ، فلابد أن يحدث صراع بينهما ، وقد يكون مصير أحد الاثنين هو الهلاك ، فالحياة منذ الأزل قامت علي تباين الاحتياجات والأرزاق .
كان رأي "عزيز" في الاستنساخ البشري هو النتيجة التي توصل إليها الدكتور "عزام" ، عندما أدرك وهو يرى "عزيز" يكبر أمامه أنه قد ارتكب خطأ رهيبا ، وأنه لم يعد يطيق أن يرى نفسه ، وبدأت أفكاره في الاستنساخ البشري تأخذ منحى آخر ، فالتجربة التي قام بها كانت مريرة ، وكان "عزيز" يشعر بهذه المرارة في كل لحظة من حياته ، وكأن هذا السؤال قد نتأت جراحه التي لم تلتئم ، ولن تلتئم أبدا .
بعد محاضرته أقبلت "سارة" علي مكتبه ، وشعر براحة كبيرة عند رؤياها ، لقد ولدت لديه أحاسيس لم تراوده قبلا ، إحساس بالحب يغمره ، ولم تعد تراوده تلك الرغبة المجنونة في الفتك والقتل وسلب الحياة .
هتفت وهي ترمقه بعينيها الجميلتين ، وقد ارتسمت علامات التساؤل الممزوجة بالقلق :
ـ لقد لاحظت علي وجهك توترا شديدا أثناء المحاضرة ، والآن ألمح في عينيك حزنا عميقا لا أدري سببه !!
أخذ نفسا عميقا ، كأنما يتنفس الضيق والأسى ، ثم غمغم بعد لحظة صمت ، وهو يطرق بعينيه إلي أسفل حتي لا تلتقي عيناهما وتسبر غوره وتكشف خبيئة نفسه :
ـ إنني نادم علي الأيام التي عشتها قبل أن ألقاك ، وعندما أفكر في السنين التي مرت دونك أحس بالألم يعتصر قلبي .
أغمضت "سارة" عينيها ، واختلجت عضلات وجهها وقد احمر حتي أصبح قانيا ، هتفت بصوت شجي عميق :
ـ ينتابني إحساس لم أشعر به من قبل وأنا معك ، فدائما كنت أحب فيك الأستاذ القدوة ، ولكن في هذه اللحظة أشعر أنك ملكت قلبي بشكل غامض ، والحقيقة أنني حائرة من هذا الإحساس الرائع الذي غمرني اليوم .
اختفي فجأة الانكسار والحزن من عيني "عزيز" ، وتألقت عيناه ببريق متدفق ، وصرخ بحرارة :
ـ "سارة" حبيبتي ، لقد عرفت السعادة معك ، وأرجو ألا تندمي علي حبك لي يوما ، فدائما تذكري أنني أحببتك أكثر من نفسي ومن أي شيء في الوجود ، فأنت كينونتي في هذا الكون .
ساد بينهما لحظات من الصمت ، وكانت عيناهما تتعانقان وتتصارحان بعبارات غير منطوقة ، ومع ذلك فقد كانت أبلغ من الكلام الحار ، ثم جذبها برقة وهو يهتف :
ـ هيا يا حبيبتي ، فإنني أدعوك للعشاء في أجمل بقعة في العالم .

فايزة شرف الدين
27/10/2007, 03:01 PM
[اشتعال الحب :

