حسام الدين مصطفى
11/11/2007, 03:40 PM
http://www.bendib.com/newones/2004/august/small/8-14-Brain-Wash-Coop.jpg
إن الدارس لفنون حرب المعلومات يجد أن "الإدراك" يعتبر هو العنصر الأساسي و العامل المحوري لإحراز النجاح. وما سنعرضه الآن سيتناول مناقشة العلاقة بين المعلومات و مفهوم الحرب، فمعظم ما سبق من دراسات و مراجع تناولت ما يتعلق بمعلومات الحرب والقتال و لم يعرض سوى القليل النادر منها إلى تناول مفهوم الحرب. ومن خلال النص الذي نعرضه هنا سنفترض أن هناك ما يمكن تسميته "مغزى الحرب" أو "مفهوم الحرب" و سنسعى إلى توصيف هذا المغزى وذلك المفهوم، ولابد أن نقر بداية بأن "مفهوم أو مغزى الحرب" ليس مصطلحاً مستحدثاُ أو جديداً و إنما هو أمر تعرضت له العديد من المناقشات ضمناً عند معرض الحديث عن المفاهيم الأخرى المتعلقة بالحرب والقتال بوصفه جزءاً من هذه المفاهيم. ومن خلال تحويلنا لمفهوم الحرب –بصورته المعنوية- إلى شئ مادي يمكننا إدراكه بالحواس وإخضاعه للقياس المرئي فإننا نصبوا إلى زيادة الانجذاب إلى فهم وإدراك هذا المفهوم. وربما يكون من المنطق أن نسعى لإدراك ما يتعلق بالهجوم و لكن ما الذي يجعلنا نطلق على ذلك مفهوم أو مغزى الحرب؟ إننا لا بد وان ننظر لهذه الدراسة التي بين أيدينا بوصفها أول حصر للمشكلات والقضايا التى تتناول جزئية لابد وأن تمتد لها يد البحث بالفحص والدرس.
http://lumen.nd.edu/2005_07/images/self_deception_lumen.gif
من المتعارف عليه أن الحرب هي أمر ينطوي على قدر عالٍ من المخاطرة التي قد تقتضي أن يضحي فيها المرء بحياته في سبيل تحقيق ما يسعى إليه من أهداف من خلال صراع قتالي. و قد نجد أن رجل الدولة -السياسي- أو القائد الذي بيده أمر قد ينظر لمسألة تحقيق هذه الأهداف من منظور إنساني يجعله دائما في سعي دؤوب لتحقيق تلك الهداف دون أن يلجأ إلى إدارة عجلة الآلة الحربية. وقد علمنا "كلوزويتز" أن الهدف من القتال لا يقتصر دائماً على تدمير ودحر قوات العدو، فقد يمكن تحقيق الهدف دون اللجوء إلي النزال والقتال مطلقاً.
ومعظم أشكال الحرب والصراع تخلق نوعاً من الخداع الذي لا يجعلنا على بصيرة أكيدة من النصر أو الهزيمة، إلا أن أي من الأطراف المشاركة في الصراع لا يرغب في أن يكون هو الخاسر المهزوم. إن السؤال هنا هو كيف يمكن لهذه الأطراف المتحاربة إدراك حقيقة موقفها بدقة وصورة جلية. إن إدراك وفهم حقيقة الحرب هو السبيل إلى الوصول إلى تقييم دقيق وإزالة اللبس والغموض الذي يكتنف الطريقة التي اتبعها المنتصرون، أي أن الأمر لا يعدو أن يكون نزال بين عقول القادة.
