المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هامش انفجار



منى أبو شرخ
07/11/2007, 12:07 AM
هامش انفجار



تصاعدت أنفاسي، التهب صدري واشتعلت النار بين ضلوعي، وبدأت الحجارة تقذفُ مكاناً ما في رأسي، ومع كل حجر يخترق زجاج عقلي ويكسره تهرب فكرة من مكانها مخلفة وراءها كائنات من فراغ. ثم تتجمع الأفكار الهاربة أمام عيني تماماً وتبدأ فيما بينها مشاورات ومناورات لا أفهمها، وفجأة تبدأ هجوماً لا أتوقعه. وأشرع أنا بالهرب حتى أصل حافة هاوية لا أعلم من وضعها هنا..

حلم ... يراودني منذ فترة، فكرت أن أقصد طبيب نفسي و لكني لم أفعل، لا بسبب خوفي أن يكتشف أحدهم الأمر، ولكنها قلة النقود.
حلم احتكر ليالي منذ تخرجت من الجامعة الصيف الماضي ، منذ اكتشفت أن الطريق أضاعني .

فأنا لا أملك في الدنيا إلا عينيك و أحزاني .............
سفني في المرفأ باكية تتمزق فوق الشطآن
ء أسافر دونك ليلتي
يا صيفي الأخضر يا شمسي يا أجمل.... أجمل ألواني

عندما أخبرت صديقي تامر، ربت على كتفي وقال ناصحاً لا بد أنك لا تقرأ المعوذات وآية الكرسي قبل النوم.
ليس هذا ما كنت أنتظره، كان يكفيني صمته ونظرة تتضامن مع آلامي.

أنام مع إخوتي الثلاثة في غرفة واحدة مذ كنا أطفالاً، و لكن هذياني وآهاتي التي كنت أطلقها وأنا نائم، حسب ما يرون لي، ثم صوت لهاثي، وقلقي طوال الليل، جعلهم يتذمرون من وجودي بالغرفة، هم طبعاً لم يطلبوا مني الخروج، أنا لملمت أغراضي، وبحثت لي عن زاوية في البيت، فلم أجد غير الشرفة، ولحسن حظي، فأنا ما زلت أعتقد أني محظوظ ، أنها محاطة بنوافذ زجاجية من جميع الجهات.
ينام الناس هنا مبكراً، الساعة الحادية عشر لن ترى أحداً في الشارع، إذا فتحت الشباك يمكنني أن أسمع عواء ونحيباً، وإذا أغلقته لن أسمع شيئا إلا إذا كان انفجاراً. حدث ذلك ذات مرة أن قُصفت سيارة في الشارع فتحطم زجاج النافذة فوق رأسي، وأُُصبت بجروح خفيفة، وحصلت على ندبتين في وجهي أحدهما تحت ذقني تماما والأخرى وسط خدي الأيمن. شعرت حينها وكأن مخلوقات غريبة غزت وجهي، ثم اعتدت على وجودها بعد أسابيع قليلة.
ذات صباح... استيقظت على أصوات لم تكن نحيباً ولا عواء ولا انفجارات ، وإنما صوت قادمين كثر وكأنها مناسبة مهمة . لكن أحداً لم يتزوج في البيت، و لم يمت أيضاً، و لم يولد نفر جديد، إذاً ما المناسبة التي أحضرت عندنا كل هؤلاء، و أكثرهن فتيات . ...جميلات. هممت للخروج من شرفتي ، فإذا أمي تسارع و تقذفني لداخل ـ أبق هنا ، لا تخرج حتى نتدبر الأمر في الخارج.
_ و لكن ، أمي ، ماذا....

فإذا بها خارج الشرفة مغلقةً الباب .

قذفتُ برأسي والجزء الأعلى من جسدي خارج الشرفة حتى أتمكن من رؤية ما أمكنني في الشارع الخالي ...مع أن الساعة تجاوزت العاشرة صباحاً، و كأنه إضراب . يتناثر في الشارع بعض الموظفين العائدين من عملهم، منهم من يمشي وحيداً ويحمل حقيبة وكأنه يعلن عن أهميته، ومنهم من تكمن أهميته في كمية الشعر الأبيض الذي يحتل رأسه ويخبرك عن السنين التي أمضاها خلف مكتبه، وهذا يكتفي بشبك يديه خلف ظهره مطرقاً رأسه أرضاً، ومنهم من يمشي مجموعات وهؤلاء أغلبهم من صغار الموظفين، هيأتهم المتواضعة وملابسهم البسيطة توحي بذلك .

عادت أمي بعد أقل من نصف ساعة، وجدت لها مكاناً بين " الجنبية " التي أنبطح فوقها والحائط ، تنفست بعمق شديد وكأنها تعوض ما فاتها من أكسجين في اللحظات الماضية. منعها فضولي من منحها نفساً آخر، سارعتُ
أستفسر عما يحدث في الخارج .... أعني خارج الشرفة .