استفاق "عزيز" من أثر المخدر ، وكانت عيناه مغمضتان نصف إغماضة ، ولم يتذكر شيئا مما حدث في بداية الأمر ، وأخذ يقلب عينيه في المكان في حيرة ، ثم بدأ يستعيد أفكاره رويدا رويدا ، عندما صوب عينيه تجاه المسوخ ، وأدرك ما حدث عندما رآها تتقاذف عظاما آدمية ، فابتسم بسخرية وصاح في نفسه شامتا:
ـ هذه ما تبقي منك يا دكتور "عزام" !!
قام وهو يترنح وصعد في السلالم المؤدية إلي المعمل ، ودلف إلي حجرة النوم الملحقة بالمعمل وبات المتبقي من الليل فيها حتي منتصف النهار التالي .
لبث "عزيز" في المعمل عدة أيام ، استكمل فيها التجارب الموجودة بالمختبر ، والتي كان يقوم بها الدكتور "عزام" ، وتيقن من كفاءته أنه مهيأ لانتحال شخصية الدكتور "عزام" .
عندما عاد إلي الفيلا ، واستقبله الخادم ، وهو يصيح بفرح وترحاب :
ـ حمدا لله علي سلامتك يا دكتور "عزام"
ابتسم بتهكم ، ونظر من ركن عينيه للرجل ، فقد أدرك أن أحدا لن يشك في أمره ، وأن الخادم الذي قضى مع الدكتور "عزام" ولبث معه عمرا مديدا ، ثم رباه هو أيضا منذ كان صغيرا ، لم يعرفه وظنه سيده ، مع أنه كان متواطئا معه في مؤامرة قتله وأمه .
أما الدكتور "أسعد" وكان قد قرأ عنه في مذكرات الدكتور "عزام" فمع أنه شارك في تخليقه وحضر ولادته ، فهو لم يره أبدا في الفيلا ، ولا يتذكر أنه قد رآه إلا عندما كان يرقب الدكتور "عزام" وعلل عدم تردده علي الفيلا بعد ولادته بأن الأول كان يحتفظ بأمر نسخته سرا ، ويحوطها بالكتمان والغموض ، حتي عن أقرب مساعديه ، وربما هذا يعود لنية الدكتور "عزام" علي التخلص منه سريعا هو وأمه ، ولكن هذا القرار تمهل فيه بعد ذلك لظروف ما ، قد يكون منها إرضاء غروره وتيقنه من نجاح تجربته .
بدأ "عزيز" يدرس موقف الدكتور "أسعد" من جميع الوجوه ، فلديه أسباب قوية تجعله يخشى هذا الرجل ، فهو علي يقين بأنه يعرف سره الرهيب ، ويعلم بأمر وجوده و" سكينة" في الفيلا ، بالإضافة إلي أنه الرجل المقرب إلى الدكتور "عزام" ، وأقل خطأ منه قد يوقع في قلبه الشك والريبة ، فعليه أن يكون حذرا معه .
أخذت المشاعر المتضاربة تعتمل في صدر "عزيز" ، فعندما نظر حوله في الفيلا ومشي في أرجائها ، ووجدها خاوية إلا من الخادم داخلته طمأنينة وارتياح ، فليس هناك من يزعجه أو يرقب تصرفاته ، فدائما كان ينتابه قلق شديد عندما كان يستشعر نظرات أمه وهي تحدجه وترقبه من بعيد أو عن كثب ، وفي نفس الوقت كان شعورا من الرثاء والحزن يعتريه عندما يتذكرها ، ويتتابع شريط حياتها أمام عينيه .. ثم نهايتها الرهيبة بين يديه . داخله شعور أنه سوف يحيا حياته الحقيقية ، والتي هي امتداد طبيعي لحياة الدكتور "عزام" ، وليس نسخته التي تعيش في الظلام بعيدا عن الشهرة والمجد وقد حصد الرجل هذا كله في حياته .
أخذ "عزيز" يقضي ساعات طويلة في حجرة المكتب في قراءة المراجع العلمية والإعداد للمحاضرات التي سوف يلقيها ، إلى جانب استكمال بعض الأبحاث التي بدأ الدكتور "عزام" في الشروع فيها ولم ينته منها بعد ، وأصبح الطريق أمامه معبدا ، ومع ذلك فقد أصابه توتر عارم عندما تذكر أنه سيكون قريبا من "سارة" ، أحس بدقات قلبه تتتابع ، وهو يتخيل أنفاسها الحارة تلفح وجهه ، وأناملها الرقيقة تداعبه ، فلقد أصبحت له الآن ، ولن يستطيع إنسان أن يأخذها منه .
مرقت السيارة "الرولزرويس" الرمادية من بوابة الجامعة ، وكان بداخلها نسخة الدكتور "عزام" الذي كان يحمل في كيانه طبائع وصفات الدكتور "عزام" ، فهذا قدره الذي لا يستطيع منه فكاكا . والآن انسلخ من جلده القديم ليصبح الدكتور "عزام" نفسه ولم يعد نسخته . تطلع من نافذة السيارة إلي الساعة العريقة القابعة في مكانها منذ سنين طوال وهي تشهد حركة الحياة في تلك الجامعة ، لتكون عليه شاهدة كأستاذ جامعي ، وكان يشعر بالفخر ، وهو يتوقف بالسيارة أمام مبنى كلية العلوم ويلجها بأقدام ثابتة ، صعد السلم إلي المكتب ، وبعد لحظات أقبل عليه الدكتور "أسعد" وقد ارتسمت علي وجهه علامات القلق ، وهتف به قائلا :