إننا من خلال هذا الطرح سنتناول ما كان عليه القتال في الماضي و ما سيكون عليه في المستقبل ونخلص إلى أن كلاهما نظير و مماثل للآخر . إننا إذا نظرنا إلى الدول المتقدمة لوجدنا أن اللجوء إلى العنف المادي واستخدام القوة لم يعد أمراً مقبولا و أن المجتمع سيسعى لمنع اللجوء إلى العنف والقوة بكل السبل الممكنة، ومن هنا فان حالة من انعدام الثقة قد تنشب إذا ما حاولت إحدى يدينا أن تئد العنف بينما اليد الأخرى تعمل جاهدة على تكوين القوات القتالية للاستعانة بها في المهام القتالية والصراعات. إن هناك الكثير من الذي ينبغي علينا فعله قبل أن نحلم بعالم خالٍ تماماً من العنف، وحتى إن نجحنا في ذلك فلابد لنا وان ندرك أن مفهوم الحرب والصراع إنما هو جزء متمم ومكمل لمفهوم القتال والنزال، وإذا ما افترضنا أن صانعي القرار و القادة العسكريين سيسعون -إذا ما تيسر لهم -إلى تفادي اللجوء للعنف الاستعانة بأساليب وسبل أخرى لتحقيق ذات الأهداف التي يربون إليها فانهم بذلك إنما يحققون واحد من أحلام الإنسانية و أمنياتها. ولكن ربما يثير افتراضنا هذا تساؤل عن مدى عدم أخلاقية الهجوم على عقول الآخرين، مثلما يحدث في عمليات "غسيل المخ Brain Wash" فهذا الأمر يعتبر نوعاً من الهجوم الذي يتم في الخفاء و تحت ستار من السرية والحيطة دونما أدنى إشارة إليها و إعلان عنه من بعيد أو قريب. إن كلا الأمرين لهما ما يبررهما ويؤيدهما ولا يمكننا أن ننكر ما بينهما من ارتباط، إلا أننا لن نعرض في حديثنا إلى بحث المسائل الأخلاقية و إنما سنركز اهتمامنا على توضيح وتوصيف مفهوم الحرب والصراع.
http://www.nma.gov.au/shared/libraries/images/temporary_exhibitions/behind_the_lines_2006/large/david_hicks_large/files/16420/David_Hicks_h400.jpg
النظرة التقليدية للحرب و حرب المعلومات:
يمكن النظر إلى الحرب على أنها صراع ونزال بين كيانات و أطراف متنافسة أو أنها عمليات عسكرية تدور رحاها بين أعداء متناحرين، وهدف كل طرف هو إضعاف أو تدمير الطرف الأخر- أو الأطراف الأخرى- . إنه بإمكاننا أن نصف الحرب بطرق عدة و مختلفة، مثل حرب تدخلية، وحرب الرأي أو الحرب القومية (جوميني 1992)، ومعظم الاهتمام ينصب على الحرب التدخلية تلك التي تندرج تحتها الحرب الجوية والبيولوجية والكيميائية المعلوماتية. وقد أوضح هاندل (1996) أن تعريف الحرب إنما يعتمد على مستوى التحليل المتبع، فهناك الكثير من الخلط و الاختلاف الذي قد يشوب هذا التعريف عندما يتم تناوله من خلال أطر تحليلية مختلفة. ولكن أقرب هذه التعريفات وأكثرها عموماً هو أن الحرب إنما تعني استخدام القوة لتحيق هدف معين.
إن حرب الإدراك ليست كحرب المعلومات، إلا أن هناك العديد من أوجه الشبه التي تجمع بينهما. فمنذ سنوات قليلة ماضية انتوينا وضع دراسة غرضها توضيح الفوارق المتعلقة بالمفاهيم المختلفة لحرب المعلومات (فريمان ، سجوستيد، وييك 1996) ، وقد انتهت هذه الدراسة إلى أن جوهر مفهوم الحرب المعلوماتية ليس بالأمر الجديد إلا أن توافر التكنولوجيا الحديثة هو ما عمل على توفير الكثير من الإمكانيات والاحتمالات. فقد يتم الأمر على سبيل المثال من خلال مهاجمة مصدر المعلومات باستخدام المعلومات وهنا تصبح المعلومات سلاحاً. و الجدل الذي لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا حول يومنا هذا يركز على الحلول التكنولوجية التي تستعين بها الحرب المعلوماتية لتبسط سيطرتها وتحكم قبضتها على التدفق المستمر للمعلومات حول أزمة أو قضية ما. إن المفاهيم والمصطلحات من أمثلة حرب السيطرة و الحرب التي تعتمد على المخابرات –الحرب الاستخبارية- و الحرب الإليكترونية و حرب القرصنة و حرب المعلومات الاقتصادية و حرب الإنترنت إنما جاءت نتاجاً لظهور العديد من التطبيقات المتعلقة بحرب المعلومات (ليبيكي 1995)، وهناك مفاهيم أخرى مثل الدعاية الإعلامية و حرب الخداع و التشويش المعلوماتي. و الهدف من جميع هذه المفاهيم يكمن في تحقيق السيطرة المعلوماتية عن طريق النزال و الاستعانة بالمعلومات لتشكيل نتائج وقرارات دولية عالمية.
