المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفصل الخامس عشر والأخير من رواية الرجل العقرب ( الجزء الأول )



فايزة شرف الدين
27/10/2007, 03:29 PM
الاعتراف :ـ اسبقني يا دكتور "أسعد" أنت و"سارة" إلي معمل الأبحاث ، وسوف ألحق بكما خلال وقت قصير .
قالها "عزيز" بهدوء ، وهو جالس وراء مكتبه بالكلية ، بينما جلس قبالته كل من "سارة" والدكتور "أسعد" .
أطلت علي وجه الدكتور "أسعد" دهشة شديدة ، وارتاب في أن أذنيه قد أخطأتا السمع ، وأخذ يقلب عينيه بين "عزيز" و"سارة" ، وسادت فترة صمت قبل أن يتساءل الدكتور "أسعد" وهو يقطب ما بين حاجبيه :
ـ أصحب "سارة" معي إلي المعمل ؟!
أومئ "عزيز" برأسه ، وقال بحزم :
ـ نعم ، اذهبا الآن ولا تضيعا الوقت .
قام الدكتور "أسعد" من مقعده بتثاقل ، ومشي خطوات مضطربة ، وتبعته "سارة" دون أن تنبس ببنت شفة ، وبالرغم من ذلك فقد نظرت بركن خفي إلي "عزيز" لتستشف من وجهه جامد الأسارير ، والذي لا يحمل أي تعبير يدل علي ما يفكر فيه ، وشعرت أن ثمة شيء غامض ورهيب يخفيه عنها "عزيز" ، ويريد البوح به ، والذي زاد من غموض الأمر سماعها لأول مرة عن وجود معمل أبحاث ، فلم يذكره الدكتور "عزام" لها أبدا في أي من الأحاديث التي دارت بينهما
كانت أسارير الدكتور "أسعد" الجالس وراء مقود السيارة تختلج في تيار مستمر يرسم خطوطه علي جبينه ووجهه وقد أصبح أحمر قانٍ ، بينما كان يستشعر حرارة تغمر جسده ، وتألقت عيناه بعاطفة مشبوبة ، وهو ينظر إلي "سارة" من خلال المرآة الأمامية ، وانتابه شعور بالسعادة لأن هذه المخلوقة الجميلة التي تختال دائما في خياله وأحلامه جالسة بجانبه وبالقرب منه ، وإن وكان هذا الشعور ممزوجا بالخوف عليها من الدكتور "عزام" ، فهو لا يشعر بالطمأنينة عليها وهي معه ، لم يصدق يوما أن هذا الرجل قادر علي الحب والعطاء .. ثم أن ذهابها إلي المعمل قد يعرضها إلي الخطر ، فقد يكون الدكتور "عزام" ينوي أن يجري عليها أبحاثه كما أجراها علي "سكينة" من قبل .
عندما خطرت له "سكينة" تدافعت إلي رأسه عشرات من الأسئلة عنها وعن "عزيز" ، الذي لم يسمح الدكتور "عزام" برؤيته إياه بعد ولادته ؛ ثم انتابه شك مفاجئ ، فهو لم يعد يسمع عن القتلى الذين يموتون بسم العقارب ، ولم تعد الصحافة أو الإعلان يذكرا شيئا عن هذا الموضوع ، فلعل الدكتور "عزام" قد تخلص منه ، وليس من المستبعد أن يكون قد تخلص من "سكينة" أيضا . شعر برجفة مؤلمة تسري في جسده ، فلسوف يجري علي "سارة" أبحاثه العظيمة ، ثم يتخلص منها بعد ذلك .
غمغم الدكتور "أسعد" بصوت مرتجف :
ـ يمكنك عدم الذهاب إلي هذا المكان يا آنسة "سارة" .
صاحت "سارة" بلطف حازم :
ـ إنني مصرة علي الذهاب إلي معمل الأبحاث ، فهناك علي ما يبدو أشياء غامضة أريد معرفتها قبل ..
صمتت فجأة ، ولم تكمل عبارتها .
قال الدكتور "أسعد" بنبرة أسى :
ـ قبل أن تتزوجي الدكتور "عزام" .
ساد صمت قاس ، والسيارة تنهب الطريق متجهة إلي الصحراء ، ولاحت علي "سارة" إمارات القلق ، وهي تصعد نظرها في الطريق الرملي ، وقد اكتسي بلون أصفر ذهبي بعد أن غمرته أشعة الشمس الساخنة ، وكانت تري سرابا ممتدا عبر الطريق الخالي من مظاهر الحياة .
بعد فترة لاحت أسوار عالية باهتة في ضوء الشمس الباهر ، وفتحت "سارة" عينيها دهشة ، والسيارة تقترب من هذا المكان الغامض الذي يشبه قلعة حصينة في هذه الصحراء الواسعة .
عبرت السيارة عبر البوابة الحديدية الحصينة ، والتفتت وراءها بفضول ، وهي تراها تقفل دون صوت ، وشعرت بانقباض ممض ، وعيناه الجميلتان تمسح المكان ، والسيارة تواصل سيرها عبر الممشى الطويل ، حتي توقفت بهما في مواجهة معمل الأبحاث .
هبط الدكتور "أسعد" من السيارة ، ثم التف حول السيارة من الأمام ، وفتح باب "سارة" ، فهبطت وهي تقدم قدما وتؤخر الأخرى في تردد ، ثم فجأة شق السكون صوت همهمات مخيفة كأنها صوت أشباح هائمة ، فصرخت مرتعبة ، والتصقت بالدكتور "أسعد" تلتمس الأمان ، فضمها إليه وأغمض عينيه ، وقد شعر بنشوة غامرة وهي بين أحضانه .