ـ لقد أصابني القلق الشديد لغيابك طوال هذه الفترة عن الكلية علي غير عادتك ، ولقد فكرت كثيرا أن اطمئن عليك علي الرغم من أنك أمرتني بعد الاتصال بالفيلا هاتفيا ، وأن أنال فترة من الراحة بعيدا عن معمل الأبحاث .
كان يبدو علي "عزيز" آثار شحوب وإرهاق شديدين ، فنظر بعينيه الغائرتين إلي الدكتور "أسعد" ، وقال وهو يبتسم ابتسامة باهتة :
ـ أشكرك علي مشاعرك يا دكتور "أسعد" ، لقد كنت بالفعل مريضا الأيام الماضية ، وأنا الآن في دور النقاهة .
حدجه الدكتور "أسعد" بدهشة ، وقد لاحظ أن عينيه اللتين كانت تشتعلان بالبريق الشبيه باللهب قد انطفأ لمعانهما ، ولمح من ركنيهما انكسارا لم يألفه في نظرة الدكتور "عزام" الملتهبة .
سادت بينهما لحظة صمت ، ثم هتف الدكتور "أسعد" بسرعة :
ـ حمدا لله علي سلامتك يا دكتور .. ثم أضاف بتردد ..
ـ حسب الجدول الزمني الذي وضعته للمشروع الجديد ، فإننا بذلك قد تأخرنا كثيرا ، وعلينا أن نعوض ما فاتنا بأقصى سرعة ممكنة .
أدرك "عزيز" مقصد الدكتور "أسعد" ، فلقد قرأ في أجندة الدكتور "عزام" عن مشروع يهدف إلي إدماج الآلة في مخ الإنسان ، وبرمجة عقله بالكمبيوتر ، وبذلك يكتسب مهارات جديدة ، ومع أنه لم يجد أثرا لهذا المشروع في الملفات الكثيرة الموجودة بحجرة المكتب فقد قال في ثقة :
ـ نعم ، لقد وضعت أفكارا جديدة لهذا المشروع ، وسوف نبحثها معا قبل بدء التجارب .
تنفس الدكتور "أسعد" بارتياح ، وهتف في انفعال :
ـ سيكون لنا السبق العلمي في هذا المضمار .
وبينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث ، تطرق لأذنيهما نقرا رقيقا علي الباب ، فتتابعت دقات قلب "عزيز" بعنف ، فقد تكهن أن يد "سارة" الرقيقة هي التي تلامسه ، واشتم رائحة عطرها قبل أن تدلف الباب .
دخلت "سارة" يسبقها طيفها الرائع ، وتقدمت صوب "عزيز" ، كانت عيناها تحملان لوما وعتابا صامتين وهي تنظر إليه ، ومدت يدها لتلقي التحية ، فقام من مقعده وامتدت يده المرتجفة وعيناه تفضح ولعه الغامر بها ، غمغمت "سارة" :
ـ حمدا لله علي عودتك بالسلامة يا دكتور "عزام" ؟!
احتوت راحته يدها ، وقال وهو يلقف أنفاسه :
ـ سامحيني يا "سارة" ، لقد كنت مريضا طوال هذه المدة .
جزعت جزعا بالغا ، وصاحت :
ـ سلامتك يا دكتور "عزام" .
أدركت "سارة" وجود الدكتور "أسعد" الجالس قبالة المكتب ، فاحمر وجهها ، وقالت بصوت خافت :
ـ أهلا يا دكتور "أسعد" .
شعر الأخير بارتباك ، واختلج وجهه وهو يرد علي تحيتها ، ثم استأذن في الانصراف وهو يتعثر في خطواته . جلست "سارة" في المقعد المقابل لمقعد الدكتور "أسعد" الذي كان يجلس عليه ، وقالت ، وأنفاسها الحارة تلفح وجه "عزيز" :
ـ لماذا لم تتصل بي ، وتخبرني أنك مريض ؟
شعر "عزيز" بأن كل سعادة الدنيا تحيطه ، وأنه لا يريد من الحياة شيئا سوى هذه الفتاة ، فهتف وهو يمد يده ليضعها فوق يدها برفق :
ـ حبيبتي خفت عليك الحزن ، فأنت خلقت لتسعدي .
قالت معترضة وهي ترمقه بقلق :
ـ لا تعاملني مثل الدمية ، فيجب أن أشاركك أحزانك كما أشاركك أفراحك ، ألم نتفق علي هذا من قبل ؟
داخلت "عزيز" غيرة غامرة من هذا الماضي ، ومن الفقيد الذي بادلته "سارة" الحب ، فحاول أن يخفي مشاعره ، فصاح وهو يرفع يدها بين راحتيه :
ـ أنت الحياة نفسها يا"سارة" وأنا بدونك أشعر بالفناء ، فعندما رأيتك لأول مرة أحسست طعما لحياتي الخاوية من كل عاطفة أو حب .