وقد أوضحت الخبرة التي تمخضت عنها التجارب الميدانية و التدريبية أنه من العسير جداً أن تتحكم في النتائج الفعلية عن طريق أنشطة الحرب المعلوماتية. فنفس الأفراد قد تتباين ردود أفعالهم تجاه نفس المعلومات فى أحوال ومواقف متباينة، وهذا يوضح لنا أن المعلومات المتاحة لا تنبئ بالضرورة عن النتائج المتوقعة أو تقود إليها.
http://www.bizspirit.com/images/sysimage_publishing/Books/Ending%20the%20Deception.jpg
إن الفروض التي يتم الاعتماد عليها في الحرب المعلوماتية إنما تبني على أساس من الدلالات الإحصائية بنفس الطريقة المتبعة في طرق التسويق التجاري العام، حيث يتم قياس الناتج من خلال عينة لكن هذه العينة الإجمالية لا تضمن بأي صورة أن جميع الأفراد سيتصرفون بذات الطريقة أو أنهم يقومون بنفس الأنشطة. وفي الدراسات الإحصائية ينصب الاهتمام على التنبؤ بالناتج من خلال عينة إجمالية، لكن من الصعب أن نتكهن بالطريقة التي يتصرف بها فرد واحد. ومن منظور علم النفس فان هناك بعض التصرفات التي يقوم بها أفراد اصطلح على تسميتهم باسم القادة -الموجهين- Leaders، وهؤلاء هم الذين يوجهون تصرفات وردود أفعال الآخرين والذين نسميهم التابعين followers. وكي يمكنك القيام بنشاط معلوماتي مؤثر وفعال فلابد وان تركز على أولئك القادة الموجهين وبالتالي يمتد تأثيرك بصورة غير مباشرة إلى تابعيهم. وهذا يشبه إلى حد بعيد أسلوب التسويق التجاري المباشر الذي يفوق في تأثيره أسلوب التسويق التجاري العام، ففي التسويق المباشر نجد أن القيم الإحصائية تمثل أهمية تقل عن الاهتمام بجودة البيانات الخاصة بالأفراد.
أننا على يقين من أن القائد -العسكري- commander و صانع القرار -السياسي- decision maker هما الأكثر تعرضا للأنشطة المعلوماتية. وهناك مثال يؤكد قولنا هذا وهو المعنى الكامن في المبدأ الأمريكي القائل: "إن هدفنا الجوهري هو الإنسان صانع القرار". وقد أشارت الدراسات السويدية حول الحرب المعلوماتية إلى : "إن الهدف الحتمي الجوهري –للحرب المعلوماتية- هو التأثير على قدرة الأطراف المشاركة على اتخاذ قرار عقلي منطقي.." ، وتعتبر عملية تكوين صورة حول الموقف أمراً جوهريا بالنسبة للمجموعات أو المنظمات والتي على أساسها تتحدد الإجراءات المستقبلية، وفي واقع الأمر فان حرب المعلومات تعتبر ضرباً من حرب الإدراك لتشويه هذه الصورة. والرأي العام يتأثر بتصريحات وبيانات القادة الموجهون وبصورة غير مباشرة يؤثر على قرارات القائد -العسكري- ومعتقداته. إن هذا الأمر أشبه ما يكون بالدعاية الإعلامية إلا أن الفارق هو اختلاف الهدف، ففي حرب الإدراك يكون الهدف هو الشخص الأساسي الذي بيده مقاليد المر أما في الدعاية الإعلامية فان الهدف هو العامة والرأي العام. وذات مرة أورد "ماو تسي تونج" في كتابه "حول الحرب المطولة -المؤجلة-" (1938): ".. لكي يمكننا إحراز النصر فلابد لنا من بذل أقصى ما بوسعنا لنختم على أعين وآذان العدو فيصبح أعمى و أصم و أن نزرع التخبط والارتباك بعقول قادة العدو و نجعلهم بلا وعي أو بصيرة". إن هذه العبارة تتناول ما يمكن تسميته حرب الإدراك.