رغم الخوف الذي كان لا يزال يسيطر عليها ، إلا أنها دفعت نفسها بعيدا عنه ، تمتمت وهي تشعر بالخجل :
ـ أنا آسفة يا دكتور "أسعد" .
ابتسم الدكتور "اسعد" ، ثم قال بصوت هادئ كي يبعث الطمأنينة إلي قلبها :
ـ هذه أصوات الحيوانات التي نستخدمها في التجارب .
مرر الدكتور "أسعد" الكارت المعدني ففتح باب المبني ، ثم ما لبث أن أقفل وراءهما ، وتعالي صراخ "سارة" مرة أخري وتردد صداه عبر الدهليز الطويل خافت الإضاءة ، عندما لمحت القطة المسخ ذات الرأسين وعيونها الأربعة ينطلق من شرر اللهب ، وتنطلق صوبهما ، فدفعها الدكتور "أسعد" بقدمه ، فأخذت تموء بصوت رهيب .
أغمضت "سارة" عينيها ، وكادت أن يغشي عليها من الخوف فضمها إليه الدكتور "أسعد" ، وقال لها برقة :
ـ يمكنك التراجع عن موقفك ، وسوف أعيدك إلي منزلك في الحال .
قالت وهي تتحامل علي نفسها ، وقد تماسكت بعض الشيء :
ـ لا يا دكتور "أسعد" ، ولكن المفاجأة هي التي أذهلتني .
اتجه بها الدكتور "أسعد" إلي المختبر، وأخذ يشرح لها الأجهزة وأهميتها ، ووظيفة كل منها .
بعد أن تأكد "عزيز" من أن الدكتور "أسعد" و"سارة" غادرا الجامعة ، توجه إلي سيارته علي الفور متجها إلي معمل الأبحاث سالكا طريقا آخر عبر الصحراء .
وعندما وصل إلي الأسوار الخلفية للمعمل ، مشي الهوينى بالسيارة بمحاذاة السور ، ولمح الباب السري بعينيه الثاقبتين ، وضغط علي الأحجار يشكل معين ، فانفتح باب صغير دلف منه ، ثم ما لبث أن أقفل وراءه ، وكان يؤدي إلي نفق ممتد نحت الأرض ، ما أن دخله حتي أضئ كله ، وركب عربة صغيرة تشبه تلك التي تستخدم في السكك الحديدية ، وضغط علي ذر بها ، فتحركت بسرعة عبر القضبان الحديدية ، ثم توقفت عند نهاية النفق ، فهبط "عزيز" من العربة ، وضغط علي ذر موجود بالجدار فتحرك ودلف منه إلي معمل الأبحاث .
بينما كان الدكتور "أسعد" يقوم بشرح بعض الأجهزة المستخدمة في المعمل ، ظهر "عزيز" أمامهما فجأة ، فصرخت سارة مرتعبة ، بينما تجمد الدكتور "أسعد" مكانه من هول المفاجأة.
صاح "عزيز" وهو يبتسم بغموض :
ـ أنا آسف لم أقصد إرعابكما .
صاحت بصوت ضعيف :
ـ لم نشعر بدخولك يا "عزيز" !
حدق الدكتور "أسعد" النظر إلي "عزيز" ، وغمره إحساس غامض مخيف ، ارتسم علي وجهه وفي عينيه المتسعتين علي آخرهما عند سماعه اسم "عزيز" ، وهتف دون إرادة منه مرددا الاسم بتعجب :
ـ "عزيز" !!
التفت "عزيز" إليه والابتسامة الغامضة ما زالت مرتسمة علي وجهه :
ـ ما الذي أرعبك من اسم "عزيز" يا دكتور "أسعد" ؟
شحب وجه الدكتور "أسعد" حتي صار كالأموات ، ثم أخذ يلوح بيديه صارخا بأفكاره :
ـ مستحيل .. مستحيل !!
ضحك "عزيز" ضحكة جافة ، ثم التفت إلي "سارة" التي امتقع وجهها ، وأخذ جسدها يرتجف وهي تقلب عينيها بين الاثنين في ذهول مؤلم ، قطع ضحكته فجأة ، وارتسم علي وجهه أسي وشعر بمرارة تغص حلقه ، وهتف بها في حرارة :
ـ أرجوك يا حبيبتي لا تخافي ، فسوف تعرفين كل شيء الآن .
صرخ الدكتور "أسعد" متوسلا ، وقد تقلص وجهه ، وعمقت فيه تجاعيد كأنما كبر عشرات الأعوام فجأة :
ـ لا ، لا أرجوك لا تقل شيئا .
لم يبال "عزيز" بتوسلاته وهو يشير إلي الأطباق الزجاجية ، والأجهزة التي امتلأ بها المختبر ، واستطرد وهو يقول :
ـ هنا كانت بدايتي منذ كنت خلية صغيرة لا قيمة لها .
تلقف أنفاسه المتلاحقة ، وغامت عيناه ، كأنما كان ينبش بذاكرته في جدار الماضي ، وقال بصوت عميق :