كان "عزيز" لا يبالغ في عواطفه المتدفقة ، فقد ارتسمت علي خلجات وجهه ، فجعل "سارة" تصرخ وهي تغمض عينيها نشوة :
ـ "عزام" أنت اليوم مستحيل !! ثم أضافت وهي ترمقه بإعجاب غامر :
ـ إنني أشعر أنك اليوم مختلف بشكل غريب !
تساءل بلهفة :
ـ إلي الأسوأ ، أم الأفضل يا ترى ؟
صاحت وهي تضحك برقة :
ـ طبعا الأفضل ، فإنني أحب هذه العاطفة القوية التي تشعرني بمدى حبك لي .
تناهي لأذنيهما دقات الساعة العتيقة معلنة العاشرة صباحا ، فهتفت "سارة" وهي تسحب يدها بلطف من راحته :
ـ ميعاد محاضرتك يا دكتوري العزيز .
تقدم "عزيز" بكل ثقة إلي قاعة المحاضرات ، وفي أثناء محاضرته كان يستمد من "سارة" الشجاعة ليواصل شرحه المتدفق ، ورأى في عينيها ورمقاتها إعجابا يتضاعف بأستاذها ، بينما كان الطلبة ينصتون باهتمام بالغ ، فأخذ يصيغ الكلمات ، ويحلل المفاهيم العلمية بشكل رائع خلاب .
بعد انتهاء المحاضرة انتاب الطلبة شغف شديد لاستطلاع هذا العلم الذي سيغير مسار البشرية ، فقام أحدهم وهو يتساءل :
ـ ما رأيك يا دكتور "عزام" في الاستنساخ البشري ؟
غطت سحابة سوداء وجه "عزيز" وشعر بمرارة وغصة في حلقه وهو يقول في أسي :
ـ إن الاستنساخ ما هو إلا نكوص بالبشرية إلي الوراء ، وليس تطورا . الأصل في الحياة هو التطور ، والنسخ ما هو إلا تكرار ممل وليس إضافة ، ثم أفترض أن هناك شخصا ونسخته ، وأحب الاثنان شيئا واحدا ، فلابد أن يحدث صراع بينهما ، وقد يكون مصير أحد الاثنين هو الهلاك ، فالحياة منذ الأزل قامت علي تباين الاحتياجات والأرزاق .
كان رأي "عزيز" في الاستنساخ البشري هو النتيجة التي توصل إليها الدكتور "عزام" ، عندما أدرك وهو يرى "عزيز" يكبر أمامه أنه قد ارتكب خطأ رهيبا ، وأنه لم يعد يطيق أن يرى نفسه ، وبدأت أفكاره في الاستنساخ البشري تأخذ منحى آخر ، فالتجربة التي قام بها كانت مريرة ، وكان "عزيز" يشعر بهذه المرارة في كل لحظة من حياته ، وكأن هذا السؤال قد نكأت جراحه التي لم تلتئم ، ولن تلتئم أبدا .
بعد محاضرته أقبلت "سارة" علي مكتبه ، وشعر براحة كبيرة عند رؤياها ، لقد ولدت لديه أحاسيس لم تراوده قبلا ، إحساس بالحب يغمره ، ولم تعد تراوده تلك الرغبة المجنونة في الفتك والقتل وسلب الحياة .
هتفت وهي ترمقه بعينيها الجميلتين ، وقد ارتسمت علامات التساؤل الممزوجة بالقلق :
ـ لقد لاحظت علي وجهك توترا شديدا أثناء المحاضرة ، والآن ألمح في عينيك حزنا عميقا لا أدري سببه !!
أخذ نفسا عميقا ، كأنما يتنفس الضيق والأسى ، ثم غمغم بعد لحظة صمت ، وهو يطرق بعينيه إلي أسفل حتي لا تلتقي عيناهما وتسبر غوره وتكشف خبيئة نفسه :
ـ إنني نادم علي الأيام التي عشتها قبل أن ألقاك ، وعندما أفكر في السنين التي مرت دونك أحس بالألم يعتصر قلبي .
أغمضت "سارة" عينيها ، واختلجت عضلات وجهها وقد احمر حتي أصبح قانيا ، هتفت بصوت شجي عميق :
ـ ينتابني إحساس لم أشعر به من قبل وأنا معك ، فدائما كنت أحب فيك الأستاذ القدوة ، ولكن في هذه اللحظة أشعر أنك ملكت قلبي بشكل غامض ، والحقيقة أنني حائرة من هذا الإحساس الرائع الذي غمرني اليوم .
اختفى فجأة الانكسار والحزن من عيني "عزيز" ، وتألقت عيناه ببريق متدفق ، وصرخ بحرارة :
ـ "سارة" حبيبتي ، لقد عرفت السعادة معك ، وأرجو ألا تندمي علي حبك لي يوما ، فدائما تذكري أنني أحببتك أكثر من نفسي ومن أي شيء في الوجود ، فأنت كينونتي في هذا الكون .
ساد بينهما لحظات من الصمت ، وكانت عيناهما تتعانقان وتتصارحان بعبارات غير منطوقة ، ومع ذلك فقد كانت أبلغ من الكلام الحار ، ثم جذبها برقة وهو يهتف :
ـ هيا يا حبيبتي ، فإنني أدعوك للعشاء في أجمل بقعة في العالم .[/color][/B][/COLOR][/size][/size]

