حسام الدين نوالي
13/11/2006, 10:19 PM
اصبع الحرب.
دقائق ثقيلة تمخر الوقت، تحمل دفترا قديما وتمنحه للريح التي تمد أطرافها عبر النافذة المفتوحة على الليل.
رجل هناك، عميقا في الليل، يقف قرب النافذة، يرقب فرحة القنديل ويحنّ لتراب الأقرباء.
يردد أغنية قديمة:
يا بحار في قاع البحر .. يا بحار
أوقِد في الليل فانوسا
من سر المرجان والمحار.
....
رجلٌ هناك -والغرفة نائمة-، تخاتله صور كثيرة وأحيانا غير مكتملة تعبر داخل رأسه و تغادر بسرعة: أيام الانتظار لترحيلهم إلى الشرق، زيارته لمدن الرمال الجنوبية.. وصديقه الذي يناديه "الضب" حين يرتدي زيّه العسكري.. وفاة زوجته وابنته في نفس العام، ثم انتظار الحفيد الأول بعد تقاعده، والحزن الذي احتلّه حين مات الجنين في بطن أمّه.. تقلّصت حدقتاه وتمتم ما يشبه صلاةً..
لمس سبابته اليمنى، وظل هادئا. إصبع يشبه علامة استفهام، تجمّد على الزناد حين تربّص الموت به وبالرفاق في طقس الرهبة والبرد والرصاص..
رفع يده ونظر إلى السبابة في ضوء القنديل، فعبَرت أمام عينيه سريعةً لحظات كان الرفاق فيها يتشبثون بدمائهم، فيما الحياة كانت تذوي شهقة شهقة، والأرض تنزف بالقتلى
- "مرت خمس وثلاثون سنة ونيف على الحرب القذرة، وما تبقى: محنة إشعاع وحطام داخلي.. وخواء."
كان الليل يحاصر الصمت، والريح تعبث بالقنديل والستائر، فيما رجل هناك، يلقي نظرة للخارج، يقاوم العتمة كي يرى، يلمح الأشجار المسدلة بالريح، فيوصد نافذة ويمد جسده، ثم يسدل جفنيه ويرحل...
في الصباح، خرج من البيت، سار إلى ساحة وسط المدينة، وخطّ على الأرض دائرة كبيرة، فابتعد قليلا يتأملها لحظة ثم اقترب وجلس على ركبتيه، مسح جزءً وقوّمه، ثم وقف وابتعد من جديد، تأمل الخط الدائري الأبيض على الأرض ورجع، كان يبتعد قليلا ويعود، وفي كل مرة، حين يمسح ويعدّل دورة الخط، كان يلقي حبل الذكرى في أحراشٍ حيث الأقارب والرفاق والولادات الغريبة..
حفيدته الوحيدة في الخامسة، وجهها مدور صغير، وعيناها واسعتان جدا، فيما يبدو جسدها الضئيل رهيباً...
وصل طرفي الخط الذي مسح جزء منه وتمتم:
- كيف انفرطت خطوط النغم في الكون؟
وقف على خط الدائرة والتفت.
كانت الساحة تبتعد عن خرسها وتتربص بالعابرين والزوار خطوة خطوة، وكان رجل هناك يدور سائرا على الخط تماما إلى الخلف وعكس اتجاه عقارب الساعة، كان يسير ببطء كما لو يقلد مشي حيوان ضخم عجوز، يرتّل نشيدا قديما، ويحمل لافتة صغيرة، في أقصى يمينها علامة استفهام لا نقطة لها –مثل إصبع الحرب-، وفي أقصى يسارها ثلاث نقط أفقية، وبينهما فراغ.. كان ملفِتا وغريبا في الساحة، وكان العابرون يلتفتون إليه، يبتسمون.. ثم ينصرفون.
رجل هناك وسط الساحة، يدور على خط فيما روائح الدم والرصاص تبني بيوتا للرفاق في ذهنه ويحزن. كره امتهان الحرب، وودّ لو يفرش الدائرة بزيه العسكري ليدوسه أمام العابرين، ولن يترفق به أبدا.. وفي كل دورة كان يشمخ الحزن فيه ويشمخ الحقد وتشمخ صور الراحلين وروائح الرصاص.
في المساء حين عاد للبيت، كان متعبا، وكانت وخزات كثيرة مؤلمة تقرص باطن قدميه، أكل قليلا، فتمدّد وراح يردد أغنية البحّار القديمة حتى أسدل الجفنين ونام.
وفي اليوم الموالي، كان هناك على الخط منذ الصباح، عكس اتجاه عقارب الساعة سائرا إلى الخلف، يدور ببطء، ويرتّل.. وكان سعيدا بهذا الطقس..
مرّ يومان، فانضم إليه أطفال في الساحة، وبفرح كانوا يرددون النشيد الحزين.. ومرّة توقّف شاب وشابة، فنظرا إلى الحلقة مدّة، دندنا بإيقاع النشيد وتحدّثا معا لحظة ثم اندفعا ـ يدا في يد ـ ودخلا إلى الدائرة...
بعد أسابيع صارت الدائرة تكبر، وسرّه أنها أضحت تتواصل ـ في خطوات بطيئة وإيقاعية، عكس عقارب الساعة ـ حتى بعد عودته للبيت، فثمّة على مدار اليوم مناوبون.. رسموا على لوح خشبي علامة استفهام غير منقطة وثلاث نقط أفقية، ووضعوا اللوح في مركز الدائرة.
والآن، صارت الدائرة تضم أعمارا مختلفة، ومهنًا وهوايات.. بعضهم يتسلّى.. والآخرون يرددون النشيد في حزن.
