المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تحية للناقد والقاص أخي زكي العيلة



عبد الحميد الغرباوي
27/10/2007, 05:55 PM
تحية لأخي زكي العيلة
قراءة في بعض نصوص القاص عبد الحميد الغرباوي

بقلم القاص و الروائي و الناقد الدكتور زكي العيلة

1 ـ قراءة نص (أوراق من دفتر عاشق مجهول)


في نص (أوراق من دفتر عاشق مجهول) التي يعثر عليها عابر سبيل أسفل شجرة في غابة تجاور المدينة، يوغل عبد الحميد الغرباوي في تلافيف وجدان بطله، مستقطراً أبعاداً إنسانية يختلط فيها التواصل بالعزلة، الراهن بالدائم، الصلابة بالانكسار، الحلم بالوهم، عبر لغة خاطفة إيمائية موحية، وهي تكشف المعاناة الداخلية لعاشقين تحول حبهما الكبير إلى سطور متباعدة باهتة، ورغم دفق الندى الذي كاد يتلف ما خُط من كلمات نتحسس عبر السطور الباقية حجم اللهفة التي تنتاب العاشق وهو مقبل على لقاء معشوقته، مسكوناً بالخوف، محاصَراً بعوالم من القبح والملوثات التي تبرز نتوءات وندوباً تشوه ملامح واقعنا المعاصر "المتفجرات، سماسرة الجنس، عصابات الغبار الأبيض، أجهزة الالتقاط الرقمية، قنوات العري وأكاديمي ستار".

ومع الوقت يكتشف السارد أن الحب قد بدأ يفقد الكثير من ألقه حين عجز عن ابتكار مفردات جديدة، ليتحول إلى عزف رتيب ممل، ولغو ثقيل لا يملك إمكانية مجابهة لغة الواقع بكل مراراتها التي تهزم أحلام العاشقين:
"اللحظة، اكتشف أن عدوا آخر يتربص بنا يلتصق بنا كظل، لا يشبه ظل أي منا، ظل حقود، يعد أنفاسنا، نبضاتنا، و يقيس مدى الانفراج الذي يحدثه الفرح على ثغرينا،... وأتخيله شخصاً نحيفا، بشعاً، حقيراً ، تملأ صفحة وجهه خدوش وندوب طرية، كأنه خارج للتو من عراك دموي عنيف... أتخيله شخصاً مسموماً يقطر سماً، حسودا، قاسي القلب، لا يرحم، لا يبالي بأوجاعنا وتأوهاتنا ولهفنا... إنه الوقت".

شيئاً فشيئاً تبدأ أحاسيس الحب في التراجع، تصبح الاعتذارات المتتالية، والابتسامات الشاحبة هي البديل عن التواصل، بحيث يأتي قرار المعشوقة بالرحيل والانفصال نتيجة طبيعية لواقع لا تأبه أسواقه بمفردات الحب فقط، لترتفع في داخله أكوام الوحشة في عالم غدا محطات مقفرة وهزائم، بحيث نكاد نتلمس آهاته الطالعة حركة داخلية تتساوق مع الحركة الخارجية التي يجسدها صوت آلات الجاز التي تنبثق خلفيةً تتوغل في أعماقه تاريخاً من قوافل بشرية أُرغمت علي الرحيل قسراً وقهراً، لتحط الرحال على شواطئ عالم جديد مفعم بالوجع والأنين، وجع يعبره محملاً بأحاسيس من الوحشة والاغتراب والعزلة، لتأتي الخاتمة تحقق ثنائية المفارقة، وكأنها الوجه الآخر لحالات العزلة والقوقعة والانسحاب حين يتناول الراوي ورقة وقلماً يكمل بها سطور الأوراق في لفتة تؤكد على التواصل الإنساني وصلابة الحلم في مواجهة أسواق الخوف والزيف.
* * *
* جزء من فصل : (تشوهات المرحلة وخيباتها في اثنتي عشرة قصة عربية) من كتاب (في ضفاف السرد- دراسات في القصة والرواية) يصدر للكاتب هذا الأسبوع عن منشورات الماجد، رام الله، فلسطين.
****