ـ فمنذ ثمانية عشر عاما راودت عالم كبير فكرة جهنمية في أنه سيخلد باستنساخ نفسه ، ودفعه الطموح العلمي بأن تكون هذه النسخة أفضل منه ، فوضع مورثات الأسد كي تكتسب نسخته قوة عضلية فائقة ، وكان لهذا العالم مساعدان ، أحدهما رجل والآخر امرأة ، شاركاه في مشروعه الرهيب . للأسف أخطأت المرأة فوضعت مورثات العقرب ، ولسوء الحظ نجحت التجربة ، وتم زرع الجنين عندما وصل إلي المرحلة التوتية في رحمها بعد أن أجبرها العالم بالقهر والقوة ، عاشت المسكينة وهذا الطفل الذي ولدته في فيلته المنعزلة بعيدا عن الناس ، ولم يكن نصيب الاثنين منه إلا الإهمال والقسوة ، وعندما كبر الطفل أدرك هذا العالم الخطأ المروع الذي وقع فيه ، عندما رأي صورة طبق الأصل منه ، فأراد التخلص منهما ، خاصة أنه أحب فتاة جميلة ، وأراد أن يزيل البقعة السوداء التي تشوه حياته ، والغريب في الأمر أن نسخته أحب هذه الفتاة أيضا منذ أن وقعت عيناه عليها ، وانتابته نفس المشاعر السوداء .
كان هذا الرجل أسبق في خطوته الإجرامية ، واستطاع أن يقتل المرأة ، أما نسخته فاستطاع الإفلات من الموت المحقق الرهيب بأعجوبة ، والانتقام لأمه المسكينة ولنفسه ، وكان جزاء القاتل القتل بنفس الطريقة الرهيبة التي كان العالم ينوي بها قتل الاثنان .
أضاف "عزيز" وقد غص حلقه بالمرارة :
ـ هذه قصتي باختصار يا حبيبتي ، وإنني أدرك أنك أحببت الدكتور "عزام" وليس نسخته ، فقد خدعتك عندما تقمصت شخصيته ، ومع ذلك فلم أخدعك يوما في حبي لك ، فلقد أحببتك لدرجة الجنون ، بل أحببتك أكثر من نفسي ، وأحببت الحياة من أجلك ., فلقد أشعرني حبي لك أنني إنسان يستطيع أن يحب .
هتفت "سارة" وهي تمد يديها إلي الأمام :
ـ صدقني يا "عزيز" ، لقد أحببتك أنت ، وليس الدكتور "عزام" , فقد كان شعوري نحوه هو إجلال الأستاذ ، أما معك فلقد شعرت بالسعادة الحقيقية ، وبدفء وقوة حبك لي .
لمعت الدموع في عيني "عزيز" ، وقال وهو يزدرد دموعه المنسابة علي وجهه :
ـ للقصة بقية يا عزيزتي ، فأنا مسخ ، وأحمل في جسدي مورثات العقرب ، وكل من يقترب مني تصيبه لعنة الموت من ذنبي القاتل .
تداعي جسد "عزيز" ، وجلس علي ركبتيه ، ودفع رأسه بين راحتيه ، وأخذ يجهش بالبكاء الحار بصوت مرتفع ، فاندفعت "سارة" إليه وجلست بجانبه ، ومدت يدها وأخذت رأسه ووضعتها علي صدرها وضمته إليها بحرارة ، وهتفت بصوت مرتعش ، وعبراتها الساخنة تلفح وجهها :
ـ "عزيز" ، حبيبي ، لقد أحببتك بكل ذرة في كياني ، ولن يفرق أي شيء مهما كان بيننا .
غمغم بصوت مختنق :
ـ إنني مجرم يا "سارة" .
ضغطت براحتيها علي ظهره ، وهي تصيح :
ـ لست مجرما يا حبيبي ، فالمجرم هو الدكتور "عزام" وشريكاه في الجريمة .
صرخ الدكتور "أسعد" ، وقد استند بيده علي منضدة خشبية خشية الوقوع :
ـ أرجوك لا تقولي هذا يا "سارة" ، لقد كنت أنا و"سكينة" ضحية الدكتور "عزام" ، فأنت لا تعرفين جبروت وقسوة هذا الرجل ، و...
فجأة دوي صوت انفجار هائل ، وتدافعت الأجهزة والأشياء الصغيرة والزجاجية في كل مكان ، وسمع صوت انهيار الحائط الأمامي للمعمل ، فوثب الدكتور "أسعد" ليتفادى الخطر المحدق ، بينما نهض "عزيز" آخذا "سارة" معه وهو يضمها إليه ، وقد أذهلتهم المفاجأة ، ثم تناهى لهم أصوات رجال يتصايحون بلكنة أجنبية متوحشة ، فصرخ "عزيز" :
ـ هيا نختبئ .
جذب "سارة" إلي الباب السري للمكتبة المؤدي إلي مكان المسوخ وحيوانات التجارب ، وهبطا بسرعة يتبعهما الدكتور "أسعد" ، صرخت "سارة" عندما لمحت المسوخ المكشرة عن أنيابها ، وأخذ جسدها يرتجف ، وقد أصابها رعب قاتل ، فأمسك "عزيز" يدها بين راحتيه ، وصاح بها :
ـ لا تخافي يا حبيبتي ، فأنا معك .
هتف الدكتور "أسعد" متسائلا :
ـ ما الذي حدث ؟
قال "عزيز" :
ـ لقد اقتحمت إحدى العصابات الدولية مبني المعمل ، فهي تسعي وراء الدكتور "عزام" للحصول علي مشروعه الأخير .
تناهي لهم صوت أقدام ثقيلة ، تخطو خطوات سريعة في معمل الأبحاث فصرخ "عزيز" :
ـ إنهم يبحثون عنا الآن .
أشار إلي الأقفاص الحديدية في أقصي المكان ، ودفع "سارة" إليها وهو يصرخ :
ـ اختبئي هنا يا "سارة" حتي تكوني في أمان .
ثم التفت إلي الدكتور "أسعد" وصاح به :
ـ اختبئ أنت في الجانب الآخر ، وسأكون أنا في هذا الجانب لأطلق عليهم المسوخ .
صرخ الدكتور "أسعد" هلعا :
ـ لا أرجوك ، فسوف تهاجمنا نحن أيضا .
هتف "عزيز" :
ـ لا تخف ، فإنني قادر علي السيطرة عليها .
