المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سياسيون وأكاديميون: على بريطانيا أن تعتذر للشعب الفلسطيني وتعوِّضه



غالب ياسين
07/11/2007, 10:39 AM
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام



أكد سياسيون وأكاديميون فلسطينيون على ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية، منوهين إلى أن "وعد بلفور" المشؤوم لم ينته بعد، فكل يوم تحاك وعود لا تقل خطراً على الشعب الفلسطيني"، كما طالبوا من الحكومة البريطانية تقديم الاعتذار بشكل رسمي للشعب الفلسطيني، إضافة إلى تقديم التعويضات بكونها هي من وضع حجر الأساس للاحتلال الصهيوني.

جاء ذلك خلال الملتقى الثقافي الأول بعنوان: "وعد بلفور في ذكراه التسعين دعوة للوحدة لتحيى فلسطين"، بتنظيم من الاتجاه الإسلامي بجامعة الأقصى، اليوم السبت (3/11) بقاعة الهلال الأحمر بغزة، بحضور رئيس المجلس التشريعي بالإنابة الدكتور أحمد بحر، ووزير العدل الأسبق ناهض الريس، والدكتور تيسير نشوان نائب رئيس الجامعة للشؤون الثقافية والعلاقات العامة بجامعة الأقصى، وممثل عن الاتجاه الإسلامي بجامعة الأقصى الدكتور رمضان الزيان، ورئيس رابطة علماء فلسطين الدكتور مروان أبو راس ولفيف من السياسيين والأكاديميين.

من جهته قال رمضان الزيان: "إن ذكرى وعد بلفور تتزامن مع الوقت العصيب الذي يمر به الشعب الفلسطيني مما يجعلنا ندعو الجميع للوحدة لتوحيد فلسطين"، مؤكداً بأن وعد بلفور لن يغير من الحقيقة شيئاً بكون فلسطين للشعب الفلسطيني كله".

وأوضح بأن الاتجاه الإسلامي هو إطار نقابي مستقل لكافة العاملين بجامعة الأقصى يسعى إلى تحقيق الحفاظ على استقلالية الجامعة وعمليتها، والسعي إلى تطوير مسيرة الجامعة الأكاديمية والمهنية، والحفاظ على حماية مصالح العاملين وحقوقهم، والعمل على إشاعة القيم الإسلامية النبيلة وترسيخا داخل الجامعة.

ودعا بأن تكون هذه الذكرى للوقوف لإعادة الوحدة خاصة بأن الشعب الفلسطيني سيواجه في الأيام المقبلة الكثير من الوعود التي لا تقل خطورة عن وعد بلفور.

بدوره؛ أكد تيسير نشوان بأن هذا الوعد "غير قانوني لكونه صادر من جهة لا تمتلك الحق واغتصبته من أصحاب الحقوق وأعطته لمن لا يستحق"، منوهاً إلى أن هذا الوعد عمل على تغير المصطلحات لتحقيق المصلحة.

وأردف قائلاً: "جاء هذا الوعد ليعبر عن مصالح لبريطانيا لحل مشكلة اليهود في أوربا، والعمل على تعزيز الانقسام في الوطن العربي، وتأمين وحماية مصالح الدول الغربية".

وأضاف: "لقد سعى من خلال هذا الوعد تنفيذ المخطط الإجرامي في إنشاء وطن قومي لليهود"، مؤكداً بأنه أمر باطل وما بني على الباطل فهو باطل.

وأشار نشوان إلى أن "سبب هزيمة العرب قديماً يرجع إلى عدم استغلال الثروات المتاحة وعدم وجود الإيمان العميق بالهدف، وعدم جدية الدول العربية في المقاومة"، منوهاً بأن "ما حدث لا يعني قوة الاحتلال في ذلك الوقت، وما حدث بلبنان يؤكد ذلك".

وقال: "إن المخطط الآن أكثر خطورة بكونه يستهدف الإنسان الفلسطيني، مما يتطلب منا أن نوحد طاقاتنا الفلسطينية لمواجهة كافة الهجمات الموجه ضد الشعب الفلسطيني".

ووجه نداءه لكافة القوى والأحزاب بالعمل الجاد لتحقيق المصلحة الوطنية لمواجهة المؤامرة التي تحاك ضد الشعب الفلسطيني.

ونوه الدكتور أحمد بحر، رئيس المجلس التشريعي بالإنابة، إلى ضرورة الوقوف عند وعد بلفور "لكونه يتكرر مرة بعد مرة خاصة أن الكثير لا يعي ما يخطط من حوله".

وأشار إلى أن نسبة الفلسطينيين زمن وعد بلفور كان 95 في المائة، والأجانب 1 في المائة، بينما اليهود كانت نسبتهم 4 في المائة، منوهاً إلى أن اليهود كان لهم الأثر الكبير في الدعم المادي لبريطانيا.

وتساءل بحر قائلاً: "هل اعترفت بريطانيا بذنبها؟ بالتأكيد لا، خاصة حينما صرح وزير خارجية بريطانيا أن حق اللاجئين بالعودة إلى فلسطين غير منطقي".

وزاد في حديثه: "مؤتمر الخريف ليس مؤتمراً للسلام، بل هو مؤتمر مهمته بناء أسس التفاهم لاستمرار المفاوضات الفلسطينية".

وأضاف: "ألا يكفي 14 سنة من المفاوضات؟، وقد أعلنت وزير الخارجية للاحتلال الصهيوني بأنها متمسكة بقراراتها التي تتمثل في لا دولة بحدود 67، ولا قدس عاصمة فلسطين ولا حق عودة للاجئين ولا الإفراج عن الأسرى ونعم للاستيطان، فعلى ماذا إذن سيكون الحوار؟!".

ووجه دعوة إلى كافة الفلسطينيين وخاصة في حركتي فتح وحماس بالوحدة والإسراع للجلوس على طاولة المفاوضات لمناقشة القضايا لرص الصفوف بكونه لا حل إلا بالحوار الوطني لمواجهة الاحتلال.

وأشار ناهض الريس إلى أن بعض اليهود قد أعلنوا رفضهم لوعد بلفور، "وعد بلفور كاذب وما قام به كاتب الوعد يؤكد بأنه صهيوني حتى النخاع". وذكر بأنه تم استخدام عبارات مخادعة في وعد بلفور ليظن المطلع عليها بأنها عادية لكنها تحمل نتائج خطيرة.

وأردف الريس قائلاً: "علينا أن لا نعفي بريطانيا مما اقترفته من ذنب، فهي أساس نكبة فلسطين، وعليها تعويض الشعب الفلسطيني والاعتذار رسمياً له".

علاء البشبيشي
07/11/2007, 11:53 AM
أستاذنا الفاضل / غالب ياسين

ما أجمل أن نرى الجهود تتوالى لرفع هذا الحصار الظالم، وإرجاع الحق إلى أهله.

ربما يعتقد الكثيرون أن هذه الفعاليات لا تتعدى كونها ( صرخة في واد، أو نفخة في رماد)، كما يحلوا لبعض المتفيهقين أن يطلقوا عليها، لكني أعتقدها صرخة أسمعت من به صمم، وإعصار - وليست نفخة - كفأت طاولة المطبعين، والمتفاوضين.

تحية إعصارية

غالب ياسين
17/11/2007, 01:56 PM
اخي علاء اشكرك واتفق معك:fl:

غالب ياسين
17/11/2007, 01:56 PM
اخي علاء اشكرك واتفق معك:fl:

إسماعيل حمادة
09/01/2008, 04:04 PM
الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تشكل الدعوة لفك الحصار عن قطاعنا الحبيب شعاراً مؤقتاً مرتبطاً بالحالة الراهنة، وهي دعوة لاستنهاض الهمم الشريفة والغيورة للعمل ليس فقط من أجل رفع الحصار عن أهلنا وبما هو إجرائي فقط ، بل يتطاول إلى حصارالمحاصِر وتدمير أدوات حصاره كمقدمة لتدمير هذا الكيان الغاصب واستصال شأفته من ديارنا وعقول بعضنا، ولتصبح الدعوة إلى فك الحصار عن كامل ترابنا الوطني وإزالة الاحتلال في مقدمة جدول أعمال كل المكافحين من أجل الحرية لوطننا الفلسطيني الذي نفخر بانتمائه العربي، وعلى ذلك، فإن جزءاً رئيسياً من النضال يجب أن ينصب على إعادة توصيف الصراع في منطقتنا وفي العالم لتحديد أطرافه وأدواته وسبل التعاطي معها وبأي الأشكال والقوى بما يضمن انعتاق الشعوب من ربقة المطامع والمظالم والانتهاكات التي يوقعها بها الغرب الامبريالي والصهيوني وأدواته المحلية وبرعاية من النظام الدولي الفاجر، وعلى رأس هذه الشعوب، شعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية كرأس حربة ومحور للنضال العالمي.

إن جزءاً من هزائمنا يعود إلى الرؤى القاصرة أو الخاطئة لأسس الصراع في المنطقة، وهو ما يفسح في المجال للبعض الذي أشار إليه الأخ علاء لرفع عقيرته معتبراً الجهد المبذول على هذه الصفحات نفخ في الرماد. وفي هذا السياق، يعتبر "وعد بلفور" بما يشكله خطوة أساسية متقدمة للنظام الدولي في فرض إرادته على مصير المنطقة سبقتها خطوات وتحضيرات أخرى - بمعنى أن وعد بلفور لم يكن وعداً بريطانيا بقدر ما كان قراراً دولياً.

سأقوم في القريب العاجل بإضافة سلسة من المواد التي تعود لصديق مهتم بهذا العنوان، لكن المشكلة التي تواجهني والتي أحيلها إلى مدير هذه الصفحة هي في كيفية إدراج اسم صاحبها في اللائحة اليمنى لهذه الصفحة حفاظاً على حقوق المؤلف.

وإلى اللقاء

غالب ياسين
13/01/2008, 10:10 AM
بوركت اخي اسماعيل
بامكانك اخي الحبيب الاشاره الى المصدر في نهاية الموضوع
بوركت ووفقكم الله

غالب ياسين
13/01/2008, 10:10 AM
بوركت اخي اسماعيل
بامكانك اخي الحبيب الاشاره الى المصدر في نهاية الموضوع
بوركت ووفقكم الله

إسماعيل حمادة
14/01/2008, 10:52 AM
قراءة في قرار دولي يتجدد

بديع يوسف عطية
(1)

من المفترض في ذكرى وعد بلفور هذا العام، أن يكون العرب في فلسطين ومداها الحيوي والعالم العربي كله معنيين بنقضه، متناقضين بشكل حاد ومموه إلى أبعد الحدود حول ما يتعلق بمصيرهم العام.

فالأكثرية الكبرى من الحكومات والقيادات السياسية تتعسكر في خندق العدو من فلسطين إلى العراق إلى لبنان، كما في وادي النيل والمغرب العربي ، فضلاً عن الجزيرة العربية الماجدة، متجاهلة مصالح شعوبها وإرادتها المذبوحة.

وهذه المجموعة ترمي وجوه المواقع التي لا تزال تتمسك بكرامتها بالسموم والملوثات والافتراءات والدسائس ، في جميع المجالات الأمنية والمخابراتية والسياسية، وخصوصاً الإعلامية المترجمة (طازة) على مدار الساعة عن اللغة الأنكلوساكسونية "الصديقة" " البليغة"، فضلاًعن اللغة العبرية " الحبيبة"، وتستعد هذه المجموعة عينها لمهاجمة تلك المواقع ميدانياً، بانتظار الأوامر الامبراطورية الإمبريالية، بوعي كامل لما تفعله وإصرار عنيد عليه، في تسابق زحفطوني انتحاري لم يشهد له التاريخ القديم أو الحديث مثيلاً.

فيما مواقع الكرامة تزداد تردداً في الحسم العملي للموقف وافتتاح معركة الفصل بالاعتماد الحقيقي على أصالة الشعوب، وتحريضها على انتزاع حقوقها وعوامل مصيرها من بطون المفرطين والبائعين ومن جيوبهم وعيونهم وعروقهم.

أمام هذا المشهد العام لابد من التسجيل أن قوى دولية، هي مولدة ومرضعة وحاضنة للاغتصاب في فلسطين، تتحكم بالعالم العربي المنقاد رسمياً وتنظيمياً، وتفرض على حكوماته وأحزابه قوانين توليدها ورضاعتها وحضانتها، وتمتص خيراته في تماهٍ كامل مع المغتصب. مما يحدونا إلى تدقيق بعض المفاهيم المتعلقة بالمناسبة وبفعل هذه القوى ونهجها سابقاً وحاضراً.

إننا لم نستعمل عبارة الدول العظمى في تسمية قوى حماية الاغتصاب، وندعوا إلى شطبها من قاموسنا السياسي، لأن العظمة شأن قيمي مرتبط بإنجازات حضاريةتُجترَح في سبيل تقدم البشرية ونمو المحتمعات والخير الإنسانس العام. واكتفينا بتسميتها "قوى دولية" ويمكن تسميتها أيضاَ "قوى القهر الدولية" .

والنقطة الأخرى التي يجب تثبيت مفهومها الحقيقي هي طبيعة صفقة ما يسمى بـ " وعد بلفور" أو " تصريح بلفور" .

إن طبيعة هذا " الوعد" من الناحية الحقوقية العامة هي لا حقوقية، لأنها وعد غير المالك لغير المستحق. ومن هذه الناحية يكون العقد الناشيء بين الحكومة البريطانية وعموم اليهود بموجب هذا الوعد عقداً باطلاً بطلاناً مطلقاً لفساد جميع عناصره.

فموضوع التعاقد هو جزء من وطن يشكل ملكاً عاماً لمجتمع حضاري قائم بجميع أجياله، حتى التي لم تولد بعد. ولا يملك أي جيل منها حق التصرف والتخلي عن ذرة تراب واحدة من أرضه، فكيف بتصرف قوة دولية لا علاقة لها بهذه الأرض إلا علاقة الطمع والعداء (وهذا ينطبق على أي مجتمع آخر) .

واليهود المستفيدون من هذا العقد لا يشكلون شخصية اعتبارية معنوية أو وحدة اجتماعية أو كياناً ما يؤهلهم لتلقي الهبات وخصوصاً من غير مالكيها. واللورد روتشيلد، فوق ذلك، غير مكلف من مجموع اليهود للتعاقد باسمهم مع الحكومة البريطانية أو مع غيرها.

وبذلك يصبح التعاقد الناتج عن هذا التصريح مشابهاً تماماً للتعاقد على إقامة عصابات النهب والسلب والدعارة والاتجار بالممنوعات.

ومن الناحية السياسية، هو صفقة لا تلزم إلا إطرافها، وصفة الصفقة "الصغيرة" واضحة في حيثيات الحدث – التصريح – وتوجيهه إلى اللورد روتشيلد بالذات. وكونه موجهاً إلى روتشيلد يصبح أحد مكافئي صفقة تجارية حقيقية. وتفصيل ذلك أن عائلة روتشيلد هي رمز قداسة سلطة المال عند اليهود. وقد قدّم اللورد روتشيلد باسم اليهود الدعم المالي للخزينة المعسرة لحكومة صاحب الجلالة، وأخذ مقابل ذلك وعد بلفور.

أما من الناحية التنفيذية العملية، فإن طبيعة الحدث – الوعد، هي طبيعة قرار مهيأ له سياسياً ومعنوياً بمقدمات أقربها وألصقها وأوضحها وأفضحها هي تقسيمات سايكس – بيكو أم المجازر بامتياز بحق الحضارة والتاريخ والشعب الذي قاد الحضارة بثقافته ألوف السنين ومدّن العالم بإنجازاته. ( لكل متمدن في العالم وطنان، وطنه الأصلي، وسورية. قالها المشرعالفرنسي مونتيسكيو وكررها غوستاف لوبون وأرنولد توينبي) .

وزاوية النظر التي لا تقل أهمية عن كل ماسبق بشأن هذا القرار تظهِر أنه قرار دولي وليس قرار بريطانيا منفردة، وأقل ما يقال به أنه قرار توافقي.

ففرنسا المضبوعة بعقدة دريفوس، ما كان يمكن إلا أن تكون شريكاً كاملاً في جميع مفاعيل سايكس بيكو. ومن أهم هذه المفاعيل التصريح – الوعد الهمجي.

وروسيا التي خرجت لتوها من شراكة سايكس بيكو، كانت تحاول ن تزيل تهمة اضطهاد اليهود اللاحقة بها من العهد القيصري، وتؤدي لهم فروض الشكر لأنهم كانوا العنصر الأكثر فعالية في ثورة أكتوبر المجيدة. فضلاً عن انشغالها في تحا هيمنتها على الدولة الاتحادية الناشئة وعلى جيرانها في أوروبا الشرقية، حتى وصلت عدالتها الثورية الاشتراكية إلى التسابق مع الولايات المتحدة على الاعتراف بالكيان الاغتصابي.

أما الولايات المتحدة فقد كانت تزايد في ظل رفع شعار شرعة مونرو بالزهد بالأدوار الإمبريالية. ومع ذلك فقد اعلنت رسمياً عام 1924 تأييدها لوعد بلفور ولاتفاقية سايكس بيكو. ولم يكن ذلك غريباً لأن اختراق الفكر التوراتي لشعوبها قد رافق جميع الحملات البريطانية إلى العالم الجديد منذ بداياتها، لذلك كانت مهيأة منذ أواخر القرن التاسع عشر للمطالبة برعاية " حقوق الأقلية اليهودية في سورية، عندما استعرت حمى تثبيت امتيازات القوى الدولية في بلادنا، في صفقات منفردة بين السلطنة العثمانية وتلك القوى.