http://www.jonco48.com/blog/cool_20illusion.jpg
إن هناك القليل من المقالات والدراسات التي تطرقت إلى الحديث عن حرب الإدراك، و من أول هذه الدراسات التي تناولت هذه المسألة ما قام به "جليين ، بيترسون 1995" حيث أشارا إلى حرب الإدراك ضمن معرض حديثهما عن علم النفس والحرب المعلوماتية تحت ما أسمياه "الحرب النفسية PSYWAR" مستخدمين تعبير إدارة الإدراك Perception Management . إننا نجزم بان مسألة الإدراك هي مسألة حيوية لتحيق النصر بصورة عامة وليس الأمر قاصراً على الحرب المعلوماتية أو النفسية، لذا فلابد وان يصبح مصطلح حرب الإدراك قائما بذاته وان لا يقتصر الأمر على أن يعدو جزءاً من مفهوم أخر. و كما كان الحال عند ظهور الحرب المعلوماتية فربما يأتي يوم تنشب فيه حرب إدراك و ساعتها سيزداد اهتمامنا بهذا المفهوم و تكثر الدراسات التي تتناوله.
إن مفاهيم حرب الإدراك ليست أمراً مستحدثاً إلا أن التكنولوجيا المستخدمة في هذا النوع من الحروب قد حظيت باهتمام بالغ فى وقتنا هذا، علاوة على ذلك فان ثمن ومخاطر و مدى تأثير حرب الإدراك قد ذاد من الاهتمام بها. لكننا لازلنا في حاجة إلى نظرة أعمق نسبر بها غور مفهوم حرب الإدراك و الحدس حتى يمكننا فهم ما يتعلق بهذه الحرب من مفاهيم و مصطلحات.
العنصر الأساسي في حرب الإدراك:
لقد رأى "بيبر" (1967) أن الأفعال الإدراكية هي أنشطة مرتبطة بالوعي والإدراك تربط بين ما يتم تلقيه من بيانات حسية و البيئة التي يتم فيها هذا التلقي. و بمعنى أبسط فان الإدراك يتطلب وجود هدف أو شئ يمكن إدراكه و شخص يمكنه أن يدرك هذا الهدف أو الشيء. فعندما تقول: "إنني أرى مقعداً." ، يصبح المقعد هو الشيء المادي أو الهدف و تصبح "أنت" الشخص المدرك الملاحظ لهذا الهدف. و من منظور فلسفي يمكننا القول أن الإدراك إنما يعني إذا ما كان بمقدورنا تحديد وجود شيء ما من خلال الاستعانة بالبيانات الحسية التي نتلقاها، و المثاليين من الفلاسفة قد اهتموا كثيراً بالبيانات المحسوسة أما الفلاسفة الواقعيين فقد ركزوا على استقلالية الشخص المدرك الملاحظ و أسباب الفعل الإدراكي الذي يقوم به. و طبقاً للأسس الفلسفية التي أوردناها فإننا نجد أن "بيبر" بوصفه فيلسوف إدراكي قد مزج بين رؤية المثاليين والواقعيين، وقد جاء ذلك نتيجة من تركيزه على المدرك الملاحظ بوصفه مشارك نشط في العملية الإدراكية، وهذا ما يقودنا إلى التركيز على طبيعة الإدراك.