بدأت رائحة خانقة تزحف إلي المكان ، ولمحا ألسنة اللهب تمتد من تحت الباب السري المصنوع من الخشب ، ثم تعالى صوت طقطقة الخشب المتكسر تحت وطأة ضربات هراوات ثقيلة ، وفتح الباب المشتعل ، وتقدم رجال يضعون أقنعة واقية من الغازات ، ويرتدون ملابس ضد الحريق ، وقد أشهروا مدافعهم الأتوماتيكية سريعة الطلقات أثناء اقتحامهم المكان .
في اللحظة الحاسمة ، فتح "عزيز" الأقفاص الحديدية للمسوخ ، وأشار تجاه المقتحمين ، وصرخ آمرا :
ـ اهجموا عليهم واقتلوهم .
اندفعت المسوخ صوبهم ، واشتبكت مع اثنين منهم ، وأخذت تنهش أجسادهما ، بينما كان يصرخان ألما ، ويصارعان المسوخ التي تلطخت بدمائهما ، فتقدم اثنان آخران ، وأطلقا النار علي المسوخ ، فسقطت جثثا هامدة .
مات أحد الرجلين بعد أن تمزق جسده بشكل مفزع ، أما الآخر فكان يصرخ من الألم وهو لا يستطيع الحراك بعد أن أصيب إصابات بالغة .
بدأ الرجلان يتقدمان صوب "عزيز" ، الذي أخذ في التراجع إلي الوراء ، بينما كان ذنبه القاتل يتمدد ممزقا سرواله ، صاح أحدهما بصوت آمر :
ـ توقف مكانك .
قال الآخر بصوت أجش :
ـ نريد مخطوطات المشروع الأخير الآن ، وإلا سندمر كل شيء ، ونقتل صديقتك العزيزة "سارة" .
بدأ الدخان المتصاعد من الحريق يغطي المكان ، فألقي ستارا كثيفا مثل الضباب ، جعلهما لا يريان الذنب الرهيب ، وهو يقصف الهواء بشكل غاضب .
أخذ الرجلان يتقدمان إلي الأمام ، و" عزيز" يتراجع إلي الوراء ، واستطاعت "سارة" من مخبئها أن تلمح الذنب وهو يشق الدخان ، فصرخت مرتعبة ، بينما انكمش الدكتور "أسعد" وقد نال منه الفزع ، واستولي عليه الخوف ، وهو يري الرجلين يتقدمان مشهرين أسلحتهما ، وذنب "عزيز" المخيف وهو يتراقص.
أخذت ألسنة النيران تمتد إلي داخل المكان ، وبينما كان الرجلان يتقدمان هوى الذنب علي أحدهما وأطبق عليه ، فسقط جسده في الحال لافظا أنفاس الحياة ، وانطلقت رصاصة في نفس اللحظة أصابت "عزيز" في كتفه ، فانبثقت بقعة كبيرة من الدم ، وبالرغم من الألم المروع الذي كان يشعر به ، فقد تحامل علي نفسه ، وامتد ذنبه الطويل مرة أخري وهوى علي الرجل بسرعة خاطفة قبل أن يطلق رصاصات أخرى ، فوقع علي الأرض دون حراك .
بدأت النيران تشب في أنحاء المكان ، وأخذ لهيبها يلفحهم ، صرخ "عزيز" في الدكتور "أسعد" وهو يلوح بيده تجاه "سارة" :
ـ خذها فورا واخرجا الآن .
قال "عزيز" وهو يضع يده علي مكان الجرح الذي كان ينزف بغزارة :
ـ اتركاني الآن ، ولا تفكرا بي بعد الآن .
وثب الدكتور "أسعد" ًصوب "سارة" القابعة في مكانها وراء الأٌقفاص ، وغطاها بمعطفه الثقيل ، وحملها بين ذراعيه ..
صرخت "سارة بلوعة :
ـ "عزيز" .."عزيز" .
هتف "عزيز" بصوت واهن ضعيف وهو يتهاوى علي الأرض :
ـ إنني أموت الآن ، اتركا جسدي لتأكله النيران ، وليبق أمري سرا لا يعرفه أحد غيركما .
تقدم الدكتور "أسعد" بين النيران المتأججة ، و"سارة" بين ذراعيه ، وجري بسرعة خارج المكان مخترقا الباب المشتعل ، ثم تقدم في المختبر عابرا الدهليز بمشقة بعد أن تهدم بناؤه ، حتي أصبح خارج مبني المعمل المنهار، بينما كانت النيران تندلع بشكل مخيف وقد أخذت كل شيء في طريقها ، حتي الحيوانات المسكينة رهينة الأقفاص .
شبت ألسنة النيران الملتهبة نحو السماء ، والتمعت في عيني كل من "سارة" والدكتور "أسعد" الأسى الممزوج بدموعهما .
غمغمت "سارة" بحزن غامر ، وبقلب منفطر :
ـ وداعا يا حبيبي ، أرجو من الله أن يغفر الله لك كل خطاياك .
لف الدكتور "أسعد" ذراعه حولها ، وهتف برقة :
ـ هيا يا "سارة" لنغادر هذا المكان المشئوم .
ركبا السيارة التي مرقت عبر البوابة مخترقة الصحراء ، وحاولت "سارة" أن تلتفت وراءها ، فصاح الدكتور "أسعد" :
ـ أرجوك يا "سارة" لا تنظري وراءك فلقد انتهي كل شيء .
في الطرف الآخر من مبني الأبحاث كانت سيارة جيب سوداء تنهب الصحراء ناثرة الرمال حولها بشكل غاضب ، وقد قبع خلف مقودها "عزيز" وقد ارتسمت علي وجهه ابتسامة غامضة مصوبا نظراته إلي الأمام .
انتهي الجزء الأول