وهذه المخادعة الأميركانية ظهرت بوضوح في دخولها الحرب العالمية الأولى، كما ظهرت بعد ذلك مباشرة في التدخل العسكري الشرس في أكثر من دولة في أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى في أواخر عشرينات القرن العشرين ... وشرعة مونرو لا تزال مرفوعة.

ولم تكن إيطاليا، وهي الحليف الأضعف، بعيدة عن الموافقة على سايكس بيكو وتصريح بلفور وتنفيذهما في جلد شعبنا، وهي القوة المستبعدة من سايكس – بيكو. بعد أن كانت حاضرة في جميع التحضيرات التمهيدية، وبالرغم من إقصائها فهي لم تمتنع في مؤتمر الصلح في فرسايل عن تثبيت سايكس– بيكو وتبني وعد بلفور.

ولم يك في يد الدول المهزومة أن ترفض أو تقبل مثل هذه القرارات " الدولية"، فبعد فرسايل، مروراً بسان ريمو ولوزان، وصولاً إلى عصبة الأمم، كانت المطالب اليهودية مرعية ومتبناة بشكل أكثر فجاجة من وعد بلفور نفسه. وهذا التوافق المدهش بين القوى الدولية على اقتلاعنا من أرضنا وانتزاعها منا وبعثرة مصالحنا وتدمير حاضرنا ومستقبلنا وزرع خليط بشري مكاننا لا يجمع عناصره ومجموعاته سوى التحجر على أفكار معادية للخير الإنساني العام. إن هذا التوافق لا يمكن أن يكون عفوياً ومجانياً وبريئاً، ولا لمجرد التأثر بالفكر الترواتي فقط. لكن هنالك عوامل تاريخية ونفسية واستراتيجية شكلت هذا الموقف وعززته بما يتوافق مع الفكر التوراتي.

إن شهوة الهيمنة الإمبريالية التي ترسخت في روما القديمة شكلت جزءاً من ميراث الغرب الأوروبي، وظلت ماثلة عبر التاريخ وانفجرت كلما لاقت مسرباً أو ثغرة في شعب من الشعوب اعتقد هذا الغرب أن له مصلحة في معسه ونهب ثرواته و/ أو الاستيلاء على بلاده.

وهذه الظاهرة قائمة بالقوة وبالفعل عند القوى الدولية تجاه جميع شعوب الأرض، وعداؤها ليس مختصاً فقط بشعبنا ومنطقتنا. ولكن الحقد الذي اختصت به هذه القوى شعبنا فمرده عوامل أخرى، أهمها:

التأثر بتوراة اليهود التي صبت حقدها على " غوييم" أرض المعياد الذين عرقلوا أحكام رب الجنود وبتطهير الأرض من النيل إلى الفرات من " كل نسمة حياة" غير يهودية وحاربوا" الشعب المختار" .

الحقد المزدوج الناجم عن عقدة البدائي الفج الذي يعض اليد التي تمتد لانتشاله من بدائيته. فضلاً عن عقدة النقص من الغلبة الكنعانية والعباسية عبر مراحل التاريخ، فزينون الرواقي لا يزال يلقم المتفكرنين المتطاولين على فلسفته الحجر تلو الحجر في أروقة أثينا، وقدموس ما زال يتعقب تنين الجهل في تلك الأصقاع، وهانيبعل لا يزال على أبواب روما، وسنابك خيول الرشيد لا تزال تقرع أبواب باريس من بواتييه في قلب فرنسا.

لذلك كانت ردة فعل تلك القوى عبر التاريخ في غاية الهمجية والشراسة تجاه حضارتنا وحاضراتنا. فدمًر ذو القرنين تدميراً كاملاً مدينة صور التي كانت عاصمة التجارة في العالم، وكذلك مكتبة آشور بانيبعل في نينوى التي تعتبر أهم مركز ثقافي في التاريخ. وأزالت الحملات الرومانية كل أثر للحياة من حمص إلى تدمر. وقامت الحملة الرابعة من الحملات العسكرية المسماة تزويراً بالصليبية بتدمير الأديرة وذبح الراهبات بعد اغتصابهن وسلق المواليد والرضع بالحلل في منبج ومهرة النعمان وأكل لحومهم...

أما العامل الثالث الذي يزيد حصة شعبنا من حقد القوى الدولية ومطامعها وهمجيتها قهو موقع بلادنا وثرواتها الطبيعية المنوعة.

فهي البيئة الجغرافية / الاستراتيجية التي تربط بثغورها وموانئها قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتسيطر على أهم مفاصل طرق التجارة البرية والبحرية بين بيئات العالم وبلدانه. وهي مفتاح العالم . ومن يسيطر عليها يسيطر على مفاتيح الاقتصاد الدولي والعلاقات الدولية، إذا كان يتمتع بقدرة مؤسساتية مخططة.

وكانت الحملات العسكرية للقوى الدولية عبر التاريخ تهدف إلى الهيمنة على هذه البيئة وسلب مواردها وإذلال شعبها. ولكن سرعان ما كان المزيج البشري المتحضر لهذه البيئة ( وهم الأكثر عراقة) ينهض ليعلم الغزاة ويطورهم ويستعيد دوره الريادي في العالم.

لذلك كان لا بد للقوى الدولية الطامعة من اجتراح وسيلة تبقي شعبنا متعثراً عاجزاً هاجعاً إلى أطول مدة ممكنة، لتقوم هذه القوى بالنهب لمنظم وبالإفادة من الموقع الفريد بمواجهة أقل ما يمكن من الحواجز والموانع. فدرست وخططت وبثت عمالها واستغلت تعثر الاستعمار التركي لتزرع مؤسساتها الثقافية والتربوية والإعلامية والتجارية فيما سمي بالامتيازات الممنوحة لهذه القوى، وعندما تهيأ لها الإطباق على هذه البلاد بالغلبة العسكرية كان أسلوب التنويم التاريخي جاهزاً في مجزرة سايكس- بيكو.. فقطعوا أوصال المجتمع والأرض.

وكانت ظاهرة استقطاب بلادنا بخيراتها وموقعها للأطماع الاستعمارية ظاهرة للكثيرين من المفكرين وماثلة أمامهم، لذلك كثرت في القرن الأخير وعلى عدة مراحل ومفاصل الأبحاث والدراسات التي تحمل عنوان "الصراع على سورية".

فأصبح الشعب الواحد "شعوباً شقيقة" تتغنى بكياناتها السياسية الهزيلة المصتعة في مطبخ المستعمر سماً صرفاً، وباستقلالاتها الانتحارية النازفة التي أصبحت قضاءً وقدراً وسيفاً مسنوناً فوق كل محاولات التوحد أو مجرد التفكير به. وأصبحت المفاهيم والمبادئ الداعية إلى الوحدة الطبيعية خيانة عظمى تعاقدت وتوافقت على معسها وإخماد أنفاسها نواطير حكمها الذاتي مع رموز التوافق الدولي التاريخي وقواه المفترسة الكاسرة، في ترابط فولاذي لا فكاك منه إلا بالكسر..

وقد لاءمت خطط القوى الدولية وهدفها إدعاءات اليهود في توراتهم المزوّرة، فكان القرار الدولي بإصدار عرف بتصريح بلفور باسم بريطانيا، والذي دخل المعادلة السياسية كعنصر ثابت دائم متوحد مع سايكس بيكو، لأنه لم يكن بالإمكان تنفيذه لولا تنفيذ جراحة سايكس بيكو بالاحتلال المباشر والغلبة والقهر.

فأصبحت المعادلة واضحة ناصعة: وجود الاغتصاب يقتضي استمرار سايكس- بيكو وتقديسها. والوحدة تعني إزالة الاغتصاب. لذلك تكرست قاعدة فكرية بالتلقين والترويض والتدجين أن المطالبة بالوحدة تعني الاعتداء على قداسة الاستقلالات الانتحارية.

وباستمرارية التاريخي نرى أنه عندما انتقلت إدارة المسلخ من يد الضبع الإنكليزي إلى الذئب الأمريكاني، كان لابد من تزكية الوعد – القرار أمام التوراة المقدسة وحاخامتها فكان مشروع إيزنهاور. فحمل في افتتاحية النص المتعلق "بالشرق الأوسط" أن " إسرائيل واقع تاريخي". وتفاقمت الضغوط السياسية والاقتصادية والحرب النفسية والإعلامية للاعتراف الرسمي والشعبي من " الشعوب الشقيقة" وكياناتها، وانفجرت مآسي المنازعات السياسية والاتهامات ومعلقات الهجو والصراعات بين الكيانات المصطنعة في جبهات تقضي على ما تبقى من طاقة لمواجهة حرب الإفناء، وتزنّر العالم كله تحت شعارات نارية مموهة ومزورة وبديلة تتعالى حول الصراع " ومواجهة" الإمبريالية الأمريكية" التي زاد نفوذها رسوخاً بالنتيجة، فاستمرت المعادلة لمصلحة الاغتصاب وولدّت وجهاً مباشراً وعلنياً ووقحاً للقرار – الوعد في سياسية الولايات المتحدة الحالية وراء واجهة الرئيس جورج دبليو بوش المتهود، سواء في فلسطين أم في لبنان أم في التقسيم القائم في العراق حالياً بعد معس مقومات تقدمه المادية- النفسية، والذبائح المقدسة اليومية التي يقيمها جنود يهوا في غوييم هذه البلاد المنكوبة بحكوماتها و" قياداتها" الشعبية أكثر من نكبتها بالخطة المعادية.
وعلى صعيد العلاقات بين النواطير ومع مواطنيهم ، أصبح الاعتراض على حرب الإفناء وليس المطالبة بالوحدة، جريمة يتدرج وصفها من اللاموضوعية السياسية إلى التطرف... إلى الإرهاب... إلى الهمجية.. إلى معاداة روح العصر اليهودية " السمحاء" .

إن هذا العداء المستحكم بالقوى الدولية تجاه بلادنا وشعبنا واضح جداَ وصريح ومقروء في تصريح بلفور نفسه، خصوصاً عندما يتحدث عن المحافظة على حقوق الأقليات الأخرى ( غير اليهودية). وهذا الكلام يتضمن تصريحاً ناطقاً بأن أصحاب القرار (القوى الدولية) لا يعترفون بنا كشعب له شخصيته الحضارية ونفسيته الراقية الماثلة في إنجازاته وتراثه عبر ما يزيد عن ثلاثة عشر ألف عام على الأقل. ويعتبروننا مجموعة أقليات لا تشكل شخصية معنوية أو كياناً اجتماعياً وسياسياً له حقوق عامة ومصالح عليا في الحياة.

واستمر هذا الاعتبار وهذا الموقف عبر جميع مراحل المأساة بشكل عملي واضح وبدون تصريح علني في الغالب حتى عام 1992 حيث قالها الداعية اليهودي الخطير دانيال بايبس في كتابه " سورية الكبرى قصة طموح" حيث يصرح ويحاول أن يثبت أنه لا وجود للشعب السوري ولا لحمة ولا تماثل في الصفات والخصائص والميزات بين سكان سورية. فهم مجموعة أقليات من بينها اليهود. وفي هذا الكلام المتعدد المجارح والمقاتل دعوة مكشوفة للاقتداء بالأقلية اليهودية في إقامة دويلات عنصرية بعدد هذه الأقليات. وهذا التأكيد على عدم وجود شخصية حضارية لشعبنا يتجلى اليوم، في معرض التصفية النهائية للصراع حول فلسطين، بالكلام عن حقوق لاجئين لا عن حقوق شعب، مع التأكيد على هذا الكلام عن حقوق اللاجئين ليس للتنفيذ والتحقيق، وإنما لمتابعة استجرار الشعب إلى حتفه.

ولم يكن أحدا معذوراً منذ صدور القرار- الوعد عن عدم رؤيته لهذه الحقيقة، لأن الدعوة إلى اغتصاب فلسطين، التي سبقت الوعد بأكثر من نصف قرن من الزمان قد استندت على مقولة ( أرض بلا شعب " لشعب" بلا أرض).

لذلك كان الكلام عن المحافظة على حقوق الأقليات تطميناً واضحاً للقوى الدولية صاحبة الامتيازات في سوريا. ومن بين هذه الامتيازات رعاية كل دولة لأقلية من الأقليات، ولم يكن بأي وجه من الوجوه تطميناً لشعبنا غير المعترف به من الأساس.

وبناءً على كل ما تقدم، لا يمكن وضع مفاوضات حسين – مكماهون خارج هذا الإطار. فالإنكليز لم يخدعوا الشريف حسين، لأنه كان مطلعاً على وعد بلفور وعلى سايكس- بيكو، والإنكليز هم الذبن دفعوا به ليتصدر النضال في بلاد الشام والرافدين، واعدين فقط " بتقسيمها" على أولاده الميامين.. لا باستقلالها، ولا بوحدتها، ولا بمنع الهجرة اليهودية إليها. والممانعة الواضحة الوحيدة التي أشهرت في وجه سايكس – بيكو الوعد هي قرارات المؤتمر السوري التي لم يتمكن شعبنا من فرضها بسبب انعدام المؤسسات وفكرة الدولة.

إن ما حل ببلادنا كحاصل لوعد بلفور ومقدماته ومفاعيله، يحل بعضه بوادي النيل وشيء منه في مجمل العالم العربي، فضلاً عن شبه الجزيرة الهندية وأمريكا الجنوبية وبعض مناطق آسيا وإفريقيا الأخرى، وفي قلب أوروبا الشرقية أيضاً.

أما مواجهته في بلاد الشام والرافدين فتتم على قدم وساق بالانسياب بالخطة المعادية حتى آخر قطرة من ماء وجه وعظم الحكومات والمنظمات والأحزاب، وفي بقية العالم العربي بدعم الخطة بالمال والإعلام وقلة الحياء وهدر الكرامة..

فمتى يبدأ العد العكسي للتخطيط على قاعدة وجودنا كشعب، لا بردة فعل غوغائية فوضوية لم تعلمنا الأحداث حتى اليوم كيف نتخلى عنها رغم طول التجربة وخطورة النزف وأصوات حشرجة الاحتضار. فإلى إين وإلى متى ؟؟؟ , على متى يستمر سكوت شعوب العالم أمام قرارات القوى الدولية اللاعقلانية واللاإنسانية؟؟؟ ...

* * *

إسماعيل حمادة
14/01/2008, 10:52 AM
قراءة في قرار دولي يتجدد

بديع يوسف عطية
(1)

من المفترض في ذكرى وعد بلفور هذا العام، أن يكون العرب في فلسطين ومداها الحيوي والعالم العربي كله معنيين بنقضه، متناقضين بشكل حاد ومموه إلى أبعد الحدود حول ما يتعلق بمصيرهم العام.

فالأكثرية الكبرى من الحكومات والقيادات السياسية تتعسكر في خندق العدو من فلسطين إلى العراق إلى لبنان، كما في وادي النيل والمغرب العربي ، فضلاً عن الجزيرة العربية الماجدة، متجاهلة مصالح شعوبها وإرادتها المذبوحة.

وهذه المجموعة ترمي وجوه المواقع التي لا تزال تتمسك بكرامتها بالسموم والملوثات والافتراءات والدسائس ، في جميع المجالات الأمنية والمخابراتية والسياسية، وخصوصاً الإعلامية المترجمة (طازة) على مدار الساعة عن اللغة الأنكلوساكسونية "الصديقة" " البليغة"، فضلاًعن اللغة العبرية " الحبيبة"، وتستعد هذه المجموعة عينها لمهاجمة تلك المواقع ميدانياً، بانتظار الأوامر الامبراطورية الإمبريالية، بوعي كامل لما تفعله وإصرار عنيد عليه، في تسابق زحفطوني انتحاري لم يشهد له التاريخ القديم أو الحديث مثيلاً.

فيما مواقع الكرامة تزداد تردداً في الحسم العملي للموقف وافتتاح معركة الفصل بالاعتماد الحقيقي على أصالة الشعوب، وتحريضها على انتزاع حقوقها وعوامل مصيرها من بطون المفرطين والبائعين ومن جيوبهم وعيونهم وعروقهم.

أمام هذا المشهد العام لابد من التسجيل أن قوى دولية، هي مولدة ومرضعة وحاضنة للاغتصاب في فلسطين، تتحكم بالعالم العربي المنقاد رسمياً وتنظيمياً، وتفرض على حكوماته وأحزابه قوانين توليدها ورضاعتها وحضانتها، وتمتص خيراته في تماهٍ كامل مع المغتصب. مما يحدونا إلى تدقيق بعض المفاهيم المتعلقة بالمناسبة وبفعل هذه القوى ونهجها سابقاً وحاضراً.

إننا لم نستعمل عبارة الدول العظمى في تسمية قوى حماية الاغتصاب، وندعوا إلى شطبها من قاموسنا السياسي، لأن العظمة شأن قيمي مرتبط بإنجازات حضاريةتُجترَح في سبيل تقدم البشرية ونمو المحتمعات والخير الإنسانس العام. واكتفينا بتسميتها "قوى دولية" ويمكن تسميتها أيضاَ "قوى القهر الدولية" .

والنقطة الأخرى التي يجب تثبيت مفهومها الحقيقي هي طبيعة صفقة ما يسمى بـ " وعد بلفور" أو " تصريح بلفور" .

إن طبيعة هذا " الوعد" من الناحية الحقوقية العامة هي لا حقوقية، لأنها وعد غير المالك لغير المستحق. ومن هذه الناحية يكون العقد الناشيء بين الحكومة البريطانية وعموم اليهود بموجب هذا الوعد عقداً باطلاً بطلاناً مطلقاً لفساد جميع عناصره.