فاطمه بنت السراة
30/07/2008, 04:16 AM
:
اشتعال الحب :
ــــــــــــــــــــ
استفاق "عزيز" من أثر المخدر ، وكانت عيناه مغمضتان نصف إغماضة ، ولم يتذكر شيئا مما حدث في بداية الأمر ، وأخذ يقلب عينيه في المكان في حيرة ، ثم بدأ يستعيد أفكاره رويدا رويدا ، عندما صوب عينيه تجاه المسوخ ، وأدرك ما حدث عندما رآها تتقاذف عظاما آدمية ، فابتسم بسخرية وصاح في نفسه شامتا:
ـ هذه ما تبقي منك يا دكتور "عزام" !!

قام وهو يترنح, وصعد في السلالم المؤدية إلي المعمل ، ودلف إلي حجرة النوم الملحقة بالمعمل وبات المتبقي من الليل فيها حتي منتصف النهار التالي .

لبث "عزيز" في المعمل عدة أيام ، استكمل فيها التجارب الموجودة بالمختبر ، والتي كان يقوم بها الدكتور "عزام" ، وتيقن من كفاءته أنه مهيأ لانتحال شخصية الدكتور "عزام" .

عندما عاد إلي الفيلا ، واستقبله الخادم ، وهو يصيح بفرح وترحاب :
ـ حمدا لله علي سلامتك يا دكتور "عزام"
ابتسم بتهكم ، ونظر من ركن عينيه للرجل ، فقد أدرك أن أحدا لن يشك في أمره ، وأن الخادم الذي قضي مع الدكتور "عزام" ولبث معه عمرا مديدا ، ثم رباه هو أيضا منذ كان صغيرا ، لم يعرفه وظنه سيده ، مع أنه كان متواطئا معه في مؤامرة قتله وأمه .

أما الدكتور "أسعد" وكان قد قرأ عنه في مذكرات الدكتور "عزام" فمع أنه شارك في تخليقه وحضر ولادته ، فهو لم يره أبدا في الفيلا ، ولا يتذكر أنه قد رآه إلا عندما كان يرقب الدكتور "عزام" وعلل عدم تردده علي الفيلا بعد ولادته بأن الأول كان يحتفظ بأمر نسخته سرا ، ويحوطها بالكتمان والغموض ، حتي عن أقرب مساعديه ، وربما هذا يعود لنية الدكتور "عزام" علي التخلص منه سريعا هو وأمه ، ولكن هذا القرار تمهل فيه بعد ذلك لظروف ما ، قد يكون منها إرضاء غروره وتيقنه من نجاح تجربته .

بدأ "عزيز" يدرس موقف الدكتور "أسعد" من جميع الوجوه ، فلديه أسباب قوية تجعله يخشى هذا الرجل ، فهو علي يقين بأنه يعرف سره الرهيب ، ويعلم بأمر وجوده و" سكينة" في الفيلا ، بالإضافة إلي أنه الرجل المقرب إلي الدكتور "عزام" ، وأقل خطأ منه قد يوقع في قلبه الشك والريبة ، فعليه أن يكون حذرا معه .

أخذت المشاعر المتضاربة تعتمل في صدر "عزيز" ، فعندما نظر حوله في الفيلا ومشي (وسار) في أرجائها ، ووجدها خاوية إلا من الخادم داخلته طمأنينة وارتياح ، فليس هناك من يزعجه أو يرقب تصرفاته ، فدائما كان ينتابه قلق شديد عندما كان يستشعر نظرات أمه وهي تحدجه وترقبه من بعيد أو عن كثب ، وفي نفس الوقت كان شعورا من الرثاء والحزن يعتريه عندما يتذكرها ، ويتتابع شريط حياتها أمام عينيه .. ثم نهايتها الرهيبة بين يديه . داخله شعور أنه سوف يحيا حياته الحقيقية ، والتي هي امتداد طبيعي لحياة الدكتور "عزام" ، وليس نسخته التي تعيش في الظلام بعيدا عن الشهرة والمجد وقد حصد الرجل هذا كله في حياته .