فايزة شرف الدين
27/10/2007, 03:29 PM
الاعتراف :ـ اسبقني يا دكتور "أسعد" أنت و"سارة" إلي معمل الأبحاث ، وسوف ألحق بكما خلال وقت قصير .
قالها "عزيز" بهدوء ، وهو جالس وراء مكتبه بالكلية ، بينما جلس قبالته كل من "سارة" والدكتور "أسعد" .
أطلت علي وجه الدكتور "أسعد" دهشة شديدة ، وارتاب في أن أذنيه قد أخطأتا السمع ، وأخذ يقلب عينيه بين "عزيز" و"سارة" ، وسادت فترة صمت قبل أن يتساءل الدكتور "أسعد" وهو يقطب ما بين حاجبيه :
ـ أصحب "سارة" معي إلي المعمل ؟!
أومئ "عزيز" برأسه ، وقال بحزم :
ـ نعم ، اذهبا الآن ولا تضيعا الوقت .
قام الدكتور "أسعد" من مقعده بتثاقل ، ومشي خطوات مضطربة ، وتبعته "سارة" دون أن تنبس ببنت شفة ، وبالرغم من ذلك فقد نظرت بركن خفي إلي "عزيز" لتستشف من وجهه جامد الأسارير ، والذي لا يحمل أي تعبير يدل علي ما يفكر فيه ، وشعرت أن ثمة شيء غامض ورهيب يخفيه عنها "عزيز" ، ويريد البوح به ، والذي زاد من غموض الأمر سماعها لأول مرة عن وجود معمل أبحاث ، فلم يذكره الدكتور "عزام" لها أبدا في أي من الأحاديث التي دارت بينهما
كانت أسارير الدكتور "أسعد" الجالس وراء مقود السيارة تختلج في تيار مستمر يرسم خطوطه علي جبينه ووجهه وقد أصبح أحمر قانٍ ، بينما كان يستشعر حرارة تغمر جسده ، وتألقت عيناه بعاطفة مشبوبة ، وهو ينظر إلي "سارة" من خلال المرآة الأمامية ، وانتابه شعور بالسعادة لأن هذه المخلوقة الجميلة التي تختال دائما في خياله وأحلامه جالسة بجانبه وبالقرب منه ، وإن وكان هذا الشعور ممزوجا بالخوف عليها من الدكتور "عزام" ، فهو لا يشعر بالطمأنينة عليها وهي معه ، لم يصدق يوما أن هذا الرجل قادر علي الحب والعطاء .. ثم أن ذهابها إلي المعمل قد يعرضها إلي الخطر ، فقد يكون الدكتور "عزام" ينوي أن يجري عليها أبحاثه كما أجراها علي "سكينة" من قبل .
عندما خطرت له "سكينة" تدافعت إلي رأسه عشرات من الأسئلة عنها وعن "عزيز" ، الذي لم يسمح الدكتور "عزام" برؤيته إياه بعد ولادته ؛ ثم انتابه شك مفاجئ ، فهو لم يعد يسمع عن القتلى الذين يموتون بسم العقارب ، ولم تعد الصحافة أو الإعلان يذكرا شيئا عن هذا الموضوع ، فلعل الدكتور "عزام" قد تخلص منه ، وليس من المستبعد أن يكون قد تخلص من "سكينة" أيضا . شعر برجفة مؤلمة تسري في جسده ، فلسوف يجري علي "سارة" أبحاثه العظيمة ، ثم يتخلص منها بعد ذلك .
غمغم الدكتور "أسعد" بصوت مرتجف :
ـ يمكنك عدم الذهاب إلي هذا المكان يا آنسة "سارة" .
صاحت "سارة" بلطف حازم :
ـ إنني مصرة علي الذهاب إلي معمل الأبحاث ، فهناك علي ما يبدو أشياء غامضة أريد معرفتها قبل ..
صمتت فجأة ، ولم تكمل عبارتها .
قال الدكتور "أسعد" بنبرة أسى :
ـ قبل أن تتزوجي الدكتور "عزام" .
ساد صمت قاس ، والسيارة تنهب الطريق متجهة إلي الصحراء ، ولاحت علي "سارة" إمارات القلق ، وهي تصعد نظرها في الطريق الرملي ، وقد اكتسي بلون أصفر ذهبي بعد أن غمرته أشعة الشمس الساخنة ، وكانت تري سرابا ممتدا عبر الطريق الخالي من مظاهر الحياة .
بعد فترة لاحت أسوار عالية باهتة في ضوء الشمس الباهر ، وفتحت "سارة" عينيها دهشة ، والسيارة تقترب من هذا المكان الغامض الذي يشبه قلعة حصينة في هذه الصحراء الواسعة .
عبرت السيارة عبر البوابة الحديدية الحصينة ، والتفتت وراءها بفضول ، وهي تراها تقفل دون صوت ، وشعرت بانقباض ممض ، وعيناه الجميلتان تمسح المكان ، والسيارة تواصل سيرها عبر الممشى الطويل ، حتي توقفت بهما في مواجهة معمل الأبحاث .
هبط الدكتور "أسعد" من السيارة ، ثم التف حول السيارة من الأمام ، وفتح باب "سارة" ، فهبطت وهي تقدم قدما وتؤخر الأخرى في تردد ، ثم فجأة شق السكون صوت همهمات مخيفة كأنها صوت أشباح هائمة ، فصرخت مرتعبة ، والتصقت بالدكتور "أسعد" تلتمس الأمان ، فضمها إليه وأغمض عينيه ، وقد شعر بنشوة غامرة وهي بين أحضانه .
رغم الخوف الذي كان لا يزال يسيطر عليها ، إلا أنها دفعت نفسها بعيدا عنه ، تمتمت وهي تشعر بالخجل :
ـ أنا آسفة يا دكتور "أسعد" .
ابتسم الدكتور "اسعد" ، ثم قال بصوت هادئ كي يبعث الطمأنينة إلي قلبها :
ـ هذه أصوات الحيوانات التي نستخدمها في التجارب .
مرر الدكتور "أسعد" الكارت المعدني ففتح باب المبني ، ثم ما لبث أن أقفل وراءهما ، وتعالي صراخ "سارة" مرة أخري وتردد صداه عبر الدهليز الطويل خافت الإضاءة ، عندما لمحت القطة المسخ ذات الرأسين وعيونها الأربعة ينطلق من شرر اللهب ، وتنطلق صوبهما ، فدفعها الدكتور "أسعد" بقدمه ، فأخذت تموء بصوت رهيب .
أغمضت "سارة" عينيها ، وكادت أن يغشي عليها من الخوف فضمها إليه الدكتور "أسعد" ، وقال لها برقة :
ـ يمكنك التراجع عن موقفك ، وسوف أعيدك إلي منزلك في الحال .
قالت وهي تتحامل علي نفسها ، وقد تماسكت بعض الشيء :
ـ لا يا دكتور "أسعد" ، ولكن المفاجأة هي التي أذهلتني .
اتجه بها الدكتور "أسعد" إلي المختبر، وأخذ يشرح لها الأجهزة وأهميتها ، ووظيفة كل منها .
بعد أن تأكد "عزيز" من أن الدكتور "أسعد" و"سارة" غادرا الجامعة ، توجه إلي سيارته علي الفور متجها إلي معمل الأبحاث سالكا طريقا آخر عبر الصحراء .