2 ـ قراءة نص ( معطف و عشر سنتات )

يؤكد نص ( معطف و عشر سنتات ) للقاص عبد الحميد الغرباوي على عدم التسليم بوطأة الواقع الراهن التعس من خلال أنموذج ذلك الشاب رمز طبقة المسحوقين المنسيين الذين لا يتنكرون لأحلامهم و لا يتنازلون عن نقائهم ، حين يصر بطلنا على امتلاك معطف و لو كان قديماً ، حيث يتمكن بعد إلحاح من انتزاع موافقة أبيه الخبير بخبايا سوق الخردة بمرافقته تحقيقاً لذلك المطلب الذي سيتيح له فرصة التفاخر أمام شلة الأصدقاء بدلاً من تعليقاتهم و تندرهم و سخريتهم من معطفه الذي " كرهني و صار يتأفف مني ، و أنا في هذا أشاطره نفس الإحساس " .

و عبر المذياع الذي يقوم السائق بتشغيله تتوارد أخبار المعاناة العربية كخلفية تلح على الحدث ، تتكامل معه و به و لا تخفي حقائق الواقع العربي المعيش ( مستجدات الزلزال الذي ضرب منطقة ساحلية شمالية في البلاد ، العراق و سقوط العشرات من القتلى و المئات من الجرحى ، غزة و المزيد من الشهداء ، قرية النخيلة في مصر و ملاحقة الجيش لعائلة تبث الرعب بين السكان لأزيد من ثلاثة عقود ) .

و لعل في عثور الراوي على قطعة نقدية من فئة عشر سنتات في جيوب معطف الخردة الآتي من وراء البحار إشارة إلى واقع العجز العربي والخلل حين يغدو الاستجداء و انتظار رحمة فتات الحلول المشروطة منحاً أو منعاً هو البديل عن الفعل و التنمية ، و احترام إنسانية المواطن العربي .

****

3 ـ قراءة قصة ( الكاسكادور )

الكاسكادور أنموذج إنساني يأسرنا ببساطته ، يضيء روحنا المتعبة قبل أن يمضي بعيداً دون استئذان .
شاب يعيش في قعر المجتمع ، لا تلوح في آفاقه و هو يفتش عن لقمة العيش أية بدائل سوى تلبس الخطر و ركوبه في مؤسسة تهتم بإصلاح المصاعد في ظل انعدام أية احتياطات لازمة و مشروعة ، حيث تمر به اللحظات معلقاً في الفراغ الذي يمر منه الصندوق النازل وسط جدران إسمنتية قد تحمل كل لحظة المفاجأة الفاجعة ، بحيث استحق أن يشبهه الرفاق بمتسلق الجبال أو الكاسكادور .
و رغم واقعه الاجتماعي التعس نجده يضج بتجارب الحياة ، قليل الكلام ، عميق التأملات دائم الابتسام ، قليل الانتقاد و التظلم ، رافضاً التقوقع أو الهزيمة :

" الدنيا لا تستأهل منّا ذرة حزن أو حسرة ...أعد ياأخي إلى وجهك ألقه .. اطرد عنه جهمة الكآبة و الياس ، و ابتسم ... الحياة قصيرة ياعمي " .

و كعادة الشهب التي تحترق و هي تنير الجهات كان لا بد أن يرحل مبكراً في أزمنة يتكرس فيها التفاوت الاجتماعي ، بصعقة كهربية دهمته من سقف المصعد الكارثة ، و كأن تلك الصعقة هي المعادل الموضوعي للافتراس الطبقي .
احترق الكاسكادور ، انسحب دون ضجيج و هو يجاهد من أجل تغيير واقعه ، ذلك الواقع الذي صعق تأملاته و أمعن في اغتيال أحلامه الصغيرة في عالم لا يعترف بإنسانية الإنسان .

زكي العيلة . غزة ـــ فلسطين .
موقع http://zakiaila.com/