أخذ "عزيز" يقضي ساعات طويلة في حجرة المكتب في قراءة المراجع العلمية والإعداد للمحاضرات التي سوف يلقيها ، إلى جانب استكمال بعض الأبحاث التي بدأ الدكتور "عزام" في الشروع فيها ولم ينته منها بعد ، وأصبح الطريق أمامه معبدا ، ومع ذلك فقد أصابه توتر عارم عندما تذكر أنه سيكون قريبا من "سارة" ، أحس بدقات قلبه تتتابع ، وهو يتخيل أنفاسها الحارة تلفح وجهه ، وأناملها الرقيقة تداعبه ، فلقد أصبحت له الآن ، ولن يستطيع إنسان أن يأخذها منه.
مرقت السيارة "الرولزرويس" الرمادية من بوابة الجامعة ، وكان بداخلها نسخة الدكتور "عزام" الذي كان يحمل في كيانه طبائع وصفات الدكتور "عزام" ، فهذا قدره الذي لا يستطيع منه فكاكا . والآن انسلخ من جلده القديم ليصبح الدكتور "عزام" نفسه ولم يعد نسخته .
تطلع من نافذة السيارة إلي الساعة العريقة القابعة في مكانها منذ سنين طوال وهي تشهد حركة الحياة في تلك الجامعة ، لتكون عليه شاهدة عليه كأستاذ جامعي ، وكان يشعر بالفخر ، وهو يتوقف بالسيارة أمام مبني كلية العلوم ويلجها بأقدام ثابتة ، صعد السلم إلي المكتب ، وبعد لحظات أقبل عليه الدكتور "أسعد" وقد ارتسمت علي وجهه علامات القلق ، وهتف به قائلا :
ـ لقد أصابني القلق الشديد لغيابك طوال هذه الفترة عن الكلية علي غير عادتك ، ولقد فكرت كثيرا أن اطمئن عليك علي الرغم من أنك أمرتني بعد الاتصال بالفيلا هاتفيا ، وأن أنال فترة من الراحة بعيدا عن معمل الأبحاث .

كان يبدو علي "عزيز" آثار شحوب وإرهاق شديدين ، فنظر بعينيه الغائرتين إلي الدكتور "أسعد" ، وقال وهو يبتسم ابتسامة باهتة :
ـ أشكرك علي مشاعرك يا دكتور "أسعد" ، لقد كنت بالفعل مريضا الأيام الماضية ، وأنا الآن في دور النقاهة .
حدجه الدكتور "أسعد" بدهشة ، وقد لاحظ أن عينيه اللتين كانت تشتعلان بالبريق الشبيه باللهب قد انطفأ لمعانهما ، ولمح من ركنيهما انكسارا لم يألفه في نظرة الدكتور "عزام" الملتهبة .
سادت بينهما لحظة صمت ، ثم هتف الدكتور "أسعد" بسرعة :
ـ حمدا لله علي سلامتك يا دكتور .. ثم أضاف بتردد ..
ـ حسب الجدول الزمني الذي وضعته للمشروع الجديد ، فإننا بذلك قد تأخرنا كثيرا ، وعلينا أن نعوض ما فاتنا بأقصى سرعة ممكنة .

أدرك "عزيز" مقصد الدكتور "أسعد" ، فلقد قرأ في أجندة الدكتور "عزام" عن مشروع يهدف إلي إدماج الآلة في مخ الإنسان ، وبرمجة عقله بالكمبيوتر ، وبذلك يكتسب مهارات جديدة ، ومع أنه لم يجد أثرا لهذا المشروع في الملفات الكثيرة الموجودة بحجرة المكتب فقد قال في ثقة :
ـ نعم ، لقد وضعت أفكارا جديدة لهذا المشروع ، وسوف نبحثها معا قبل بدء التجارب .
تنفس الدكتور "أسعد" بارتياح ، وهتف في انفعال :
ـ سيكون لنا السبق العلمي في هذا المضمار .
وبينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث ، تطرق لأذنيهما (لسمعهما) نقرا رقيقا علي الباب ، فتتابعت دقات قلب "عزيز" بعنف ، فقد تكهن أن يد "سارة" الرقيقة هي التي تلامسه ، واشتم رائحة عطرها قبل أن تدلف الباب .