فموضوع التعاقد هو جزء من وطن يشكل ملكاً عاماً لمجتمع حضاري قائم بجميع أجياله، حتى التي لم تولد بعد. ولا يملك أي جيل منها حق التصرف والتخلي عن ذرة تراب واحدة من أرضه، فكيف بتصرف قوة دولية لا علاقة لها بهذه الأرض إلا علاقة الطمع والعداء (وهذا ينطبق على أي مجتمع آخر) .

واليهود المستفيدون من هذا العقد لا يشكلون شخصية اعتبارية معنوية أو وحدة اجتماعية أو كياناً ما يؤهلهم لتلقي الهبات وخصوصاً من غير مالكيها. واللورد روتشيلد، فوق ذلك، غير مكلف من مجموع اليهود للتعاقد باسمهم مع الحكومة البريطانية أو مع غيرها.

وبذلك يصبح التعاقد الناتج عن هذا التصريح مشابهاً تماماً للتعاقد على إقامة عصابات النهب والسلب والدعارة والاتجار بالممنوعات.

ومن الناحية السياسية، هو صفقة لا تلزم إلا إطرافها، وصفة الصفقة "الصغيرة" واضحة في حيثيات الحدث – التصريح – وتوجيهه إلى اللورد روتشيلد بالذات. وكونه موجهاً إلى روتشيلد يصبح أحد مكافئي صفقة تجارية حقيقية. وتفصيل ذلك أن عائلة روتشيلد هي رمز قداسة سلطة المال عند اليهود. وقد قدّم اللورد روتشيلد باسم اليهود الدعم المالي للخزينة المعسرة لحكومة صاحب الجلالة، وأخذ مقابل ذلك وعد بلفور.

أما من الناحية التنفيذية العملية، فإن طبيعة الحدث – الوعد، هي طبيعة قرار مهيأ له سياسياً ومعنوياً بمقدمات أقربها وألصقها وأوضحها وأفضحها هي تقسيمات سايكس – بيكو أم المجازر بامتياز بحق الحضارة والتاريخ والشعب الذي قاد الحضارة بثقافته ألوف السنين ومدّن العالم بإنجازاته. ( لكل متمدن في العالم وطنان، وطنه الأصلي، وسورية. قالها المشرعالفرنسي مونتيسكيو وكررها غوستاف لوبون وأرنولد توينبي) .

وزاوية النظر التي لا تقل أهمية عن كل ماسبق بشأن هذا القرار تظهِر أنه قرار دولي وليس قرار بريطانيا منفردة، وأقل ما يقال به أنه قرار توافقي.

ففرنسا المضبوعة بعقدة دريفوس، ما كان يمكن إلا أن تكون شريكاً كاملاً في جميع مفاعيل سايكس بيكو. ومن أهم هذه المفاعيل التصريح – الوعد الهمجي.

وروسيا التي خرجت لتوها من شراكة سايكس بيكو، كانت تحاول ن تزيل تهمة اضطهاد اليهود اللاحقة بها من العهد القيصري، وتؤدي لهم فروض الشكر لأنهم كانوا العنصر الأكثر فعالية في ثورة أكتوبر المجيدة. فضلاً عن انشغالها في تحا هيمنتها على الدولة الاتحادية الناشئة وعلى جيرانها في أوروبا الشرقية، حتى وصلت عدالتها الثورية الاشتراكية إلى التسابق مع الولايات المتحدة على الاعتراف بالكيان الاغتصابي.

أما الولايات المتحدة فقد كانت تزايد في ظل رفع شعار شرعة مونرو بالزهد بالأدوار الإمبريالية. ومع ذلك فقد اعلنت رسمياً عام 1924 تأييدها لوعد بلفور ولاتفاقية سايكس بيكو. ولم يكن ذلك غريباً لأن اختراق الفكر التوراتي لشعوبها قد رافق جميع الحملات البريطانية إلى العالم الجديد منذ بداياتها، لذلك كانت مهيأة منذ أواخر القرن التاسع عشر للمطالبة برعاية " حقوق الأقلية اليهودية في سورية، عندما استعرت حمى تثبيت امتيازات القوى الدولية في بلادنا، في صفقات منفردة بين السلطنة العثمانية وتلك القوى.

وهذه المخادعة الأميركانية ظهرت بوضوح في دخولها الحرب العالمية الأولى، كما ظهرت بعد ذلك مباشرة في التدخل العسكري الشرس في أكثر من دولة في أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى في أواخر عشرينات القرن العشرين ... وشرعة مونرو لا تزال مرفوعة.

ولم تكن إيطاليا، وهي الحليف الأضعف، بعيدة عن الموافقة على سايكس بيكو وتصريح بلفور وتنفيذهما في جلد شعبنا، وهي القوة المستبعدة من سايكس – بيكو. بعد أن كانت حاضرة في جميع التحضيرات التمهيدية، وبالرغم من إقصائها فهي لم تمتنع في مؤتمر الصلح في فرسايل عن تثبيت سايكس– بيكو وتبني وعد بلفور.

ولم يك في يد الدول المهزومة أن ترفض أو تقبل مثل هذه القرارات " الدولية"، فبعد فرسايل، مروراً بسان ريمو ولوزان، وصولاً إلى عصبة الأمم، كانت المطالب اليهودية مرعية ومتبناة بشكل أكثر فجاجة من وعد بلفور نفسه. وهذا التوافق المدهش بين القوى الدولية على اقتلاعنا من أرضنا وانتزاعها منا وبعثرة مصالحنا وتدمير حاضرنا ومستقبلنا وزرع خليط بشري مكاننا لا يجمع عناصره ومجموعاته سوى التحجر على أفكار معادية للخير الإنساني العام. إن هذا التوافق لا يمكن أن يكون عفوياً ومجانياً وبريئاً، ولا لمجرد التأثر بالفكر الترواتي فقط. لكن هنالك عوامل تاريخية ونفسية واستراتيجية شكلت هذا الموقف وعززته بما يتوافق مع الفكر التوراتي.

إن شهوة الهيمنة الإمبريالية التي ترسخت في روما القديمة شكلت جزءاً من ميراث الغرب الأوروبي، وظلت ماثلة عبر التاريخ وانفجرت كلما لاقت مسرباً أو ثغرة في شعب من الشعوب اعتقد هذا الغرب أن له مصلحة في معسه ونهب ثرواته و/ أو الاستيلاء على بلاده.

وهذه الظاهرة قائمة بالقوة وبالفعل عند القوى الدولية تجاه جميع شعوب الأرض، وعداؤها ليس مختصاً فقط بشعبنا ومنطقتنا. ولكن الحقد الذي اختصت به هذه القوى شعبنا فمرده عوامل أخرى، أهمها:

التأثر بتوراة اليهود التي صبت حقدها على " غوييم" أرض المعياد الذين عرقلوا أحكام رب الجنود وبتطهير الأرض من النيل إلى الفرات من " كل نسمة حياة" غير يهودية وحاربوا" الشعب المختار" .

الحقد المزدوج الناجم عن عقدة البدائي الفج الذي يعض اليد التي تمتد لانتشاله من بدائيته. فضلاً عن عقدة النقص من الغلبة الكنعانية والعباسية عبر مراحل التاريخ، فزينون الرواقي لا يزال يلقم المتفكرنين المتطاولين على فلسفته الحجر تلو الحجر في أروقة أثينا، وقدموس ما زال يتعقب تنين الجهل في تلك الأصقاع، وهانيبعل لا يزال على أبواب روما، وسنابك خيول الرشيد لا تزال تقرع أبواب باريس من بواتييه في قلب فرنسا.

لذلك كانت ردة فعل تلك القوى عبر التاريخ في غاية الهمجية والشراسة تجاه حضارتنا وحاضراتنا. فدمًر ذو القرنين تدميراً كاملاً مدينة صور التي كانت عاصمة التجارة في العالم، وكذلك مكتبة آشور بانيبعل في نينوى التي تعتبر أهم مركز ثقافي في التاريخ. وأزالت الحملات الرومانية كل أثر للحياة من حمص إلى تدمر. وقامت الحملة الرابعة من الحملات العسكرية المسماة تزويراً بالصليبية بتدمير الأديرة وذبح الراهبات بعد اغتصابهن وسلق المواليد والرضع بالحلل في منبج ومهرة النعمان وأكل لحومهم...

أما العامل الثالث الذي يزيد حصة شعبنا من حقد القوى الدولية ومطامعها وهمجيتها قهو موقع بلادنا وثرواتها الطبيعية المنوعة.

فهي البيئة الجغرافية / الاستراتيجية التي تربط بثغورها وموانئها قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتسيطر على أهم مفاصل طرق التجارة البرية والبحرية بين بيئات العالم وبلدانه. وهي مفتاح العالم . ومن يسيطر عليها يسيطر على مفاتيح الاقتصاد الدولي والعلاقات الدولية، إذا كان يتمتع بقدرة مؤسساتية مخططة.

وكانت الحملات العسكرية للقوى الدولية عبر التاريخ تهدف إلى الهيمنة على هذه البيئة وسلب مواردها وإذلال شعبها. ولكن سرعان ما كان المزيج البشري المتحضر لهذه البيئة ( وهم الأكثر عراقة) ينهض ليعلم الغزاة ويطورهم ويستعيد دوره الريادي في العالم.

لذلك كان لا بد للقوى الدولية الطامعة من اجتراح وسيلة تبقي شعبنا متعثراً عاجزاً هاجعاً إلى أطول مدة ممكنة، لتقوم هذه القوى بالنهب لمنظم وبالإفادة من الموقع الفريد بمواجهة أقل ما يمكن من الحواجز والموانع. فدرست وخططت وبثت عمالها واستغلت تعثر الاستعمار التركي لتزرع مؤسساتها الثقافية والتربوية والإعلامية والتجارية فيما سمي بالامتيازات الممنوحة لهذه القوى، وعندما تهيأ لها الإطباق على هذه البلاد بالغلبة العسكرية كان أسلوب التنويم التاريخي جاهزاً في مجزرة سايكس- بيكو.. فقطعوا أوصال المجتمع والأرض.

وكانت ظاهرة استقطاب بلادنا بخيراتها وموقعها للأطماع الاستعمارية ظاهرة للكثيرين من المفكرين وماثلة أمامهم، لذلك كثرت في القرن الأخير وعلى عدة مراحل ومفاصل الأبحاث والدراسات التي تحمل عنوان "الصراع على سورية".

فأصبح الشعب الواحد "شعوباً شقيقة" تتغنى بكياناتها السياسية الهزيلة المصتعة في مطبخ المستعمر سماً صرفاً، وباستقلالاتها الانتحارية النازفة التي أصبحت قضاءً وقدراً وسيفاً مسنوناً فوق كل محاولات التوحد أو مجرد التفكير به. وأصبحت المفاهيم والمبادئ الداعية إلى الوحدة الطبيعية خيانة عظمى تعاقدت وتوافقت على معسها وإخماد أنفاسها نواطير حكمها الذاتي مع رموز التوافق الدولي التاريخي وقواه المفترسة الكاسرة، في ترابط فولاذي لا فكاك منه إلا بالكسر..

وقد لاءمت خطط القوى الدولية وهدفها إدعاءات اليهود في توراتهم المزوّرة، فكان القرار الدولي بإصدار عرف بتصريح بلفور باسم بريطانيا، والذي دخل المعادلة السياسية كعنصر ثابت دائم متوحد مع سايكس بيكو، لأنه لم يكن بالإمكان تنفيذه لولا تنفيذ جراحة سايكس بيكو بالاحتلال المباشر والغلبة والقهر.

فأصبحت المعادلة واضحة ناصعة: وجود الاغتصاب يقتضي استمرار سايكس- بيكو وتقديسها. والوحدة تعني إزالة الاغتصاب. لذلك تكرست قاعدة فكرية بالتلقين والترويض والتدجين أن المطالبة بالوحدة تعني الاعتداء على قداسة الاستقلالات الانتحارية.

وباستمرارية التاريخي نرى أنه عندما انتقلت إدارة المسلخ من يد الضبع الإنكليزي إلى الذئب الأمريكاني، كان لابد من تزكية الوعد – القرار أمام التوراة المقدسة وحاخامتها فكان مشروع إيزنهاور. فحمل في افتتاحية النص المتعلق "بالشرق الأوسط" أن " إسرائيل واقع تاريخي". وتفاقمت الضغوط السياسية والاقتصادية والحرب النفسية والإعلامية للاعتراف الرسمي والشعبي من " الشعوب الشقيقة" وكياناتها، وانفجرت مآسي المنازعات السياسية والاتهامات ومعلقات الهجو والصراعات بين الكيانات المصطنعة في جبهات تقضي على ما تبقى من طاقة لمواجهة حرب الإفناء، وتزنّر العالم كله تحت شعارات نارية مموهة ومزورة وبديلة تتعالى حول الصراع " ومواجهة" الإمبريالية الأمريكية" التي زاد نفوذها رسوخاً بالنتيجة، فاستمرت المعادلة لمصلحة الاغتصاب وولدّت وجهاً مباشراً وعلنياً ووقحاً للقرار – الوعد في سياسية الولايات المتحدة الحالية وراء واجهة الرئيس جورج دبليو بوش المتهود، سواء في فلسطين أم في لبنان أم في التقسيم القائم في العراق حالياً بعد معس مقومات تقدمه المادية- النفسية، والذبائح المقدسة اليومية التي يقيمها جنود يهوا في غوييم هذه البلاد المنكوبة بحكوماتها و" قياداتها" الشعبية أكثر من نكبتها بالخطة المعادية.
وعلى صعيد العلاقات بين النواطير ومع مواطنيهم ، أصبح الاعتراض على حرب الإفناء وليس المطالبة بالوحدة، جريمة يتدرج وصفها من اللاموضوعية السياسية إلى التطرف... إلى الإرهاب... إلى الهمجية.. إلى معاداة روح العصر اليهودية " السمحاء" .

إن هذا العداء المستحكم بالقوى الدولية تجاه بلادنا وشعبنا واضح جداَ وصريح ومقروء في تصريح بلفور نفسه، خصوصاً عندما يتحدث عن المحافظة على حقوق الأقليات الأخرى ( غير اليهودية). وهذا الكلام يتضمن تصريحاً ناطقاً بأن أصحاب القرار (القوى الدولية) لا يعترفون بنا كشعب له شخصيته الحضارية ونفسيته الراقية الماثلة في إنجازاته وتراثه عبر ما يزيد عن ثلاثة عشر ألف عام على الأقل. ويعتبروننا مجموعة أقليات لا تشكل شخصية معنوية أو كياناً اجتماعياً وسياسياً له حقوق عامة ومصالح عليا في الحياة.

واستمر هذا الاعتبار وهذا الموقف عبر جميع مراحل المأساة بشكل عملي واضح وبدون تصريح علني في الغالب حتى عام 1992 حيث قالها الداعية اليهودي الخطير دانيال بايبس في كتابه " سورية الكبرى قصة طموح" حيث يصرح ويحاول أن يثبت أنه لا وجود للشعب السوري ولا لحمة ولا تماثل في الصفات والخصائص والميزات بين سكان سورية. فهم مجموعة أقليات من بينها اليهود. وفي هذا الكلام المتعدد المجارح والمقاتل دعوة مكشوفة للاقتداء بالأقلية اليهودية في إقامة دويلات عنصرية بعدد هذه الأقليات. وهذا التأكيد على عدم وجود شخصية حضارية لشعبنا يتجلى اليوم، في معرض التصفية النهائية للصراع حول فلسطين، بالكلام عن حقوق لاجئين لا عن حقوق شعب، مع التأكيد على هذا الكلام عن حقوق اللاجئين ليس للتنفيذ والتحقيق، وإنما لمتابعة استجرار الشعب إلى حتفه.

ولم يكن أحدا معذوراً منذ صدور القرار- الوعد عن عدم رؤيته لهذه الحقيقة، لأن الدعوة إلى اغتصاب فلسطين، التي سبقت الوعد بأكثر من نصف قرن من الزمان قد استندت على مقولة ( أرض بلا شعب " لشعب" بلا أرض).

لذلك كان الكلام عن المحافظة على حقوق الأقليات تطميناً واضحاً للقوى الدولية صاحبة الامتيازات في سوريا. ومن بين هذه الامتيازات رعاية كل دولة لأقلية من الأقليات، ولم يكن بأي وجه من الوجوه تطميناً لشعبنا غير المعترف به من الأساس.

وبناءً على كل ما تقدم، لا يمكن وضع مفاوضات حسين – مكماهون خارج هذا الإطار. فالإنكليز لم يخدعوا الشريف حسين، لأنه كان مطلعاً على وعد بلفور وعلى سايكس- بيكو، والإنكليز هم الذبن دفعوا به ليتصدر النضال في بلاد الشام والرافدين، واعدين فقط " بتقسيمها" على أولاده الميامين.. لا باستقلالها، ولا بوحدتها، ولا بمنع الهجرة اليهودية إليها. والممانعة الواضحة الوحيدة التي أشهرت في وجه سايكس – بيكو الوعد هي قرارات المؤتمر السوري التي لم يتمكن شعبنا من فرضها بسبب انعدام المؤسسات وفكرة الدولة.

إن ما حل ببلادنا كحاصل لوعد بلفور ومقدماته ومفاعيله، يحل بعضه بوادي النيل وشيء منه في مجمل العالم العربي، فضلاً عن شبه الجزيرة الهندية وأمريكا الجنوبية وبعض مناطق آسيا وإفريقيا الأخرى، وفي قلب أوروبا الشرقية أيضاً.