" يتبع بالجزء الثاني"
إن الدارس لفنون حرب المعلومات يجد أن "الإدراك" يعتبر هو العنصر الأساسي و العامل المحوري لإحراز النجاح. وما سنعرضه الآن سيتناول مناقشة العلاقة بين المعلومات و مفهوم الحرب، فمعظم ما سبق من دراسات و مراجع تناولت ما يتعلق بمعلومات الحرب والقتال و لم يعرض سوى القليل النادر منها إلى تناول مفهوم الحرب. ومن خلال النص الذي نعرضه هنا سنفترض أن هناك ما يمكن تسميته "مغزى الحرب" أو "مفهوم الحرب" و سنسعى إلى توصيف هذا المغزى وذلك المفهوم، ولابد أن نقر بداية بأن "مفهوم أو مغزى الحرب" ليس مصطلحاً مستحدثاُ أو جديداً و إنما هو أمر تعرضت له العديد من المناقشات ضمناً عند معرض الحديث عن المفاهيم الأخرى المتعلقة بالحرب والقتال بوصفه جزءاً من هذه المفاهيم. ومن خلال تحويلنا لمفهوم الحرب –بصورته المعنوية- إلى شئ مادي يمكننا إدراكه بالحواس وإخضاعه للقياس المرئي فإننا نصبوا إلى زيادة الانجذاب إلى فهم وإدراك هذا المفهوم. وربما يكون من المنطق أن نسعى لإدراك ما يتعلق بالهجوم و لكن ما الذي يجعلنا نطلق على ذلك مفهوم أو مغزى الحرب؟ إننا لا بد وان ننظر لهذه الدراسة التي بين أيدينا بوصفها أول حصر للمشكلات والقضايا التى تتناول جزئية لابد وأن تمتد لها يد البحث بالفحص والدرس.
http://lumen.nd.edu/2005_07/images/self_deception_lumen.gif
من المتعارف عليه أن الحرب هي أمر ينطوي على قدر عالٍ من المخاطرة التي قد تقتضي أن يضحي فيها المرء بحياته في سبيل تحقيق ما يسعى إليه من أهداف من خلال صراع قتالي. و قد نجد أن رجل الدولة -السياسي- أو القائد الذي بيده أمر قد ينظر لمسألة تحقيق هذه الأهداف من منظور إنساني يجعله دائما في سعي دؤوب لتحقيق تلك الهداف دون أن يلجأ إلى إدارة عجلة الآلة الحربية. وقد علمنا "كلوزويتز" أن الهدف من القتال لا يقتصر دائماً على تدمير ودحر قوات العدو، فقد يمكن تحقيق الهدف دون اللجوء إلي النزال والقتال مطلقاً.
ومعظم أشكال الحرب والصراع تخلق نوعاً من الخداع الذي لا يجعلنا على بصيرة أكيدة من النصر أو الهزيمة، إلا أن أي من الأطراف المشاركة في الصراع لا يرغب في أن يكون هو الخاسر المهزوم. إن السؤال هنا هو كيف يمكن لهذه الأطراف المتحاربة إدراك حقيقة موقفها بدقة وصورة جلية. إن إدراك وفهم حقيقة الحرب هو السبيل إلى الوصول إلى تقييم دقيق وإزالة اللبس والغموض الذي يكتنف الطريقة التي اتبعها المنتصرون، أي أن الأمر لا يعدو أن يكون نزال بين عقول القادة.
