المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رائعة غسان كنفانى أم سعد



حـــاتم ســــــالم
28/10/2007, 10:19 AM
خيمة عن خيمة تفرق
بهذه الكلمات لخصت أم سعد الحالة التى عاشها الفلسطينيون
فى خيام اللاجئين وشبابهم فى خيام الفدائيين،هكذا أراد غسان كنفاني
لرائعته ان تبدأبعنوان أم سعد. والآن، فى وقتنا، تعددت الخيام فلم يعد إلا النوع
الأول من الخيام أو حتى الخيام لا وجود لها فأهالي نهر البارد لا خيام لهم ويتمنون العودة
ولكن إلى أين؟.. إلى ذلك المخيم الذي أَخرجوا منه بعد تلك المعارك الطاحنةالتي لم يكن لهم فيها ناقة
أو بعير ليتم تدمير مخيمهم، وهناك خيام على الطريق بين الأردن والعراق؟ وضاقت الأرض بهم فلم يعد لهم متسع
هم وخيامهم فى الصحراء، لم يعد لهم متسع فى الوطن العربي الصغير ليتم ترحيلهم إلى صحاري
البرازيل وخيام أخرى على الحدود السورية العراقية؟..
هكذا هو الحال الآن يا غسان..
ولن ننسى أن هناك خياما أخرى هذه المرة لمن تقطعت بهم السبل فى مدينة
العريش المصرية في خيم نزل الشباب وإن كانت هذه الخيام تفرق
كثيرا عن خيم الصحراء فى الوليد والرويشد ولكنها لا تغني
عن حضن الوطن أن يعود هؤلاء إلى بيوتهم
حيث جزء كانوا فى رحلات علاج
أو زيارات لأقرباء لهم وأغلقت
عليهم المعابر... كم هى الخيام الآن؟..
ولكن خيمة واحدة نفتقدها لا زلنا
وهى خيمة الفدائيين
نترككم مع أم سعد وغسان في رائعته
أم سعد



أم سعد تقول :

خيمة عن خيمة تفرق !



رواية غسان كنفاني



أم سعد ، المرأة التي عاشت مع أهلي في "الغبسية " سنوات لا يحصيها العد ، والتي عاشت ، بعد ، في مخيمات التمزق سنوات لا قبل لأحد يحملها على كتفيه ، ما تزال تأتي لدارنا كل يوم ثلاثاء : تنظر إلى الأشياء شاعرة حتى أعماقها بحصتها فيها ، تنظر إلي كما لابنها ، تفتح امام أذني قصة تعاستها وقصة فرحها وقصة تعبها ، ولكنها أبداً لا تشكو .

إنها سيدة في سن الأربعين ، كما يبدو لي ، قوية كما لايستطيع الصخر ، صبورة كما لا يطيق الصبر ، تقطع أيام الأسبوع جيئة وذهاباً ، تعيش عمرها عشر مرات في التعب والعمل كي تنتزع لقمتها النظيفة ، ولقم أولادها .

أعرفها منذ سنوات . تشكل في مسيرة أيامي شيئاً لا غنى عنه ن حين تدق باب البيت وتضع أشيائها الفقيرة في المدخل تفوح في رأسي رائحة المخيمات بتعاستها وصمودها العريق ، ببؤسها وآمالها ، ترتد إلى لساني غصة المرارة التي علكتها حتى الدوار وراء سنة .

آخر ثلاثاء جاءت كعادتها ، وضعت أشياءها الفقيرة واستدارت نحوي :

- يا ابن عمي ، أريد أن أقول لك شيئاً . لقد ذهب سعد .


- إلى أين ؟

- إليهم ؟

- من ؟

- إلى الفدائيين .

وسقط صمت متحفز فيما بيننا ، وفجأة رأيتها جالسة هناك ، عجوزاً قوية ، اهترأ عمرها في الكدح الشقي . كانت كفاحها مطويتين على حضنها ، ورأيتهما هناك جافتين كقطعتي حطب ، مشققتتين كجذع هرم ، وعبر الأخاديد التي حفرتها فيهما سنون لا تحصى من العمل الصعب ، رأيت رحلتها الشقية مع سعد ، مذ كان طفلاً إلى أن شب رجلاً ، تعهدته هاتان الكفان الصلبتان مثلما تتعهد الأرض ساق العشبة الطرية ، والآن انفتحتا فجأة فطار من بينهما العصفور الذي كان هناك عشرين سنة .

- لقد التحق بالفدائيين .

وكنت ما ازال انظر إلى كفيها . منكفئين هناك كشيئين مصابين بالخيبة . تصيحان من أعماقها تطاردان المهاجر إلى الخطر والمجهول .. لماذا ، يا آلهي ، يتعين على الأمهات أن يفقدن أبناءهن ؟ لأول مرة أرى ذلك الشيء الذي يصدع القلب على مرمى كلمة واحدة مني ، كأننا على مسرح اغريقي نعيش مشهداً من ذلك الحزن الذي لا يدواى .

قلت لها ، محاولاً أ ن أضيعها وأضيع نفسي :

- ماذا قال لك ؟

- لم يقل شيئاً . ذهب فقط ، وقال لي رفيقه في الصباح أنه ذهب إليهم .