أما مواجهته في بلاد الشام والرافدين فتتم على قدم وساق بالانسياب بالخطة المعادية حتى آخر قطرة من ماء وجه وعظم الحكومات والمنظمات والأحزاب، وفي بقية العالم العربي بدعم الخطة بالمال والإعلام وقلة الحياء وهدر الكرامة..

فمتى يبدأ العد العكسي للتخطيط على قاعدة وجودنا كشعب، لا بردة فعل غوغائية فوضوية لم تعلمنا الأحداث حتى اليوم كيف نتخلى عنها رغم طول التجربة وخطورة النزف وأصوات حشرجة الاحتضار. فإلى إين وإلى متى ؟؟؟ , على متى يستمر سكوت شعوب العالم أمام قرارات القوى الدولية اللاعقلانية واللاإنسانية؟؟؟ ...

* * *

إسماعيل حمادة
16/01/2008, 11:36 AM
قراءة في قرار دولي يتجدد

بديع عطية

(2)

يقول المرحوم عجاج نويهض في كتابه " بروتوكولات حكماء صهيون" أن المندوب العسكري في الوفد البريطاني لمحادثات سايكس- بيكو كان ضابطاً يهودياً أمريكانياً.

ليس من حقّنا ولا يعنينا أن نقوم "بتقسيم الموارث" بين بريطانيا والولايات المتحدة. لكننا نرى من واجبنا أن نسجل أن هذه الواقعة الفاقعة تدلنا إلى حقائق لا بد من التوقف عندها:

أولاً: إن هذه الواقعة تشكل مؤشراً إضافياً على ما ذهبنا إليه في الحلقة الأولى من أن الولايات المتحدة لم تكن غريبة عن سايكس- بيكو ووعد بلفور من الأساس. مما يعزز تأكيدنا على الصفة الدولية للوعد الإجرامي.
ثانياً: إن سيادة القانون وسيادة الدولة في الولايات المتحدة غير قابلتين للتطبيق على اليهود. لا بل أن معيارهما العملي الحقيقي الدائم هو الانسياب في مفاهيم التوراة اليهودية وأحكام "رب الجنود". والأمثلة على هذه الحقيقة لا تعد ولا تحصى.

فالهرم الماسوني اليهودي حاضر ومثبت على ظهر كل ورقة الدولار الواحد، ومن المعلوم أن قطعة الوحدة الواحدة من أي عملة هي رمز قوتها وسيادتها. فالرموز اليهودية المشبع بها ظاهر ورقة الدولار الواحد إلى جانب الهرم تؤكد ما هي حقيقة سيادة الدولة في الولايات المتحدة.

* أن اليهودي الأميركاني يقوم بخدمته العسكرية في فلسطين المحتلة.

* إن قوانين الضرائب في الولايات المتحدة نعفي المتبرعين للنداء اليهودي الموحد أو للوكالة اليهودية أو لأية جهة صهيونية من نسبة موازية من ضرائبهم، كما لو كان هذا التبرع موجهاً لجمعية خيرية أو لعمل إنساني.
* لا ينفك المسؤولون الأمريكان يؤكدون على تماهي سلطاتهم مع المفاهيم التوراتية والخطة الصهيونية وعلى تلمس الرضى بخشوع وخنوع. ولعل بعض الأمثلة ضرورية للتذكير والعبرة. جيمي كارتر، بعد أن أدى فروض عبادته أمام بيغن في كامب ديفيد، جاء إلى فلسطين ليطأطئ رأسه أمام حائط المبكى. ويصرح أمام الكنيست في آذار 1979 أن "العلاقة" بين الاغتصاب في فلسطين وبلاده غير قابلة للتخريب لأن سبعة رؤساء متتالين على الأقل قد أعلنوا التزامهم باستمرار "إسرائيل" وأمنها، ولأن الفكر التوراتي يدخل في نسيج "الشعب" الأمريكاني. وكولن باول، الذي لم يتمكن رغم تذلله من نيل الرضى ، يعلن في خطاب رسمي بصفته وزيراً للخارجية أن الولايات المتحدة دولة "يهودية- مسيحية". وبوش يقدم لشارون في واشنطن خارطة مجسمة "لأرض الميعاد" من النيل إلى الفرات، ويسمع صوته الرنان على الفضائيات: "قريباً بالحجم الطبيعي"...

ثالثاً: إن اليهود لا يثقون بصدق وكلائهم مهما كانوا أذلاء ومحكومين، لذلك فهم يحضرون دائماً "على عنزتهم" ليتأكدوا من ولادتها حسب أوامرهم وخطتهم. فلم يكن الضابط الأميركاني اليهودي الوحيد الحاضر في محادثات مؤتمر سايكس- بيكو لأن الصحفيين قد سموا المؤتمر في حينه مؤتمر " الكوشير".

والكوشير، كلمة يهودية وإشارة توضع على المواد الغذائية للتأكيد على أنها معالجة بحسب شريعة التوراة. وأصبح الإعلاميون يتندرون بعبارة "مؤتمر الكوشير" لكثرة اليهود المتواجدين في الوفدين وبين المراقبين. وهكذا نرى أن وعد بلفور مقر بالقوة وبالفعل مع قرارات سايكس- بيكو. وبعد أكثر من سبعين عاماً على مؤتمر سايكس- بيكو الهجين تفتقت عبقرية السياسة المنهارة عندنا عن إلحاق اثنين من الحاخامات بالوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد، وهكذا تطورنا وتقدمنا وواجهنا خطط إفنائنا. فبعد أن كان الأعداء يتآمرون علينا في مؤتمراتهم، صاروا يفاوضون أنفسهم باسمنا ونيابة عنا...

أما على الصعيد الآخر فإن أكثر مواجهاتنا الرسمية ( والتي أصبحت رسمية) باستثناء العمل الفدائي، كانت على غرار تمثيل الحاخامين للفلسطينيين ... ولا تزال، مع فارق بسيط هو سقوط ورقة التوت عن الجميع.
حتى على صعيد المواجهة الإعلامية البسيطة، ولشدة الرعب الناتج عن توالي الهزائم والخيانات وارتفاع وتيرة تجديد الوعد، فقد أصبح الإعلاميون والكتاب في بلادنا مرعوبين ومضبوعين بتهمة اللاسامية والعنصرية والإرهاب، ولم يبق سوى أن يصطفوا وراء السياسيين مطأطئ الرؤوس ليعتذروا من آلهة "إسرائيل" عن معارضتهم لخطة الاغتصاب. ومن الأمثلة على ذلك المرحوم عجاج نويهض نفسه الذي كان من أركان مواجهة الاستعمار والاغتصاب وسيفاً على المتراجعين ، وكتابه مرجع موثق وطلقة في وجه الأعداء . فإذا بنا نرى طبعة الكتاب المنشورة بعد وفاته، وفي مقدمتها المنشورة باسم كريمته كلام ملغوم يتهم الكاتب مداورة بالتطرف والعنصرية والابتعاد عن روح عصرنا الثقافية المدموغة بالتذلل و"الاعتدال"ن فنقول إن الاعتدال في الشؤون المصيرية نصف الباطل والتطرف كل الحقيقة.

* * *

(3)

لم يبدأ نهج القوى الدولبة في معادة شعبنا ومنع وحدته السياسية ونهضته وتمكنه من إقامة نظامه وإدارة موارده، مع سايكس بيكو ووعد بلفور وحيثياتهما ومقدماتهما المباشرة.

فمنذ غرز ذو القرنين قرناً في صور والآخر في نينوى، وابتلع ما بينهما، واجتاحت همجية روما القديمة جنة قرطاجة وعنفون زنوبيا، ومزقت أنياب الذئاب لحم أطفالنا في معرة النعمان ومنبج، منذ تلك الأحيان والوجه الآخر لقرار الاستعمار والهيمنة والنهب متضمن في الاعتداءات ومحفور في خطط تلك القوى :" إن وحدة الهلال الخصيب ونهضته تعنيان القضاء على كل برامج الهيمنة والنهب، كما تعنيان قيام الجبهة العربية الكبرى، فامنعوا الوحدة وعقموا رحم الأرض بالمبيدات فلا تنبت أحلاماً كهذه".

ومن التجليات السابقة لهذا القرار، إجهاض القوى الدولية لمحاولة فخر الدين المعني الثاني التحررية في أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر.

ورث فخر الدين حكم إقطاع جبل لبنان الذي أعطاه العثمانيون لجده، حيث وزعوا الإقطاعات على رؤساء التجمعات والعائلات الذين أيدوهم في صراعهم مع المماليك، خصوصاً في المعركة الفصل في مرج دابق. وكل إقطاعي كان ملزماً بتقديم مبالغ سنوية معينة إلى الباب العالي، يجمعها من رقاب الفلاحين والصناع وأصحاب الأراضي والمنتجين. والذي يخل بالمبلغ المقرر عليه، يعزل ويعين مكانه من هو أكثر طواعية ورضوخاً. كذلك تصادر أرض من لا يدفع أتاوتها ... وهنا لا بد من تقرير حقيقة أن هؤلاء الاقطاعيين لم يكونوا من أصحاب المواقف، حالتهم في كل زمان ومكان، فالذي اعتبر نفسه مغبوناً من المماليك أو " مديوناً" للعثمانيين جمع أزلامه تحت راية الأخيرين.

وقد أصبح هذا المشهد نمطياً في تاريخنا الحديث، وأوضح تجلياته تبدو في تداخلات فرعية في ما يتعلق بسايكس – بيكو ووعد بلفور، ومثاله الشريف حسين الذي عزله العثمانيون من وظيفته ووعده البريطانيون بتوزيع سوريا على أولاده مقابل مساعدتهم في الحرب العالمية الأولى. أما المشهد الأكثر وضوحاً وجلاء ، فهو المشهد الآخير في العراق، طيلة العقدين الماضيين والذي ينطبق على السياسيين العراقيين المعزولين والمنعزلين كما ينطبق على الحكومات العربية.

استغل فخر الدين المعني الأول تفويض إقطاع جبل لبنان له وقام بإنجازات عمرانية واقتصادية. لذلك ورث فخر الدين الثاني حكم منطقة تحفز على النهضة والتحرر. فأنشأ جيشاً نظامياً وثبت مرافئ صيدا والدامور وبيروت ضمن حكمه. وضم إلى حكمه جبل عامل ومرج ابن عامر والبقاع وعكار، وبدأ بالتوسع التدريجي حتى استولى على حلب وشرقي الأردن وأقام حاميات قوية في قلعة حلب في الشمال وقلعة السلط في الجنوب "شاطباً" نفوذ عدد كبير من الإقطاعيين التقليديين، ومستعملاً مع العثمانيين أسلوب الرشوة والتشدد والتراخي. وفتح علاقات مباشرة مع الأوروبيين على القاعدة نفسها، فلقبه العثمانيون بسلطان البر. لكن الولاة الموظفين نقموا عليه لأنه ضيق عليهم مساحة استغلالهم و "حصتهم" من إنتاج الشعب، فبدأت علاقته باسطنبول تتأرجح بين كر وفر، حتى كانت الوقعة الحاسمة بينه وبين والي دمشق في عنجر فهزمه ولاحق الجيوش المندحرة حتى البوابات الكيليكية .

كان الأوروبيون يعتبرون السلطنة العثمانية مزاحماً قوياً لهم على الهيمنة على " مفتاح العالم" ويتمنون اندحارها في أية لحظة. ولكن عندما انهزمت عسكرياً أمام فخر الدين سارعوا إلى تعويمها بأن بدأت أساطيلهم بقصف بيروت ومدن الساحل، حتى اضطر إلى العودة السريعة بجيشه، فعاد الموظفون العثمانيون إلى مواقعهم ... وكانت نهاية فخر الدين ... لأن القوى الدولية لم تكن هي البديلة للاستعمار العثماني. واستغرق تحضيرها لدورها الحاسم قرنين ونصف من الزمن.

وإذا كنا لا نرى حاجة إلى إسقاطات بعيدة أو قريبة على أوضاعنا الحاضرة التي لا تشبه أية حالة بشرية في التاريخ، فإننا نستحصر محاولة تحررية أخرى بعد زمن طويل من محاولة فخر الدين هي محاولة ظاهر العمر في فلسطين. فقد ظل الأسطول الروسي يدعمه وهو مرابط في عكا حتى أجريت صفقة دسمة بين القيصؤية والسلطنة، فانسحب الأسطول من بحر عكا ... وتركوا ظاهر العمر للموت المحقق.

ومن تجليات الإطار نفسه، بصورة معكوسة اعتراض فرنسا وألمانيا على اغتصاب العراق لاستغفالهما من جانب الولايات المتحدة. حتى أمنتا منفذاَ إلى " لحسة" من الاستثمارات، فتحولت اعتراضاتهما المبدئية إلى وجهة نظر دبلوماسية يذكران بها من حين إلى حين بزكزكة أنكل سام عندما تتعكر صورة بعض مطالبهما الأخرى.

أما في أيامنا، فقد تحول القرار الدولي من منع النهوض بالتآمر والعدوان إلى محاولة استئصال كل نفس تحرري وحدوي وبالعلن و"المرجلة"، بعد أن أنس تجاوباً من القيادات الرسمية والحزبية والشعبية، وبعد أن لاقت الاختراقات النفسية والثقافية والشعاراتية السياسية والاجتماعية في أوساطنا نجاحاً منقطع النظير.

* * *

إسماعيل حمادة
16/01/2008, 11:36 AM
قراءة في قرار دولي يتجدد

بديع عطية

(2)

يقول المرحوم عجاج نويهض في كتابه " بروتوكولات حكماء صهيون" أن المندوب العسكري في الوفد البريطاني لمحادثات سايكس- بيكو كان ضابطاً يهودياً أمريكانياً.

ليس من حقّنا ولا يعنينا أن نقوم "بتقسيم الموارث" بين بريطانيا والولايات المتحدة. لكننا نرى من واجبنا أن نسجل أن هذه الواقعة الفاقعة تدلنا إلى حقائق لا بد من التوقف عندها:

أولاً: إن هذه الواقعة تشكل مؤشراً إضافياً على ما ذهبنا إليه في الحلقة الأولى من أن الولايات المتحدة لم تكن غريبة عن سايكس- بيكو ووعد بلفور من الأساس. مما يعزز تأكيدنا على الصفة الدولية للوعد الإجرامي.
ثانياً: إن سيادة القانون وسيادة الدولة في الولايات المتحدة غير قابلتين للتطبيق على اليهود. لا بل أن معيارهما العملي الحقيقي الدائم هو الانسياب في مفاهيم التوراة اليهودية وأحكام "رب الجنود". والأمثلة على هذه الحقيقة لا تعد ولا تحصى.

فالهرم الماسوني اليهودي حاضر ومثبت على ظهر كل ورقة الدولار الواحد، ومن المعلوم أن قطعة الوحدة الواحدة من أي عملة هي رمز قوتها وسيادتها. فالرموز اليهودية المشبع بها ظاهر ورقة الدولار الواحد إلى جانب الهرم تؤكد ما هي حقيقة سيادة الدولة في الولايات المتحدة.

* أن اليهودي الأميركاني يقوم بخدمته العسكرية في فلسطين المحتلة.

* إن قوانين الضرائب في الولايات المتحدة نعفي المتبرعين للنداء اليهودي الموحد أو للوكالة اليهودية أو لأية جهة صهيونية من نسبة موازية من ضرائبهم، كما لو كان هذا التبرع موجهاً لجمعية خيرية أو لعمل إنساني.
* لا ينفك المسؤولون الأمريكان يؤكدون على تماهي سلطاتهم مع المفاهيم التوراتية والخطة الصهيونية وعلى تلمس الرضى بخشوع وخنوع. ولعل بعض الأمثلة ضرورية للتذكير والعبرة. جيمي كارتر، بعد أن أدى فروض عبادته أمام بيغن في كامب ديفيد، جاء إلى فلسطين ليطأطئ رأسه أمام حائط المبكى. ويصرح أمام الكنيست في آذار 1979 أن "العلاقة" بين الاغتصاب في فلسطين وبلاده غير قابلة للتخريب لأن سبعة رؤساء متتالين على الأقل قد أعلنوا التزامهم باستمرار "إسرائيل" وأمنها، ولأن الفكر التوراتي يدخل في نسيج "الشعب" الأمريكاني. وكولن باول، الذي لم يتمكن رغم تذلله من نيل الرضى ، يعلن في خطاب رسمي بصفته وزيراً للخارجية أن الولايات المتحدة دولة "يهودية- مسيحية". وبوش يقدم لشارون في واشنطن خارطة مجسمة "لأرض الميعاد" من النيل إلى الفرات، ويسمع صوته الرنان على الفضائيات: "قريباً بالحجم الطبيعي"...

ثالثاً: إن اليهود لا يثقون بصدق وكلائهم مهما كانوا أذلاء ومحكومين، لذلك فهم يحضرون دائماً "على عنزتهم" ليتأكدوا من ولادتها حسب أوامرهم وخطتهم. فلم يكن الضابط الأميركاني اليهودي الوحيد الحاضر في محادثات مؤتمر سايكس- بيكو لأن الصحفيين قد سموا المؤتمر في حينه مؤتمر " الكوشير".

والكوشير، كلمة يهودية وإشارة توضع على المواد الغذائية للتأكيد على أنها معالجة بحسب شريعة التوراة. وأصبح الإعلاميون يتندرون بعبارة "مؤتمر الكوشير" لكثرة اليهود المتواجدين في الوفدين وبين المراقبين. وهكذا نرى أن وعد بلفور مقر بالقوة وبالفعل مع قرارات سايكس- بيكو. وبعد أكثر من سبعين عاماً على مؤتمر سايكس- بيكو الهجين تفتقت عبقرية السياسة المنهارة عندنا عن إلحاق اثنين من الحاخامات بالوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد، وهكذا تطورنا وتقدمنا وواجهنا خطط إفنائنا. فبعد أن كان الأعداء يتآمرون علينا في مؤتمراتهم، صاروا يفاوضون أنفسهم باسمنا ونيابة عنا...