دقائق ثقيلة تمخر الوقت، تحمل دفترا قديما وتمنحه للريح التي تمد أطرافها عبر النافذة المفتوحة على الليل.
رجل هناك، عميقا في الليل، يقف قرب النافذة، يرقب فرحة القنديل ويحنّ لتراب الأقرباء.
يردد أغنية قديمة:
يا بحار في قاع البحر .. يا بحار
أوقِد في الليل فانوسا
من سر المرجان والمحار.
....
رجلٌ هناك -والغرفة نائمة-، تخاتله صور كثيرة وأحيانا غير مكتملة تعبر داخل رأسه و تغادر بسرعة: أيام الانتظار لترحيلهم إلى الشرق، زيارته لمدن الرمال الجنوبية.. وصديقه الذي يناديه "الضب" حين يرتدي زيّه العسكري.. وفاة زوجته وابنته في نفس العام، ثم انتظار الحفيد الأول بعد تقاعده، والحزن الذي احتلّه حين مات الجنين في بطن أمّه.. تقلّصت حدقتاه وتمتم ما يشبه صلاةً..
لمس سبابته اليمنى، وظل هادئا. إصبع يشبه علامة استفهام، تجمّد على الزناد حين تربّص الموت به وبالرفاق في طقس الرهبة والبرد والرصاص..
رفع يده ونظر إلى السبابة في ضوء القنديل، فعبَرت أمام عينيه سريعةً لحظات كان الرفاق فيها يتشبثون بدمائهم، فيما الحياة كانت تذوي شهقة شهقة، والأرض تنزف بالقتلى
- "مرت خمس وثلاثون سنة ونيف على الحرب القذرة، وما تبقى: محنة إشعاع وحطام داخلي.. وخواء."
كان الليل يحاصر الصمت، والريح تعبث بالقنديل والستائر، فيما رجل هناك، يلقي نظرة للخارج، يقاوم العتمة كي يرى، يلمح الأشجار المسدلة بالريح، فيوصد نافذة ويمد جسده، ثم يسدل جفنيه ويرحل...
في الصباح، خرج من البيت، سار إلى ساحة وسط المدينة، وخطّ على الأرض دائرة كبيرة، فابتعد قليلا يتأملها لحظة ثم اقترب وجلس على ركبتيه، مسح جزءً وقوّمه، ثم وقف وابتعد من جديد، تأمل الخط الدائري الأبيض على الأرض ورجع، كان يبتعد قليلا ويعود، وفي كل مرة، حين يمسح ويعدّل دورة الخط، كان يلقي حبل الذكرى في أحراشٍ حيث الأقارب والرفاق والولادات الغريبة..
حفيدته الوحيدة في الخامسة، وجهها مدور صغير، وعيناها واسعتان جدا، فيما يبدو جسدها الضئيل رهيباً...
وصل طرفي الخط الذي مسح جزء منه وتمتم:
- كيف انفرطت خطوط النغم في الكون؟
وقف على خط الدائرة والتفت.
كانت الساحة تبتعد عن خرسها وتتربص بالعابرين والزوار خطوة خطوة، وكان رجل هناك يدور سائرا على الخط تماما إلى الخلف وعكس اتجاه عقارب الساعة، كان يسير ببطء كما لو يقلد مشي حيوان ضخم عجوز، يرتّل نشيدا قديما، ويحمل لافتة صغيرة، في أقصى يمينها علامة استفهام لا نقطة لها –مثل إصبع الحرب-، وفي أقصى يسارها ثلاث نقط أفقية، وبينهما فراغ.. كان ملفِتا وغريبا في الساحة، وكان العابرون يلتفتون إليه، يبتسمون.. ثم ينصرفون.
رجل هناك وسط الساحة، يدور على خط فيما روائح الدم والرصاص تبني بيوتا للرفاق في ذهنه ويحزن. كره امتهان الحرب، وودّ لو يفرش الدائرة بزيه العسكري ليدوسه أمام العابرين، ولن يترفق به أبدا.. وفي كل دورة كان يشمخ الحزن فيه ويشمخ الحقد وتشمخ صور الراحلين وروائح الرصاص.
في المساء حين عاد للبيت، كان متعبا، وكانت وخزات كثيرة مؤلمة تقرص باطن قدميه، أكل قليلا، فتمدّد وراح يردد أغنية البحّار القديمة حتى أسدل الجفنين ونام.
وفي اليوم الموالي، كان هناك على الخط منذ الصباح، عكس اتجاه عقارب الساعة سائرا إلى الخلف، يدور ببطء، ويرتّل.. وكان سعيدا بهذا الطقس..
مرّ يومان، فانضم إليه أطفال في الساحة، وبفرح كانوا يرددون النشيد الحزين.. ومرّة توقّف شاب وشابة، فنظرا إلى الحلقة مدّة، دندنا بإيقاع النشيد وتحدّثا معا لحظة ثم اندفعا ـ يدا في يد ـ ودخلا إلى الدائرة...
بعد أسابيع صارت الدائرة تكبر، وسرّه أنها أضحت تتواصل ـ في خطوات بطيئة وإيقاعية، عكس عقارب الساعة ـ حتى بعد عودته للبيت، فثمّة على مدار اليوم مناوبون.. رسموا على لوح خشبي علامة استفهام غير منقطة وثلاث نقط أفقية، ووضعوا اللوح في مركز الدائرة.
والآن، صارت الدائرة تضم أعمارا مختلفة، ومهنًا وهوايات.. بعضهم يتسلّى.. والآخرون يرددون النشيد في حزن.