إننا من خلال هذا الطرح سنتناول ما كان عليه القتال في الماضي و ما سيكون عليه في المستقبل ونخلص إلى أن كلاهما نظير و مماثل للآخر . إننا إذا نظرنا إلى الدول المتقدمة لوجدنا أن اللجوء إلى العنف المادي واستخدام القوة لم يعد أمراً مقبولا و أن المجتمع سيسعى لمنع اللجوء إلى العنف والقوة بكل السبل الممكنة، ومن هنا فان حالة من انعدام الثقة قد تنشب إذا ما حاولت إحدى يدينا أن تئد العنف بينما اليد الأخرى تعمل جاهدة على تكوين القوات القتالية للاستعانة بها في المهام القتالية والصراعات. إن هناك الكثير من الذي ينبغي علينا فعله قبل أن نحلم بعالم خالٍ تماماً من العنف، وحتى إن نجحنا في ذلك فلابد لنا وان ندرك أن مفهوم الحرب والصراع إنما هو جزء متمم ومكمل لمفهوم القتال والنزال، وإذا ما افترضنا أن صانعي القرار و القادة العسكريين سيسعون -إذا ما تيسر لهم -إلى تفادي اللجوء للعنف الاستعانة بأساليب وسبل أخرى لتحقيق ذات الأهداف التي يربون إليها فانهم بذلك إنما يحققون واحد من أحلام الإنسانية و أمنياتها. ولكن ربما يثير افتراضنا هذا تساؤل عن مدى عدم أخلاقية الهجوم على عقول الآخرين، مثلما يحدث في عمليات "غسيل المخ Brain Wash" فهذا الأمر يعتبر نوعاً من الهجوم الذي يتم في الخفاء و تحت ستار من السرية والحيطة دونما أدنى إشارة إليها و إعلان عنه من بعيد أو قريب. إن كلا الأمرين لهما ما يبررهما ويؤيدهما ولا يمكننا أن ننكر ما بينهما من ارتباط، إلا أننا لن نعرض في حديثنا إلى بحث المسائل الأخلاقية و إنما سنركز اهتمامنا على توضيح وتوصيف مفهوم الحرب والصراع.
http://www.nma.gov.au/shared/libraries/images/temporary_exhibitions/behind_the_lines_2006/large/david_hicks_large/files/16420/David_Hicks_h400.jpg
النظرة التقليدية للحرب و حرب المعلومات:
يمكن النظر إلى الحرب على أنها صراع ونزال بين كيانات و أطراف متنافسة أو أنها عمليات عسكرية تدور رحاها بين أعداء متناحرين، وهدف كل طرف هو إضعاف أو تدمير الطرف الأخر- أو الأطراف الأخرى- . إنه بإمكاننا أن نصف الحرب بطرق عدة و مختلفة، مثل حرب تدخلية، وحرب الرأي أو الحرب القومية (جوميني 1992)، ومعظم الاهتمام ينصب على الحرب التدخلية تلك التي تندرج تحتها الحرب الجوية والبيولوجية والكيميائية المعلوماتية. وقد أوضح هاندل (1996) أن تعريف الحرب إنما يعتمد على مستوى التحليل المتبع، فهناك الكثير من الخلط و الاختلاف الذي قد يشوب هذا التعريف عندما يتم تناوله من خلال أطر تحليلية مختلفة. ولكن أقرب هذه التعريفات وأكثرها عموماً هو أن الحرب إنما تعني استخدام القوة لتحيق هدف معين.
إن حرب الإدراك ليست كحرب المعلومات، إلا أن هناك العديد من أوجه الشبه التي تجمع بينهما. فمنذ سنوات قليلة ماضية انتوينا وضع دراسة غرضها توضيح الفوارق المتعلقة بالمفاهيم المختلفة لحرب المعلومات (فريمان ، سجوستيد، وييك 1996) ، وقد انتهت هذه الدراسة إلى أن جوهر مفهوم الحرب المعلوماتية ليس بالأمر الجديد إلا أن توافر التكنولوجيا الحديثة هو ما عمل على توفير الكثير من الإمكانيات والاحتمالات. فقد يتم الأمر على سبيل المثال من خلال مهاجمة مصدر المعلومات باستخدام المعلومات وهنا تصبح المعلومات سلاحاً. و الجدل الذي لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا حول يومنا هذا يركز على الحلول التكنولوجية التي تستعين بها الحرب المعلوماتية لتبسط سيطرتها وتحكم قبضتها على التدفق المستمر للمعلومات حول أزمة أو قضية ما. إن المفاهيم والمصطلحات من أمثلة حرب السيطرة و الحرب التي تعتمد على المخابرات –الحرب الاستخبارية- و الحرب الإليكترونية و حرب القرصنة و حرب المعلومات الاقتصادية و حرب الإنترنت إنما جاءت نتاجاً لظهور العديد من التطبيقات المتعلقة بحرب المعلومات (ليبيكي 1995)، وهناك مفاهيم أخرى مثل الدعاية الإعلامية و حرب الخداع و التشويش المعلوماتي. و الهدف من جميع هذه المفاهيم يكمن في تحقيق السيطرة المعلوماتية عن طريق النزال و الاستعانة بالمعلومات لتشكيل نتائج وقرارات دولية عالمية.