وعندما وصل إلي الأسوار الخلفية للمعمل ، مشي الهوينى بالسيارة بمحاذاة السور ، ولمح الباب السري بعينيه الثاقبتين ، وضغط علي الأحجار يشكل معين ، فانفتح باب صغير دلف منه ، ثم ما لبث أن أقفل وراءه ، وكان يؤدي إلي نفق ممتد نحت الأرض ، ما أن دخله حتي أضئ كله ، وركب عربة صغيرة تشبه تلك التي تستخدم في السكك الحديدية ، وضغط علي ذر بها ، فتحركت بسرعة عبر القضبان الحديدية ، ثم توقفت عند نهاية النفق ، فهبط "عزيز" من العربة ، وضغط علي ذر موجود بالجدار فتحرك ودلف منه إلي معمل الأبحاث .
بينما كان الدكتور "أسعد" يقوم بشرح بعض الأجهزة المستخدمة في المعمل ، ظهر "عزيز" أمامهما فجأة ، فصرخت سارة مرتعبة ، بينما تجمد الدكتور "أسعد" مكانه من هول المفاجأة.
صاح "عزيز" وهو يبتسم بغموض :
ـ أنا آسف لم أقصد إرعابكما .
صاحت بصوت ضعيف :
ـ لم نشعر بدخولك يا "عزيز" !
حدق الدكتور "أسعد" النظر إلي "عزيز" ، وغمره إحساس غامض مخيف ، ارتسم علي وجهه وفي عينيه المتسعتين علي آخرهما عند سماعه اسم "عزيز" ، وهتف دون إرادة منه مرددا الاسم بتعجب :
ـ "عزيز" !!
التفت "عزيز" إليه والابتسامة الغامضة ما زالت مرتسمة علي وجهه :
ـ ما الذي أرعبك من اسم "عزيز" يا دكتور "أسعد" ؟
شحب وجه الدكتور "أسعد" حتي صار كالأموات ، ثم أخذ يلوح بيديه صارخا بأفكاره :
ـ مستحيل .. مستحيل !!
ضحك "عزيز" ضحكة جافة ، ثم التفت إلي "سارة" التي امتقع وجهها ، وأخذ جسدها يرتجف وهي تقلب عينيها بين الاثنين في ذهول مؤلم ، قطع ضحكته فجأة ، وارتسم علي وجهه أسي وشعر بمرارة تغص حلقه ، وهتف بها في حرارة :
ـ أرجوك يا حبيبتي لا تخافي ، فسوف تعرفين كل شيء الآن .
صرخ الدكتور "أسعد" متوسلا ، وقد تقلص وجهه ، وعمقت فيه تجاعيد كأنما كبر عشرات الأعوام فجأة :
ـ لا ، لا أرجوك لا تقل شيئا .
لم يبال "عزيز" بتوسلاته وهو يشير إلي الأطباق الزجاجية ، والأجهزة التي امتلأ بها المختبر ، واستطرد وهو يقول :
ـ هنا كانت بدايتي منذ كنت خلية صغيرة لا قيمة لها .
تلقف أنفاسه المتلاحقة ، وغامت عيناه ، كأنما كان ينبش بذاكرته في جدار الماضي ، وقال بصوت عميق :
ـ فمنذ ثمانية عشر عاما راودت عالم كبير فكرة جهنمية في أنه سيخلد باستنساخ نفسه ، ودفعه الطموح العلمي بأن تكون هذه النسخة أفضل منه ، فوضع مورثات الأسد كي تكتسب نسخته قوة عضلية فائقة ، وكان لهذا العالم مساعدان ، أحدهما رجل والآخر امرأة ، شاركاه في مشروعه الرهيب . للأسف أخطأت المرأة فوضعت مورثات العقرب ، ولسوء الحظ نجحت التجربة ، وتم زرع الجنين عندما وصل إلي المرحلة التوتية في رحمها بعد أن أجبرها العالم بالقهر والقوة ، عاشت المسكينة وهذا الطفل الذي ولدته في فيلته المنعزلة بعيدا عن الناس ، ولم يكن نصيب الاثنين منه إلا الإهمال والقسوة ، وعندما كبر الطفل أدرك هذا العالم الخطأ المروع الذي وقع فيه ، عندما رأي صورة طبق الأصل منه ، فأراد التخلص منهما ، خاصة أنه أحب فتاة جميلة ، وأراد أن يزيل البقعة السوداء التي تشوه حياته ، والغريب في الأمر أن نسخته أحب هذه الفتاة أيضا منذ أن وقعت عيناه عليها ، وانتابته نفس المشاعر السوداء .
كان هذا الرجل أسبق في خطوته الإجرامية ، واستطاع أن يقتل المرأة ، أما نسخته فاستطاع الإفلات من الموت المحقق الرهيب بأعجوبة ، والانتقام لأمه المسكينة ولنفسه ، وكان جزاء القاتل القتل بنفس الطريقة الرهيبة التي كان العالم ينوي بها قتل الاثنان .
أضاف "عزيز" وقد غص حلقه بالمرارة :
ـ هذه قصتي باختصار يا حبيبتي ، وإنني أدرك أنك أحببت الدكتور "عزام" وليس نسخته ، فقد خدعتك عندما تقمصت شخصيته ، ومع ذلك فلم أخدعك يوما في حبي لك ، فلقد أحببتك لدرجة الجنون ، بل أحببتك أكثر من نفسي ، وأحببت الحياة من أجلك ., فلقد أشعرني حبي لك أنني إنسان يستطيع أن يحب .
هتفت "سارة" وهي تمد يديها إلي الأمام :
ـ صدقني يا "عزيز" ، لقد أحببتك أنت ، وليس الدكتور "عزام" , فقد كان شعوري نحوه هو إجلال الأستاذ ، أما معك فلقد شعرت بالسعادة الحقيقية ، وبدفء وقوة حبك لي .
لمعت الدموع في عيني "عزيز" ، وقال وهو يزدرد دموعه المنسابة علي وجهه :
ـ للقصة بقية يا عزيزتي ، فأنا مسخ ، وأحمل في جسدي مورثات العقرب ، وكل من يقترب مني تصيبه لعنة الموت من ذنبي القاتل .
تداعي جسد "عزيز" ، وجلس علي ركبتيه ، ودفع رأسه بين راحتيه ، وأخذ يجهش بالبكاء الحار بصوت مرتفع ، فاندفعت "سارة" إليه وجلست بجانبه ، ومدت يدها وأخذت رأسه ووضعتها علي صدرها وضمته إليها بحرارة ، وهتفت بصوت مرتعش ، وعبراتها الساخنة تلفح وجهها :
ـ "عزيز" ، حبيبي ، لقد أحببتك بكل ذرة في كياني ، ولن يفرق أي شيء مهما كان بيننا .
غمغم بصوت مختنق :
ـ إنني مجرم يا "سارة" .
ضغطت براحتيها علي ظهره ، وهي تصيح :
ـ لست مجرما يا حبيبي ، فالمجرم هو الدكتور "عزام" وشريكاه في الجريمة .
صرخ الدكتور "أسعد" ، وقد استند بيده علي منضدة خشبية خشية الوقوع :
ـ أرجوك لا تقولي هذا يا "سارة" ، لقد كنت أنا و"سكينة" ضحية الدكتور "عزام" ، فأنت لا تعرفين جبروت وقسوة هذا الرجل ، و...
فجأة دوي صوت انفجار هائل ، وتدافعت الأجهزة والأشياء الصغيرة والزجاجية في كل مكان ، وسمع صوت انهيار الحائط الأمامي للمعمل ، فوثب الدكتور "أسعد" ليتفادى الخطر المحدق ، بينما نهض "عزيز" آخذا "سارة" معه وهو يضمها إليه ، وقد أذهلتهم المفاجأة ، ثم تناهى لهم أصوات رجال يتصايحون بلكنة أجنبية متوحشة ، فصرخ "عزيز" :