أما على الصعيد الآخر فإن أكثر مواجهاتنا الرسمية ( والتي أصبحت رسمية) باستثناء العمل الفدائي، كانت على غرار تمثيل الحاخامين للفلسطينيين ... ولا تزال، مع فارق بسيط هو سقوط ورقة التوت عن الجميع.
حتى على صعيد المواجهة الإعلامية البسيطة، ولشدة الرعب الناتج عن توالي الهزائم والخيانات وارتفاع وتيرة تجديد الوعد، فقد أصبح الإعلاميون والكتاب في بلادنا مرعوبين ومضبوعين بتهمة اللاسامية والعنصرية والإرهاب، ولم يبق سوى أن يصطفوا وراء السياسيين مطأطئ الرؤوس ليعتذروا من آلهة "إسرائيل" عن معارضتهم لخطة الاغتصاب. ومن الأمثلة على ذلك المرحوم عجاج نويهض نفسه الذي كان من أركان مواجهة الاستعمار والاغتصاب وسيفاً على المتراجعين ، وكتابه مرجع موثق وطلقة في وجه الأعداء . فإذا بنا نرى طبعة الكتاب المنشورة بعد وفاته، وفي مقدمتها المنشورة باسم كريمته كلام ملغوم يتهم الكاتب مداورة بالتطرف والعنصرية والابتعاد عن روح عصرنا الثقافية المدموغة بالتذلل و"الاعتدال"ن فنقول إن الاعتدال في الشؤون المصيرية نصف الباطل والتطرف كل الحقيقة.

* * *

(3)

لم يبدأ نهج القوى الدولبة في معادة شعبنا ومنع وحدته السياسية ونهضته وتمكنه من إقامة نظامه وإدارة موارده، مع سايكس بيكو ووعد بلفور وحيثياتهما ومقدماتهما المباشرة.

فمنذ غرز ذو القرنين قرناً في صور والآخر في نينوى، وابتلع ما بينهما، واجتاحت همجية روما القديمة جنة قرطاجة وعنفون زنوبيا، ومزقت أنياب الذئاب لحم أطفالنا في معرة النعمان ومنبج، منذ تلك الأحيان والوجه الآخر لقرار الاستعمار والهيمنة والنهب متضمن في الاعتداءات ومحفور في خطط تلك القوى :" إن وحدة الهلال الخصيب ونهضته تعنيان القضاء على كل برامج الهيمنة والنهب، كما تعنيان قيام الجبهة العربية الكبرى، فامنعوا الوحدة وعقموا رحم الأرض بالمبيدات فلا تنبت أحلاماً كهذه".

ومن التجليات السابقة لهذا القرار، إجهاض القوى الدولية لمحاولة فخر الدين المعني الثاني التحررية في أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر.

ورث فخر الدين حكم إقطاع جبل لبنان الذي أعطاه العثمانيون لجده، حيث وزعوا الإقطاعات على رؤساء التجمعات والعائلات الذين أيدوهم في صراعهم مع المماليك، خصوصاً في المعركة الفصل في مرج دابق. وكل إقطاعي كان ملزماً بتقديم مبالغ سنوية معينة إلى الباب العالي، يجمعها من رقاب الفلاحين والصناع وأصحاب الأراضي والمنتجين. والذي يخل بالمبلغ المقرر عليه، يعزل ويعين مكانه من هو أكثر طواعية ورضوخاً. كذلك تصادر أرض من لا يدفع أتاوتها ... وهنا لا بد من تقرير حقيقة أن هؤلاء الاقطاعيين لم يكونوا من أصحاب المواقف، حالتهم في كل زمان ومكان، فالذي اعتبر نفسه مغبوناً من المماليك أو " مديوناً" للعثمانيين جمع أزلامه تحت راية الأخيرين.

وقد أصبح هذا المشهد نمطياً في تاريخنا الحديث، وأوضح تجلياته تبدو في تداخلات فرعية في ما يتعلق بسايكس – بيكو ووعد بلفور، ومثاله الشريف حسين الذي عزله العثمانيون من وظيفته ووعده البريطانيون بتوزيع سوريا على أولاده مقابل مساعدتهم في الحرب العالمية الأولى. أما المشهد الأكثر وضوحاً وجلاء ، فهو المشهد الآخير في العراق، طيلة العقدين الماضيين والذي ينطبق على السياسيين العراقيين المعزولين والمنعزلين كما ينطبق على الحكومات العربية.

استغل فخر الدين المعني الأول تفويض إقطاع جبل لبنان له وقام بإنجازات عمرانية واقتصادية. لذلك ورث فخر الدين الثاني حكم منطقة تحفز على النهضة والتحرر. فأنشأ جيشاً نظامياً وثبت مرافئ صيدا والدامور وبيروت ضمن حكمه. وضم إلى حكمه جبل عامل ومرج ابن عامر والبقاع وعكار، وبدأ بالتوسع التدريجي حتى استولى على حلب وشرقي الأردن وأقام حاميات قوية في قلعة حلب في الشمال وقلعة السلط في الجنوب "شاطباً" نفوذ عدد كبير من الإقطاعيين التقليديين، ومستعملاً مع العثمانيين أسلوب الرشوة والتشدد والتراخي. وفتح علاقات مباشرة مع الأوروبيين على القاعدة نفسها، فلقبه العثمانيون بسلطان البر. لكن الولاة الموظفين نقموا عليه لأنه ضيق عليهم مساحة استغلالهم و "حصتهم" من إنتاج الشعب، فبدأت علاقته باسطنبول تتأرجح بين كر وفر، حتى كانت الوقعة الحاسمة بينه وبين والي دمشق في عنجر فهزمه ولاحق الجيوش المندحرة حتى البوابات الكيليكية .

كان الأوروبيون يعتبرون السلطنة العثمانية مزاحماً قوياً لهم على الهيمنة على " مفتاح العالم" ويتمنون اندحارها في أية لحظة. ولكن عندما انهزمت عسكرياً أمام فخر الدين سارعوا إلى تعويمها بأن بدأت أساطيلهم بقصف بيروت ومدن الساحل، حتى اضطر إلى العودة السريعة بجيشه، فعاد الموظفون العثمانيون إلى مواقعهم ... وكانت نهاية فخر الدين ... لأن القوى الدولية لم تكن هي البديلة للاستعمار العثماني. واستغرق تحضيرها لدورها الحاسم قرنين ونصف من الزمن.

وإذا كنا لا نرى حاجة إلى إسقاطات بعيدة أو قريبة على أوضاعنا الحاضرة التي لا تشبه أية حالة بشرية في التاريخ، فإننا نستحصر محاولة تحررية أخرى بعد زمن طويل من محاولة فخر الدين هي محاولة ظاهر العمر في فلسطين. فقد ظل الأسطول الروسي يدعمه وهو مرابط في عكا حتى أجريت صفقة دسمة بين القيصؤية والسلطنة، فانسحب الأسطول من بحر عكا ... وتركوا ظاهر العمر للموت المحقق.

ومن تجليات الإطار نفسه، بصورة معكوسة اعتراض فرنسا وألمانيا على اغتصاب العراق لاستغفالهما من جانب الولايات المتحدة. حتى أمنتا منفذاَ إلى " لحسة" من الاستثمارات، فتحولت اعتراضاتهما المبدئية إلى وجهة نظر دبلوماسية يذكران بها من حين إلى حين بزكزكة أنكل سام عندما تتعكر صورة بعض مطالبهما الأخرى.

أما في أيامنا، فقد تحول القرار الدولي من منع النهوض بالتآمر والعدوان إلى محاولة استئصال كل نفس تحرري وحدوي وبالعلن و"المرجلة"، بعد أن أنس تجاوباً من القيادات الرسمية والحزبية والشعبية، وبعد أن لاقت الاختراقات النفسية والثقافية والشعاراتية السياسية والاجتماعية في أوساطنا نجاحاً منقطع النظير.

* * *

إسماعيل حمادة
17/01/2008, 10:32 AM
قراءة في قرار دولي يتجدد

بديع عطية

(4)

تجلى عداء القوى الدولية، ممثلة ببريطانيا، لشعبنا، أثناء تنفيذ القرار- الوعد- بأجلى صورة وأشرسها وأبشعها، منذ اللحظة الأولى لدخول الجيوش البريطانية إلى حصتها التي قسمها "رب الجنود " لها في اتفاقية سايكس- بيكو اللئيمة.

فقد أوكلت قوات صاحب الجلالة البريطانية أمر حماية مرفأ حيفا إلى فرقة يهودية بعناصرها وضباطها وإمرتها. كانت الوكالة اليهودية قد اشترطت تشكيلها وإدخالها ضمن الجيوش البريطانية وبقاء إدارتها مستقلة كجزء من صفقة الوعد القرار. ( يبدو أن الشريف حسين لم يبلغه خبر هذه الفرقة).

وصارت " الحارس الأمين" لميناء حيفا تدخل اليهود بالمئات إلى فلسطين دون حسيب أو رقيب. ومن سخرية الأقدار وتوافه الأمور أن سياسيينا وإعلاميينا الأغبياء ظلوا سنين طويلة يناقشون قانونية تأشيرة دائرة الهجرة التي أنشأتها بريطانيا " العظمى" في فلسطين وضبط أدائها. وكأن هذه الدائرة والاستعمار الذي أقامها- قانونيان وشرعيان وينتظر منها الخير والفائدة لفلسطين ومحيطها القومي أو كأن دائرة الهجرة كان لها فعل حقيقي في دخول اليهود، سوى " التطنيش" والشرعنة بعد الدخول.

والقرار الآخر الذي فرّخ هو أيضاَ من بطن القرار الوعد هو تعيين اليهودي المدعو هربرت صموئيل مندوباً سامياً في فلسطين لحكومة صاحب الجلالة. فبدأ بتوزيع براءات تفويض الأراضي المشاع والأراضي " الأميرية" إلى شركات يهودية بجنسيات غربية، بموجب عقود مدتها 99 عاماً .. فقط.

وعندما بدأت الاحتجاجات والهبات الشعبية على هذه التدابير، تحرك القمع الهمجي الاستعماري من جهة وحقد العصابات اليهودية من جهة ثانية، بدعم من ترسانة أسلحة حديثة في زمنها، بوجه المواطنين الفلسطينيين الذين كانوا يبيعون مصاغ نسائهم ليشتروا أسلحة فردية وكميات ضئيلة جداً من الذخيرة قياساً بخزائن العدو.

ومن الأساليب القمعية التي أدمنتها الحضارة البريطانية " الديموقراطية" ضد الفلسطينيين:
• أحكام الإعدام وأشهرها إعدام محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي.
• حملات المداهمة والتفتيش على القرى بحجة البحث عن الفدائيين الذين " اعتدوا " على جيش صاحب الجلالة، وعلى الأمن والاستقرار " والنظام العام".

فكان الجنود يعتدون بالضرب على النساء والأطفال وبالقتل أحياناً كثيرة، ويحطمون أثاث البيوت وآنيتها ويحملون معهم ما يحلو لهم حمله. وقد وثّق أخبار العديد من هذه الاعتداءات المرحوم أكرم زعيتر في كتابه " الحركة الوطنية الفلسطينية" (من أوراق أكرم زعيتر). وبعد تكرار عشرات عمليات المداهمة تبيّن أن الضابط المسؤول عن فرقة المداهمات يهودي، يكمل منظومة القيم المشتركة بين أبناء جلدته والبريطانيين ويؤكد كل ما نذهب إليه من حيثيات أهداف القوى الدولية واليهود في أرضنا.

* منع قيام أي شكل سياسي إداري يشمل كل فلسطين، كما حصل في لبنان وشرق الأردن مثلاً. فظلت المنطقة طيلة مرحلة الاستعمار البريطاني بدون انتخابات عامة ومجلس تمثيلي ودون حكومة محلية، بحيث جاء وقت تسليم البلد للمؤسسة الصهيونية، دون وجود أي رابط مؤسساتي شامل يجمع الفلسطينيين إدارياً أو تنظيمياً على الأقل، مما جعل قرار السلم والحرب (بعد قرار التقسيم) في أيدي حكومات الكيانات العاجزة الناشئة عن تقسيمات سايكس- بيكو في الهلال الخصيب والحكومات العربية الأخرى المساوية لها في العزة والكرامة. فكانت الهدنة الانتحارية الإجرامية.. والتي تجاوزتها " القيادات" والحكومات الحالية انحداراً ومأساوية.

والانتخابات الوحيدة التي أجراها البريطانيون هي انتخابات مفتي عموم فلسطين وفاز بها المرحوم الحاج أمين الحسيني الذي ناضل من لندن وروما وبرلين أكثر مما ناضل من أرض فلسطين ، حتى في مراحل ارتفاع وتيرة الثورة، مستجدياً العدالة من القوى الدولية نفسها.

أما الانتخابات الحقيقية الوحيدة التي جرت في فلسطين فهي الانتخابات التي تمت بإشراف المجالس البلدية المحلية في المدن لاختيار مندوبي فلسطين إلى المؤتمر السوري الأول. لذلك لا نزال نعتبر أن قرارات ذلك المؤتمر في الشق المتعلق بفلسطين هي التعبير الإرادي الواضح عن المصالح القومية.

أما أساليب تجذير القرار ومفاعيله فقد تجسدت في التدابير الاقتصادية والاجتماعية والوظيفية التي اتخذتها الإدارة الاستعمارية البريطانية بشكل متكامل بحيث ضيقت الطوق على الفلاح الفلسطيني وحاصرت مواسمه، وسهلت للعامل اليهودي مزاحمة العامل الفلسطيني على لقمة عيشه، وفرضت رسوماً ضريبية لا تتناسب مع الدخل على جميع المنتجين ، فأصبحت إمكانية العيش الوحيدة بالنسبة لعدد كبير من الفلسطينيين هي بيع الأرض. كما شغل اليهود العدد الأكبر من الوظائف الرسمية. وقد وثّق كتاب " كفاح الشعب الفلسطيني" لعبد القادر ياسين جوانب عديدة من هذه الحقيقة مدعمة بالوقائع والحقائق والأرقام.
فأصبحت المواجهة قائمة بين كتل من العمال والموظفين والمهنيين اليهود منتجة ومكتفية ومنظمة، مدعومة بجبروت بريطانيا وجيشها وسياستها الزائفة المقيتة المعادية لشعبنا، وبين مجموعات صغيرة من الفلسطينيين الذين يعيشون في مستوى شد الأحزمة حتى الطوى، دون دعم حتى من السياسيين الفلسطينيين أنفسهم، الذين ظلوا يمالئون البريطانيين حتى آخر مسحة من حياء أو كرامة، ويستجدون عدالتهم، ويدعون إلى التهدئة والتفاهم معهم. حتى كادوا أن يوازوا حالة الانحدار والغباوة الانتحارية التي تعيشها " القيادات" في أيامنا الحاضرة. ولكن الحالة السياسية الإعلامية الأخلاقية التي ندر مثيلها في شعوب العالم فقد تجسدت في بيانات الحزب الشيوعي الفلسطيني في تلك المرحلة. ففي بيان لهم بمناسبة 1 أيار، مثبت في كتاب المرحوم عبد الوهاب الكيالي عن الحركة الوطنية الفلسطينية، يدعوا الشيوعيون عمال فسطين إلى حسن استقبال إخوانهم العمال اليهود الذين جاؤوا يحملون قيم ثورة أكتوبر السوفياتية العظمى ورياح التحرر لعمال فلسطين وكادحيها. وكأن هؤلاء القادمين الأعزاء المحررين لم يلبوا نداء المؤسسات الصهيونية ولم يسرقوا بيوتاً وبيارات في فلسطين، ولم يأكلوا خيراتها، ولم يحلوا محل فلسطينيين في كل ذلك.

إن هؤلاء الخطباء البليغين في خطبهم السياسية الهجينة كانوا الوجه الآخر للسياسيين الاقطاعيين، وشكلوا معهم رافعة للقرار – الوعد، وسنداً للاستعمار والاغتصاب لم يسبقهم في ذلك سوى بلافرة هذا الزمن من حكومات وسياسيين وإعلاميين مطبلين مزمرين وقيادات أحزاب وتنظيمات يزحفون بشكل انتحاري إلى مزابل الأعداء، بعضهم في الظلام وآخرون في وضح النهار.

إنها مهزلة التاريخ. إنه عصر التهود والتهويد. إنها فلسفة الخصيان.

إنها مواكبة الأقدام الهمجية بين الأرض والنعال.

إن جميع هؤلاء ، عبر عقود الصراع ، هم أعداء الشعب والوطن والأمة والقضية. إنهم يهود الداخل الذين باعوا فلسطين والوطن كله بفضةٍ من اليهود. إن مجرد وجودهم عار على البشرية كلها، وبخاصة على أمتنا. ولكن لا يعرف العار من لا يعرف الشرف.

* * *

إسماعيل حمادة
18/01/2008, 01:02 PM
قراءة في قرار دولي يتجدد

بديع عطية

(5)

إذا تتبعنا مراحل تطبيق الوعد القرار، وجدنا أن خطته تقع دائماً تحت عوامل تزخيم وتفعيل تصاعدية، دون تغيير أو تبديل يذكر إلا في اتجاه التشدد أكثر فأكثر في هدف الهيمنة والإبادة الذي يتعرض لع شعبنا، وفي كسب عدد كبيرمن المؤيدين بين حكومات العالم بأثمان متفاوتة، ولكنها جميعاها تميل إلى المبالغة في الرخص.