وقد أوضحت الخبرة التي تمخضت عنها التجارب الميدانية و التدريبية أنه من العسير جداً أن تتحكم في النتائج الفعلية عن طريق أنشطة الحرب المعلوماتية. فنفس الأفراد قد تتباين ردود أفعالهم تجاه نفس المعلومات فى أحوال ومواقف متباينة، وهذا يوضح لنا أن المعلومات المتاحة لا تنبئ بالضرورة عن النتائج المتوقعة أو تقود إليها.
http://www.bizspirit.com/images/sysimage_publishing/Books/Ending%20the%20Deception.jpg
إن الفروض التي يتم الاعتماد عليها في الحرب المعلوماتية إنما تبني على أساس من الدلالات الإحصائية بنفس الطريقة المتبعة في طرق التسويق التجاري العام، حيث يتم قياس الناتج من خلال عينة لكن هذه العينة الإجمالية لا تضمن بأي صورة أن جميع الأفراد سيتصرفون بذات الطريقة أو أنهم يقومون بنفس الأنشطة. وفي الدراسات الإحصائية ينصب الاهتمام على التنبؤ بالناتج من خلال عينة إجمالية، لكن من الصعب أن نتكهن بالطريقة التي يتصرف بها فرد واحد. ومن منظور علم النفس فان هناك بعض التصرفات التي يقوم بها أفراد اصطلح على تسميتهم باسم القادة -الموجهين- Leaders، وهؤلاء هم الذين يوجهون تصرفات وردود أفعال الآخرين والذين نسميهم التابعين followers. وكي يمكنك القيام بنشاط معلوماتي مؤثر وفعال فلابد وان تركز على أولئك القادة الموجهين وبالتالي يمتد تأثيرك بصورة غير مباشرة إلى تابعيهم. وهذا يشبه إلى حد بعيد أسلوب التسويق التجاري المباشر الذي يفوق في تأثيره أسلوب التسويق التجاري العام، ففي التسويق المباشر نجد أن القيم الإحصائية تمثل أهمية تقل عن الاهتمام بجودة البيانات الخاصة بالأفراد.
أننا على يقين من أن القائد -العسكري- commander و صانع القرار -السياسي- decision maker هما الأكثر تعرضا للأنشطة المعلوماتية. وهناك مثال يؤكد قولنا هذا وهو المعنى الكامن في المبدأ الأمريكي القائل: "إن هدفنا الجوهري هو الإنسان صانع القرار". وقد أشارت الدراسات السويدية حول الحرب المعلوماتية إلى : "إن الهدف الحتمي الجوهري –للحرب المعلوماتية- هو التأثير على قدرة الأطراف المشاركة على اتخاذ قرار عقلي منطقي.." ، وتعتبر عملية تكوين صورة حول الموقف أمراً جوهريا بالنسبة للمجموعات أو المنظمات والتي على أساسها تتحدد الإجراءات المستقبلية، وفي واقع الأمر فان حرب المعلومات تعتبر ضرباً من حرب الإدراك لتشويه هذه الصورة. والرأي العام يتأثر بتصريحات وبيانات القادة الموجهون وبصورة غير مباشرة يؤثر على قرارات القائد -العسكري- ومعتقداته. إن هذا الأمر أشبه ما يكون بالدعاية الإعلامية إلا أن الفارق هو اختلاف الهدف، ففي حرب الإدراك يكون الهدف هو الشخص الأساسي الذي بيده مقاليد المر أما في الدعاية الإعلامية فان الهدف هو العامة والرأي العام. وذات مرة أورد "ماو تسي تونج" في كتابه "حول الحرب المطولة -المؤجلة-" (1938): ".. لكي يمكننا إحراز النصر فلابد لنا من بذل أقصى ما بوسعنا لنختم على أعين وآذان العدو فيصبح أعمى و أصم و أن نزرع التخبط والارتباك بعقول قادة العدو و نجعلهم بلا وعي أو بصيرة". إن هذه العبارة تتناول ما يمكن تسميته حرب الإدراك.
