المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباب الخامس ( أنا زوج ) من مقالات الأديب الباكستاني ( بطرس بخاري )



إبراهيم محمد إبراهيم
29/10/2007, 08:07 AM
أنا زوج
أنا زوج مطيع ومسالم ، وقد اتخذت لنفسي مبدءاً أن أُطلع زوجتي " روشن آرا " على كل تفاصيل حياتي ، والتزمت بهذا دائماً ، فأدعو الله أن يُحسن ختامي . وهكذا فإن زوجتي على علم تام بكل عادات وخصائل أصدقائي ، ونتيجة لذلك فإنه بقدر حبي لأصدقائي بقدر ما هم غاية في السوء في نظر زوجتي ، وكل تصرف أعجبني فيهم هـو في نظر زوجتي وصمة عار على جبين الإنسان المهذب .
أرجو أن لا تفهم أن أصدقائي هؤلاء – لا سمح الله – أناس يخجل الشخص من ذكرهم في المحافل ، فهم جميعاً في غاية الطّيبة ... البعض بفضل تربيته ، والبعض بفضل صُحبة العبد لله ... ولكن ماذا أفعل وقد أصبحت صداقتي لهم مبعث قلق وخلل في استقرار بيتي إلى الحد الذي لا يمكن التعبير عنه .
خذ صديقي " السيد ميرزا " كمثال ، فهو رجل طيب للغاية ، ومع أنه يتولى منصباً هاماً في مصلحة " إدارة الغابات " ، لكن شكله يتسم بالطهر والعفاف لدرجة يبدو معها وكأنه إمام في أحـد المساجد ، لا يلعب القمار ، ولا تعجبه لعبة " العصفورة " (1) ، ولم يقبض عليه أحد أبداً متلبساً بجريمة النشل ، إلاّ أنه يهوى تربية الحمام ، ويسلي نفسه بها . ومن عادة زوجتي أنه إذا تمّ القبض على أحد " البلطجية " في حارتنا بتهمة " لعب القمار " ، فإنها تذهب لتعزية أمه مثلما تفعل في المآتم . وإذا فُقئت عينُ أحد أثناء لعب " العصفورة " في الحارة ، فإنها تذهب لعلاجه بنفسها ، وإذا قُبض على أحد " النشالين " فإنها تبكيه ساعات طوال ...
لكن هذا الرجل المحترم الذي لا يناديـه أحـد إلاّ بـ " السيد ميرزا " لا يُذكر في بيتنا إلاّ بلقب " المنحوس مربّي الحمـام " ، فإن تصـادف أن رفعت بصري إلى السمـاء لأشـاهـد " غرابـاً " أو " حـدأة " أو " نسراً " ، فإن زوجتي " روشن آرا " تظن أنني أفكر في تربية واقتناء الحمام ، وعندئذ تُلقي " قصيدة " في شأن " السيد ميرزا " في بحر " الطويل " أحياناً ، وأحياناً أخرى في بحر " القصير " ، بينما تُشير أبيات " التخلُّص " (2) في القصيدة إليّ من طرف خفيّ .
في مرة من المرات قررتُ أن لا أسمح لـ " السيد مرزا " التعس بالاقتراب مني ، وأن أقطع علاقتي به ، فالبيت في النهاية هو الأهم ، ولا قيمة لرضا الأصدقاء في مقابل الإخلاص المتبادل بين الزوج والزوجة ، ولذا فقد ذهبت إلى بيت " السيد مرزا " في حالة من الغضب الشديد ... طرقت الباب ، فنادى عليّ بالدخول ، فقلت :
 لن أدخل ، أخرج أنت .
وفي النهاية دخلت أنا . كان " السيد مرزا " جالساً في الشمس ، مُمسكاً في يده بحمامة ومنقارها في فمه . قال لي :
 اجلس .
فقلت :
 لن أجلس .
وفي النهاية جلست . ويبدو أنه كانت هناك " تكشيرة " على وجهي . قال " مرزا " :
 خيراً يا أخي ؟!.
فقلت :
 لا شيء .