هل أرحل عنك وقصتنا أحلى من عودة نيسان
يا حبي الأوحد لا تبكي فدموعك تحفر وجداني

أروع ما يميز أمي هو حبها للاختصار : بنات خالك سيقمن عندنا حتى ينسحب اليهود من الشمال .
اليهود ...............الشمال ................... خالي..........
كيف اجتمع خالي باليهود في جملة واحدة؟....... سألتها لماذا !
شعرتُ بدهشتها من سؤالي من شفتيها عندما باعدت بينهما .
- الدبابات أمام بيتهم مباشرة ... ربك وحده ستر إنهم طلعوا من الدار بسرعة .... وحده خالك بقي في البيت .

ماذا أعطيك أجيبينى
قلقي إلحادي غثياني
أنا ألف أحبك فابتعدي عني عن ناري و دخاني
فأنا لا أملك في الدنيا إلا عينيك و أحزاني

نسيتُ أن لي خالاً يسكن في الشمال وأن ذقنه التي تصل إلي معدته منعتني من دخول بيته منذ أصبحتُ في الأول الثانوي واللعب مع بناته الخمسة .... لأنني أصبحت " كبير " كما وصفني تلك اللحظة لأمي عندما رآني برفقتها في إحدى زياراتها . شعرتُ بالفخر لأنه اعتبرني كبرت. و لم أكن أعلم أني سأعاني تبعات هذه الكلمة حتى آخر أيام حياتي . لماذا لا نملك خيار أن نكبر أو نبقى أطفالاً؟ أما بناته الخمسة ....يا إلهي على بناته الخمسة وجمالهن ..... لا أخضر من تلك العيون و لا أشقر من ذلك الشعر و لا أقوم من طولهن...

لم أراهن منذ ذلك اليوم الذي قرر خالي فيه أني كبرت. و مع ذلك أذكر جيداً أكبرهن ... لم تكن فارعة الطول مثل باقي أخواتها و لكنها تملك العينان الأكثر اخضراراً في العالم .....فاطمة . ربما يجلسن الآن في غرفة أخواتي المجاورة .
- إذا كنت تريد الخروج الآن فاخرج بسرعة و لا ترفع رأسك .... و لا تعود قبل المغرب .
قطعت أمي أفكاري بتعليماتها التي لن تنتهي أبداً طول فترة مكوثهن في البيت. و لكن أين أذهب حتى المغرب. لم أكن يوماً من أصحاب الصداقات الكثيرة ولا ممن يفضلون المكوث أمام المنازل و في الطرقات. كانت الشرفة ملاذي بعد أن غادرت الغرفة والآن .... أين أذهب .

أنا إنسان مفقود لا أملك في الأرض مكاناً
ضيعني دربي.... ضيعني اسمي
ضيعني آه عنواني
تاريخي.. ما لي تاريخ
إني نسيان النسيان
إني مرساة لا ترسو
جرح بملامح إنسان

جلبت لي أختي ملابسي من غرفتي السابقة، دخلت الحمام مطرق الرأس حسب تعليمات أمي وبعد دقائق قليلة كنت أضع يدي في يد الباب الخارجي للمنزل أصافح قدري، لا أعلم أين وجهتي . ما تزال تلك الأغنية اللعينة التي سمعتها البارحة صدفة من بيت جيراننا الذين لا يترددون أبدا في توزيع سعادتهم على الشارع بأكمله حتى في أضيق الأوقات تتردد في أذني مع تعديل بسيط ...

وأنا في الشرفة محترق
أفكاري تأكل أفكاري
فأنا لا أملك في الدنيا إلا شهادتي و ضياعي ...

هنا في هذه المدينة ..... تنهال الأفكار مع قطرات المطر، تنساب مع أشعة الشمس، تطل من الأزقة تزاحم رؤوس الأطفال الشقية التي تباغتك في كل متر مربع. نحن شعب ما زال طفلاً ، بعضنا بدأ يشد رحاله ليحتل مكاناً ما في عالم الرجال و لكن الأماكن كلها ممتلئة، لا مكان ولو لقدم واحدة .... أين أذهب .
ما تزال الأغنية الملعونة تتردد في أذني تختلط مع أصوات قصف تأتي من بعيد تتبعها موجات متقطعة من أصوات بنادق رشاشة تطلقها الطائرات .... كلها من بعيد ، الشوارع خالية من المارة، تقطع سكونها المريب سيارات تمر بين الفينة والأخرى بسرعة تسابق الريح..... أين أذهب .
باغتني صوت الأذان ... هذه المرة من قريب .... جداً... قريب.
سأذهب للمسجد ، لعلني أصادف أحداً أعرفه هناك ... لعني أجد تامر .
تقدمت من المسجد، ومع كل لحظة أقترب من الباب الكبير أشعر أن عدد الناس يزداد حتى أنني في لحظة ما خلت أنهم سينهالون عليّ بالضرب. لا أعرف لماذا انتابني هذا الإحساس الغريب مع أن أحداً منهم لا تبدو عليه ملامح العنف. خلعت نعليّ ودخلت، تذكرت أنني لم أتوضأ، خرجت مرة أخرى بسرعة قبل أن يباغتني أحداً ما وتبدأ سلسة السلام التي لا تنتهي، ذهبت مباشرة إلى مكان الوضوء، توضأت بسرعة دون أن أرفع رأسي لأرى من يتواجد في المكان. عندما عدت كان تامر أول وجه وقعت عليه عيني .
تقدمت منه بخطوات بلهاء وبحركة تلقائية طفولية عانقته كأنني عائد من سفر طويل. أبعدني عنه مستغرباً ورمقني بنظرة مستفسرة، حينها لاحظت أن وجهه قد شحب لونه وطالت لحيته، وحتى أستدرك الموقف قلت له بلهجة مازحة : حمداً لله على سلامتك ... حلمت أنك مت .. كتب لك عمر جديد يا عم . أجابني مستنكرا كلامي بحركة من حاجبيه :
- هادا بدل ما تدعيلي بالشهادة .
حشرني في المأزق نفسه في كل مرة نلتقي.
أمسك بيدي ودخلنا المسجد كما كنا نفعل قديماً عندما ندخل الفصل في المدرسة الابتدائية بعد الطابور الصباحي.
بدأ يقدمني لزملائه أو أصدقائه .... هذا الأخ فلان وهذا الشيخ علان، و كان عليّ أن أسلم عليهم واحداً واحداً وأن أشد على يده وأبتسم في وجهه حتى أثبت صدق مشاعري ... عن أية مشاعر أتحدث أنا الآن..... لا أعلم .
أقام المؤذن الصلاة.