ولكن المستغرب (عقلياً) في الأمر والذي يخرج تحليله واستيعابه عن مقاربة أي نشاط عقلي منطقي، هو أن غلاة الغارقين في تأييد الخطة وتقديس الوعد- القرا هم من شعبنا ومن عالمنا العربي، وهذا وحده يحتاج لأكثر من عرض وتحليل.

أما وإننا ما زلنا في عرض خانة أصحاب القرار فلا بد من أن نلاحظ أن مفصلاً رئيسياً قد تثبت في عملية انتقال مفاتيح المسلخ وعدة الذبح وإدارة الخطة من اليد البريطانية إلى اليد ألميركانية هو تصاعد التشدد بمتوالية هندسية مجنونة السرعة، فبدأت المرحلة تتصف شيئاً فشيئاً بالإعلان الصريح عن الأهداف.

وأمحت جميع المجاملات الظاهرية والتحفظات التي تتقي الإدانة الأخلاقية. حتى انتهى التجلي الأخير لمفاعيل القرار- الوعد في الغزوتين السافرتين على العراق اللتين اكتملت فيهما منظومة المثالب الانحطاطية وانفلتت بأقصى حيوانيتها التي لا تذكر اللبشرية شبيهاً لها في غزوات المغول والتتر والقبائل الهمجية في أوروبا قديماً، ولم يعادلها في الغرائزية إلا الحروب المسماة بالصليبية على بلادنا وإبادة الهنود الحمر وقنبلة هيروشيما وما جرى ويجري كل يوم في فلسطين ...

لا شك أن هذه السلوكية "البرغماتية" الخارجة عن الحيز الإنساني العام والعارية من كل تبرير أخلاقي أو سياسي أو اقتصادي تجد أسبابها النفسية – الاجتماعية والتاريخية في ذتية الامبراطورية الأميركانية وبنيتها ونشأتها.

إن السوية الحضارية الإنسانية لكل جماعة بشرية تعود إلى عاملين اثنين، أولهما السوية النفسية العقلية لمزيجها البشري الأول، وثانيهما، محرضات بيئتها على العمل والنمو من خصوبة في التربة وتنوع في الطوبوغرافيا والموارد والثروات ومناخات ملائمة للجهد والنشاط.

إن الذين أمّو القارة الأميركية الشمالية في التاريخ الحديث هم فئتان من الأوروبيين وخصوصاً الأنجلوساكسون:

الفئة الأولى: مجموعات من المغامرين الاستعماريين الذين شدتهم الرغبة في الاستثمار والكسب السريع، وليس في تأسيس دولة حضارية. وكان يتقدمهم الحاخامات مع نسخ توراتهمالمتحجرة، من أجل التوجيه النفسي والأخلاقي وتنمية قيم التضحية ونكران الذات والانفتاح الاجتماعي.

والفئة الثانية: مجموعات من نزلاء السجون الميامين الذين قذفت بهم فرنسا وانجلترا راعيتا مصالح الشعوب في ذلك العصر، لتعززا بهم جيوشهما، ومن الطبيعي أن يكون لهؤلاء المرتزقة دور في رسم مسلكيات التعامل مع البيئة ومع سكانها، تماماً كما حال المرتزقة الأميركان حالياً في العراق وفي أفغانستان.

فحصل من تضافر جهود الفئتين واندماجهما (وتوجيههما التوراتي النبيل) الإنجاز الحضاري الأول بإبادة عشرات الملايين من السكان الأصليين( تيمناً بأوامر يهوى بإبادة سكان أرض كنعان الموعودة لمختاريه بين النيل والفرات). ومن الطبيعي أن يفيد حكام الولايات المتحدة المعاصرون المتهودون من الخبرة التاريخية غير المسبوقة لأسرفهم، في تعاملهم مع العراق تحديداً ومع أفغانستنان، ومع أي بلد في العالم تطأه أقدامهم "الطاهرة"، حيث تتكرر أبشع مشاهد التطهيرالعرقي بمختلف الأساليب اللابشرية.

كما أنه من الطبيعي أن يحدد هذا الإنجاز الأول الاتجاهالثقلفي الشعبي وقواعد التعامل التي تشكل عادة أساس عادات الشعوب وتقالبدهم. فانعكست ثقافة هذه النفسية المقصرة حتى عن روح عصرها من جهة، وعن مفاهيم ومتطلبات الحياة الراقية من جهة ثانية، داخلياً في اصطراع على الأرض التي نزلوا بها ومواقعها الهامة ومواردها وبخاصة قطعان البقر الشهيرة ... وخارجياً ضد جميع شعوب العالم.
واستمرت هذه القواعد الثقافية فاعلة بوجه جميع الهجرات القادمة إلى العالم الجديد، سواء أكان القادم أصفر أم أسود أم من مجتمع حضاري من المجتمعات العربية. وبالرغم من النصوص (المزينة) والطقوس (الخداعة) فقد ظل ما في النفوس غالباً على صفات وخصائص وميزات هذه التجمعات البشرية الضخمة التي أنتجت أوسع مجموعة من عصابات الإجرام المنظممن عصابات الإجرام المنظم، وأعلى نسبة في العالم لتعاطي المخدرات، وأعلى نسبة للأمهات العازبات. ولا يزال يحصل تحت حائط "الديموقراطية" أن تقوم الشرطة بقتل " مواطنين " تحت الضرب أثناء اعتقاله، وأن يعتدى على المصورين الإعلاميين وتحطم كاميرتهم، حتى لا يري العالم مشاهد آلاف المعتقلين من المتظاهرين احتجاجاً على غزوة العراق الثلنية...
ويريد آلهة واشنطن أن يقنعوا العالم بأن جيوشهم المرتزقة في العراق، التي تضم نسبة الربع أو أكثر من الحشاشين والمرضى النفسيين واللواطيين والسحاقيات، وقد " حرروا" العراق من "أعداء الديموقراطية" ... ففي واقع مزيج بشري متنافر ومتدني المميزات النفسية، وفي واقع أمراض اجتماعيى مستمرة عقوداً طويلة من السمين و " فالج لا تعالج".

وفي واقع الالتزام بالفكر التوراتي المتحجر المنغلق على جميع المفاسد والسوءات بوجه القيم الإنسانية،
وفي واقع التمكن والتحكم بقدرات بشرية ومقدرات اقتصادية ضخمة من خيرات الشعوب،،،
لا بد من أن تكون إدارة تنفيذ القرار- الوعد أكثر شراسة وهمجية مما ورثته من أمجاد " الدموقراطية البريطانية".

ومع الأخذ بعين الاعتبار أنه لم يمر على نشوء مزيجهم لاجتماعي الوقت الكافي للاستقرار وتشكيل شخصية (أو شخصيات اجتماعية) واضحة المعالم، وقد لا يتم لهم ذلك إذ يسبقهم تهاويهم وتفككهم المتسارعان.

* * *

إسماعيل حمادة
05/02/2008, 03:45 PM
قراءة في قرار دولي يتجدد

بديع يوسف عطية
24/1/2008
(6)

عندما ورثت روما الجديدة أمجاد "الديموقراطية البريطانية" فقد ورثت معها جذورها الثقافية وتراثها السياسي والاجتماعي. ولا نحتاج لإمعان نظر كبير وطويل لتتراءى لنا الجذور الثقافية البريطانية التي تتجسد في عدة نقاط انطلاق من أبرزها حضارة الفاكينز القائمة على امتهان القرصنة. واللب النفسي للقرصنة هو الغدر والخداع واستباحة الآخر وماله كائناً من يكون هذا الآخر.
وقد دخل الفاكينز في البنية " الديموقراطية لبريطانيا العظمى" التي تجلت "عظمتها" بالتذابح البدائي على الملك والملكية والخضات الأمنية التي أوصلت الشعب أكثر من مرة إلى فراغ في الحكم لتطلع المخارج التوافقية على العالم بعد ذلك كإنجازات ديموقراطية تحتذى، وكأن عدم التذابح والاقتتال هو إنجاز استثنائي مميز، وليس واقعاً طبيعياً في حياة الشعوب المتمدنة.
لذلك استسهل أصحاب هذه الثقافة وهذه الإنجازات استباحة حياة الهنود الحمر ووجودهم في " العالم الجديد" وفرغ الفايكنز مجدداً في "غانستر" شيكاغو وكاوبوي دالاس وعصابات الإجرام المنظم والنهب والسطو .. من .. من قطعان البقر .. إلى البنوك .. إلى التقارير المخابراتية وأنظمة المعلوماتية.
كما استباح آباؤهم وأحفادهم بعدئذ في " الوطن الأم" مصالح الشعوب وحرمة الأوطان وسطروا تاريخاً أسود لا يعادله ظلاماً وظلامية إلا حضارة الأحفاد في العالم الجديد، وسلسلة إنجازاتهم في شبه القارة الهندية تراوحت بين حدّي الهمجية القمعي والتجزيئي. فأقاموا الدويلات المصطنعة التي لا تزال تفرخ حروباً وتجزئة وفوضى وضعفاً ، تماماً كما كانت لهم اليد الأولى في مجزرة سايكس – بيكو الأم الشرعية للقرار الوعد. كما سجلوا في وادي النيل همجية استثنائية في قمع الانتفاضات والهبات الشعبية وفي إذلال الشعب المصري. في حين أن الفكرة المهيمنة عنهم أنهم لا يستعملون أيديهم إلا في القفازات الحريرية ولا يحلون المستعصيات إلا بالدبلوماسية الذكية.
أما في ميدان الوعد – القرار، في " أرض الميعاد" فتحفظ الذاكرة الشعبية عن ديموقراطيتهم ودبلوماسيتهم الناعمة مشاهد يجب أن يستذكرها شعبنا ويبرمجها في القصص الشعبي لأجيال هذه الأمة المبتلاة من الخارج ومن الداخل.
ولم تقتصر هذه المشاهد على العنف الهمجي في محاولات إخضاع الفلسطينيين وفي حملات المداهمات التي حفلت بالقتل والضرب ونهب البيوت وإتلاف المؤن.
فقد ظل المشهد العراقي، لسنوات من عهد "الانتداب"، أكثر قساوة وأوسع جرحاً. فقد وصلت أساليب القبضة "الحريرية" البريطانية إلى درجة دفعت شعبنا في العراق إلى الرد من العيار نفسه، فقدرت ضحايا الجيش البريطاني بالألوف ... ولذلك تأسس حقد مميز على العراق، مما دفع أحد سفرائهم في بغداد، في حفل تكريم للبعثات الدبلوماسية، إلى الخروج الأرعن عن كل الأصول الدبلوماسية والإسرار لسفير الأردن في حينه ناصح الطويل، بأن هذا الشعب (يقصد العراقيين) شعب همجي، قتل الألوف من الجنود البريطانيين، ويجب أن يدخل الموت إلى كل بيت فيه!!!، وبالمقياس نفسه من الدبلوماسية والديموقراطية تعامل البريطانيون مع الشيخ خزعل الكلبي أمير الأحواز المحصن في عاصمته المحمرّة، فقد رفض هذا الحاكم الشهم دخول البريطانيين إلى إمارته. ويبدو أنه كان جاداً في ممانعته، فاستدرجه البريطانيون " للتفاوض" على ظهر سفينة بريطانية في شط العرب، وعندما حضر غدروا به، وسلموا إمارته لوالد الشاهنشاه الأخير الذي خلعته الثورة الإسلامية، وذلك كجزء من الصفقات الكثيرة والرشاوى التي عقدت و "منحت" من أجل تثبيت تنفيذ الوعد – القرار واغتصاب فلسطين دون ممانعة حقيقية من قبل أي جهة مؤثرة سياسياً في المنطقة، كما "منحت" فرنسا في حصتها من جسد أمتنا كيليكيا واسكندرون لتركيا المهزومة أمام فرنسا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى.
وهذا التوزيع " الحاتمي" لأرض وطننا ابتداءً من فلسطين هو تأكيد على عالمية الوعد – القرار، وعلى حقد القوى الدولية المشرفة عليه وهدفها الواضح في محاولة منع نهضة أمتنا إلى الأبد، كما يدل على تساوي القوتين الدوليتين (قطبي سايكس – بيكو) في الإجرام بحق شعبنا بالأساليب ذاتها الهمجية ... البراغماتية، فكانت عبارة "Moi civiliser Vous" الخبز اليومي للجنود السنغاليين العاملين في "جيوش الشرق" الفرنسية، وعند أي احتكاك مع أي مواطن في القطاع " الفرنسي" من وطننا. والذين يعرفون اللغة الفرنسية يدركون خطأ التركيب والركاكة في التعبير عن السنغالي البدائي الذي يريد أن يمدّن شعبنا الذي مدّن العالم، لأن هذا البدائي كان له شرف ترك بلاده المستعمرة ليخدم بسطار الجنرال غورو بطل ذلك العهد في دولة فرنسا " المتمدنة".
كما كانت عبارة "Fagen arab" وصلة لسان الجنود والضباط البريطانيين في "قطاعهم". ومن مشاهد استعمال هذه اللغة "الديموقراطية الراقية" أن الضابط البريطاني كابتن بيك الذي كان يشرف على "الجيش العربي" في الأردن (قبل "أبو حنيك" غلوب باشا) كان يدرب جنوداً وضباطاً أردنيين في أحد المواقع، وكان الأمير طلال ابن عبد الله من بين عديد ذلك الموقع. وبينما هو يرتاح في خيمته، سمع كابت بيك يكرر الشتيمة نفسها لأحد الضباط الأردنيين الشباب، فقفز الأمير الشاب من خيمته وعاجل البريطاني المتعجرف بلكمة رمته أرضاً ... ... غادر كابتن بيك بعد فترة وجيزة بقرار من قيادته، حفاظاً على هيبة جيوش صاحب الجلالة البريطانية، وبدأ الإعلام البريطاني وأبواقه المحليون يشيعون أن ولي العهد مريض عصبي، وبدأت حوله سلسلة من الاستثارات لإثبات الإشاعة، حتى دفع ثمن تعرضه لبيك خلعاً ونفياً عندما تولى العرش بعد وفاة الملك عبد الله، لأنه لا يتوافق مع مواصفات نواطير نظام سايكس – بيكو. وبالرغم من أن حادثة تأديب الأمير للكابتن بيك تتكرر في الأردن على كل لسان، إلا أنها لم تسجل وتوثق حتى الآن. ولا نرى في مسلكيات شعبنا في الأردن ما يدل على حسن الربط بين هذه الحادثة وأوضاع بلادنا المتردية المتأرجحة بين الموت والحياة.
إن جميع هذه الأمثلة تدل على نضج الأساليب " الديموقراطية" عند "المعلمة" الأولى للإمبريالية الدولية في الاعتداء على أمتنا ووطننا، مع ضرورة التشديد على أن " المعلمة" الثانية قد فاقت أمها كماً ونوعاً في هذه الممارسات.

********

إسماعيل حمادة
22/03/2008, 02:10 PM
قراءة في قرار دولي يتجدد

بديع يوسف عطية

(7)

في الضفة الأخرى من جرح سايكس– بيكو، مارست دولة فرنسا المتمدنة رائدة الثقافة في النهضة الأوروبية، ممارسات باهرة في رقيّها، تناغمت مع نظيرتها البريطانية، وساهمت في ترويض وقمع جميع التحركات الشعبية الممانعة لتثبيت القرار – الوعد. كما تساوت مع وصيفتها في الإذلال المتعمد لشعبنا في بيروت كما في دمشق وفي صيدا كما في السويداء.

وأبرز مشاهد تلك الممارسات لعبها الجنرال الفرنسي غورو في عدة أدوار له، كان أولها الفتك والبطش والقهر والعنطزة في معركة ميسلون الشهيرة وفي دخوله دمشق بعد المعركة.

ومما يجب تسجيله وحفره على قبر غورو أن يوسف العظمة وزير الدفاع السوري، شهيد ميسلون، بعد تراجع الملك فيصل وموقفه الإنهزامي، تمكن من إنزال خسائر كبيرة في جيوش غورو المدجّجة بكامل أسلحة العصر والمسلّحة بمعنويات المنتصر في حرب عالمية. في حين كان جيش يوسف العظمة بضع مئات من المقاتلين بأسلحتهم الفردية وبعض الرشاشات المتوسطة، ويذخيرة محدودة جداَ، مع فارق اإعداد والتدريب.

كما يجب أن نسجل أن قرار المواجهة في ميسلون كان معبراً عن الإرادة القومية الحرة، بعد حوالي ألف عام من القهر والتخلف والفوضى التي حلّت بسورية، وأديرت المعركة بقيادة سورية مستقلة ولغرض قومي واضح ومحدد.

أما في الجهة الأخرى، فكان الحقد يغلي والجشع الاستعماري يلتهب والثقافة العدائية العنصرية تضخ سمومها. فعندما جاء وفد من وجهاء دمشق لمقابلة غورو عند مدخل المدينة ومطالبته بأن يلجم جيشه عن النهب والعدوان في عاصمة عواصم التاريخ، كان جواب الذئب المتعجرف غرائزياً حيوانياً إلى درجة أنه أمر بالإمساك ببعض أعضاء الوفد وربطهم مكان الخيول التي تجر عربته. ولا يزال الغرب الهمجي الفج يزايد علينا، وعلى الشعوب العربية كلها وجميع الشعوب المقهورة في العالم بـ "حقوق الإنسان" وضرورة الامتثال للالتزام بها. في حين أن غورو لم يرع َ حتى حرمة الأموات في دمشق، إذ داس قبر صلاح الدين الأيوبي صائحاً: " ها قد عدنا يا صلاح الدين "...