قال :
* ما الذي جاء بك ؟!.
وبدأت أعدّ ما أقول في نفسي . قررتُ في البداية أن أقول كل ما عندي دفعة واحدة ، ثم فكرت أنه بهذا سيظن أنني أمزح ، ولذا عليّ أن أبدأ الحديث بطريقة مختلفة ، ولكني لم أعرف كيف أبدأ !!. وفي نهاية المطاف قلت :
 هل الحمام غالي الثمن يا " مرزا " ؟!.
وما أن انتهيت من سؤالي حتى أخذ " السيد مرزا " يستعرض أمامي أنواع الحمام من الصين إلى أمريكا نوعاً نوعاً ، ثم أفاض في الحديث عن أسعار الحبوب التي تأكلها ، ثم تطرّق الحديث إلى الغلاء بصفة عامة . وعدت أدراجي إلى بيتي في ذلك اليوم ، ولكن الوسـاوس لم تفـارق قلبي ، ويشاء الله أن تعود " المياه إلى مجاريها " مساءً في البيت ، فقلت لنفسـي : " لا داعي لتخريب العلاقات مع " السيد مرزا " . وفي اليوم التالي واصلت " المياه السير في مجاريها " مع " السيد مرزا " .
ومع ذلك فإنه دائماً ما كان أحد أصدقائي سبباً في تنغيص حياتي ، وكأن الفطرة قد أودعت فيّ قبولاً خاصاً ، إذ أن زوجتي كانت ترى فيّ دائماً انعكاسات لعادات أصدقائي القبيحة حتى تلاشت شخصيتي وملامحي في نظرها تماماً .
قبل الزواج كنا أحياناً نستيقظ من نومنا في العاشرة أو الحادية عشرة ، والآن متى نستيقظ ؟!. لا يُقدّر هذا الأمر سوى أولئك الذين يُفرض عليهم الإفطارُ في بيوتهم في السابعة صبـاحاً . فلو حدث تحت ضغط من الضعف البشري أن تأخرت في الاستيقاظ صباحاً مثل الدجاج ، يُقال لي أن هذا نتيجة صُحبتك لذلك العاطل " نسيم " .
ذات يوم كنت أغتسل صباحاً ، وكان الجو بارداً ، ويداي وقدماي ترتعشان ، وكلما دلّكتُ رأسي بالصابون دخل إلى أنفي . في تلك الأثناء لا أدري ما هي العاطفة الغامضة التي جعلتني أُغنّي في الحمّام . بدأت أغنّي : ما أبدع جمالك !!.
وفُهم غنائي على أن ذوقي في غاية التدنّي والانحطاط ، وتقرّر أن المسئول عن هذا الذوق السيئ هو صديقي " البانديت " (3) ، لكنني مررتُ بأزمة شديدة في الوقت الراهن جعلتني أُقسم على أصدقائي جميعاً ... ففي صباح يوم منذ عدة أيام مضت ، استأذنتني زوجتي " روشن آرا " في زيارة أهلها ، وكانت قد زارت أهلها مرتين فقط منذ تزوجنا ، ثم إنها استأذنتني بطريقة تملؤها البساطة والتواضع بحيث أنني لم أستطع الرفض . قالت :
 هل أذهب في قطار الواحدة والنصف ؟!.
قلت :
 بالطبع .
وانهمكتْ على الفور في الإعداد للزيارة . عندئذ بدأت آمالي في الحرية تطوف بخيالي ، فهذا يعني أن أصدقائي يستطيعون الحضور بالتأكيد ، ويستطيعون يقيناً أن ينطلقوا كما يشاءون ، وأنا أستطيع أن أتناول طعامي وقتما أشاء ، وأستيقظ عندما أشاء ، وأذهب إلى المسرح أيضاً . قلت :
 أسرعي يا " روشن آرا " ، وإلاّ فاتك القطار .
وأوصلتها إلى المحطة ، وبعد أن أركبتها قالت :
 لا تنقطع عن الكتابة إليّ .
قلت :
 سأكتب لك كل يوم ... وأنت كذلك ...