*******************
انتهت الركعات الأربع أسرع مما اعتقدت ثم أنقسم الجمع إلى مجموعات صغيرة هنا وهناك في أنحاء المسجد، يتحدثون عن نفس الموضوع. ... شعرت نفسي غريباً بينهم.

وددت لو أهرب أنا وتامر معاً من هنا إلى أي مكان آخر أستطيع فيه أن استفسر منه بإسهاب أين أذهب. لكنه مندمج مع أحاديثهم، يبادلهم الكلمات، يستمع بتركيز لأحدهم يطمئن نفسه أنه لا يشعر بالخوف لأن لديه في المنزل قطعة سلاح. عندما انتهى هذا الشخص من الحديث مع تامر توجه نحوي وبدأ يتحدث:
- مع من أنت يا أخ إبراهيم ؟
لم يفاجئني أبداً بسؤاله ، فقد أصبح بطاقة تعارف، نظرت لتامر فإذا به مطرق الرأس يتهرب من المشاركة في الحديث .... هو الوحيد الذي يعلم جيداً مع من أنا ... لذلك لا يفخر بصداقتي مع أنه ما زال يحافظ عليها. ما زال الرجل ينتظر الإجابة، ظن أنني لم أفهم قصده فأعاد علي السؤال بصيغة أخرى
- أعني لأي فصيل تنتمي يبدو أنك .....
وقبل أن يكمل جملته، هز المكان انفجار شديد .... مثل تلك التي تصل أسماعنا من بعيد، ولكن هذه المرة الصوت قريب .... قريب جداً .
خرج الجميع دفعة واحدة يهللون و يكبرون تقودهم آذانهم نحو الانفجار...حتى تامر خرج معهم دون أن يلقي عليّ النظرة الأخيرة.
أصبحتُ وحدي في المسجد والكلمة الأولى من إجابتي على سؤال الشيخ ما زالت عالقة في حلقي. خرجت بعدها بقليل إلى الشارع، كانت النيران تشتعل في إحدى السيارات وسط الشارع والناس يتسابقون كأنهم يودون الإلقاء بأنفسهم وسطها. أفواج بشرية من كل حدب وصوب. تركت تامر بينهم، و سلكت الطريق المعاكس ... لا أعرف أين أذهب !!!!!!!!!!

منى يوسف أبو شرخ

عبد العزيز غوردو
07/11/2007, 12:54 AM
على "هامش انفجار" تفجر من بين أناملك إبداع بنكهة الثورة...

وأحزان... وشجون... وهموم...

وأشياء أخرى...

نفَس واعد... ولغة منسابة... وإن طالت اللوحات أحيانا...

ودعوة لمراجعة النص، ثانية، لتجاوز ما تسلل إليه من أخطاء في اللغة والرقن..

دعوة أيضا لاختزال بعض المشاهد.. تكثيفا للنص...

خالص مودتي... منى...

ومرحبا بك في عالم واتا...

:fl:

منى أبو شرخ
07/11/2007, 10:02 PM
أشكرك و أقدر نقدك البناء

أنت محق ... فأنا أواجه بعض المشاكل في اللغة و أحتاج دوما لمن يراجعها من بعدي

تحياتي

منى

عبدالله يونس
18/05/2009, 09:15 PM
مجهود مشكور ,لكن عليك بمراجعة بعض كتب قواعد اللغة العربية ككتاب (التحفة الاجرومية)لابن اجروم.وهو كتاب سهل,يمكن ان يخفف من الاخطاء.والخطا غير المتعمد ليس عيبا.انما العيب الا نقبل التقويم.
وشكرا على مجهودك مرة اخرى.