المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اللغة العربية وهوية الأمة- د.أيمن أحمد رؤوف القادري



أيمن أحمد رؤوف القادري
03/11/2007, 08:32 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللغة العربية وهوية الأمة
د.أيمن أحمد رؤوف القادري

إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية...!
نعم، تنشب الفتن أظفارها الحادّة في أجواء التشرذم، وينصب الضياع صرحه فوق أنقاض العزّة، وتقصد أسراب البوم البيوت الشامخة حين يخليها أهلها غافلين!
نعم، يدبّ الخور في الأمة التي جهلت كيف تصون هويتها، وأهدرت الوثائق التي تُبرز انتماءها، وسمحت بتمزيق أوراقها الثبوتية التي تفضح المشكّكين.
لقد أفاء الله، عزّ وجلّ، على أمة الإسلام، بغامر نعمه، وكان من هذه النعم التي لم يحسنوا صونها، أن بؤّاهم مكان الصدارة في الأمم، وجعلهم شهداء على الناس، بما حُمِّلوا من رسالة الحقّ، وتلك، لَعمري، درجة تكليف، علاوة على كونها درجة تشريف.
ومقتضى هذه الرسالة أن يسعى أبناؤها إلى إحلال ما غرس الوحي وجدانهم من تعاليم، على أوسع بقعة من الأرض، حيث مخلوقات لله تنطق وتفكّر، لتكون كلمة الله هي العليا.
وهذا يعني أن تُسبغ الأمة هويتها على سائر الأمم، وتصبغها بصبغتها، صبغة الإسلام، (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ).
ولئن كانت مضامين الهوية الإسلامية هي المقصد، إلاّ أن أشكال التعبير عنها تنطوي على سرّ خطير، والحَيد عنها منزَلَقٌ كبير.
لقد قال الشاعر إيليا أبو ماضي:
ما الكأسُ لولا الخمرُ غير زجاجةٍ والمرءُ لولا الحبُّ إلاّ أعظُما
وأراد بذلك أنّ القالب الشكلي لا اعتبار له، إنْ كان المضمون خاوياً، لا ينطوي على شيء. نعم، هذا صحيح، ولكن...لي أن أقول أيضاً: إنّ العسل الذي أُريق على التراب بعد أن كُسر وعاؤه، لا وزن له، وإنّ العطر النفيس إن خرج من قارورته لا يلبث أن يضيع في الأثير ويتلاشى، ويصبح نهباً للرياح، فاقداً شأنه. من الصواب إذاً أن نعلم دور الوعاء في حفظ المادة التي يحملها، بل في تشكيلها: إنّ الماء، على عذوبته، وعِظَمِ شأنه، يأخذ شكل وعائه، سواء أكان الوعاء وضيعاً أم نفيساً، وهذا لا يؤثر في طبيعة الماء، إلاّ أنّ النفس البشرية تُشدّ إلى الوعاء النفيس، دون الوضيع، وقد تتّخذ من خلاله حكماً مسبقاً على المحتوى. ولذلك، ينبغي بالمرء أن يوجّه قسطاً من عنايته إلى الشكل، رغم إيلائه القسط الأبرز للمضمون.
نقول هذا في تقدير دور اللغة العربية، وهي وعاء الوحي، وهي وسيلة إبلاغ الرسالة الإسلامية إلى الكون، وهي آلة حمل الدعوة في الآفاق.
لقد كان للعرب في جاهليتهم لهجات متباينة، لكنّ المخاض العسير الذي هيّأ لها، قبل البعثة، أن تكون متقاربة فمجتمعة، ليس وليدة جهود قام بها أرباب اللغة آنذاك، أو ساسة القبائل. لقد كان العرب أمّة أمّـيّة، وهي، وإن أولت الشعر والخطابة اهتمامها البالغ، إلاّ أنّ تخلّفها في مضمار العلوم العقلية، حال بينها وبين اتّخاذ التدابير الآيلة إلى صون اللغة من العبث، وتقريب لهجاتها. فما الذي أحدث هذا الأمر؟ لا ريب أنّه صُنْعُ الله، عزّ وجلّ، الذي أحسن كلّ شيء خلَقَه، لأنه هَـيَّأ لهذه اللغة أن تكون وعاء الوحي، وأن تحتضن رسالة السماء، أفلا ينبغي بالحروف التي تحمل نور الله، أن تغتسل وتتوضّأ قبل أن تدخل إلى محراب الذِّكر؟ أليس على اللغة التي ترفع آيات الله في الآفاق، أن ترتفع أولاً إلى مصافّ العصمة، وترتدي أثواب الكمال؟
ونحن في الأسطر القليلة القادمة، نبحث، بإذن الله، في حساسية اللغة العربية في هذا المضمار، كاشفين دورها البارز في تحديد هوية الأمة، وإبراز أصالتها، وفرض قيمها. وعماد البحث أن نستقري آيات من القرآن الكريم، أشارت إلى اللغة معبَّراً عنها بـ«اللسان».