 تناول طعامك في موعده .. جواربك المغسولة ومناديلك في درج الدولاب السفليّ .
ثم صمت كل منا ، وظل ينظر إلى وجه الآخر ... واغرورقت عيناها بالدموع ، وتأثر قلبي كثيراً ... وظللت على الرصيف مبهوتاً لفترة بعد تحرّك القطار . وفي النهايـة مشيت بخطى متثاقلة حتى وصلت إلى أحد محلاّت بيع الكتب ، وجعلت أقلّب صفحات المجلات وأشاهد ما فيها من صور ورسومات ، ثم اشتريت جريدة طويتها ودسستها في جيبي ، واتخذت طريقي إلى بيتي كالعادة .
ثم فكرت أنه ليس من الضروري أن أعود إلى البيت الآن ... الآن أستطيع أن أذهب حيثما أشاء ، بل وأستطيع – إن شئت – البقاء هنا في محطة القطار لساعات . لقد شعرت برغبة كبيرة في القفز في الهواء ... يقولون أنه إذا وضعنا البدائيين من الأفارقة في إحدى الدول المتحضرة فإنهم حتماً يتأثرون بأسلوب الحيـاة هنـاك ، ولكن إذا عادوا إلى غابتهم فإنهم يصرخون فرحاً بهذه " العودة " ...
كان هذا هو حال قلبي في ذلك الوقت تقريباً ... انطلقت أعدو في حرية تامة خارج المحطة ، وبلهجة تطل منها الحرية ناديت على صاحب الحنطور " الحوذيّ " ... قفزت بداخل الحنطور وأشعلت سيجارة ، ومددت ساقي فوق المقعد ، واتجهت إلى النادي ... وفي الطريق تذكرت شيئاً هاماً فاستدرت بالحنطور واتجهت إلى البيت ، ومن خارج البيت ناديت على الخادم :
 أمجد ! .
 نعم يا سيدي .
 اذهب إلى الحلاق وقل له يأتني في الحادية عشرة صباحاً .
 حسن يا سيدي .
 الحادية عشرة ، مفهوم . إياك أن يأتيني كعادته في السادسة .
 حسن جداً يا سيدي .
 ولو جاء قبل الحادية عشرة ادفعه خارج البيت .
ثم اتجهت من هناك إلى النادي ، ولم يحدث قبل اليوم أن ذهبت إلى النادي في الثانية ظهراً . وعندما دخلته وجدته خالياً ، ولا أثر فيه لإنسان ... فحصت كل الغرف ؛ غرفة " البلياردو " خالية .. حجرة " الشطرنج " خالية ... حجرة " الكوتشينة " خالية ، ولم يكن هناك سوى خادم في حجرة الطعام يشحذ سكاكينه . سألته :
 اسمع يا ... ألم يأت أحد اليوم ؟!.
قال :
 سيدي ، كما تعرف لا يأتي أحد في هذا الوقت .
شعرت بإحباط شديد ، فخرجت من النادي ، وأخذت أفكر : ماذا أفعل الآن ؟!. ولما لم أصل إلى حل اتجهت إلى بيت " السيد مرزا " ، فعرفت أنه لم يعد من مكتبه بعد . ذهبت إلى مكتبه ، فاعترته دهشة شديدة عندما رآني . قصصت عليه الموضوع كله فقال :
 انتظرني في الحجرة الخارجية . لم يبق أمامي سوى قليل من العمل سأقوم به ونمشي سوياً . ترى ما هو برنامج المساء ؟!.
قلت :
 المسرح .
قال :
 هذا رائع . انتظر بالخارج ، وسآتيك فوراً .