- ألم يذكر لك قبلاً أنه سيذهب ؟

- بلى . قال لي مرتين أو ثلاث مرات أنه ينوي الالتحاق بهم .

- ولم تصدقي آن ذاك ؟

- بلى . صدقت . أن أعرف سعد ، وقد عرفت أنه سيذهب .

- فلماذا إذاً فوجئت ؟

- أنا ؟ لم أفاجأ . إنما أعلمك بالأمر . قلت لنفسي : قد تكون ترغب في معرفة أخبار سعد .

- ولست حزينة أو غاضبة ؟

وتحركت كفاها المطويتان في حضنها ، ورأيتهما جملتين قويتين قادرتين دائما على أن تصنعا شيئاً ، وشككت ان كانتا حقاً تنحوان ، وقالت :

- " لا . قلت لجارتي هذا الصباح : أود لو عندي مثله عشرة . أنامتعبة يا ابن عمي . اهترأ عمري في ذلك المخيم . كل مساء أقول يا رب ! . وها قد مرت عشرون سنة ، وإذا لم يذهب سعد ، فمن سيذهب ؟ "

وقامت ، ففاض في الغرفة مناخ من البساطة . بدت الأشياء أكثر ألفة ، ورأيت فيها بيوت الغبسية مرة أخرى ، ولكنني لحقت بها إلى المطبخ ، وهناك ضحكت وهي تنظر إلي ، وأخبرتني .
- " قلت للمرأة التي جلست إلى جانبي آنذاك في الباص ان ولدي أضحى مقاتلاً ( بدا صوتها ، بلا ريب ، مختلفاً ، ولذلك تذكرا ) قلت له أنني أحبه وسأشتاق له ، ولكنه جاء ابن أمه ..

أتعتقد أنهم سيعطونه رشاشاً؟ "

انهم يعطون رجالهم رشاشات . دائماً .

- " والطعام ؟ "

- يأكلون كفاية ، وكذلك يعطونهم السجاير .

- " ان سعد لا يدخن ، ولكنني متأكدة أنه سيتعلم ذلك هناك . يا نور عيني أمه ! أود لو كان قريباً فأحمل له كل يوم طعامه من صنع يدي " .

- يأكل مثل رفاقه .

- "اسم الله عليهم جميعاً ."

وصمتت لحظة ، ثم أدارت وواجهتني :

- " أتعتقد أنه سينبسط لو ذهبت فزرته ؟ أستطيع أن أوفر أجرة الطريق ، وأذهب يومين إلى هناك ."

وتذكرت شيئاً ، فأكملت :

- أتدري ؟ ان الأطفال ذل ! لو لم يكن لدي هذان الطفلان للحقت به . لسكنت معه هناك . خيام ؟

خيمة عن خيمة تفرق! لعشت معهم ، طبخت لهم طعامهم ، خدمتهم بعيني .

ولكن الأطفال ذل ."

قلت لها :

- لا ضرورة لأن تزوريه هناك ، دعيه يتصرف وحده .

ان الرجل الذي يلتحق بالفدائيين لا يحتاج ، بعد ، إلى رعاية أمه .

ونشفت كفيها بمريولها ، وعميقاً في عينيها رأيت شيئاً يشبه الخيبة : تلك اللحظة المروعة التي تشعر فيها أم ما أنه صار بالوسع الاستغناء عنها ، انها طرحت في جهة ما كشيء استهلكه الاستعمال .

ودنت مني تقول :

- " أتعتقد ذلك حقاً ؟ أتعتقد أنه من غير المفيد أن أذهب إلى رئيسه فأوصيه به ؟ "

وتحيرت قليلاً . مستشعرة التمزق ينهكها ، ثم سألت :

- " ... أم تراك تستطيع أنت أن توصي رئيسه به؟ تقول له : دير بالك على سعد . الله يخليلك ولادك "

وقلت لها :

- كيف ؟ ان أحداً لا يستطيع بالفدائي .

- " لماذا ؟ "

- لأنك أنت تقصدين أن يتدبر رئيسه الأمر بحيث لا يعرضه للخطر . أما سعد نفسه ، ورفاقه ، فيعتقدون أن أحسن وصية بهم هي ان يرسلوا على الفور إلى الحرب ...

ومرة أخرى جلست هناك ، ولكنها بدت قوية أكثر مما رأيتها أبداً ، وراقبت في عينيها وكفيها الخشنتين حيرة الأم وتمزقها وأخيراً قر رأيها :

- " أقول لك ، لتكن توصيتك به إلى رئيسه أن لا يغضبه قل له : أم سعد تستحلفك بأمك أن تحقق لسعد ما يريد . انه شاب طيب ، وحين يريد شيئاً لا يتحقق يصاب بحزن كبير . قل له ، دخيلك ، ان يحقق له ما يريد .. يريد أن يذهب إلى الحرب ؟ لماذا لا يرسله ؟ " .

طه خضر
28/10/2007, 06:45 PM
قصة قصيرة ؟؟!!

أذكر اني قراتها قبل 25 عاما على شكل رواية طويلة من أروع ما قرأت

واذكر أن هذا المقطع ورد فيها بنصّه وحرفه ..


على كل حال غسان كنفاني كاتب قدير نادرا ما يجود الزمان بمثل قلمه ورهافة حسّه!