http://www.jonco48.com/blog/cool_20illusion.jpg
إن هناك القليل من المقالات والدراسات التي تطرقت إلى الحديث عن حرب الإدراك، و من أول هذه الدراسات التي تناولت هذه المسألة ما قام به "جليين ، بيترسون 1995" حيث أشارا إلى حرب الإدراك ضمن معرض حديثهما عن علم النفس والحرب المعلوماتية تحت ما أسمياه "الحرب النفسية PSYWAR" مستخدمين تعبير إدارة الإدراك Perception Management . إننا نجزم بان مسألة الإدراك هي مسألة حيوية لتحيق النصر بصورة عامة وليس الأمر قاصراً على الحرب المعلوماتية أو النفسية، لذا فلابد وان يصبح مصطلح حرب الإدراك قائما بذاته وان لا يقتصر الأمر على أن يعدو جزءاً من مفهوم أخر. و كما كان الحال عند ظهور الحرب المعلوماتية فربما يأتي يوم تنشب فيه حرب إدراك و ساعتها سيزداد اهتمامنا بهذا المفهوم و تكثر الدراسات التي تتناوله.
إن مفاهيم حرب الإدراك ليست أمراً مستحدثاً إلا أن التكنولوجيا المستخدمة في هذا النوع من الحروب قد حظيت باهتمام بالغ فى وقتنا هذا، علاوة على ذلك فان ثمن ومخاطر و مدى تأثير حرب الإدراك قد ذاد من الاهتمام بها. لكننا لازلنا في حاجة إلى نظرة أعمق نسبر بها غور مفهوم حرب الإدراك و الحدس حتى يمكننا فهم ما يتعلق بهذه الحرب من مفاهيم و مصطلحات.
العنصر الأساسي في حرب الإدراك:
لقد رأى "بيبر" (1967) أن الأفعال الإدراكية هي أنشطة مرتبطة بالوعي والإدراك تربط بين ما يتم تلقيه من بيانات حسية و البيئة التي يتم فيها هذا التلقي. و بمعنى أبسط فان الإدراك يتطلب وجود هدف أو شئ يمكن إدراكه و شخص يمكنه أن يدرك هذا الهدف أو الشيء. فعندما تقول: "إنني أرى مقعداً." ، يصبح المقعد هو الشيء المادي أو الهدف و تصبح "أنت" الشخص المدرك الملاحظ لهذا الهدف. و من منظور فلسفي يمكننا القول أن الإدراك إنما يعني إذا ما كان بمقدورنا تحديد وجود شيء ما من خلال الاستعانة بالبيانات الحسية التي نتلقاها، و المثاليين من الفلاسفة قد اهتموا كثيراً بالبيانات المحسوسة أما الفلاسفة الواقعيين فقد ركزوا على استقلالية الشخص المدرك الملاحظ و أسباب الفعل الإدراكي الذي يقوم به. و طبقاً للأسس الفلسفية التي أوردناها فإننا نجد أن "بيبر" بوصفه فيلسوف إدراكي قد مزج بين رؤية المثاليين والواقعيين، وقد جاء ذلك نتيجة من تركيزه على المدرك الملاحظ بوصفه مشارك نشط في العملية الإدراكية، وهذا ما يقودنا إلى التركيز على طبيعة الإدراك.
" يتبع بالجزء الثاني"