كان هناك كرسي صغير في الحجرة الخارجية جلست عليه أنتظر ، وأخرجت الجريدة من جيبي ، وبدأت أتصفحها ... قرأتها من أولها إلى آخرها ، كانت الساعة في ذلك الوقت حوالي الثالثة . بدأت أقرأ الجريدة مرة أخرى ... قرأت كل الإعلانات ... ثم قرأتها ثانية ... وفي النهاية ألقيت بالجريدة جانباً ، وبدأت أتثاءب بهدوء ولا مبالاة ، وتتابع تثاؤبي حتى آلم فكي ، ثم بدأت أهزّ ساقي حتى تعبت ، فأخذت أقرع " أُطبّل على " المنضدة بنغمة مخصوصة ... ولما فاض بي الكيل فتحت الباب وقلت لـ " مرزا " :
 يا أخي ، هل سنمشي من هنا أم تريد أن يقتلني الانتظار ؟!. أيها الملعون ، لقد أضعت يومي كله .
وخرجنا من هناك إلى بيت " مرزا " ، وقضينا مساءً ممتعاً ، وتناولنا طعامنا في النادي ، ومن هناك اصطحبت أصدقائي إلى المسرح ، ولم أعد إلى البيت إلاّ في الثانية والنصف بعد منتصف الليل ، ولذا فقد أخذني النوم فور أن وضعت رأسي على الوسادة . وعندما استيقظت صبـاحاً كانت أشعة الشمس منتشرة في الحجرة . نظرت إلى الساعة فإذا هي الحادية عشرة إلاّ ربعاً . مددت يدي إلى المنضدة ، وتناولت علبة السجائر من فوقها ، ثم أشعلت سيجارة ، ووضعتها في المطفأة ، وكاد النعاس يغلبني ثانية لولا أن دخل الخادم " أمجد " الحجرة في الحادية عشرة وهو يقول :
 سيدي ، لقد جاء الحلاّق .
قلت :
 أدخله هنا .
لقد تيسرت لي مثل هذه الرفاهية بعد مدة طويلة بأن أحلق شعري وأنا مضطجع في سريري . نهضت من السرير على مهل ... اغتسلت ، وتأهبت للخروج ، لكني لم أشعر بداخلي بذلك الإقبال والانتعاش الذي كنت آمله . وعندمـا هممت بالخروج تناولت المنـديل من الدولاب . عندئذ يعلم الله أية فكرة خطرت لي ، فجلست على الكرسي حيث كنت ، وأخذت أحملق في المنديل كالمخبول ... فتحت أحد أدراج الدولاب فوقع بصري على طرحة من الحرير كُحلية اللون ... أخرجتها ، فشممت فيها رائحة جميلة ، وظللت لفترة أمُرُّ عليها بيدي ... شعرت بحزن شديد ، وبدا لي أن البيت كنزٌ من الذهب . تمالكت نفسي بصعوبة ، لكن دموعي تساقطت رغماً عني ، عندئذ فقدت صبري ، وانخرطت في البكاء بكل كياني ... جعلت أُخرج الملابس واحدة تلو الأخرى وأتمعن فيها .. كانت تذكرني بأشياء كثيرة زادت في حزني واضطرابي .
وفي النهاية لم أعد أتحمل ، فخرجت من البيت ، واتجهت إلى مكتب التلغراف مباشرة ، وهناك أرسلت " تلغرافاً " فحواه : " إنني في غاية الحزن ... عودي فوراً " .
واطمأن قلبي قليلاً بعـد أن أرسلت التلغراف ........ كنت على يقين من أن " روشـن آرا " ستعود بأسرع ما يمكنها ، فارتفعت معنوياتي إلى حد ما ، وشعرت كما لو أن عبئـاً قد أُزيح من على قلبي . وكنت على موعد مع " السيد مرزا " ظهر اليوم التالي لندخل معركة حامية الوطيس في " الكوتشينة " ، وعندما وصلت إلى بيته في الموعد كان هناك بعض الضيوف الذين جاءوا لمقابلة والد " مرزا " ، ولذا فقد اقترحت عليه أن نذهب إلى مكان آخر .. كان بيتي خالياً بالطبع ، وبالفعل اجتمع كل أصدقائي عندي ، وتوعّدت الخـادم " أمجـــد " إن قطع علينا استمتاعنا بـ " الشيشة " فلن يناله خير ، وأمرته أن يستمر في تقديم " البان " (4) ، وألاّ يتوقف أبداً (5) .