دخلت "سارة" يسبقها طيفها الرائع ، وتقدمت صوب "عزيز" ، كانت عيناها تحملان لوما وعتابا صامتين وهي تنظر إليه ، ومدت يدها لتلقي التحية ، فقام من مقعده وامتدت يده المرتجفة وعيناه تفضح ولعه الغامر بها ، غمغمت "سارة" :
ـ حمدا لله علي عودتك بالسلامة يا دكتور "عزام" ؟!
احتوت راحته يدها ، وقال وهو يلقف أنفاسه :
ـ سامحيني يا "سارة" ، لقد كنت مريضا طوال هذه المدة .
جزعت جزعا بالغا ، وصاحت :
ـ سلامتك يا دكتور "عزام" .
أدركت "سارة" وجود الدكتور "أسعد" الجالس قبالة المكتب ، فاحمر وجهها ، وقالت بصوت خافت :
ـ أهلا يا دكتور "أسعد" .
شعر الأخير بارتباك ، واختلج وجهه وهو يرد علي تحيتها ، ثم استأذن في الانصراف وهو يتعثر في خطواته . جلست "سارة" في المقعد المقابل لمقعد الدكتور "أسعد" الذي كان يجلس عليه ، وقالت ، وأنفاسها الحارة تلفح وجه "عزيز" :
ـ لماذا لم تتصل بي ، وتخبرني أنك مريض ؟
شعر "عزيز" بأن كل سعادة الدنيا تحيطه ، وأنه لا يريد من الحياة شيئا سوى هذه الفتاة ، فهتف وهو يمد يده ليضعها فوق يدها برفق :
ـ حبيبتي خفت عليك الحزن ، فأنت خلقت لتسعدي .
قالت معترضة وهي ترمقه بقلق :
ـ لا تعاملني مثل الدمية ، فيجب أن أشاركك أحزانك كما أشاركك أفراحك ، ألم نتفق علي هذا من قبل ؟
داخلت "عزيز" غيرة غامرة من هذا الماضي ، ومن الفقيد الذي بادلته "سارة" الحب ، فحاول أن يخفي مشاعره ، فصاح وهو يرفع يدها بين راحتيه :
ـ أنت الحياة نفسها يا"سارة" وأنا بدونك أشعر بالفناء ، فعندما رأيتك لأول مرة أحسست طعما لحياتي الخاوية من كل عاطفة أو حب .

كان "عزيز" لا يبالغ في عواطفه المتدفقة ، فقد ارتسمت علي خلجات وجهه ، فجعل (مما جعل) "سارة" تصرخ وهي تغمض عينيها نشوة :
ـ "عزام" أنت اليوم مستحيل !! ثم أضافت وهي ترمقه بإعجاب غامر :
ـ إنني أشعر أنك اليوم مختلف بشكل غريب !
تساءل بلهفة :
ـ إلي الأسوأ ، أم الأفضل يا ترى ؟
صاحت وهي تضحك برقة :
ـ طبعا الأفضل ، فإنني أحب هذه العاطفة القوية التي تشعرني بمدى حبك لي .
تناهي لأذنيهما دقات الساعة العتيقة معلنة العاشرة صباحا ، فهتفت "سارة" وهي تسحب يدها بلطف من راحته :
ـ ميعاد محاضرتك يا دكتوري العزيز .
تقدم "عزيز" بكل ثقة إلي قاعة المحاضرات ، وفي أثناء محاضرته كان يستمد من "سارة" الشجاعة ليواصل شرحه المتدفق ، ورأى في عينيها ورمقاتها إعجابا يتضاعف بأستاذها ، بينما كان الطلبة ينصتون باهتمام بالغ ، فأخذ يصيغ الكلمات ، ويحلل المفاهيم العلمية بشكل رائع خلاب .

بعد انتهاء المحاضرة انتاب الطلبة شغف شديد لاستطلاع هذا العلم الذي سيغير مسار البشرية ، فقام أحدهم وهو يتساءل :
ـ ما رأيك يا دكتور "عزام" في الاستنساخ البشري ؟
غطت سحابة سوداء وجه "عزيز" وشعر بمرارة وغصة في حلقه وهو يقول في أسي :
ـ إن الاستنساخ ما هو إلا نكوص بالبشرية إلي الوراء ، وليس تطورا . الأصل في الحياة هو التطور ، والنسخ ما هو إلا تكرار ممل وليس إضافة ، ثم أفترض أن هناك شخصا ونسخته ، وأحب الاثنان شيئا واحدا ، فلابد أن يحدث صراع بينهما ، وقد يكون مصير أحد الاثنين هو الهلاك ، فالحياة منذ الأزل قامت علي تباين الاحتياجات والأرزاق .