ولم ينقص فرنسا الخبث الاستعماري الذي تتصف به بريطانيا، إذ بدأ الإعلام الفرنسي المنطلق من مركز المفوضية الفرنسية في دمشق بوصف الثورة السورية الكبرى بأنها " ثورة الدروز" لوجود سلطان باشا الأطرش في واجهة قياداتها، من أجل ن ينفضّ عنها بقية السوريين، لكن النتائج النهائية معروفة.

ومن مظاهر الحقد الفرنسي الحنون على شعبنا والرقي الإنساني في التعامل، مشهد ذلك الجندي السنغالي وهو يلطم شيخاً عجوزاً أمام مبنى مجلس النواب في ساحة النجمة في بيروت ويصرخ به: Sale syrian (أيها السوري القذر)، ربما لأنه اعتبره عير قابل "للتمدّن".

ومن الأدلة البارزة في مجال السياسة الفرنسية على عالمية القرار – الوعد، أن الفرنسيين كانوا يلجأون إلى بريطانيا كلما ازداد ضغط الثورة الشعبية عليهم (والعكس صحيح) بالرغم من أن فرنسا تعتبر نفسها مغدورة من قبل بريطانيا التي سارعت جيوشها إلى ابتلاع الموصل التي كانت على الخارطة ضمن حصة فرنسا.

ففي تباشير الثورة السورية الكبرى، كان الأمير عبد الله بن الحسين قد عيّن رشيد طليع رئيساً لحكومة "إمارة الشرق العربي" في شرق الأردن، وذلك انساجاماً مع البيان الذي تلاه في مدينة معان عند دخوله إلى الأردن بعنوان "بيان إلى أهالي سورية" يتعهد فيه بالمحافظة على الوحدة وعلى طموح وآمال أهالي البلاد وتطلعاتهم ومصيرهم. لذلك "لجأ" إلى شرق الأردن بعض أبطال ميسلون بعد حسم المعركة لصالح الفرنسيين، وكان أبرزهم سعيد العاص ورشيد طليع، والأخير من قرية جديدة الشوف في منطقة جبل لبنان.

وبدأت حكومة إمارة الشرق تمرّر المساعدات إلى الثورة السورية الكبرى "انسجاماً" مع بيان صاحب السمو إلى "أهالي سوريا" وكسراَ للتجزئة ومنعاً لاستكمال مفاعيل الوعد – القرار.

وإذ بالمندوب السامي البريطاني في القدس يتصل بالأمير عبد الله ويطلب منه وقف مساعدة حكومته للثوار، لأن الفرنسيين يحتجون بشدّة لدى بريطانيا. وتكاد هذه المساعدات أن تسبب أزمة سياسية بين القتين الدوليتين. ولكن رشيد طليع لم يتجاوب مع رغبة صاحب السمو في التوقف عن دعم الثوار، وعند تكرار الطلب مشدّداً، استقال رشيد طليع وعاد إلى قريته في الشوف في دولة " لبنان الكبير" ...

وبالحيثيات والأسباب نفسها كانت نقاط التفتيش الفرنسية تتراص على خط سايكس – بيكو من الناقورة إلى بانياس الجبل، كلما اشتدّت الثورة في فلسطين، لتمنع المقاتلين ولسلاح والذخائر من المرور من لبنان عبر الخط الوهمي إلى فلسطين...

ومن المشاهد الدرامية المحفورة في الذاكرة الشعبية عن السياسة الفرنسية الراقية التي .. " مدنتنا" ... و "ثقفتنا" ... و "نظّمتنا"، ما جرى في جديدة مرجعيون في جنوبي لبنان بعد أن استقر الوضع لصالح الفرنسيين بعد الحرب العالمية الأولى.

كان أحد المزارعين المنتجين، واسمه جدعون، يعتاش من كرم عنب يملكه في خراج البلدة ويعتني به، ليبيع عنبه. وفي نهاية الموسم يصنع قسماً من العنب المتبقي عرقاً وقسماً زبيباً، ويبيع الزبيب متجولاً في البلدة على حماره. وصبيحة يوم أحد جاء بحماره إلى ساحة إحدى الكنائس آملاً أن يبيع ما يحمله من زبيب بعد نهاية صلاة القداس، وكان اثنان من الجند السنغال يقومان بالدورية في سحة الكنيسة نفسها. وبينما جدعون ينادي على زبيبه، تقدم أحد الجنديين من الحمار وتناول قبضة زليب من الخرج فأعجبه مذاقه، فأخذ الخرج عن ظهر الحمارومضى به، ولم يجرؤ جدعون على ممانعته، لكنه مدّ يده إلى الخرج وتناول قبضة زبيب ليسدّ بها رمقه، فأطلق عليه الجندي الآخر النار فأرداه قتيلاً ...ومضى الجنديان إلى موقعهما مع الزبيب ونجيا بفعلتهما...

ولكن أبرز ظاهرات السياسة الفرنسية في سورية تجسدت في الدويلات الطائفية التي أعلنتها تلك القوة الدولية في السويداء واللاذقية وحلب على قاعدة زيادة المجزأ تجزئةً وفرم المقسّم، ولكن تلك المواليد المشوّهة لم تعش، وجوبهت بالتشدد في تكرار المطالبة بالوحدة السورية...

وبعد أكثر من نصف قرن على تلك المحاولات، تقوم الوريثة الشرعية للهمجية الأوروبية بتكرار المحاولة، خصوصاً في العراق وفي لبنان، في سبيل تثبيت مفاعيل القرار – الوعد واستكمال أهدافه.

* * *

إسماعيل حمادة
22/03/2008, 02:10 PM
قراءة في قرار دولي يتجدد

بديع يوسف عطية

(7)

في الضفة الأخرى من جرح سايكس– بيكو، مارست دولة فرنسا المتمدنة رائدة الثقافة في النهضة الأوروبية، ممارسات باهرة في رقيّها، تناغمت مع نظيرتها البريطانية، وساهمت في ترويض وقمع جميع التحركات الشعبية الممانعة لتثبيت القرار – الوعد. كما تساوت مع وصيفتها في الإذلال المتعمد لشعبنا في بيروت كما في دمشق وفي صيدا كما في السويداء.

وأبرز مشاهد تلك الممارسات لعبها الجنرال الفرنسي غورو في عدة أدوار له، كان أولها الفتك والبطش والقهر والعنطزة في معركة ميسلون الشهيرة وفي دخوله دمشق بعد المعركة.

ومما يجب تسجيله وحفره على قبر غورو أن يوسف العظمة وزير الدفاع السوري، شهيد ميسلون، بعد تراجع الملك فيصل وموقفه الإنهزامي، تمكن من إنزال خسائر كبيرة في جيوش غورو المدجّجة بكامل أسلحة العصر والمسلّحة بمعنويات المنتصر في حرب عالمية. في حين كان جيش يوسف العظمة بضع مئات من المقاتلين بأسلحتهم الفردية وبعض الرشاشات المتوسطة، ويذخيرة محدودة جداَ، مع فارق اإعداد والتدريب.

كما يجب أن نسجل أن قرار المواجهة في ميسلون كان معبراً عن الإرادة القومية الحرة، بعد حوالي ألف عام من القهر والتخلف والفوضى التي حلّت بسورية، وأديرت المعركة بقيادة سورية مستقلة ولغرض قومي واضح ومحدد.

أما في الجهة الأخرى، فكان الحقد يغلي والجشع الاستعماري يلتهب والثقافة العدائية العنصرية تضخ سمومها. فعندما جاء وفد من وجهاء دمشق لمقابلة غورو عند مدخل المدينة ومطالبته بأن يلجم جيشه عن النهب والعدوان في عاصمة عواصم التاريخ، كان جواب الذئب المتعجرف غرائزياً حيوانياً إلى درجة أنه أمر بالإمساك ببعض أعضاء الوفد وربطهم مكان الخيول التي تجر عربته. ولا يزال الغرب الهمجي الفج يزايد علينا، وعلى الشعوب العربية كلها وجميع الشعوب المقهورة في العالم بـ "حقوق الإنسان" وضرورة الامتثال للالتزام بها. في حين أن غورو لم يرع َ حتى حرمة الأموات في دمشق، إذ داس قبر صلاح الدين الأيوبي صائحاً: " ها قد عدنا يا صلاح الدين "...

ولم ينقص فرنسا الخبث الاستعماري الذي تتصف به بريطانيا، إذ بدأ الإعلام الفرنسي المنطلق من مركز المفوضية الفرنسية في دمشق بوصف الثورة السورية الكبرى بأنها " ثورة الدروز" لوجود سلطان باشا الأطرش في واجهة قياداتها، من أجل ن ينفضّ عنها بقية السوريين، لكن النتائج النهائية معروفة.

ومن مظاهر الحقد الفرنسي الحنون على شعبنا والرقي الإنساني في التعامل، مشهد ذلك الجندي السنغالي وهو يلطم شيخاً عجوزاً أمام مبنى مجلس النواب في ساحة النجمة في بيروت ويصرخ به: Sale syrian (أيها السوري القذر)، ربما لأنه اعتبره عير قابل "للتمدّن".

ومن الأدلة البارزة في مجال السياسة الفرنسية على عالمية القرار – الوعد، أن الفرنسيين كانوا يلجأون إلى بريطانيا كلما ازداد ضغط الثورة الشعبية عليهم (والعكس صحيح) بالرغم من أن فرنسا تعتبر نفسها مغدورة من قبل بريطانيا التي سارعت جيوشها إلى ابتلاع الموصل التي كانت على الخارطة ضمن حصة فرنسا.

ففي تباشير الثورة السورية الكبرى، كان الأمير عبد الله بن الحسين قد عيّن رشيد طليع رئيساً لحكومة "إمارة الشرق العربي" في شرق الأردن، وذلك انساجاماً مع البيان الذي تلاه في مدينة معان عند دخوله إلى الأردن بعنوان "بيان إلى أهالي سورية" يتعهد فيه بالمحافظة على الوحدة وعلى طموح وآمال أهالي البلاد وتطلعاتهم ومصيرهم. لذلك "لجأ" إلى شرق الأردن بعض أبطال ميسلون بعد حسم المعركة لصالح الفرنسيين، وكان أبرزهم سعيد العاص ورشيد طليع، والأخير من قرية جديدة الشوف في منطقة جبل لبنان.

وبدأت حكومة إمارة الشرق تمرّر المساعدات إلى الثورة السورية الكبرى "انسجاماً" مع بيان صاحب السمو إلى "أهالي سوريا" وكسراَ للتجزئة ومنعاً لاستكمال مفاعيل الوعد – القرار.

وإذ بالمندوب السامي البريطاني في القدس يتصل بالأمير عبد الله ويطلب منه وقف مساعدة حكومته للثوار، لأن الفرنسيين يحتجون بشدّة لدى بريطانيا. وتكاد هذه المساعدات أن تسبب أزمة سياسية بين القتين الدوليتين. ولكن رشيد طليع لم يتجاوب مع رغبة صاحب السمو في التوقف عن دعم الثوار، وعند تكرار الطلب مشدّداً، استقال رشيد طليع وعاد إلى قريته في الشوف في دولة " لبنان الكبير" ...

وبالحيثيات والأسباب نفسها كانت نقاط التفتيش الفرنسية تتراص على خط سايكس – بيكو من الناقورة إلى بانياس الجبل، كلما اشتدّت الثورة في فلسطين، لتمنع المقاتلين ولسلاح والذخائر من المرور من لبنان عبر الخط الوهمي إلى فلسطين...

ومن المشاهد الدرامية المحفورة في الذاكرة الشعبية عن السياسة الفرنسية الراقية التي .. " مدنتنا" ... و "ثقفتنا" ... و "نظّمتنا"، ما جرى في جديدة مرجعيون في جنوبي لبنان بعد أن استقر الوضع لصالح الفرنسيين بعد الحرب العالمية الأولى.

كان أحد المزارعين المنتجين، واسمه جدعون، يعتاش من كرم عنب يملكه في خراج البلدة ويعتني به، ليبيع عنبه. وفي نهاية الموسم يصنع قسماً من العنب المتبقي عرقاً وقسماً زبيباً، ويبيع الزبيب متجولاً في البلدة على حماره. وصبيحة يوم أحد جاء بحماره إلى ساحة إحدى الكنائس آملاً أن يبيع ما يحمله من زبيب بعد نهاية صلاة القداس، وكان اثنان من الجند السنغال يقومان بالدورية في سحة الكنيسة نفسها. وبينما جدعون ينادي على زبيبه، تقدم أحد الجنديين من الحمار وتناول قبضة زليب من الخرج فأعجبه مذاقه، فأخذ الخرج عن ظهر الحمارومضى به، ولم يجرؤ جدعون على ممانعته، لكنه مدّ يده إلى الخرج وتناول قبضة زبيب ليسدّ بها رمقه، فأطلق عليه الجندي الآخر النار فأرداه قتيلاً ...ومضى الجنديان إلى موقعهما مع الزبيب ونجيا بفعلتهما...

ولكن أبرز ظاهرات السياسة الفرنسية في سورية تجسدت في الدويلات الطائفية التي أعلنتها تلك القوة الدولية في السويداء واللاذقية وحلب على قاعدة زيادة المجزأ تجزئةً وفرم المقسّم، ولكن تلك المواليد المشوّهة لم تعش، وجوبهت بالتشدد في تكرار المطالبة بالوحدة السورية...

وبعد أكثر من نصف قرن على تلك المحاولات، تقوم الوريثة الشرعية للهمجية الأوروبية بتكرار المحاولة، خصوصاً في العراق وفي لبنان، في سبيل تثبيت مفاعيل القرار – الوعد واستكمال أهدافه.

* * *

إسماعيل حمادة
06/04/2008, 11:39 AM
(8)

نؤكد في هذه السلسلة أننا نعتمد في عرضنا وتحليلنا، الوقائع لا التفسيرات ولا العواطف. ولا نزال في الشق الأول من الموضوع المتعلق بنهج القوى الدولية صاحبة القرار- الوعد، وصاحبة المصلحة في تنفيذه في جسد شعبنا ومصالحه وطموحاته، وفي خيرات أرضه ومواردها وثرواتها وموقعها، وفي دم اطفاله وأبطاله ومناضليه الحقيقيين، كل ذلك تحت عنوان المساعدة و "Moi Civiliser Vous" ...

فقد عمد خلفاء المتوحش غورو في الكيان اللبناني الذي اجترحته سايكس- بيكو، إلى الزج أثناء الحرب العالمية الثانية في السجن بكل من لم يحمل لواء الولاء "للأم الحنون"، وأنشأ لذلك معتقلاً خاصاً في بلدة المية ومية قرب صيدا (وهي غير بعيدة عن بلدة أنصار حيث أقامت سلطات الاغتصاب معتقلها أثناء اجتياح لبنان عام 1982). وكانت الحجة التي وضعت بوجه المعتقلين أنهم يؤيدون ألمانيا ودول المحور في الحرب ويناهضون جبهة الحلفاء، في حين كان المبهورون بالمرحوم هتلر "يهيّصون" ويغنون له طلقاء في شوارع بيروت دون أن يقول لهم أحد "ما أحلى الكحل بعيونكم" ... ولم يعتقل منهم أحد ... وعندما مالت كفة ميزان المعارك في المنطقة لصالح دول المحور ممثلة بجيش حكومة فيشي (المارشال بيتان) فرً الجيش البريطاني إلى حصته " الأصلية" في فلسطين. وحضرت إلى دمشق لجنة ألمانية- إيطالية مشتركة لإدارة شؤون "حصة" فرنسا (ممثلة بفيشي). وتوهم كثيرون أن لجنة هتلر وموسوليني سوف تطلق سراح المعتقلين في المية ومية المتهمين بتأييد ألمانيا وإيطاليا، ولكن شيئاً من ذلك لم بحصل، لا يل إن عدة مئات من المعتقلين أضيفوا إلى ألوف القدماء، بتهمة العمل للحلفاء، في حين بقي أركان وأبواق سياسة الحلفاء آمنين في بيوتهم ومكاتبهم الرسمية والخاصة يتابعون "رسالتهم" في خدمة أسيادهم بهدوء واطمئنان. إلا أن الجديد الذي يجب تسجيله حول هذا المشهد، هو أن ألمانيا قد أتيح لها للمرة الأولى،ولفترة محدودة جداً، أن "تبل يدها فينا" إلىجانب القوى الدولية الأخرى الضامنة للوعد- القرار. فضلاً عن المستندات التيتظهر قيام اتفاق واضح ومحدد بين النازية والمؤسسة الصهيونية قبل أن ترتفع عقيرة اليهود "بالشنشعة" حول المحرقة الموهومة" .