أما ما حدث بعد ذلك لا يفهمه جيداً إلاّ رجل !!!........ في البداية ظللنا نلعب الورق " الكوتشينة " ، وفي كل مرة كنا نلعب بجدية وطبقاً لأصول وضوابط محددة وبأسلوب معقول للغاية ، ولكن بعد عدة ساعات شعرنا ببعض الانتعاش ، وبدأ كل واحد منا يتلصص على أوراق الآخر ، فإذا لم تنتبه العين اختفت بعض الأوراق (6) ، وترتفع الضحكات عالية ضحكة تلو الأخرى .....
وبعد ثلاث ساعات وصل بنا الحال إلى أن البعض كان يغني وهو يهزّ ركبتيه ، والبعض اتكأ على أرضية الحجرة وهو يُصفّر ، والبعض ظل يردّد بعض الفقرات الساخرة من المسرحية التي شاهدناها ... لكن لعب " الكوتشينة " لم يتوقف لحظة ، ثم بدأت الدعابات والمناوشات . وفي تلك الأثناء اقترح أحد المهرجين لعبـة يصير أحـد الأشخـاص بمقتضاها في النهاية " ملكاً " والآخر " وزيراً " والثالث " شرطياً " ... والمهزوم يصير " لصاً " ... استحسن الجميع هذه اللعبة :
 ما أحسن هذا الاقتراح !!.
قال أحدهم :
 ما أتعس حظ من سيصير لصاً .
وقال آخر :
 بالطبع ، فهذه ليست لعبة تافهة ، إنها تتعلق بأمور الحُكم !!.
وبدأت اللعبة ، ولسوء الحظ هُزمتُ أنا ، فصرت لصاً ، وكانت هناك اقتراحات عديدة لعقابي . أحدهم يقول :
 عليك أن تجري حافي القدمين حتى دكان الحلواني ، وتشتري لنا حلوى .
وآخر يقول :
 كلاّ يا سيدي ، كلُّنا لنا أرجل ، لكن ليضربه كلٌّ منا صفعتين .
وقال ثالث :
 كلاّ يا سيدي ، ليرقص وهو واقف على قدم واحدة ...
وفي النهاية قال " الملك المفدّى " :
 نحن نحكُم أن يُوضع فوق رأس اللص طربوشاً ورقياً طويلاً ، وأن يتم تلطيخ وجهه بالحبر الأسود ، ثم يذهب وهو في حالته هذه ويملأ حجر " الشيشة " ويأتنا بها .
وأثنى الجميـع على اقتراح " الملك " وأيّدوه . لقد كنت أنا أيضاً في غاية الاستمتاع . قلت :
 لا بأس ، اليوم أنا ، وغداً سيأتي دور واحد آخر .
وبالفعل قدمت لهم وجهي عن طيب خاطر ، فألبسوني طربوشاً ساخراً وهم يضحكون ... وبكل ثقة أحضرت لهم حجر " الشيشة " ، ثم فتحت باب المطبخ من جهة حجرة السيدات (7) ، واتجهت إليه بينما كانت " القهقهات " تلاحقني من الحجرة ... وما أن وصلت إلى صحن البيت حتى انفتح الباب الخارجي للبيت ، ودخلت منه سيـدة مبرقعـة ، ثم رفعت برقعهـا ، فإذا هي " روشن آرا " ..
جفّ الدم في عروقي ... واعترت جسدي رعشة احتبس لساني على أثرها ... لقد كانت " روشن آرا " أمامي ، وأنا الذي أرسلت إليها " تلغرافاً " أن عودي فوراً فأنا في غاية الحزن ... وكان الحبر يغطي وجهي كله ، وعلى رأسي " الطربـوش " الطويـل الهـزلي ، وفي يدي حجـر " الشيشة " ... وضجيج الضحكات المرتفعة لم ينقطع ... تجمدت روحي ... وشُلّت جميع حواسي ... ظلت " روشن آرا " واقفة مكانها تنظر إليّ في صمت ، ثم قالت ...