• قال الله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ - وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ -وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ). وقال حكاية عن موسى، عليه السلام: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي - وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي- وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي- يَفْقَهُوا قَوْلِي).
في أولى الآيتين ربط وثيق للهداية بعوامل الحسّ، كالسّمع والبصر، وفيها إيحاء بأنّ اللغة، المعبَّر عنها باللسان والشفتين، ذات صلة بالأمر، ولذلك وردت الهداية على أعقابها. ولعلّه من أجل ذلك علّم الله آدم الأسماء كلَّها، ولم ينتظره أن يتعلّمها من تلقاء نفسه، إذ إنّ الهداية لا بدّ أن تعبر من خلالها، ولا بدّ أن تكون مكتملة مع اكتمال نبوّة آدم، عليه السّلام. وها هو موسى، عليه السلام، يدرك منذ تلقيه أمر المهمة الأول، أنّ من أساسيات حمل الدعوة، سلامةَ اللغة من أيّ زلل أو خلل، لأنّ الفهم الصائب يأتي من رَحِمها.
• قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وقال: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا). وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ- عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ- بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ). وقال: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
في هذه الآيات يتّضح أنّ لغة النبي في قومه عنوان لنجاحه، فالوحي ربط بين اللغة والنبي ربطاً حتمياً، وألغى احتمال أن يتّخذ النبي لغة أخرى للتعبير عن وظيفته: تبيان رسالة الله. فاللغة باتت ركناً أساسياً في وظيفة النبوّة. وحتّى لا ينصرف الذهن إلى أنّ هذا من خصوصيات النبوة، نركّز على أنّ الآيات جعلت الأمر معلَّلاً ببيان ما يُدعى إليه: لِيُبَيِّنَ لَهُمْ- لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا- لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ. وعلّق بعض الآيات تيسير النجاح على هذه اللغة: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. كما وصفت إحدى الآيات هذه، اللغة بصفة الوضوح مقترناً بالعربية: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ، وكأنّ الوضوح لا يتسنّى إلاّ بها. والأمّة كلّها، جماعاتٍ وأفراداً، مكلّفة بحمل هذه الدعوة وبيان الرسالة، والحرص على تذكير الناس، ولهذا لا بدّ من الحرص على اعتماد اللغة العربية، لغة النبوّة، أساساً في حمل الدعوة إلى الناس كافّة.
لقد اقتصرت شرائح الأمة المثقفة منذ عقود، على تصوُّر اللغة العربية من مقوّمات الهوية القومية العربية، فأنشأ ذلك مسوِّغاً لقوميّات أخرى عملت على إحياء لغاتها، ورفعها فوق اللغة العربية، أو كان الأمر ردّة فعل على سلوك هذه القوميات الأخرى، حتّى أنّ الدولة العثمانية التي كانت مظلّة لكلّ بلاد الإسلام على مدى قرون، جعلت اللغة التركية لسانها الرسمي، وقد ورثنا حالياً دويلات تحكم عالم الإسلام، ولا تعتمد لغة القرآن الجامعة، ما يعني أنّ الهوية لا يمكن أن تكون إسلامية كاملة، ولو بدت مقوّمات ثانوية أخرى لهذه الهوية.
هذا غيض من فيض ما ينبغي بنا أن ندركه. إنّ تهاوي أبناء الأمة أمام اللغات الأجنبية لأَمر يقذف في القلوب الخَوَر، ولا سيما أنّ هذه اللغات حملها إلينا أربابها، منذ عقود، مع قذائفهم النكراء التي دمّرت بيوتنا، حملوها على صهوات جيادهم التي دنّست مساجدنا، لقد أدركوا أنّ هويات أممهم لا بدّ أن تفتك بالبقية الباقية من عقيدة الأمة، فنشطوا لتتمشّى لغاتهم في مفاصلنا، وتسري في شراييننا، وقدّموا إلينا لغاتهم على أطباق الذهب، حيث آنية مُزِج فيها الدَّسَم بالسّمّ الزعاف... فهل نحن آكلون؟!

[/FONT][/SIZE][/RIGHT]