ـ هيا نختبئ .
جذب "سارة" إلي الباب السري للمكتبة المؤدي إلي مكان المسوخ وحيوانات التجارب ، وهبطا بسرعة يتبعهما الدكتور "أسعد" ، صرخت "سارة" عندما لمحت المسوخ المكشرة عن أنيابها ، وأخذ جسدها يرتجف ، وقد أصابها رعب قاتل ، فأمسك "عزيز" يدها بين راحتيه ، وصاح بها :
ـ لا تخافي يا حبيبتي ، فأنا معك .
هتف الدكتور "أسعد" متسائلا :
ـ ما الذي حدث ؟
قال "عزيز" :
ـ لقد اقتحمت إحدى العصابات الدولية مبني المعمل ، فهي تسعي وراء الدكتور "عزام" للحصول علي مشروعه الأخير .
تناهي لهم صوت أقدام ثقيلة ، تخطو خطوات سريعة في معمل الأبحاث فصرخ "عزيز" :
ـ إنهم يبحثون عنا الآن .
أشار إلي الأقفاص الحديدية في أقصي المكان ، ودفع "سارة" إليها وهو يصرخ :
ـ اختبئي هنا يا "سارة" حتي تكوني في أمان .
ثم التفت إلي الدكتور "أسعد" وصاح به :
ـ اختبئ أنت في الجانب الآخر ، وسأكون أنا في هذا الجانب لأطلق عليهم المسوخ .
صرخ الدكتور "أسعد" هلعا :
ـ لا أرجوك ، فسوف تهاجمنا نحن أيضا .
هتف "عزيز" :
ـ لا تخف ، فإنني قادر علي السيطرة عليها .
بدأت رائحة خانقة تزحف إلي المكان ، ولمحا ألسنة اللهب تمتد من تحت الباب السري المصنوع من الخشب ، ثم تعالى صوت طقطقة الخشب المتكسر تحت وطأة ضربات هراوات ثقيلة ، وفتح الباب المشتعل ، وتقدم رجال يضعون أقنعة واقية من الغازات ، ويرتدون ملابس ضد الحريق ، وقد أشهروا مدافعهم الأتوماتيكية سريعة الطلقات أثناء اقتحامهم المكان .
في اللحظة الحاسمة ، فتح "عزيز" الأقفاص الحديدية للمسوخ ، وأشار تجاه المقتحمين ، وصرخ آمرا :
ـ اهجموا عليهم واقتلوهم .
اندفعت المسوخ صوبهم ، واشتبكت مع اثنين منهم ، وأخذت تنهش أجسادهما ، بينما كان يصرخان ألما ، ويصارعان المسوخ التي تلطخت بدمائهما ، فتقدم اثنان آخران ، وأطلقا النار علي المسوخ ، فسقطت جثثا هامدة .
مات أحد الرجلين بعد أن تمزق جسده بشكل مفزع ، أما الآخر فكان يصرخ من الألم وهو لا يستطيع الحراك بعد أن أصيب إصابات بالغة .
بدأ الرجلان يتقدمان صوب "عزيز" ، الذي أخذ في التراجع إلي الوراء ، بينما كان ذنبه القاتل يتمدد ممزقا سرواله ، صاح أحدهما بصوت آمر :
ـ توقف مكانك .
قال الآخر بصوت أجش :
ـ نريد مخطوطات المشروع الأخير الآن ، وإلا سندمر كل شيء ، ونقتل صديقتك العزيزة "سارة" .
بدأ الدخان المتصاعد من الحريق يغطي المكان ، فألقي ستارا كثيفا مثل الضباب ، جعلهما لا يريان الذنب الرهيب ، وهو يقصف الهواء بشكل غاضب .
أخذ الرجلان يتقدمان إلي الأمام ، و" عزيز" يتراجع إلي الوراء ، واستطاعت "سارة" من مخبئها أن تلمح الذنب وهو يشق الدخان ، فصرخت مرتعبة ، بينما انكمش الدكتور "أسعد" وقد نال منه الفزع ، واستولي عليه الخوف ، وهو يري الرجلين يتقدمان مشهرين أسلحتهما ، وذنب "عزيز" المخيف وهو يتراقص.
أخذت ألسنة النيران تمتد إلي داخل المكان ، وبينما كان الرجلان يتقدمان هوى الذنب علي أحدهما وأطبق عليه ، فسقط جسده في الحال لافظا أنفاس الحياة ، وانطلقت رصاصة في نفس اللحظة أصابت "عزيز" في كتفه ، فانبثقت بقعة كبيرة من الدم ، وبالرغم من الألم المروع الذي كان يشعر به ، فقد تحامل علي نفسه ، وامتد ذنبه الطويل مرة أخري وهوى علي الرجل بسرعة خاطفة قبل أن يطلق رصاصات أخرى ، فوقع علي الأرض دون حراك .
بدأت النيران تشب في أنحاء المكان ، وأخذ لهيبها يلفحهم ، صرخ "عزيز" في الدكتور "أسعد" وهو يلوح بيده تجاه "سارة" :
ـ خذها فورا واخرجا الآن .
قال "عزيز" وهو يضع يده علي مكان الجرح الذي كان ينزف بغزارة :
ـ اتركاني الآن ، ولا تفكرا بي بعد الآن .
وثب الدكتور "أسعد" ًصوب "سارة" القابعة في مكانها وراء الأٌقفاص ، وغطاها بمعطفه الثقيل ، وحملها بين ذراعيه ..
صرخت "سارة بلوعة :
ـ "عزيز" .."عزيز" .
هتف "عزيز" بصوت واهن ضعيف وهو يتهاوى علي الأرض :
ـ إنني أموت الآن ، اتركا جسدي لتأكله النيران ، وليبق أمري سرا لا يعرفه أحد غيركما .
تقدم الدكتور "أسعد" بين النيران المتأججة ، و"سارة" بين ذراعيه ، وجري بسرعة خارج المكان مخترقا الباب المشتعل ، ثم تقدم في المختبر عابرا الدهليز بمشقة بعد أن تهدم بناؤه ، حتي أصبح خارج مبني المعمل المنهار، بينما كانت النيران تندلع بشكل مخيف وقد أخذت كل شيء في طريقها ، حتي الحيوانات المسكينة رهينة الأقفاص .
شبت ألسنة النيران الملتهبة نحو السماء ، والتمعت في عيني كل من "سارة" والدكتور "أسعد" الأسى الممزوج بدموعهما .
غمغمت "سارة" بحزن غامر ، وبقلب منفطر :
ـ وداعا يا حبيبي ، أرجو من الله أن يغفر الله لك كل خطاياك .
لف الدكتور "أسعد" ذراعه حولها ، وهتف برقة :
ـ هيا يا "سارة" لنغادر هذا المكان المشئوم .
ركبا السيارة التي مرقت عبر البوابة مخترقة الصحراء ، وحاولت "سارة" أن تلتفت وراءها ، فصاح الدكتور "أسعد" :
ـ أرجوك يا "سارة" لا تنظري وراءك فلقد انتهي كل شيء .
في الطرف الآخر من مبني الأبحاث كانت سيارة جيب سوداء تنهب الصحراء ناثرة الرمال حولها بشكل غاضب ، وقد قبع خلف مقودها "عزيز" وقد ارتسمت علي وجهه ابتسامة غامضة مصوبا نظراته إلي الأمام .
انتهي الجزء الأول