كان رأي "عزيز" في الاستنساخ البشري هو النتيجة التي توصل إليها الدكتور "عزام" ، عندما أدرك وهو يرى "عزيز" يكبر أمامه أنه قد ارتكب خطأ رهيبا ، وأنه لم يعد يطيق أن يرى نفسه ، وبدأت أفكاره في الاستنساخ البشري تأخذ منحى آخر ، فالتجربة التي قام بها كانت مريرة ، وكان "عزيز" يشعر بهذه المرارة في كل لحظة من حياته ، وكأن هذا السؤال قد نتأت ( نكأ ) جراحه التي لم تلتئم ، ولن تلتئم أبدا .
بعد محاضرته أقبلت "سارة" علي مكتبه ، وشعر براحة كبيرة عند رؤياها ، لقد ولدت لديه أحاسيس لم تراوده قبلا ، إحساس بالحب يغمره ، ولم تعد تراوده تلك الرغبة المجنونة في الفتك والقتل وسلب الحياة .
هتفت وهي ترمقه بعينيها الجميلتين ، وقد ارتسمت علامات التساؤل الممزوجة بالقلق :
ـ لقد لاحظت علي وجهك توترا شديدا أثناء المحاضرة ، والآن ألمح في عينيك حزنا عميقا لا أدري سببه !!
أخذ نفسا عميقا ، كأنما يتنفس الضيق والأسى ، ثم غمغم بعد لحظة صمت ، وهو يطرق بعينيه إلي أسفل حتي لا تلتقي عيناهما وتسبر غوره وتكشف خبيئة نفسه :
ـ إنني نادم علي الأيام التي عشتها قبل أن ألقاك ، وعندما أفكر في السنين التي مرت دونك أحس بالألم يعتصر قلبي .
أغمضت "سارة" عينيها ، واختلجت عضلات وجهها وقد احمر حتي أصبح قانيا ، هتفت بصوت شجي عميق :
ـ ينتابني إحساس لم أشعر به من قبل وأنا معك ، فدائما كنت أحب فيك الأستاذ القدوة ، ولكن في هذه اللحظة أشعر أنك ملكت قلبي بشكل غامض ، والحقيقة أنني حائرة من هذا الإحساس الرائع الذي غمرني اليوم .
اختفي فجأة الانكسار والحزن من عيني "عزيز" ، وتألقت عيناه ببريق متدفق ، وصرخ بحرارة :
ـ "سارة" حبيبتي ، لقد عرفت السعادة معك ، وأرجو ألا تندمي علي حبك لي يوما ، فدائما تذكري أنني أحببتك أكثر من نفسي ومن أي شيء في الوجود ، فأنت كينونتي في هذا الكون .
ساد بينهما لحظات من الصمت ، وكانت عيناهما تتعانقان وتتصارحان بعبارات غير منطوقة ، ومع ذلك فقد كانت أبلغ من الكلام الحار ، ثم جذبها برقة وهو يهتف :
ـ هيا يا حبيبتي ، فإنني أدعوك للعشاء في أجمل بقعة في العالم .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ

غاليتي..
قيل لأحدهم: "أن إبنك عشق". أجاب: أي بأس به ؟ أنه إذا عشق نظف وظرف ولطف.
وهذا ما فعله الحب بـ عزام ثم بـ عزيز النسخ المطابق في كل شيء.

قاربنا نهاية الفصل الأول.
محبتي

فايزة شرف الدين
30/07/2008, 10:31 PM
الغالية فاطمة :
مع انتهاء هذا الفصل تبدأ أحداث جديدة مع نسخ الدكتور عزام وسارة ، وقد جعله الحب يشعر بأنه ينتمي لعالم البشر .
بالنسبة لما تفضلتي به من تصحيح ..
فقد بحثت عن كلمة نتأت في عدة معاجم ,, فوجدتها بمعني قطع ، وهي قريبة من المعنى المراد .. أما نكأ فهي إزلة القشرة بعد جفافها ليندي الشيء وهي الأقرب للمعني المراد .. وأعتقد أن كل من التعبيرين صحيح .
أما مشي .. فهي الأوقع والأدق .. ولا تنسي قول الله تعالي " فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) .. وهنا المشي كان بتمهل وأيضا حسب حسي اللغوي لم يكن يأخذ مسارا مستقيما .. أما سار فهي في طريق ممتد .
فجعل .. هذه الكلمة استخدمها أدباؤنا الكبار خاصة العقاد وطه حسين والحكيم .
سمعيهما .. أذنيهما .. أعتقد أن كليهما صح .. حتى علميا يقولون مركز السمع هو الأذن .
خالص محبتي


http://www.10neen.com/up/uploads/c831f148b4.gif (http://www.10neen.com/up/)