وقد تساوت جميع القوى الدولية في موقف آخر تجاهنا هو نهب كنوزنا الثقافية والفنية وآثارنا، فقد امتلأت متاحف وقصور لندن وباريس وروما وبرلين وموسكو ... واسطنبول (رحم الله من كان) بآثار بلاد الشام والرافدين التي تقلت إما عنوة على أيدي جيوش الاحتلالات (كما مع الأميركان حالياً في العراق)، وإما مع بعض رؤوساء وأعضاء بعثات التنقيب الأثري الذين "يستحلون" القطع القيمة المتناسبة مع علو علمهم ومعرفتهم، وإما نتيجة نشاط لصوص الآثار، أو هدايا من نواطير سايكس- بيكو إلى أصدقائهم من الحكام والمسؤولين في حكومات تلك القوى الدولية، مما يؤكد بوضوح أن جميع هذه التجليات التفصيلية في المواقف هي الناتج الطبيعي للموقف السياسي التاريخي العمومي من شعبنا وثقافتنا. ولعل الأكثر استمرارية مما اتضحت فيه هذه التجليات وقواعدها هو الموضوع الذي لم تختلف بشأنه قوتان من هذه القوى، بالرغم من كثرة خلافاتها على مصالح شتى ومواضع مختلفة، وهو موضوع ضرورة بقاء الاغتصاب في أرضنا والمحافظة على أمنه وعدم تكدير صحته. واستمر توحد القوى الدولية على هذا الموضوع حتى في عز احتدام ما يسمى بالحرب الباردة في ما بينها.
* * *

(9)

ما يمتاز به القرار- الوعد عن غيره من القرارات الاستعمارية التي اتخذتها القوى الدولية في طول العالم وعرضه، أن جميع مقدماته وتحضيراته وبدايات تنفيذه قد تمت قبل إعلانه. ففكرته الأساس راسخة في المطامع الاستعمارية في بيئتنا الطبيعية وموقعها وخيراتها من قرون طويلة، أما مقدماته الواضحة والمباشرة فقد تأسست عملياً منذ إقرار المستعمر العثملي بامتيازات للدول الأوروبية في أرضنا ومواردها، وقد انصبت هذه الامتيازات على أرض بيئة سورية الطبيعية وشعبها، ولم تطاول الأرض التركية في أي جانب. ومن أخطر مجالات هذه الامتيازات المجال الثقافي التربوي، إذ بدأت الدول صاحبة الامتيازات تنشر مدارس إرسالياتها في جميع مدننا الكبرى، وتؤسس عبر مناهجها لظاهرتين اثنتين:

الأولى هي ظاهرة ارتباط طلاب مدارس الإرساليات روحياً وثقافياً بدولها زتاريخها وثقافتها وقيمها، على حساب جهل تاريخنا القومي وغياب قيمنا وشخصيتنا الحضارية من هذه المناهج ومن أذهلن طلابها. والثانية هي ترسيخ التفسخ النفسي الاجتماعي المذهبي الذي أضيف إلى تخلف قرون بعد اندثار دولتنا المركزية في بغداد وحكم المماليك والعثمانيين. فملكت تلك الدول عنصرين أساسيين من عتاصر نهضتنا حجبتهما عن شعبنا وأجيالنا:

العنصر الأول، ولاء مجاميعنا لثقافتها وقيمها بدل أن يكون هذا الولاء منصباً على أرضنا وسيادتنا عليها، ليشكل أساساً لإرادة النهوض والناء والنمو الصحيح. والعنصر الثاني، هو مواردنا الطبيعية التي يجب أن تشكل الأساس المادي العملي لتقدمنا وصيانة مصالحنا، فأصبحت في أيدي دول الإرساليات تستعملها لحل إرباكاتها الاقتصادية وترميم خسائر حروبها الاستعمارية. ولا نزال نعاني من آثار ذلك عجزاً وارتباطاً بالإرادات الخارجية حتى الآن.

وأبرز دولتين تمكنتا من الإفادة من هذه الامتيازات على حساب مصالحنا ومصير أجيالنا وسيادتنا على مواردنا، هما بريطانيا وفرنسا قطبا اتفاقية سايكي- بيكو التي كانت بداية التنفيذ العملي للقرار- الوعد. وقد سبق ترسيخ هذه الامتيازات وتدفق إرسالياتها، ورافق المرحلة الأولى منها، نشاطان في أساس مآسينا الحالية: الأول هو أمواج المستشرقين الذين جاؤوا تحت عنوان السياحة أو الثقافة " يجسون الأرض" ويحضرون لبرامج الغزو الثقافي والنهب الاقتصادي والربط النفسي التي شكلت الضماانة لغزوة سايكس- بيكو العسكرية السياسية التجزيئية. ومن أبرز هؤلاء المستشرقين المبشرون بالبروستانتية الأميركانية، الذين استقبلهم شعبنا كرسل منزهيت لا يحملون أطماعاً استعمارية.

والنشاط الآخر هو نشاط البعثات الأثرية التي نكتت تراب بلادنا وكشفت عن كنوزنا الحضارية لتستعملها قواعد برهان وإثبات لإدعاءات توراة اليهود المزورة التي شكلت أخطر تزوير لتاريخنا القديم ومنابع حضارتنا التي مدنت العالم. وهذا ما يؤكد لنا أمرين يجب أن يبقيا ماثلين في أي تحليل سياسي تاريخي وحالي: الأمر الأول هو النفوذ الروحي – الثقافي للتوراة اليهودية في شعوب الغرب وبنيتهم الثقافية التربوية. والذي فاخر به حكام ومسؤولون كبار في الدول الغربية. والأمر الثاني هو الوجود المبكر للأصابع اليهودية في تهيئة الأرضية للمطامع الاستعمارية المعاصرة في بلادنا وضصولاً إلى تنفيذ سايكس- بيكو والقرار الوعد.

ومن أبرز مشاهد توزيع الامتيازات ثقافياً وروحياً رعاية فرنسا للموارنة ورعاية روسيا للأرثوذكس ورعاية إيطاليا للاتين ورعاية انجلترا للدروز ورعاية إيران الشاهنشاهية للشيعةد دون أن يكون لها دور في القرار، وألمانيا لرعاية المقدسات في القدس. وقد أغفلت كتب التاريخ الدراسية وأكثر الأبحاث الأخرى التي تناولت الموضوع ذكر مطالبة الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر برعاية حقوق الأقلية اليهودية في سورية. ومن أعجب نتائج هذه الرعايات أن الشيوعية قد انتشرت بشكل ملحوظ في أوساط الطائفة الأرثوذوكسية في بلادنا على قاعدة ذهنية راسخة أن مصدرها روسيا "حامية الأرثوذوكسية" في العالم.

وسرعان ما تحولت هذه الارتباطات الثقافية إلى ارتباطات سياسية إعلامية متفاوتة العلانية بهذه الدول "الراعية" ، في مرحلة تنفيذ اتفاقية سايكس- بيكو والقرار الوعد.. وأصبح المواطنون الممثلون لهذه الدول ونفوذها في بلادنا يمولون سياستهم المحلية ويلمعون مراكزهم الإقطاعية القطعانية بثمن مواردنا التي يستغلها أسيادهم الذين أصبحوا أولياء نعمتهم، فتعمق الارتباط وتصلب الرسن وانتفخت المخالي بالطيبات على حساب المصالح القومية والمصير العام. ومما يجب التنبه إليه أن معظم الدول "الراعية" لم تغفل عين رعايتها المراقبة الدائمة لكل محاولة تحرر أو نهوض من أجل طمسها وخنقها في مهدها والرد عليها بإثارة الفتن والاقتتال في الشعب، بالإضافة إلى مباشرة "توزيع" أرضنا القومية في مرحلة تنفيذ سايكس- بيكو، حتى يضيق الخناق على كل محاولة للإفادة من أي احتياطي استراتيجي بعد التفيذ الفعلي للقرار الوعد.

* * *

إسماعيل حمادة
06/04/2008, 11:39 AM
(8)

نؤكد في هذه السلسلة أننا نعتمد في عرضنا وتحليلنا، الوقائع لا التفسيرات ولا العواطف. ولا نزال في الشق الأول من الموضوع المتعلق بنهج القوى الدولية صاحبة القرار- الوعد، وصاحبة المصلحة في تنفيذه في جسد شعبنا ومصالحه وطموحاته، وفي خيرات أرضه ومواردها وثرواتها وموقعها، وفي دم اطفاله وأبطاله ومناضليه الحقيقيين، كل ذلك تحت عنوان المساعدة و "Moi Civiliser Vous" ...

فقد عمد خلفاء المتوحش غورو في الكيان اللبناني الذي اجترحته سايكس- بيكو، إلى الزج أثناء الحرب العالمية الثانية في السجن بكل من لم يحمل لواء الولاء "للأم الحنون"، وأنشأ لذلك معتقلاً خاصاً في بلدة المية ومية قرب صيدا (وهي غير بعيدة عن بلدة أنصار حيث أقامت سلطات الاغتصاب معتقلها أثناء اجتياح لبنان عام 1982). وكانت الحجة التي وضعت بوجه المعتقلين أنهم يؤيدون ألمانيا ودول المحور في الحرب ويناهضون جبهة الحلفاء، في حين كان المبهورون بالمرحوم هتلر "يهيّصون" ويغنون له طلقاء في شوارع بيروت دون أن يقول لهم أحد "ما أحلى الكحل بعيونكم" ... ولم يعتقل منهم أحد ... وعندما مالت كفة ميزان المعارك في المنطقة لصالح دول المحور ممثلة بجيش حكومة فيشي (المارشال بيتان) فرً الجيش البريطاني إلى حصته " الأصلية" في فلسطين. وحضرت إلى دمشق لجنة ألمانية- إيطالية مشتركة لإدارة شؤون "حصة" فرنسا (ممثلة بفيشي). وتوهم كثيرون أن لجنة هتلر وموسوليني سوف تطلق سراح المعتقلين في المية ومية المتهمين بتأييد ألمانيا وإيطاليا، ولكن شيئاً من ذلك لم بحصل، لا يل إن عدة مئات من المعتقلين أضيفوا إلى ألوف القدماء، بتهمة العمل للحلفاء، في حين بقي أركان وأبواق سياسة الحلفاء آمنين في بيوتهم ومكاتبهم الرسمية والخاصة يتابعون "رسالتهم" في خدمة أسيادهم بهدوء واطمئنان. إلا أن الجديد الذي يجب تسجيله حول هذا المشهد، هو أن ألمانيا قد أتيح لها للمرة الأولى،ولفترة محدودة جداً، أن "تبل يدها فينا" إلىجانب القوى الدولية الأخرى الضامنة للوعد- القرار. فضلاً عن المستندات التيتظهر قيام اتفاق واضح ومحدد بين النازية والمؤسسة الصهيونية قبل أن ترتفع عقيرة اليهود "بالشنشعة" حول المحرقة الموهومة" .

وقد تساوت جميع القوى الدولية في موقف آخر تجاهنا هو نهب كنوزنا الثقافية والفنية وآثارنا، فقد امتلأت متاحف وقصور لندن وباريس وروما وبرلين وموسكو ... واسطنبول (رحم الله من كان) بآثار بلاد الشام والرافدين التي تقلت إما عنوة على أيدي جيوش الاحتلالات (كما مع الأميركان حالياً في العراق)، وإما مع بعض رؤوساء وأعضاء بعثات التنقيب الأثري الذين "يستحلون" القطع القيمة المتناسبة مع علو علمهم ومعرفتهم، وإما نتيجة نشاط لصوص الآثار، أو هدايا من نواطير سايكس- بيكو إلى أصدقائهم من الحكام والمسؤولين في حكومات تلك القوى الدولية، مما يؤكد بوضوح أن جميع هذه التجليات التفصيلية في المواقف هي الناتج الطبيعي للموقف السياسي التاريخي العمومي من شعبنا وثقافتنا. ولعل الأكثر استمرارية مما اتضحت فيه هذه التجليات وقواعدها هو الموضوع الذي لم تختلف بشأنه قوتان من هذه القوى، بالرغم من كثرة خلافاتها على مصالح شتى ومواضع مختلفة، وهو موضوع ضرورة بقاء الاغتصاب في أرضنا والمحافظة على أمنه وعدم تكدير صحته. واستمر توحد القوى الدولية على هذا الموضوع حتى في عز احتدام ما يسمى بالحرب الباردة في ما بينها.
* * *

(9)

ما يمتاز به القرار- الوعد عن غيره من القرارات الاستعمارية التي اتخذتها القوى الدولية في طول العالم وعرضه، أن جميع مقدماته وتحضيراته وبدايات تنفيذه قد تمت قبل إعلانه. ففكرته الأساس راسخة في المطامع الاستعمارية في بيئتنا الطبيعية وموقعها وخيراتها من قرون طويلة، أما مقدماته الواضحة والمباشرة فقد تأسست عملياً منذ إقرار المستعمر العثملي بامتيازات للدول الأوروبية في أرضنا ومواردها، وقد انصبت هذه الامتيازات على أرض بيئة سورية الطبيعية وشعبها، ولم تطاول الأرض التركية في أي جانب. ومن أخطر مجالات هذه الامتيازات المجال الثقافي التربوي، إذ بدأت الدول صاحبة الامتيازات تنشر مدارس إرسالياتها في جميع مدننا الكبرى، وتؤسس عبر مناهجها لظاهرتين اثنتين:

الأولى هي ظاهرة ارتباط طلاب مدارس الإرساليات روحياً وثقافياً بدولها زتاريخها وثقافتها وقيمها، على حساب جهل تاريخنا القومي وغياب قيمنا وشخصيتنا الحضارية من هذه المناهج ومن أذهلن طلابها. والثانية هي ترسيخ التفسخ النفسي الاجتماعي المذهبي الذي أضيف إلى تخلف قرون بعد اندثار دولتنا المركزية في بغداد وحكم المماليك والعثمانيين. فملكت تلك الدول عنصرين أساسيين من عتاصر نهضتنا حجبتهما عن شعبنا وأجيالنا:

العنصر الأول، ولاء مجاميعنا لثقافتها وقيمها بدل أن يكون هذا الولاء منصباً على أرضنا وسيادتنا عليها، ليشكل أساساً لإرادة النهوض والناء والنمو الصحيح. والعنصر الثاني، هو مواردنا الطبيعية التي يجب أن تشكل الأساس المادي العملي لتقدمنا وصيانة مصالحنا، فأصبحت في أيدي دول الإرساليات تستعملها لحل إرباكاتها الاقتصادية وترميم خسائر حروبها الاستعمارية. ولا نزال نعاني من آثار ذلك عجزاً وارتباطاً بالإرادات الخارجية حتى الآن.

وأبرز دولتين تمكنتا من الإفادة من هذه الامتيازات على حساب مصالحنا ومصير أجيالنا وسيادتنا على مواردنا، هما بريطانيا وفرنسا قطبا اتفاقية سايكي- بيكو التي كانت بداية التنفيذ العملي للقرار- الوعد. وقد سبق ترسيخ هذه الامتيازات وتدفق إرسالياتها، ورافق المرحلة الأولى منها، نشاطان في أساس مآسينا الحالية: الأول هو أمواج المستشرقين الذين جاؤوا تحت عنوان السياحة أو الثقافة " يجسون الأرض" ويحضرون لبرامج الغزو الثقافي والنهب الاقتصادي والربط النفسي التي شكلت الضماانة لغزوة سايكس- بيكو العسكرية السياسية التجزيئية. ومن أبرز هؤلاء المستشرقين المبشرون بالبروستانتية الأميركانية، الذين استقبلهم شعبنا كرسل منزهيت لا يحملون أطماعاً استعمارية.

والنشاط الآخر هو نشاط البعثات الأثرية التي نكتت تراب بلادنا وكشفت عن كنوزنا الحضارية لتستعملها قواعد برهان وإثبات لإدعاءات توراة اليهود المزورة التي شكلت أخطر تزوير لتاريخنا القديم ومنابع حضارتنا التي مدنت العالم. وهذا ما يؤكد لنا أمرين يجب أن يبقيا ماثلين في أي تحليل سياسي تاريخي وحالي: الأمر الأول هو النفوذ الروحي – الثقافي للتوراة اليهودية في شعوب الغرب وبنيتهم الثقافية التربوية. والذي فاخر به حكام ومسؤولون كبار في الدول الغربية. والأمر الثاني هو الوجود المبكر للأصابع اليهودية في تهيئة الأرضية للمطامع الاستعمارية المعاصرة في بلادنا وضصولاً إلى تنفيذ سايكس- بيكو والقرار الوعد.

ومن أبرز مشاهد توزيع الامتيازات ثقافياً وروحياً رعاية فرنسا للموارنة ورعاية روسيا للأرثوذكس ورعاية إيطاليا للاتين ورعاية انجلترا للدروز ورعاية إيران الشاهنشاهية للشيعةد دون أن يكون لها دور في القرار، وألمانيا لرعاية المقدسات في القدس. وقد أغفلت كتب التاريخ الدراسية وأكثر الأبحاث الأخرى التي تناولت الموضوع ذكر مطالبة الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر برعاية حقوق الأقلية اليهودية في سورية. ومن أعجب نتائج هذه الرعايات أن الشيوعية قد انتشرت بشكل ملحوظ في أوساط الطائفة الأرثوذوكسية في بلادنا على قاعدة ذهنية راسخة أن مصدرها روسيا "حامية الأرثوذوكسية" في العالم.

وسرعان ما تحولت هذه الارتباطات الثقافية إلى ارتباطات سياسية إعلامية متفاوتة العلانية بهذه الدول "الراعية" ، في مرحلة تنفيذ اتفاقية سايكس- بيكو والقرار الوعد.. وأصبح المواطنون الممثلون لهذه الدول ونفوذها في بلادنا يمولون سياستهم المحلية ويلمعون مراكزهم الإقطاعية القطعانية بثمن مواردنا التي يستغلها أسيادهم الذين أصبحوا أولياء نعمتهم، فتعمق الارتباط وتصلب الرسن وانتفخت المخالي بالطيبات على حساب المصالح القومية والمصير العام. ومما يجب التنبه إليه أن معظم الدول "الراعية" لم تغفل عين رعايتها المراقبة الدائمة لكل محاولة تحرر أو نهوض من أجل طمسها وخنقها في مهدها والرد عليها بإثارة الفتن والاقتتال في الشعب، بالإضافة إلى مباشرة "توزيع" أرضنا القومية في مرحلة تنفيذ سايكس- بيكو، حتى يضيق الخناق على كل محاولة للإفادة من أي احتياطي استراتيجي بعد التفيذ الفعلي للقرار الوعد.

* * *