ولكن كيف أخبركم بما قالت ... لقد كان صوتها يصل إلى أذني وأنا في حالة أشبه بالغيبوبة ... وأظنك حتى الآن قد عرفت أنني في حد ذاتي إنسان شريف ، ولا يوجـد في هـذا العـالم أفضل مني حتى في الوضع الذي أنا فيه الآن ... وهذا هو رأي أصهاري فيّ ... ورأيي أنا الآخر في نفسي ... لكن أصدقائي قد أساءوا إلى سمعتي ، ولذا فقد قررت بلا تردد : إما أن أبقى في البيت ، أو أذهب إلى العمل .... لكن لن ألتقي بأحد ، ولن أسمح لأحد بزيارتي سوى البوسطجي والحلاق ، وسيكون حديثي معهما أيضاً مختصراً :
 هل هناك خطاب لي ؟!.....
 نعم ....
 أعطني إياه وارحل .....
 قُص أظافري ...
 أُغرب عن وجهي .....
ولن أزيد على ذلك ، وسوف ترى .
هوامش
1 - في الأصل " كلى دندا " ، وهي لعبة يمارسها الأطفال ، وهي عبارة عن عصا طويلة بعض الشيء ، ومعها عصا أخرى صغيرة بطول عشرين سنتيمتر تقريباً ذات سن مدبّب من طرفيها ، يلقيها اللاعب على الأرض ، فيأتي اللاعب المنافس ويضربها على أحد طرفيها فترتفع في الهواء قليلاً ، عندئذ يضربها بكل قوة بعصاه حتى تذهب إلى أبعد مدى ليستطيع الفوز . ولقد كنا ونحن صغاراً نلعب مثل هذه اللعبـة في قرى " الدقهلية " ، وكنا نسميها لعبة " العصفورة "، ولا أدرى ، ربما لا يزال الأطفال يلعبونها حتى يومنا هذا .
2 - يقصد بالتخلص هنا أحد أجزاء القصيدة ، والذي يتخلص فيه الشاعر من جزء المدح في القصيـدة إلى الهـدف الأسـاسي فيـها ، ويقصد " بطرس " أنها تشتم " السيد مرزا " وزوجها أيضاً .
3 - " بانديت " ليس اسم الصديق الذي يشير إليه " بطرس " ، وإنما تعني " رجل الدين الهندوسي " ، ويناديه الناس هكذا ، ويغني هذا اللقب عن ذكر الاسم الحقيقي للرجل .
4 - " البان " بالباء المثلثة ، وهو عبارة عن ورقة تنبول خضراء تُلفُّ فيها بعض الحبوب المطحونة ذات الروائح الزكية مثل الفوفل ونوع ما من الينسون وغيرها ، ثم تمضغ لتعطي في النهاية تأثيراً أقرب ما يكون إلى تأثير الدخان . وهناك نوع آخر من " البان " تميل السيدات إلى استعماله لخلوّه من المواد ذات التأثير " الدخاني " ، وطعمه حلو ، إذ العسل أحد مكوناته ، ويسمى " ميتها بان : البان الحلو " .
5 - في الأصل " تانتا لكـ جائـ " ، ويعني أن يصير لسرعته كالخط المستقيم ، وهو ما نلاحظه إذا ما ركبنا سيارة مسرعة أو طائرة في طريقها للإقلاع ، حيث تبدو الأضواء على المدرج كأنها خط مستقيم .
6 - أي يسرقون الأوراق بعضهم من بعض .
7 - يضم البيت الباكستاني التقليدي جانباً خاصاً للسيدات منعزلاً عن الجانب الخاص بالرجال .

هاني السعيد
31/10/2007, 05:08 AM
صدقني يا أستاذنا العظيم

أنت تمتعنا حقا بهذا الجهد الجميل

مودتي

إبراهيم محمد إبراهيم
31/10/2007, 06:55 AM
أشكرك يا هاني ، وأدعو الله لنا جميعاً بالتوفيق والسداد وأرجو أن أقرأ لك المزيد ( أقصد المزيد من مقالاتك الرائعة وليس المزيد الثناء ) .