محمد فؤاد منصور
12/02/2008, 05:09 PM
الأخت العزيزة فايزة شرف الدين

أنهيت قراءة الجزء الأول بفصوله الخمسة عشر من هذه الرواية التى شدتنى بالفعل خاصة وأنها تعتمد على الخيال العلمى ،وفيها الكثير من الجهد المبذول الذى أحييك عليه وعلى الفكرة التى تحاول معرفة إلى أين سيؤدى بنا التطور العلمى المفتوح بلا ضوابط دينية أو أخلاقية..لم أستحسن أن أعلق على كل فصل حتى لايبدو الكلام مكرراً فآثرت أن أنهى القراءة أولاً ..الرواية أعجبتنى وأتمنى قراءتها فى صورتها الورقية إذ تبدو قراءة رواية كاملة من خلال الكمبيوتر عملية مجهدة للعينين ..تقبلى أمنياتى الطيبة وأتمنى أن تشاركينا العمل الجماعى فى "حارتنا" وهى الرواية التى بدأت تتبلور وتشد المزيد من القراء فلا تحرمينا من مشاركتك ولو بلبنة تضيف إلى البناء.تقبلى تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl:

فايزة شرف الدين
13/02/2008, 07:07 PM
:fl:الأخ الدكتور العزيز / محمد منصور
شعرت بسعادة غامرة ، أن أقرأ تعليقك سيادتك على الفصل الأخير من الرواية ، وأعرف أنه من الصعب جدا أن يقرأ المرء رواية كاملة عبر الشاشة الكترونية .
سيادتك طبيب ، وفخر لي أن تعلق على تلك الرواية العلمية في المقام الأول .. فقد حاولت أن تكون الحقائق العلمية دقيقة ، وهذا ما أبتغيه في قصص الخيال العلمي .. بالفعل بذلت جهدا وأن أسعى لجمع المادة العلمية اللازمة لتلك الرواية.. ومع الروايات الأخرى التي قمت بتأليفها .
بما أن هذه الرواية قد نشرت ، فعندي نسختها الورقية .. ويشرفني أن أرسل لسيادتك نسخة منها، والأعمال الخمسة التي نشرت ، أربعة منها عن الخيال العلمي للفضاء ، وواحدة رومانسية باسم " يامن أحببت " .
فقط أذكر لي عنوان سيادتك ، وسأرسل هذه النسخ في طرد .
أما بالنسبة لمشاركتي في العمل الكبير أولاد حارتنا .. فهو شرف كبير أن أشترك في هذا العمل .. ولكن أخشى أن يكون صوتي نشازا في تلك الرواية .. ربما لأني لم أستوعب حياة الحارة ، أو أنني قد حلقت في أفق مختلف فيه المادة العلمية موجودة ، حتى في الروايات الرومانسية ، وهو خط مختلف تماما عن جو الحارة الحميم ، الذي فيه كثير من المسالب لم أستطع هضمها .
أشكر لك اهتمامك ، دمت لنا أخا رائدا في منتدانا واتا

زاهية بنت البحر
27/07/2008, 10:37 AM
بارك الله بك أختي الغالية فايزة قرأت الجزء الأول كاملا وبانتظار الجزء الثاني، القصة جميلة أشكرك على الجهد الكبير فيها وأشكر أختي الغالية فاطمة بنت السراة على تكملة جمالها.
أختك
بنت البحر

فايزة شرف الدين
27/07/2008, 09:46 PM
أهلا بك أختى المبدعة زاهية
سعيدة أنك أنهيت قراءة العمل وأشكر لك تواصلك .. لأني فعلا أشعر بأسى عندما أجد أن أعداد من دخلوا الفصل الأول كبير .. ثم يبدأ عدد القراء في التناقص .. لأجد شيئا غريبا أن عدد من دخلوا الفصل الأخير قد تزايد فجأة كأنما القارئ يريد أن يستعجل النهاية .. لكن هذا فعلا هضم لأحداث الرواية .. فلن يستطع القارئ الربط بين الفصل الأول والأخير دون المرور على الفصول الباقية .

أما بالنسبة للجزء الثاني .. فربما علي التفكير والتدبر في نشره عبر النت .. لأني أنوي أن أنشر هذا العمل في رواية كبيرة باسم الشيطان والعقرب لدى دور النشر .
فلي أعمال أخرى روائية عديدة لا أستطيع نشرها طالما لم تنشر ورقيا خشية السرقة الأدبية .

http://www.10neen.com/up/uploads/dcfa097958.gif (http://www.10neen.com/up/)

فاطمه بنت السراة
03/08/2008, 12:10 AM
:

حقيقة مجهود كبير تستحقي كثير الشكر عليه.

سؤال: هل ستنشري الفصل الثاني أم ستجعليني معلقة بهذه النهاية الغامضة؟


غاليتي فايزة ..
سأطلب طلب, ولن تقولي لا.
يشرفني أن أحظى بكتاباتك الورقية المطبوعة, وأولها الرجل العقرب, على أن تزين بإهدائك.
إذا..... فسأوافيك بصندوق بريدي على الخاص, مع شكري الجزيل مقدماً ومؤخراً.
وإذا كان الجواب بالثانية, فاعتبريها (مقايضة) برحلة اليخت الجميلة. طبعاً رحلة عمر لن ننساها ولن تتكرر لنا,
ولن تنكري بالطبع فالصورة خير شاهد.


أخطاء مطبعية:

أومئ "عزيز" برأسه ، وقال بحزم = أومأ (هكذا أعرفها والله أعلم)
وكان يؤدي إلي نفق ممتد نحت الأرض= تحت
وضغط علي ذر بها = زر
وضغط علي ذر موجود بالجدار= زر

كوني بخير


http://www.10neen.com/up/uploads/87d8353e8e.jpg (http://www.10neen.com/up/)

عبد العزيز غوردو
03/08/2008, 12:24 AM
تأبين، أختي الفاضلة فايزة، إلا أن تحبسي أنفاسنا حتى الرمق الأخير...

لكننا سنتابع بقية الأحداث..

وبلهفة شديدة...

مع كل المودة والتقدير

فايزة شرف الدين
04/08/2008, 01:17 AM
الغالية فاطمة
كيف أقول لك لا .. أنت تأمرين وعلي التفيذ .. فإنه شرف لي أن أرسل لك مؤلفاتي الورقية التي تم نشرها ومدموغا عليها إهدائي .. فهذا منتهى سعادتي .
أما بالنسبة للأخطاء فلم يجانبك الصواب فيها .. سأعود إلي هذا الفصل لأنقحه مرة أخرى .
أما اليخت فليت يجمعنا مكانا واحدا نستمتع فيه معا .. روبما نعيش مغامرة ربنا يستر علينا منها .

http://www.10neen.com/up/uploads/85530a564b.gif (http://www.10neen.com/up/)

فايزة شرف الدين
04/08/2008, 01:39 AM
ياااااااااااه .. كم أشعر بسعادة عندما أجد هذا الصدى لعمل روائي ينشر عبر النت .. ومن كتاب لهم وزنهم .

أخي عبد العزيز هذا العمل تم تأليفة منذ تسع سنوات تقريبا .. عندما تم نشره ، وجدت بعضا من القراء يسألوني عن النهاية .. فقد تركتها مفتوحة .. لكن هناك قراء من الشباب اعتصر فكره كي يكتب تكملة لها .
بعد عدد من السنوات فكرت جديا في كتابة الجزء الثاني .. وفيه المادة العلمية توجد في قالب المغامرة .. بالفعل سوف يكشف النقاب عن سر عزام مع آخر صفحة .. لكن ما زلت مترددة أن أنشره الكترونيا لأني أهدف أن اضم الجزئين معا باسم جديد لينشر في عمل ورقي .. على أن تتبناه دار نشر .

أعتقد أن لي روايات أخري علمية في نفس مستوى هذه الرواية ، وإن كان أحد النقاد الكبار أعرب أن روايتي " قصر الصمت " أقوى من الرجل العقرب .. لكن هذه الأعمال لم تجد النور كعمل ورقي .
للأسف دائما نسمع في المحطات الفضائية والأرضية ، والجرائد والمجلات عن نقص الخيال العلمي .. لكن هؤلاء يقتلون كل مخيلة وإبداع .. وكون أن المؤلفة سيدة .. فهي إذن غير قادرة على تأليف الخيال العلمي .
أخي لك كل المودة والتقدير

http://www.10neen.com/up/uploads/a77e71c3d2.gif (http://www.10neen.com/up/)